Uncategorized

على باب قرن جديد

مركز الدراسات الإسلامية

 

ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً

 

 

رسالة التجديد 2001

مقالات مختارة

د. محمد الحبش

 

 

 

 

الأخت انتصار

أرجو تصنيف المقالات وفق الترتيب التالي:

  • في التجديد مقابلة مع تشرين     مناسك ومنافع       الهجرة بين ضباب الخوارق وضياء السنن   شهيد العولمة    الإسراء والمعراج    احتكار الخلاص    ديمقراطيات     أحرار في عصر التنزيل   مولوكو      الجلاء والحقائق الجلية
  • في الحوار سوريا وال2000     رسالة الألف الجديد     آمال ندوة الإخاء      رسالة إلى الغرب   رسالة إلى قداسة البابا     عاشوراء    نحو تأصيل أيديولوجي للحوار بين الأديان   السيد المسيح في ضمير دمشق      آخر الكلمات
  • فلسطين عوفاديا      فلسطين والوعد الحق    مؤتمر القدس    يوم الشهداء والعمليات الاستشهادية     الأرض المقدسة قراءة أخرى للصراع   العنف واللاعنف   مكة وفلسطين وبانوراما الأرض المقدسة  متى ستعرف أمريكا عدوها الحقيقي
  • في المرأة دردشة في حقوق المرأة     قراءة في تحرر المرأة    المرأة بين الشريعة والحياة
  • في الخدمات برج دمشق    أصحاب السعادة الوزراء    كل عيد هجرة وأنتم بخير  أين ستقضي عطلة الجلاء    خطبة الجمعة   حماة مدينة أبي الفداء    الشجرة والمقبرة
  • في الحضارة من هو أهم رجل في التاريخ    غارودي أمريكا   الجانب الآخر للوجود الإسلامي في الغرب  رومي وسارتر    الإبداع والاختراع
  • رمضانيات ويسألونك عن هلال رمضان  صيامهم وصيامنا    هلال رمضان   التراويح    فوازير رمضان   رمضان وتربية الجهاد  توفيق المنجد
  • يوم رحيل الأسد سوريا المجد من صلاح الدين إلى حافظ    الراحل الأسد فقه آخر للصمود    جامع الرئيس حافظ الأسد

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

 

يجد القارئ الكريم في هذا الكتاب طائفة من المقالات والبحوث المنشورة التي وفقني الله لإصدارها في عام 2001 وبعضها صدر قبل ذلك، وهي جزء من رسالة التجديد التي نسعى إلى إحيائها في واقع الأمة التي تعاني اليوم من التمزق والتخلف والانقسام، في إسهام يندرج إلى جوار ضمائمه في محاولة لإحياء رسالة العقل في حياة المسلم، ليقوم بدوره المأمول في المشاركة في بناء الحياة وصناعة المستقبل.

لم يعد بالإمكان اليوم أن نتحدث عن كانتون مغلق يأوي إليه المسلم، بحيث يعتصم من رياح الفتن، ولم تعد ثمة بيئات تحتمل ثقافة الكهوف، ولا يمكن أن نتحدث عن منطق: الزم بيتك وانتظر الساعة، ولو أن تعض بأصل شجرة، إذ لم يعد لزوم البيت وانتظار الساعة يغير من تأثير العولمة الطاغي بعد أن أصبح قطار العولمة يمر في المدن والقرى والأرياف والفيافي، ويقتحم الحجرات على ساكنيها ، ويقدم لك في حجرة النوم رؤيته الصارخة لنمط الحياة الغربي وفق رؤية فوكوياما في النموذج الغربي للحياة على أنه نهاية التاريخ.

وهكذا فيبدو أنه لا خيار للأمة الإسلامية من مواجهة الحقيقة الجديدة، حيث أصبحت المواجهة حتماً قاهراً وفرضاً لازباً، ولا بد من اقتحام الحوار والمشاركة في تفاعل الثقافات على أساس التشارك والتساوي والتكافؤ وليس على أساس التعالي والتفرد، ولا على أساس الاستنساخ أو الاجتزاء.

 

شهد عام 2001 تغيرات كبيرة في العالم كان أولها إنجاز إسلامي كبير على مستوى الحوار العالمي إذ تمكن الاعتدال الإسلامي من تسجيل انتصار معنوي كبير حين نجح الرئيس خاتمي في إقناع هيئة الأمم المتحدة بتبني مشروع منظمة المؤتمر الإسلامي حول حوار الحضارات، وقامت الأمم المتحدة بتسمية عام 2001 عام حوار الحضارات، على أساس أن الإسلام هو دين الحوار والتسامح، وكان ذلك جواباً بليغاً لدعاوى الصقور من المنظرين الأمريكيين الذين راهنوا على صدام الحضارات، على أساس أن الإسلام رسالة انقلابية لا تؤمن بالآخر وتعمل على إلغائه، وصمتت لمدة تسعة أشهر صيحات الكراهية ضد المسلمين بعد أن تلقت صفعة معنوية، كانت تتأكد كلما عقدت ندوة أو مؤتمر عن حوار الحضارات وتحدث الناس فيها عن المنطق الإسلامي للحوار والإخاء.

ولكن ذلك الإنجاز بالطبع تم نسفه بالكامل في الساعة التاسعة صباحاً من يوم الحادي عشر من أيلول يوم انطلقت عملية رهيبة، مجنونة المقاصد، لواحة للبشر عليها تسعة عشر لم تبق ولم تذر، وجعلت الحوار الذي كان العالم ماضياً إليه محض أوهام من مكر الضعفاء، وارتفعت عقيرة عرابي الشر، وتأكد للعالم أن صمويل هنتغتون والنفاثين معه في العقد كانوا أكثر بصيرة بطبيعة الصراع العالمي، وانطلق العالم في حرب مجنونة جديدة ضربت مباشرة في أفقر بلد في العالم بفؤوس أسلحة الدمار الشامل على رأس الشعب المسكين الذي كان ينتظر قطار التنمية والإغاثة، فأتاه عارضاً مستقبل أوديته بالويل والثبور وعظائم الأمور في مشهد يحمل كل ما توارثه البشر من كراهية وحقد محمولاً بأرقى ما أنتجه الإنسان من مراكب التكنولوجيا، ودكت المشافي والمساجد والمدارس في إطار الحرب على الإرهاب صارخة في البرية بقدوم إرهاب جديد، يهلك الحرث والنسل، إرهاب تصنعه الدول الكبرى ودهاقنتها الذين لا يسئلون عما كانوا يفعلون.

بعد الحادي عشر من أيلول أصبحت إرادة الشر في الأرض تملك الذرائع الكافية لممارسة الأوهام النازية العنصرية، للتأكيد على المنطق النيتشوي الذي اعتمدته الحضارة الأوروبية في نهوضها وقيامها، لحجة امتلاك كل فريق للحقيقة وإلغاء رؤية الآخر وحججه.

وستجد في ثنايا الكتاب كثيراً من المقالات التي تتحدث عن تقديم رؤية فلسفية للمشهد الدولي الجديد والدوافع الحقيقية التي تحرك المارينز الأمريكي المحارب في جبال أفغانستان ووهاد العراق.

ولكن هل يمكن القول إننا مبرؤون من المنطق الأمريكي الإلغائي في التعاطي مع الأشياء؟ وهل تختلف قراءتنا للآخر في كثير من الأحيان عن منطق الصقور في الإدارة الأمريكية الذي يقوم على أساس استعداء أي خيار لا يتبنى المثل الأمريكية، ويبرر ارتكاب أي حقد دموي ضد الآخر المختلف؟.

إن أقسى ما تعانيه الأمة هو منطق إلغاء الآخر وطمسه وهو منطق يؤدي بكل تأكيد إلى استمرار الانقسام في المجتمع الإسلامي وتكريس ثقافة الكراهية.

ليس من حق بشر أن يقتل بشراً، ومن قتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، إنها الروح بكل تفاصيلها هبة الله لابن آدم وهو مؤتمن عليها، جسده كما روحه كما إشراقه، كل ذلك عطاء من الله لا يحق لأحد أن يغيبه من الوجود.

وقد حاولت في هذه المقالات أن أقاوم رياح ثقافة الكراهية التي تستنبت اليوم في الشوك الإسرائيلي وتروى بالوسائل الأمريكية، ونردد نحن صداها من خلال استدعاء أشد ما روي في ثقافتنا غلواً وتطرفاً، بحيث يبدو إحياء روح التسامح والإحسان لوناً من التنازل والتفريط يلام الكاتب فيه ويتهم قلمه، ولكنني أعتبر أن رسالتي في مقاومة ثقافة الكراهية أشرف ما يناضل من أجله القلم، وأطهر ما يجاهد في سبيله اللسان.

 

على الرغم مما كتبه النقاد في مئات الدراسات المختلفة فإنه يمكن تلخيص أمراضنا التي نعاني منها في العالم الإسلامي بكلمة واحدة وهي التخلف!! نحن متخلفون، قراءتنا لتاريخنا محكومة بأمراض التخلف، قراءتنا للمستقبل مسكونة بهاجس التخلف، وعينا السياسي مسكون بهاجس التخلف، إننا مسكونون بالنزوع على الماضي (المقدس)، قدسناه وفق ما أخبر القرآن الكريم بوضوح: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون، قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون.

قداسة الماضي وهم جعل الرجعية العربية تخوض صراعاً دامياً ضد الطليعة المسلمة حول الرسول الكريم من أجل الدفاع عن ماضيها إنه شيء يشب عليه الصغير ويشيب عليه الكبير، ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، يقاتلون دفاعاً عن الماضي على الرغم مما فيه من تناقضات صارخة، وهي عقدة لا نزال نعيش فيها في وعينا الجمعي، وقد نكون نحن العرب الأمة الوحيدة في العالم التي تعتقد أن الناس كانوا قبل ألف عام أثر وعياً ومعرفة واطلاعاً وحكمة وفهماً!!

عندما نريد أن ننظر إلى المستقبل فغالباً ما نوغل في الماضي، وعندما نريد أن نحلق في الفضاء فإننا نخلد إلى الأرض، ولم يصدنا عن هذا الأفول الغائر ألوف التجارب التي أوصلتنا إلى طرق مسدودة، وأبواب موصدة

أيها البائس كم ذا تــرتجي          مطلع الشمس بدهليز المناجم

كف عن عينيك أوهام الكرى         والتمسها مثل أسراب الحمائم

لا يكن غل من الوهـم على           نور عينيك ذا ما الليل عسعس

كافر النعماء من يجحدهــا           وهي نور ثم يمضي يتلمــس

إنها دعوة لإحياء رسالة العقل في الحياة وهديه ونوره، دعوة للمسلم للنهوض والتوثب، نهوض الفاتح لا نهوض الفاتك، نهوض الوئام لا نهوض الخصام، رسالة هدى تغتني بالتاريخ ولا تتحنط فيه، تسعد بالحياة ولا تذوب فيها.

 

 

 

 

 

 

كلمة لا بد منها:

إن توثيق جهد ثقافي سبق أن نشر في الصحف والجرائد أمر طبيعي، فلكل قلم قارئوه ومن حقهم أن يصلوا إلى النتاج الفكري الذي يرغبون مرصوصاً بعضه إلى بعض في صعيد واحد من الطبع كما هو كذلك في الفكر.

تبدو بعض المقالات هنا كلاسيكية قاصرة عن تقديم الجديد فيما تبدو مقالات أخرى ثورية غاضبة راغبة في زلزلة الموروث الثقافي، وهي حقيقة ليس بوسعي أن أفر منها ولكنني أوردت ذلك كله عملاً بشرط التوثيق الذي تسعى هذه السلسلة إلى جمعه وثائق للتاريخ والزمن، وهي تعكس لك تطور الفكرة كما هو شأن كل جديد في الحياة، وبهذا فنحن نتيح للقارئ الكريم أن يطلع على الفكرة كما هي في مخاضها وبكورها وتطورها منذ كانت خبياً في رحم الفكر إلى أن دلفت إلى عالم الماصدق.

 

 

 

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2001 لم تكن مشاركتي في الحياة السياسية تشكل أي أولوية في حياتي العملية وكان الاتجاه إلى الكتابة والتأمل أغلب على قلمي، وكنت أرجو لمشروعي الفكري أن يتحرك بسلاسة ولطف، ولم أكن في الواقع أتصور ما ستحمله الأيام من صخب في إطار مواجهة حقيقية مكشوفة مع أسباب التخلف وتبعاته.

إني أرجو من القارئ الكريم أن يعذرني إذا هو لم يجد الخيط الواضح الذي ينظم حبائب هذه الأفكار ولكنني سأساعده في رسم صورة مقنعة عن التجديد المنشود.

على الصعيد الشخصي فقد أصدرت في هذا العام كتاب المرأة بين الشريعة والحياة، وهو كتابي الحادي والعشرون، طرحت فيه رؤيتي لتجديد فقه المرأة من منظور إسلامي، ومضيت في ذلك إلى غاية واضحة وهي إحياء الخيارات المغيبة في الفقه الإسلامي في إطار تحرر المرأة، ومساواتها وإنصافها من التيارات التي تصر على تغييبها عن الحياة، وقد حظي الكتاب بتأييد بعض الباحثين ونقد آخرين، وهو جدل لا يبدو أنه مرشح للهمود، فقد أثار روحاً من التحفز للدفاع عن الموروث، كما أثار اهتمام آخرين كانوا يحملون موقفاً سيئاً إزاء الموقف الإسلامي من المرأة، ومنحهم عدداً من الأدلة في أن ما فهموه عن موقف الإسلام من المرأة ليس بالضرورة خياراً وحيداً للفقه الإسلامي، وأن ثمة فقهاء كبار كانوا أكثر إنصافاً للمرأة، وعلينا أن نفهم لماذا تم تغييب آرائهم في التاريخ الإسلامي.

وهكذا فإن هذه الأوراق التي بين يديك تحمل سجل حراك ثقافي شاركت فيه خلال عام 2001 وربما كانت بعض المقالات أسبق من ذلك بقليل، وإنني آمل أن يكون ما طرحته هذه الأوراق إيجابياً في تقديم رؤية معاصرة لاستنارتنا بالفقه الإسلامي واحتياجاتنا من مطالب المستقبل، وروحاً متوثبة للانطلاق تتعاطى مع التاريخ وفق قاعدة القرآن الكريم نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وهي الرغبة التي آمل أن يعاملني بها القارئ الكريم فيما يقرؤه من هذه الصفحات.

 

 

 

 

نشرت هذه المقابلة في صحيفة تشرين الأسوعي ؟؟؟؟؟

 

الإسلام مجد العروبة

 

لكل مجتهد نصيب وهذا هو الفارق الجوهري بين الديمقراطية والشورى

التعددية مظهر بارز في المجتمع الإسلامي في أيام المجد

“أسباب النزول” علم يوضح مشاركة الإنسان في اقتراح الشريعة

 

تجديد الفكر الإسلامي وتأهيله لمواكبة العصر في ضوء التطورات الهائلة التي شهدتها البشرية ولا تزال في المجالات المختلفة، كان محور الحديث مع الدكتور محمد الحبش مدير معاهد تحفيظ القرآن في سورية، وأستاذ علوم الشريعة في كليتي الدعوة الإسلامية وأصول الدين.

والدكتور الحبش الحائز على إجازة الدكتوراه في علوم القرآن، إضافة إلى ثلاث إجازات جامعية يدعو سواء في خطبه الحاشدة أو كتبه وتبلغ زهاء العشرين كتاباً، إلى بعث الحياة في الفكر الإسلامي وتخليصه من الشوائب التي علقت به في عصور الانحدار، ويحث علماء الفكر الإسلامي على الاهتداء بعظماء الفقهاء والخلفاء المسلمين الذين امتلكوا في عصر المجد الإسلامي الحكمة والجرأة على الاجتهاد والاختلاف، ومارسوا وأرسوا قواعد وأفكاراً خلاقة ينبغي أن نقتدي بها وننميها لا أن نتجاهلها ونغض عنها تحت شعارات حقٍ كثيراً ما يراد بها باطل.

ويتناول هذا الحديث الذي ستنشره “تشرين الأسبوعي” على قسمين مع الدكتور حبش بشكل أساسي قضايا رئيسية في الإسلام، وخاصة مفهوم الديمقراطية ومصادر الاجتهاد. وفيما يلي القسم الأول من هذا الحديث:

 

الفكر الإسلامي اليوم

بداية كيف تصفون بوجه عام واقع الحال في الفكر الإسلامي المعاصر؟

من المؤكد أن العالم الإسلامي يشهد صحوة متنامية يمكننا تلمس دلالاتها ومظاهرها في كل سبيل، وقد صارت بلا ريب أوضح ملامح الواقع الذي نشهده في وداع القرن العشرين.

ويمضي الفكر الإسلامي في حركة مواكبة لهذه الصحوة المتنامية بغرض قراءة الواقع والإعداد للمستقبل يتنازعه تياران اثنان:

تيار ماضوي: يرى أن حلول سائر المشكلات قد كتبت منذ بعيد ولم يبق إلا وضعها موضع التنفيذ ويترجم هذا التيار عبارة كنا نتلقاها على مقاعد الدرس (قف على ما وقف عليه الأولون، فإنهم عن علم وقفوا) ويقف هذا التيار عند حدود عبارة (كل بدعة ضلالة) وكثيراً ما تختلط المسائل فيصبح الضلال سمة كل إبداع ولو كانت المصلحة الحقيقية للأمة تتوقف على هذا الإبداع!!.

تيار تجديدي: وهو يرى أن الأمة تحتاج إلى إعادة النظر بموروثها في كل جيل، وإن هذا الموروث العظيم من عمل فقهاء المجد الإسلامي دليل على حاجة الأمة للتغيير وفق دلالات البيان النبوي (يبعث الله على كل مائة سنة من يجدد لأمتي أمر دينها).

ولا يختلف التياران في التسليم بأن الإسلام هو مجد العروبة، وإن إعادة إحيائه رسالة شريفة ونبيلة ولكن وسائل إعادة هذا المجد وإحيائه تتفاوت لدى كل فريق.

 

ما هو برأيكم مفهوم الديمقراطية في الإسلام وهل هي الشورى؟

الشورى هي المصطلح الإسلامي لمبدأ المشاركة في الحكم وهي ليست مرادفاً دقيقاً للديمقراطية، ومع أن الديمقراطية تمثل مرحلة متقدمة من الكفاح الإنساني ضد الاستبداد، ولكن الإسلام يطرح الشورى بمضامين أكثر عدالة ومع أن الشورى في القرآن الكريم وردت على هيئة شعار عمل الجماعة }وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ{ ولم يتضمن تفصيلات تحليلية لأصول هذه الشورى ولكن روح الإسلام ومقاصده تكشف لك عن جوانب دقيقة لتطبيق الشورى في الإسلام.

إن الناس يولدون متساوين ويجب أن يبلغوا راشدين متساوين ولكنهم لا يبقون كذلك، إذا لكل مجتهد نصيب فالناس فيهم الكسول وفيهم المجد، وفيهم الذكي وفيهم الخامل، وهذا هو الفارق الجوهري بين الشورى والديمقراطية.

الديمقراطية تتضمن مساواة الناس في الإدلاء بأصواتهم والشورى مخبرة عن مضمونها فليس كل أحد يستشار وإنما يستشار العليم ولا يستشار الجاهل، فرأي الجاهل هدر وهو ليس بصيراً بمصلحة نفسه فضلاً عن أن يكون بصيراً بمصلحة سواه.

وهذا الفهم التراكمي لأصوات الناس الذي تتبناه الديمقراطية أنكره القرآن في غير موضع }وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ{ }وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ{.

إن الجمهور في الغرب حين يستفتى ديمقراطياً عن رأيه في الخمر أو الفحشاء فإن النتائج تجيء مخيبة لآمال العقلاء والحكماء، إذ أن الناس – للأسف – ليست مستعدة للتخلي عن رغائبها ونزواتها من أجل مثل أخلاقية ولكن لو طرح هذا الأمر نفسه ديمقراطياً على خبراء الاجتماع والصحة وحدهم فإن النتائج ستكون مختلفة بكل تأكيد.

إن خبراء القانون يمكنهم في كل جيل أن يصلوا إلى وضع اعتبارات  عادلة، تحدد قوة الورقة في الصندوق الانتخابي على أسس أكثر عدلاً من البيانات الرائجة حالياً من خلال قوائم دوائر النفوس.

على سبيل المثال تمنح الديمقراطية السائدة رئيس الجامعة صوتاً واحداً على الرغم من درجاته العلمية العالية، فيما تمنح الآذن المكلف بخدمته صوتاً واحداً على الرغم أنه قد لا يقرأ ولا يكتب، وإذا كان له عشرة من الأولاد، فربما تضاعف صوته الانتخابي كأسرة أربع أو خمس مرات عن رئيسه، وأنت بصير بأنه لا يمكن تصور تساويهما من حيث الوعي الاجتماعي بمصالح الأمة.

إن صدور القوائم الانتخابية عن وزارة التعليم العالي مثلاً وفق مستوى الدرجة العلمية أعدل بكثير من صدور هذه القوائم عن دائرة النفوس العامة، وإن يكن ذلك ليس مظهر عدالة تاماً ولكنه على كل حال سعي في درب العدالة.

إني أتصور ضرورة إيجاد (بنك) للأصوات الانتخابية يتساوى فيه الناس حين يبلغون راشدين فيكون لكل منهم صوت واحد ابتداء، ثم يسجل له رقم لدى كل إنجاز علمي أو عملي، وفق معايير عادلة تتخيرها لجنة مكلفة من خبراء القانون والاجتماع فتتضاعف الأرقام كلما حصل على شهادة علمية جديدة، وكلما أنجز التزاماً إدارياً أو خدمة للناس أو براءة اختراع أو وساماً عاماً، وهكذا فإن بنك الأصوات يحتوي على أرقام لكل مواطن، فهذا صوته بعشرة وهذا بمائة وهذا بألف ولكل مجتهد نصيب.

إن إحياء الشورى التي هي باختصار (رأي العليم) يجعل الديمقراطية التي نتوخاها أكثر عدالة وتعبيراً عن إرادة أهل العلم والحكمة في المجتمع.

وإني عارف بأن ما قدمته هنا ليس إلا تصوري الخاص لمسألة إحياء الشورى، ولا يخفى أن المجتمعات تعتمد معايير مختلفة لتطوير الديمقراطية التي تتخذ في العالم اليوم أشكالاً جدّ مختلفة.

إن الشورى التي أتحدث عنها أيضاً ليست بالضرورة نمطاً واحداً، ولكنها في النهاية شكل من أشكال ما أمر الإسلام بإحيائه من النهج الشوروي، وليس بالضرورة تكراراً لما كان يسمى (رأي أهل الحل والعقد) وهو وإن كان صيغة شوروية ولكنه كان في كثير من الأحيان صيغة استبدادية (فوقانية)، ترمي إلى التدثر بعباءة الجماعة وهي في النهاية مجمع خاص بأهل القدرات الزئبقية القادرة على التسلل إلى قاعة اتخاذ القرار، بل وإن الشورى التي أقصد هي إعادة تصنيف الناس وفق خدماتهم وعلمهم على أساس معياري.

وتلتمس جذور هذا المنهج من الشورى (رأي العليم) من نصوص الكتاب والسنة النبوية }فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ{.

وهكذا فإننا في الحديث عن الشورى (رأي العليم) في الإسلام نبدو أكثر وضوحاً عندما نقارن ذلك بفلسفة جان جاك روسو عميد الديمقراطية السياسية الحديثة، حيث يرتكز جوهر الفلسفة السياسية عنده على اعتبار أن الخير العام القائم لا يعود إلى أسس الأخلاق والقانون الطبيعي، بل إن المعيار الوحيد عنده لذلك الخير هو العدد حيث يصبح القانون البشري هو معيار ذاته، وهو قيمة أخلاقية بنفسه، لأنه يعبر عن الإرادة العامة وهكذا فعن طريق جمع حسابي للأفراد بوصفهم هويات مجردة تصير القوانين مجرد تسجيل للإرادات على أساس كثروي.

وهنا يتعين القول: إن الشورى لدى مقارنتها بالديمقراطية فإنها تشكل معها مركبة لا متقابلة تتجه نحو التكامل لا نحو التدافع، وهي تتفق مع الديمقراطية بأن رأي الجماعة خير من رأي الفرد ((يد الله مع الجماعة))، ((من شذ شذ في النار))، ((صلاة الرجل في الجماعة تفضل صلاته وحده بسبعة وعشرين ضعفاً)) وكلها سنن نبوية ملهمة، تأمر بتلمس الأكثرية، ويبقى السؤال واحداً: أكثرية من؟ في الديمقراطية التقليدية: الأكثرية العددية وفق بيانات دوائر النفوس.

وفي الشورى (رأي العليم): الأكثرية الموضوعية بحيث يمنح العليم والعامل والمنتج والمتفوق عموماً رصيداً مكافئاً على ورقته الانتخابية.

 

المشاركة في التشريع

إلى أي مدى يمكن القول إن الإسلام أتاح دوراً للأفراد في مسائل التشريع؟

الديمقراطية بمعنى مشاركة الناس في اتخاذ القرار هي في الواقع سلوك إسلامي رشيد، ولكن عصور الانحطاط المتتابعة أطفأت دلالاته المتألقة وسادت صيغ إرادة الفرد محل المشاركة الجماعية وتم تسويق الاستبداد الذي مورس في عصور الانحطاط على أنه إرادة إلهية يطلب من الناس تفهمها وتبريرها تحت عناوين السمع والطاعة.

ولكن قراءة متأنية للمنهج النبوي في التربية يكشف لك المدى الذي انحرفت إليه فهوم المتأخرين لهذه الحقيقة، حتى سادت عبارات ظلامية تحيد المجتمع برمته، وتجعل إطار المشاركة الاجتماعية في صنع القرار في أضيق نطاق.

ففي تجاوب الصحابة الكرام مع النبي r ما ينقض هذه الصورة المظلمة، حيث كان الصحابة لا يجدون حرجاً من طرح آرائهم الجريئة، ويقولون كلمتهم حتى في مسائل التشريع من دون أن يكون ذلك مروقاً من الدين أو افتئاتاً على الشريعة.

أخرج البخاري في الصحيح عن عائشة: أن خولة بنت ثعلبة جاءت تشكو زوجها أوس بن الصامت إلى النبي r وكان قد ظاهر منها (الظهار هو أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي) وحين أخبرت النبي الكريم بأمر الظهار، قال لها: ((قد حرمت عليه))، ولكن المرأة المسلمة لم تجد حرجاً أن تعترض على هذا البيان التشريعي وتطالب بإعادة النظر فيه وقالت: يا رسول الله. .. أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي ظاهر مني، فكان يقول لها: ((ما أراك إلا قد حرمت عليه))، فقالت: يا رسول الله إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء تشتكي إلى الله.

هذا الموقف الذي نرويه في السير بصيغ كثيرة نتعامل معه ومع غيره للأسف وكأنه بدون مضمون، وبدلاً من هذه الصيغة التنويرية التي ينبغي أن توجه الفكر الإسلامي تسود صيغ أخرى ظلامية تمنع الفكر وتحارب التنوير، كقولهم: (لا تعترض فتنطرد) وقولهم: (خطأ الشيخ خير من صواب المريد) وهي أشكال متناقضة تماماً للهدي النبوي.

وقد جاء القرآن الكريم بالثناء على موقف خولة }قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا{ حتى سميت السورة باسم (المجادلة).

وهذا الموقف الذي نسجله للمرأة في الإسلام ليس انتقائياً بل هو موقف يشبه أن يكون يومياً في فترة التنزيل، حتى أن ثمة علماً خاصاً من علوم القرآن اسمه (أسباب النزول) ولو أردنا أن نختار تسمية أكثر وضوحاً لهذا العلم فهو (مشاركة الإنسان في اقتراح الشريعة)

والأمثلة على هذا اللون من المشاركة أكثر من أن تحصى منها موقف ثابت بن قيس يوم قذف امرأته بشريك بن سحماء فأخبره النبي الكريم بوجوب حد القذف عليه ما لم يأت بالشهود ولكنه قال: يا رسول الله، الله أعدل من هذا، والله إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد حتى نزلت آيات الملاعنة، وتضمنت تعديلاً جوهرياً على حد القذف وفق ما أشار إليه ثابت بن قيس.

ومنها موقف ابن أم مكتوم يوم نزل القرآن }لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ{ حيث جاء ابن أم مكتوم وكان ضريراً يذكر علته وسرعان ما نزل القرآن يتضمن التعديل الضروري بإضافة كلمة }غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ{ لرفع الحرج عن أصحاب الأعذار.

الأمر نفسه يتكرر في عهد النبوة مئات المرات، حتى أن صحابياً واحداً هو عمر بن الخطاب سجلت له عشرات المواقف كان يقترح فيها الحكم فيجيء وفق تصوره، وهي المسائل التي يسميها المفسرون والفقهاء (موافقات عمر).

فإذا كانت هذه هي مشاركة الإنسان في التشريع في عهد النبوة وموقفه أمام النبي نفسه صاحب الشريعة، فكيف ينبغي أن تكون بعد غياب الوحي، ونهوض الإنسان بخلافة الله في الأرض؟

 

 


 

المفارقة أن عهد الخلفاء الراشدين كان الأنشط في الاجتهاد

 

* يشكو الكثير من المفكرين الإسلاميين المحدثين من أن المصادر القديمة المعروفة للاجتهاد خنقت هذا الاجتهاد ولم تعد قادرة على مواكبة العصر. هل تعتقدون أن ثمة حاجة لتطوير قواعد الاجتهاد؟

إن الحديث عن مصادر الشريعة في الإسلام يمس في الواقع جوهر المشكلة الفكرية والنهضوية التي يبحث عنها المسلمون إليها ويتطلعون إليها لبناء مجتمع رشيد.

أزمة الحركة الإسلامية أزمة تشريع، من يحق له أن يشرع وكيف له أن يشرع؟ ومن أين يستمد الشريعة؟ هذا السؤال الكبير هو الذي يشرخ جهاد الأمة ويبعثر جهودها ويحمل قياداتها على ركوب ظنون السوء، بعضهم ببعض حتى لا يتبقى إطار كاف تندرج جهودهم في إطاره.

إن العبارة المحببة إلى قلوب المسلمين في العالم كله هي العودة إلى الكتاب والسنة، وهذه العبارة الصادقة لا تعالج شيئاً من المشاكل إذ أنه ما أن تفرغ من إلقاء هذا التقرير الخطابي حتى تقف مباشرة أمام حقائق موضوعية تجعل هذا الشعار مفرغاً من مضمونه.

والحديث عن مصادر الشريعة يثير في العامة تساؤلاً كبيراً، هو: هل هناك من مصادر للشريعة غير الكتاب والسنة؟ وهو سؤال بريء يكشف عن عمق ارتباط هذه الأمة بالإسلام، ورغبتها في أن تحكم حياتها النصوص المقدسة التي جاء بها النبي محمد r.

ولكن ما ينبغي ألا نجهله أبداً أن نصوص الكتاب والسنة لم تُفهم في التاريخ الإسلامي أيام مجده بالطريقة التي يفهمها كثير من الإسلاميين اليوم، ومنذ القرن الأول اهتدى الفقهاء إلى مصادر أخرى ألهمتهم إياها هذه النصوص الشريفة، وكانت هذه المصادر تؤدي دوراً مركزياً في التشريع إلى جانب الكتاب والسنة، وكانت هذه المصادر تتبوأ موقعاً مستقلاً في التشريع فيما سكت فيه النص وتقرر في مظان أخرى مناط النص وحدوده وتحدد ظروفه وتقيد مطلقه وتخصب عمومه.

ولم يكن الصحابة بعد النبي r يتحدثون عن التشريع بالاستحسان أو المصلحة المرسلة أو الاستصحاب وغيره من المصطلحات التي درجنا على استعمالها، ولكن نظرة متأملة إلى هديهم في الاجتهاد يكشف لك أنهم كانوا يشرعون بهذه المصادر وإن لم يسموها بأسمائها، فقد كان قتال مانعي الزكاة على يد الصديق أبي بكر استحساناً استحسنه خلاف القياس الجلي الذي يقتضيه نص: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)).

إن العودة إلى الكتاب والسنة هي مطلب المسلمين جميعاً وهو مقصد تشترك في السعي إليه سائر الحركات والجماعات الإسلامية بلا استثناء، ولكن ينبغي القول بأن هذا المطلب اتخذ صيغة شعار غير معقول شعار يربك أي سعي في الاجتهاد وأي بحث حقيقي عن حلول ناجعة للأمة في ما يستجد من أحكام أو يتبدل من ظروف.

إن شعار العودة إلى الكتاب والسنة كلمة حق، ولكن كثيراً من الدهماء رفعوا هذا الشعار الحق وأرادوا به الباطل تماماً كما صرح أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بقوله حين سمع شعار لا حكم إلا لله قال: كلمة حق أريد بها باطل.

لقد كان الخوارج الذين رفعوا هذا الشعار يقصدون من ورائه تعطيل العقل عن النظر في مصالح العباد، وإيقاف حركة الحياة عند حدود حروف الكتاب، وهو معنى كان مرفوضاً من قبل الأتقياء في مطلع القرن الأول الهجرية، كيف يريدون اليم في القرن الخامس عشر الهجري أن يعتمدوا هذا الإعلان على الصيغة (الخوارجية) التي أطلقها أولئك في تلك الفترة المبكرة.

إن مظاهر الورع قد تكون في كثير من الأحيان خادعة غرارة تشف عن مقصود معاند لمقاصد العبادات وقد وصف النبي r مقدمي الخوارج بقوله: ((يحقر أحدكم صلاته أمام صلاتهم وصيامه أمام صيامهم)) لقد كانت تتورم أقدامهم من طول القيام في الليل، وتتشقق أكبادهم من طول الصيام في أيام الهجير القاسية، ولكن تلك العبادات جميعاً لم تكن محل قبول عندما أعرض هؤلاء عن مقاصد الشريعة، وأصبح موقعهم من التنزيل موقع الذين حملوا التوراة فلم يحملوها، وعادت عليهم جهودهم وتضحياتهم بالوبال الذي أغرقوا فيه العالم الإسلامي حينئذ.

إن شعار العودة إلى الكتاب والسنة لا يثير حساسية أحد فلماذا نقف هنا عند دلالة غائبة عن أذهان الناس كأننا نوقدها نحن بعد أن كانت غير موجودة من قبل ولم نصر على مناقشة هذا الشعار على الرغم من إطباق الأمة على صوابيته والاحتكام إليه؟.

والمشكلة ليست في صيغة الشعار، ولكن في تلك الفهوم التي توقف عندها الفقه الظاهري من هذا الشعار، هذا الفقه الذي انطلقت به الخوارج بمنطق فج سقيم ثم تولى ابن حزم إعادة صياغته على أسس من الاستدلال بالنصوص، ثم تتولاه اليوم حركات إسلامية من غير النظر في العواقب التي يؤدي إليها هذا الفهم.

لقد أدرك الإمام علي رضي الله عنه أن مقاصد الخوارج تتجه إلى تعطيل العقل والتماس سائر التوجيه في الحياة من ظاهر النصوص وهو أمر غير ممكن شرحه بقوله: أما أني أعلم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يريدون لا إمرة إلا لله أما أنه لا بد للناس من أمير يجبي الخراج؟

إن السمة التي ميزت فكر الخوارج –إن كان لهم فكر- هي ارتكازهم على مبدأين اثنين:

الأول: تحكيم ظواهر النصوص ولو أدى ذلك إلى نتائج متناقضة.

الثاني: رفض الآخر إذ أسقطوا مقولة الاختلاف وجزموا بتلازم الاختلاف في الرأي مع اختلاف الحق في ذاته، وقد أدى بهم ذلك إلى خيار تكفير الآخر وهدر دمه، بل وعدم قبول توبته.

وهذا المعنى هو الذي نشاهده اليوم على الساحة الجزائرية حيث “ينقض الإرهابيون المتأسلمون” الذين تدفعهم هذه الفتاوى الخوارجية التي تسللت إلى أعمال فقهاء مسلمين كبار فيضربوا بالبلطات والفؤوس والخناجر سائر من يشاهدونه من الناس الذين لم يشاركوهم في الخروج على (المجتمع الكافر) والالتحاق (بالجماعة المسلمة) في معاقلها (دار الهجرة) التي يدعو إليها قراصنة الحرب (الجهاد).

وهكذا فإن الخوارج هم الذين تبنوا الفكر الظاهري وطبقوه عسكرياً قبل أن ينحسر بعدئذ إلى فتاوى ورؤى يقدمها غلاة الفكر الظاهري.

ولو كان لنا أن نستعير مصطلحات عصرنا الحاضر فنحن أما منهج واحد تجلى في جناحين:

الأول: الجناح العسكري وهو الخوارج.

والثاني: الجناح السياسي وهم دعاة الظاهرية ومنظرو الفكر الظاهري.

أما جمهور الفقهاء فقد كانوا واضحين من البداية حين جزموا بأن النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، وما يتناهى لا يضبط ما لا يتناهى، وفي فترة مبكرة قرروا استحداث أكثر من عشرة مصادر للشريعة إلى جانب الكتاب والسنة وهي مصادر ذات دلالة واستقلال وعبرها تشرع أحكام كثيرة في الفقه الإسلامي.

وهكذا فقد كانوا يتحركون وفق مصلحة الأمة ويرون في النصوص نوراً هادياً لا قيداً ماضياً يستضيئون بها، ولا يغمضون أعينهم اكتفاء بنورها، وعلى هدي من هذا الوعي الاجتهادي كانت حروب الردة وجمع القرآن ومن بعد ذلك شكله ونقطه وحزبه وأجزاؤه، ونشأت هذه العلوم المكرسة لخدمة الكتاب والسنة كالفقه والمصطلح والتفسير والمواريث والأصول والنحو والبلاغة، وهي جميعاً في نظر الظاهرية بدع مرذولة يستغنى عنها بكلام الله، وكأنهم يتصورون أن لا قيام لها إلا على حساب الكتاب مع أنها في الحقيقة فروع منه نشأت أصلاً لخدمته وتفسيره.

ومع أن عهد الراشدين كان قريباً من عهد النبوة وحاجة الاجتهاد فيه نظرياً قليلة بالمقارنة مع زماننا هذا – غير أن أعظم المجتهدين في التاريخ الإسلامي هم الخلفاء الأربعة نظراً تلك الإصلاحات الهائلة لتي حققوها على مستوى التشريع والعمل في مناحي الحياة.

وينبغي القول إن الحاجة للاجتهاد ما زالت تتعاظم بدءاً من عهد النبوة إلى زماننا هذا، وأن الراشدين الذين كانوا أعظم المجتهدين بإطلاق عاشوا في أقل العصور حاجة للاجتهاد لقربهم من عصر النبوة بينما نعيش اليوم في أكثر العصور حاجة للاجتهاد، ولكننا لا نملك الشجاعة الكافية التي كانوا يملكونها حين يقررون مصالح الأمة الحقيقية من غير أن يتهموا بتبديع أو فسق.

إن خط الحاجة إلى الاجتهاد يتصاعد بيانياً منذ موت الرسول r إلى زماننا هذا، بيد أن القدرة على الاجتهاد والشجاعة فيه تتضاءل بيانياً في هذه الأمة حتى تبلغ حد إغلاق باب الاجتهاد – من الجانب العملي- على الرغم من أننا في مسيس الحاجة إلى إحياء الاجتهاد وإطلاقه في أيام التحديات هذه.

وحين ظهر الأئمة الأربعة أبو حنيفة – الشافعي – مالك – أحمد بن حنبل – كانت الأمة لا تزال تعيش تألقها الحضاري والتشريعي وتمكن هؤلاء الأئمة من رصد منهج الصحابة في الاجتهاد والاستنباط وأمكنهم أن يقرروا بقلم النقل الموضوعي أكثر من عشرة مصادر للشريعة إلى جانب الكتاب والسنة.

إن مصادر الشريعة – كما سماها الإمام الشافعي – كلمة كبيرة، كبيرة جداً لا أظن أن أئمة الفقه الإسلامي كانوا غافلين عن دلالتها حين أطلقوها، فقد كان وعيهم يتجه حقيقة إلى إدراك مدى سعة هذه الشريعة وآفاقها الواعية، وقد كان فهمهم لها على وجه التحقيق يضع أيديهم على الحلول الدقيقة للمسائل المستجدة في كل عصر.

 

أبو حنيفة كان رائداً في جرأة الاجتهاد

إنه أمر مذهل أن يقوم مجتهد في مطلع القرن الثاني الهجري وهو أبو حنيفة بتقرير مبدأ الاستحسان في الشريعة، ويستنبط على أساسه أحكاماً شرعية تعالج أدق المسائل حساسية في زمانه، وترسم خطا استنباط الحلول لمعضلات الأمة على أساس من النظر في مصالح الأمة، ولو تم ذلك بتأويل النصوص وتعطيل قياسها فالاستحسان في أكثر تعريفاته عند الحنفية اعتدالاً هو العدول عن القياس الجلي إلى قياس خفي لعلة افترضت ذلك العدول.

ومع أن اعتراضات قوية وجهها فقهاء محترمون لمنهج أبي حنيفة في الاستحسان، غير أنه بقي إماماً موثوقاً يعظم فقهه واجتهاده ولا يطعن فيه إلا مغرض أو صاحب هوى.

ولكن للأسف فإن هذا المنهج الشجاع الذي خطه أبو حنيفة في اجتهاده لم يستمر متألقاً من بعده وترنح أمام سهام ناقديه وتحول بعد فترة إلى صيغة تلفيقية تجعله لوناً من القياس وتعد استحسان أبي حنيفة محض قياس شارد.

وكذلك فإن انحدار الأمة بعد عصر المجد الإسلامي في مختلف الميادين جعل مجتهديها يجبنون أمام مواصلة هذه الخطا الكبيرة، أما اليوم فإن مدرسي الأصول في المعاهد الشرعية يجهدون أنفسهم في الاعتذار لأبي حنيفة عن قوله بالاستحسان، ويعمدون إلى إطفاء إبداعه في الجانب الاجتهادي حرصاً على منزلة أبي حنيفة، وكأن خياره في الاستحسان سبة نجتهد في إقالة عثاره فيها بدلاً من أن نقر أنها كانت أحد أعظم إنجازاته الاجتهادية.

ولكن المعنى الذي يجب أن نؤكد عليه أن هذا الفقيه العملاق لم يكن غافلاً عن مؤدى خياره، وعلى الرغم من محاربة بعض أهل الحديث له فقد أظهر للناس عمق الخلاف بين الفهم الظاهري للنصوص وبين فهم المقاصدي لهذه النصوص، والأمر نفسه نقوله في مذهب مالك في الاستصلاح، وخيار الإمام الشافعي في باب القياس.

وهكذا فقد تقرر فقهاء الإسلام في عصر المجد الإسلامي عشرة مصادر للشريعة وأفاضوا القول في أصولها وفروعها وذلك قبل مضي قرنين على الرسالة النبوية، ولا شك أن هذه المصادر كانت قمينة بأن تتفرغ إلى مصادر جديدة أخرى لو قدر لهذا الفقه أن يستمر في نهوضه.

ولكن انحدار مستوى الفقه الإسلامي،  وأفول نجم الفقهاء الكبار، وغروب شمس الحضارة الإسلامية كل ذلك أدى إلى وهن في أعمال المجتهدين من أهل الإسلام، وتحولت نظرة فقهاء عصر الجمود إلى هذه المصادر الغنية الثرة إلى مصادر شكلية فرعية اصطلاحية، وصار تأصيل الأحكام على هديها وحدها لوناً من الافتئات على الشريعة، وصارت الكتابات في أصول الفقه من بعد لا تجرؤ أن تقرر حكم مسألة شرعية على أساس أي من هذه المصادر، وصار المصدر الوحيد الذي يحكم حوائج الأمة هو النصوص لا غير بعد أن تم التوسع في دلالاتها من جهة الكتاب، والإفراط في إيرادها من جهة السنة وذلك حتى يتم إدراج سائر المسائل التي تعرض للأمة تحت واحد من هذين.

واليوم فإن مدرس أصول الفقه في المدارس الشرعية يقتصر دوره على إيراد تعاريف القدماء لهذه المصادر من غير أن تكون لها أية ظلال تطبيقية في الواقع، حتى الأمثلة فإننا نعجز أن نأتي بالأمثلة من الواقع على سبيل المثال، فإن أكثر المؤلفات الحديثة في الأصول لا تزال تذكر أمثلة الاستحسان مثالين منسوبين لأبي حنيفة وهما تضمين الصناع وأسآر الطيور والجوارح، وكأنه ليس في سماء المجتمع الإسلامي في هذا العالم المترامي الأطراف مسألة تتطلب الاستحسان إلا هاتين المسألتين؟

إن بعث الاستحسان الذي التزمه أبو حنيفة مطلب تنويري حقيقي ربما يرفع عن الأمة معظم الأخبار التي لا تزال تعوق نهوضها بدوافع من التزام الموروث.

 

التعددية في صلب الإسلام

ما هو مفهوم التعددية في الإسلام وهل يقبل الإسلام مبدأ التعددية السياسية والفكرية والمذهبية؟

التعددية اصطلاح محدث نورده عادة في مقابلة المصطلح الإنكليزي (variety)، غير أنها في الواقع كانت أحد مظاهر المجتمع الإسلامي البارز في أيام المجد.

ففي الإطار الفكري عشنا هنا مذاهب متعددة وكان الشافعي يقول: الرأي عندنا كذا وعند السادة المالكية بخلافه، والمالكي يقول: الرأي عندنا كذا وعند السادة الشافعية بخلافه، وهذا في إطار المذاهب الأربعة حيث صنفت مبكراً كتب الفقه المقارن كبداية المجتهد لابن رشد المالكي والمغني لابن قدامة.

لا على أساس إلغاء الآخر بل على أساس الاغتناء بفكره خياراته وخارج المذاهب الأربعة، فقد اشتهرت تلمذة الإمام أبي حنيفة لجعفر الصادق وأثر أئمة المعتزلة في الفكر الإمامي، وخلال كل مرحلة من مراحل التاريخ كان ثمة انفتاح وتعصب ومواقف مشرقة ومواقف مظلمة ولكن التعدد كان موجوداً.

بوسعك أن تقلب صحائف تفسير جليل كالقرطبي مثلاً لن تجد في آيات الأحكام آية واحدة إلا وفيها قولان أو ثلاثة وربما أربعة في المسألة الواحدة، وهذه الأقوال تطول مسائل اعتقادية وفقهية وظواهرية، ولم يكن الرأي المنسوب إلى صحابي كريم فيها ليلغي ما نسب إلى صحابي آخر، وتبقى آراؤهم جميعاً محل احترام الأمة مدونة محترمة على الرغم من تناقضها الكامل.

انظر مثلاً مذاهبهم في نكاح المتعة تفسير الآية (24) سورة النساء، ومذاهبهم في اشتراط الولي في النكاح تفسير الآية (237) من سورة البقرة، ومذاهبهم في الوصية للوالدين والأقربين وتفسير الآية (184) سورة البقرة.

ولم يكن هذا الخلاف ليحمل بعضهم على تكفير بعض أو التخارج من الملة، وكان دائراً في المحصلة بين الحكم بالخطأ أو الصواب وليس الإيمان أو الكفر.

ومن هنا فإن المطلوب هو إصلاح فقه الاختلاف بحيث يغدو الاختلاف مظهر رحمة كما عبر عنه عمر بن عبد العزيز بقوله:

“ما أحب أن أصحاب رسول الله r لم يختلفوا لو لم يختلفوا لم تكن رحمة”.

لقد تجاوزت أيام المجد الإسلامي مأساة الاختلاف وجعلت منه ربيع نعمة وفردوس تراحم، وأصبح من المألوف أن تجد عند سواري المسجد حلقات مختلفة اختلافاً جذرياً في فهم الوجود، فيكون في المسجد حلقة معتزلية وأشعرية وحلقة جهمية وحلقة مرجئية، وكان المسجد يسع الكل على الرغم من ولاءات المعتزلية العلمانية وقولهم بالحسن والقبح العقليين وإنكارهم لكثير من الغيب وقولهم بحدوث القرآن.

ولولا ما تورط فيه شرار المعتزلية أيام المأمون والمعتصم من فتنة خلق القرآن، وإقحام المسائل الفكرية في حمى الصراع السياسي والعسكري لقدمت ثنوية العقل والنقل، أجمل اشتراك في بناء المجتمع واستقرار الحياة فيه.

وإن مبدأ البر والقسط الذي قرره القرآن الكريم في قوله: }لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{ كان له أثر واضح في اشتراك سائر التيارات في بناء الحضارة الإسلامية.

وإننا مدينون بالكثير من حضارتنا المجيدة لأعلام كبار نفخر بهم ونعتز بهم، وهم ينتمون عملياً إلى مذاهب خارج أهل السنة والجماعة، بل إنهم يصنفون في أشد التيارات العلمانية والليبرالية راديكالية، وإلا فأين يمكن أن نصنف ابن سينا والفارابي وابن رشد والرازي والكندي والبتاني وأمثالهم من أعلام الحضارة الإسلامية؟

بل إنه يمكننا القول: إن العلوم الكونية كالطب والكيمياء والفلك إنما تألقت أيام الأمويين والعباسيين بفضل الصابئة والمسيحيين، حيث توفرت لهم سائر ظروف التفوق العلمي، فمثلاً كان جابر بن حيان والبتاني من الصابئة (عبدة النجوم) وهناك أسر كاملة تألقت في الطب والترجمة مثل: آل يوحنا بن ماسوية، وحنين بن إسحاق، وجبرائيل بن بختيشوع، وهم من أهل الكتاب عاشوا كذلك وماتوا كذلك، وكان تفوقهم في المعارف الكونية مثار إعجاب الناس، ولم يجدوا أي عقبات في المجتمع تحول دون تفوقهم ونبوغهم في فنون المعرفة.

 

لا يطبق حد المرتد حتى يقترن بالحرابة

وقد يشكل على ما أوردناه هنا في باب إقرار التعددية الفكرية والدينية والمذهبية وكذلك حرية الرأي ما قرره الفقهاء في مسألة قتل المرتد.

إذ تنص كتب الفقه الإسلامي في عدد من المذاهب على وجوب قتل المرتد إذا خرج من الإسلام عملاً بحديث ((من بدل دينه فاقتلوه)).

وفي الواقع فإن هذه المسألة من أدق ما ينبغي تحريره في هذا المقام ، وما ينبغي الإشارة إليه هو أن هذا الحكم مقيد بمن مارس الحرابة ضد الأمة وليس مطلقاً فيمن اتخذ موقفاً فكرياً مخالفاً لخيار الجماعة ، وهو ما عبر عنه الفقهاء بالردة مع الحرابة، والحق أن النبي الكريم رسم من خلال تطبيقه لنصوص الكتاب أعظم بيان في ذلك إذ لم يحصل أنه أقام حد الردة على أحد على الرغم من وقوعات الردة التي حصلت في المدينة وما حولها ، فقد أخبر القرآن الكريم عن عدد من الأفراد والمجموعات بأنهم ارتدوا، من ذلك قوله تعالى: }يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا{ وكذلك قوله: }إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ{ وهؤلاء الذين ذكرتهم الآيات معروفون بأسمائهم وأوصافهم لدى سائر المفسرين ، ولم يقل أحد أن النبي الكريم قتل أحداً منهم؛ بل أن في شروط صلح الحديبية التي أبرمها النبي r أن من ترك الإسلام واختار قريشاً فليس للنبي أن يمنعه من ذلك في حين كان الطرف الآخر يمنع من يختار الإسلام من الهجرة.

وفي الموقف النبوي الكريم هذا غاية ما تتطلبه بشروط الحرية الدينية وفق أعلى المعايير ، وهكذا فإن بيان النبي الكريم لنصوص الكتاب هو المرجع في تقرير هذه المسائل وهو الذي يقرر ما إذا كان تغيير الموقف الفكري يستلزم إقامة حد أم لا.

ولذلك فإن النبي الكريم حينما بلغته ردة بني حنيفة ، وأنهم أسسوا كياناً داخل الدولة ، وأنهم خلعوا الولاء للمدينة وشرعوا بتكوين جيش خاص لم يتردد في توجيه جيوشه لمحاربتهم ، وذلك لاقتران مواقفهم الفكرية بالنشاط المسلح الذي يهدم وحدة الدولة.

وهكذا فإن الحديث الوارد بهذا المعنى ((من بدل دينه فاقتلوه)) ينبغي تقييده بفعل النبي الكريم كما أوردناه فالسنة يقيد بعضها بعضاً، بل أن الراوي مهما بلغت وثاقته إذا خالف رواية من هو أشد منه وثوقاً فإن روايته عندئذ تندرج في الشاذ من الحديث فالشاذ هو حديث صحيح خالف في متنه أو سنده رواية من هو أقوى وأوثق.

وعلى هدي ما بيناه فإن على الأمة أن تبرأ من صنيع الاستبداد التاريخي الذي تورط في قتل بعض المخالفين كقتل خالد بن عبد الله القسري لجهم بن صفوان وكذلك قتل السهروردي والحلاج ، وهي حوادث فردية قليلة في التاريخ الإسلامي ولكنها غير مشرفة ولا مبررة وهي مخالفة لمنهج النبي الكريم في فهمه واستنباطه من القرآن الكريم.

 

تعقيب

يمكن من خلال هذه المقابلة الاطلاع على منهج التجديد الذي نتطلع إليه، وفي جوهر المشروع هذا مسألة علاقة الإنسان بالغيب والوحي، أرجو أنها كانت وافية في رسم ملامح ما أتطلع إليه من تصحيح العلاقة بالنبوات على أساس أن الأنبياء هم قادة الكفاح الإنساني، وأن كفاحهم تنتظمه السنن الكونية الإلهية، وأن قراءتنا لتاريخ كفاحهم ينبغي أن تندرج في إطار ذلك وهديه.

 

 

 

وهنا أختار أن أضيف للقارئ الكريم رؤيتي في جدل العلاقة بين الإنسان والوحي من خلال هذه الحوارية بين الرسول الكريم وبين حائر من أتباعه:

يا رسول الله يا من وجهه                أشرقت منه الليالي مصبحات

هل لدى كفيك برء مثله                     يمنح العارف أسرار الحياة

يا رسولاً لم يكن في الناس بدعاً        لم يكن يدري خفايا الحادثات

ختموا العقل به كرهاً وطوعاً           ثم كموا بعد أنفاس الحيـاة

 

ما النبوات التي كانت لكم                غير أشواق وأذواق ونور

رقرقت شوقاً على أسماعكم              فجرت أنغامها فوق الطور

 

فماذا ختمت أنوارهــا؟                رغم ما يشهده العالم هذا؟

ولماذا طويت أسرارهــا؟                  ولمـاذا ولمـاذا ولمـاذا؟

 

ومن سجاف الغيب قرأت جوابي:

لا تلمني يا صديقي إنني                   خدمة للعقل أنهيت النبوة

لم أشأ أرضى لكم أوهامكم              فخذوا أقداركم مني بقوة

 

مجدكم في الأرض لا ترسمه           جثث تسكن في جوف المقابر

فخذوا أقداركم وانتبهوا             واصعدوا أنتم على تلك المنابر

 

إن مصباحي الذي أوقدته           نورك الباقي على مر العصور

إنما زيتك من يسرجــه           ليس زيتي وأنا ابن القبــور

 

أنا كالمرآة في سيارتك                إن تراني تبصر الماضي وراءك

بيد لا يكفيك ماض آفل                  إنما دربك أبصره أمامـك!!


المقال السادس: يسألونك عن هلال رمضان              تشرين اليومي: العدد (7575): 9/12/1999م

 

يسألونك عن هلال رمضان

 

لا شيء جديد في مسألة الهلال. .

إنه المشهد الذي يتكرر كل عام، تصوم أقطار وتفطر أقطار، وينتصف الليل والناس في حيرة من الآتي، أهل أم لم  يهل، وهكذا يتحول واحد من أكبر معالم الوحدة الروحية على مستوى العالم الإسلامي إلى ظاهرة شتات!.

إن الأهلة التي تطوف حول السيارات في مجموعتنا الشمسية محسومة فلكياً بشكل صارم، ولا يوجد أحد في الدنيا يشكك في أن للأرض أكثر من هلال، وأن القمر الذي يدور حول الأرض متماسك بما يكفي بحيث لا يتصور عاقل أن يهل بعضه ولا يهل بعضه الآخر وعلى خط الطول ذاته، وهو ما لا نزال نعاني منه دائماً تحت عنوان “اختلاف المطالع”.

ولكن لم هذا الخلاف الموسمي؟ أليس مدهشاً أن ما يغرنا من نعيم رمضان الروحي لا يزال يتعكر كل عام بمشاهد تنازع مواعيد الصوم والفطر، بين قرارات القضاة الشرعيين في البلدان الإسلامية، فهل يكون قدر الفرقة هذا هو الخيار الوحيد في الفقه الإسلامي؟

إن المسألة تكمن في خيار الفهم الظاهري للنص النبوي الكريم : ((إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته))، وكما ترى فإن الحديث النبوي هنا يفترض معياراً لثبوت الشهر في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وهو معيار رؤيته بالعين المجردة، وقد كان ذلك يحسم الجدل حسماً تاماً في تلك الظروف حيث الدور متقاربة، ولا يوجد سبب يفترض الخلاف نظراً لعدم إمكان الاتصال في الليلة ذاتها بين مصر ومصر من العالم الإسلامي حيث كان تفاوت الصوم والفطر بين مصر ومصر لا يحمل شيئاً من دلالات الفرقة التي نكابده اليوم اليوم.

ومقتضى النص أيضاً أن هذه هي وسائل (الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب) فإذا أصبحت الأمة تكتب وتحسب، وتمتلك المناظير المقربة والأزياح الفلكية التي لا تحتمل أدنى هامش من الخطأ من الناحية العملية ألا يكون النص ذاته إذاً مغرياً بوجوب إعمال هذه الوسائل في الوصول إلى صيغة وحدة رأي تقضي على هذا التشرذم (الإجرائي).

من العجيب أنك ما أن تخطو خطوة واحدة مع النص نفسه حتى تجد أن الفقهاء في عصر المجد الفقهي تعاملوا معه بقدر كبير من المرونة، فقد قرروا مباشرة أن ظاهره ليس مراداً، فلا يتوقف صوم كل مسلم على رؤيته، بل لو رآه فرد واحد لكان ذلك كافياً، ثم اشترط بعضهم العدالة فيه، واحتاط آخرون فاشترطوا اثنين عدلين، ثم قرروا أن هلال رمضان يكفي فيه الواحد، ويشترط في هلال شوال عدلان. إلى غير ذلك، وهذا كله تصرف بظاهر النص كانت الأمة تتعامل به بغاية المرونة والجدية، بما يحقق الغاية المطلوبة.

ولكن للأسف فإن الأولين لم يكن لهم اهتمام كاف بمسألة توحيد الصوم والفطر في سائر  البلدان حيث لم تكن وسائل الاتصال قد فرضته مطلباً ملحاً كما هو اليوم، ولم يكونوا أيضاً يمتلكون وسائل الحسم العلمي الصارمة في الرصد والحساب فقعدوا عن الاجتهاد في ذلك، ثم جبن الآخرون عن اقتحام هذه اللجة الصارخة تحت عنوان: “قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا”.

من المفارقات أن سائر مواقيت الصلاة والحج مقررة أيضاً على الشمس والهلال، ولكن المسلمين في الأرض يؤدونها وفق روح النص لا وفق ظاهر لفظه، فالآية مثلاً تقول: }أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ{ ولكن لا يوجد مؤذن يرقب دلوك الشمس ليؤذن للمغرب، أو زوالها ليؤذن للظهر، بل إنه يعتمد (الروزنامة) التي هي في الواقع محض حساب فلكي.

ويتم ذلك في سائر البلاد من غير نكير، فلماذا يكون الحديث عن ضبط مواقيت الصوم بالوسائل الحديثة لوناً من الرأي المردود على الرغم من الحاجة المؤكدة للمصير إليه؟..

ومن العجيب أيضاً أن إثبات هلال ذي الحجة وهو أيضاً تتعلق به مناسك في غاية الأهمية لا يثير أي إشكالات إذ يعتمد الناس فيه تقويم مكة، فيما يبقى رمضان وحده في مطلعه وأفوله محاطاً بهذه الظاهرة المحزنة من الشتات التي لا يوجد لها أي تبرير منطقي في عصر المعرفة.

بالمناسبة فإن فكرة اختلاف المطالع، وهي زاهقة من الناحية العلمية، لم يأخذ بها إلا مذهب واحد من المذاهب الأربعة وهو الشافعية، واشترطوا لذلك أن يكون بين المصرين 24 فرسخاً أي 150 كم، وهكذا فإنه لا يوجد مذهب فقهي واحد يأذن بتعدد المطالع إذا كان بين العاصمتين أقل من 150 كم، وذلك في زمن النوق والبعير.

يجب القول هنا أن الحساب الفلكي قادر أن يجزم بمطلع الهلال بإحداثيات الزمان والمكان بالدقيقة والثانية لمدة ألف سنة قادمة بنسبة خطأ لا تتجاوز واحد على مليون، وأقرب الأمثلة إلى ذلك ما رآه سائر الناس في ظاهرة الكسوف الأخيرة، حيث كانت مواقيت الكسوف والانكشاف ونسبته وإحداثياته تتحدد في كل مدينة على حدة بالدقيقة والثانية، إلى اكتمالها في غير ديوار.


المقال السابع: صيامهم وصيامنا          تشرين الأسبوعي: العدد (91) السنة الثانية: 13/12/1999م

 

صيامهم وصيامنا

 

يتخذ الحديث عن رمضان أشكالاً متعددة، لا شك أن أعذبها وأقربها وأحبها هو ذلك النعيم الروحي الغامر الذي يجلل الناس بهيبته ووقاره، منذ أن نرصد هلال رمضان إلى أن نرصد هلال العيد.

ولكن للصوم دلالات أخرى ينبغي ألا ننساها أيضاً، فهو مدرسة تربية وجهاد، وهو جلي الدلالة في تقرير تسامي الروح على المادة، والمثل على الواقع، وانتصار الإنسان على رغائب نفسه وهواه في سبيل مثل عليا.

بحسب علمي، فإنه لا يوجد في أشكال العبادات نظام يشبه الصوم الإسلامي في شموله وحزمه.. آثاره التي تتجلى في السلوك الاجتماعي تبصرها كل عين، بحيث تؤكد لك وحدة هذا العالم الإسلامي في آماله ورؤيته للحياة.

قد يكون الصوم تفسيراً منطقياً لظاهرة همود كثير من الفواحش في العالم الإسلامي، كالزنا والخمرة، إذ يمكننا أن نقول أن العالم الإسلامي يعيش حالة عفاف لا بأس بها في هذه السبل إذا ما قورن بالحال في العالم الغربي، فعلى سبيل المثال يستهلك الفرد في الدنمارك مثلاً 807 مليلتر من الخمر يومياً بشكل وسطي، فيما تشير بيانات المكتب المركزي للإحصاء في سورية لا يزيد عن 1,6 مليلتر من الخمر.

إن الفارق هائل بكل تأكيد، وليس في ذلك أدنى مفاجأة، إذ يرتكز التوجيه الإسلامي على صعيد الأفراد على تقرير حقيقة وجود الحلال والحرام في المطاعم، ويجيء الصوم إطاراً أسمى حين يفترض أن الإنسان قادراً أحياناً أن يتحكم في الحلال والحرام من مطاعمه ومشاربه بحيث لا يقاد بعدئذ من غرائزه.

مع مطلع هذا القرن كانت الحقائق العلمية قد أكدت بشكل قطعي أن الخمرة مصدر مباشر لعشرات الأمراض القاتلة، ولم يعد بوسع نظام يحترم نفسه أن يلتزم منها موقف الحياد، وبادرت دول كثيرة إلى مكافحة الكحول ومطاردة إنتاجه والاتجار به،واتخذ الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية لوناً أكثر تحدياً حيث تطلب الأمر تعديلاً دستورياً لمعالجة إشكالية اعتبار هذا المسعى عدواناً على حرية الأفراد، وقد تم ذلك بالفعل عبر مجلس النواب والشيوخ وصدر عام 1919 ما سمي (التعديل الثامن عشر) للدستور الأمريكي، ثم أيد هذا التعديل بأمر حظر أطلق عليه قانون (فولستر).

ويبدو أن الإدارة الأمريكية آنئذ كانت في غاية الحسم والحزم لمحاربة الكحول في الأراضي الأمريكية، وقد جندت لذلك الأسطول والطيران وقوى الأمن الداخلي والإعلام الرسمي ووسائل الثقافة لمحاربة ذلك، ويمكن قراءة المشهد كالآتي: (( أنفقت الدولة أكثر من ستين مليوناً من الدولارات في هذه الحملة، وأصدرت نحو 10000 مليون صفحة من الكتب والنشرات، وسجن في سبيل ذلك 532335 شخصاً ، وقتل أو أعدم خلال ذلك 300 شخص ، وبلغت الغرامات 16 مليون دولار ، وصودر من الأملاك 404 ملايين دولار (1) ولكن ذلك كله لم يزد الأمريكيين إلا غراماً بالخمر وعناداً في تعاطيها، ونتج عنه قيام سوق سوداء غير مراقبة، وظهرت أنواع رديئة بالغة السوء من الخمور، وتعالت صيحات الرفض لمصادرة الحريات، حتى اضطرت الحكومة الأمريكية بعد 14 عاماً من الحملة المستمرة إلى الاعتراف بالفشل الكامل عام 1933، إعلان التعديل الدستور الحادي والعشرين الذي ألغى التعديل السابق، وترك للناس خيارهم القاتل، وعجز القانون عن فعل أي شيء !. ..

إن المشهد جد مختلف في ظلال التربية الإيمانية، فقد كانت الخمرة إدام العربي وطعامه وشرابه، ولا توجد قصيدة عربية إلا وفيها ذكر الخمر، ومنحت أسماء كثيرة كالخمر والصهباء والراح والمدامة والسلافة وبنت الحان وبنت الدنان إلى آخر ذلك من الأسماء التي زادت عن مائة، وانفرد شعراء كثيرون باسم شاعر الخمرة، ولم يكن من المتصور أن يقلع عنها الناس بين عشية وضحاها، ولكن أمراً واحداً جاء في القرآن }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ{ أدى إلى نتائج في غاية الحسم، إذ سالت طرقات المدينة بالخمر، وإن الرجل قد أدنى كأسه إلى فيه فيبلغه أمر التحريم فيريق ما في قربه من خمر، ومضى ذلك عبر قرون، وها نحن الآن بعد أكثر من أربعة عشر قرناً لا نبالغ في شيء إن قلنا أن العالم الإسلامي اليوم هو أنظف بقعة في الأرض من الخمور بسائر أشكالها، وإن تجارة الخمر كاسدة بائرة في العالم الإسلامي على الرغم من أن أكثر قوانين البلدان الإسلامية تلزم الحياد في هذه المسألة.

وهكذا فإن الصوم بما هو مدرسة تربية وجهاد، منح الإنسان قياد غرائزه، وبوأه عليها سلطاناً يستخدمها لا عبداً تستخدمه، وحين يفارق سائر الطعام بالكلية مدداً محددة فإنه قادر بسهولة أن يفارق بعضه بصورة دائمة إذا شعر بأن لله في ذلك مراد.

بقي أن نتساءل: هل ينظر الصائمون إلى الصوم اليوم بهذه الرسالية؟ أم أن فواتير مأكولات رمضان الباذخة تنسف الفكرة من أساسها، وتجعل الصوم محض نسك (مطبخي) تمتد موائده وفق برامج رمضان من دلوك الشمس إلى غسق الليل، حيث تروح التراويح – التي هي أرقى ألق الصيام – في خبر كان!. .
المقال الثامن: سوريا والـ2000          تشرين الأسبوعي: العدد (92): السنة الثانية 20/12/1999م

 

سوريا والـ2000

 

ها نحن على بعد ساعات من الألفية الثالثة، الحدث مالئ الدنيا وشاغل الناس، وليس في هذا العالم حزب أو مؤسسة أو جامعة أو نقابة أو مدرسة إلا ولها برنامجها لإحياء هذا الحدث الكبير بما يستحقه من البهجة التي يفترض أنها تقام مرة كل ألف عام.

في الهند والصين واليابان شعوب لا علاقة لها بصاحب الذكرى، ولكنها تعظم الذكرى وتخلدها إذ هي – من وجهة نظرهم – رمز عالمي أكثر منها نسكاً دينياً.

ولا يمكن لأحد في العالم أن يتحدث عن الذكرى من غير أن يشير إلى سورية، أنها الأرض التي تألق فيها صاحب الذكرى – عليه السلام – بدءاً من الربوة التي وصل إليها بظاهر دمشق، وذكرها في القرآن }وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ{ إلى الأيام الكريمة التي وصل إليها أبو عبيدة بن الجراح على رأس الفتح الإسلامي إلى دمشق ليحمي آثار السيد المسيح، ويخلد قبر يحيى المعمدان في قلب مسجد دمشق مركز إشعاع روحي، ويحمل إلى الشام عقيدة القرآن في السيد المسيح أنه روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وأنه الوحيد من الرسل الذي رفع إلى السماء، وينتظر المؤمنون جميعاً عودته على منارة دمشق في إيحاء روحي فريد يرمز إلى إخاء أتباع الأنبياء.

سورية إذاً هي مركز الألفية الثالثة في العالم، وليس في هذا الأمر أدنى مبالغة، وكان بيان البطرك هزيم واضحاً في العام الماضي، عندما تحدث عن السيد المسيح، ذلك المناضل السوري الذي ملأ العالم بالحب والرحمة .

في زيارته لدمشق تحدث السيد آرنه تويفانن مدير معهد الدراسات الشرقية بجامعة هلسنكي في فنلندا قائلاً: إن كل مثقف في العالم يعلم أن له وطنين اثنين، وطنه وسورية.

إنني أشعر هنا بالامتنان أن خطابي الذي وجهته إلى الدكتور بشار الأسد حول الدعوة إلى مؤتمر ينعقد تحت رعايته في دمشق لإحياء دور سورية المركزي في الألفية الثالثة، وتناغم دور الدينين الإسلامي والمسيحي فيها قد أصبح برنامج عمل تبنته القيادة القطرية مع أمر واضح بالمباشرة الفورية، وهذا يعكس تماماً أن الآمال التي تعلق على الدكتور بشار تجيء بالنتائج المرجوة التي يأملها المخلصون لهذا البلد، وفق عقلية الانفتاح والوعي لدخول القرن القادم.

لقد قدمت سورية عبر تاريخها أروع صورة للإخاء الديني بين أبناء الأنبياء، وبقيت مآذنها ومناراتها شاهدة على ذلك وهو تطبيق عملي لدلالات القرآن الكريم الذي جعل من أركان العقيدة الإيمان بالأنبياء، ثم أورد نصوصاً كثيرة في الثناء على المنصفين من أهل الكتاب، وخص منهم النصارى بقوله: }وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ{.

ومن العجيب أن بعض المفسرين يجعل الثناء هنا مقصوراً بأولئك الذين تركوا دينهم وتحولوا إلى الإسلام، مع أن الآية واضحة الدلالة في أن القوم على دينهم وإنما يتحلون بالإنصاف والتسامح، هو لم يقل الذين قالوا كنا نصارى، بل قال: إنا نصارى، هو لم يقل: ذلك بأن منهم صحابة وتابعين وأئمة وخطباء، بل قال: }ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ $ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ{.

 

هل نبالغ في شيء، إذا قلنا أن كل شمعة يوقدها في العالم في الذكرى 2000 هي في الواقع شكل من أشكال تحية سورية وتاريخها؟…

وهل لدى الدوائر الثقافية والسياحية والإعلامية والدينية المشاريع الطموحة الواعية القادرة على الاستفادة من بهجة العالم بالألف الثالث لصالح سورية؟..

سؤال تجيب عنه أيام عام 2000 ………

 

 

 

 

 

 

 

مقالات تشرين الأول 2000م

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


المقال الأول: رسالة الألف الجديد                        تشرين الأسبوعي: العدد (96) السنة الثانية 24/1/2000م

 

 

رسالة الألف الجديد

 

الألفية الثالثة اليوم ليست كما كانت بالأمس محض زائر تنتظره، إنها اليوم شريك كامل، وهي بكل تأكيد أبقى في الأرض من الذين كانوا ينتظرونها، ومن الذين رقصوا لها وغنوا، وستبقى ألف عام آخر، حتى أولئك الذين سيردون إلى أرذل العمر لن يدركوا أكثر من عشرة أيام الألف الجديدة.

ها قد انطفأت الأنوار المذهلة التي جعلت (ميدنايت 2000) أسطع من شروق الشمس، وتم تصويرها بدقة متناهية ليراها الناس ألف عام أخرى، وانفضت الجموع المبتهجة بالثمالة والرهق، وعادت الحياة إلى هيئتها الأولى.. وكأن قد..

ولكن هل من المنطقي أن تنتهي دلالات هكذا حدث هائج بهذا السكون الرتيب، وهل أدينا حق هذه الذكرى، ولم يعد أمامنا إلا الأعداد لرقص آخر في الألفية الرابعة؟

من عادة الأمم أن تتخذ من أيام عظمائها مواسم تعيد فيها إشعاع فكرهم، وإحياء تراثهم وفي السنوات القليلة الماضية أحيت سورية ذكرى مرور 800 عام على وفاة ابن رشد، و750 عاماً على وفاة ابن عربي، و1100 عام على وفاة أبي حنيفة الدينوري، وكذلك مرور أربعة عشر قرناً على فتوح الشام عام 1415 هـ.

 

فماذا يعني مرور ألفي عام على ولادة رسول المحبة في الأرض، وإطلاق رسالته وحبه وبشاراته من سورية؟..

إن المسلمين والمسيحيين يشكلون ديموغرافياً أكثر من ثلثي سكان الأرض، وهذا رصيد هائل للسلام العالمي، إذ يفترض هذا الإيمان بعث مقاصد الدينين في الحب والتسامح.

وحدهم حاخامات إسرائيل أعلنوا تحريم أي لون من الاحتفاء بالسيد المسيح، إصراراً منهم على أنه من محض مارق مبتدع، خالف تعاليم القديسين والأحبار، وناضل في رد أطماع (أولاد الأفاعي)، وهكذا يتوصل وعي الحاخامات برسالاتهم التدميرية لكل ما يتصل بالإخاء الإنساني، منذ أن تورطوا في محاولة صلب المسيح، إلى أن برروا تشريد أربعة ملايين فلسطيني، مروراً بفتاواهم المتكررة التي تحرم ديانة الانسحاب من الجولان المحتل استناداً على الكتاب والأنبياء (أي كتاب وأي أنبياء)؟.

وحين يختار الحاخامات هذه المواقف ألا يشكل ذلك تحفيزاً غير مباشر لعالم الإيمان (الإسلامي والمسيحي) على دراسة جوانب اللقاء وفرض الإخاء بين المؤمنين في الأرض.

يشكل الإيمان برسالة المسيح جزءاً لا يتجزأ في العقيدة الإسلامية وكذلك الإيمان بطهارة أمة ومن أجل ذلك خصصت سورة من أكبر سور القرآن (سورة آل عمران) للحديث عن أسرة السيد المسيح التي (فضلت على العالمين) }إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ & ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{.

ويؤمن المسلم إيماناً لا ريب فيه بأن السيد المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه تكلم في المهد، وأنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهي فروع من الإيمان لا يمكن أن تكون بغير دلالة ولعل أقرب دلالاتها نشر المحبة بين أتباع الأنبياء مما يعني تلقائياً إيجاد رابط عاطفي وثيق بين ثلثي سكان هذا العالم.

ومن المعاني التي ينفرد بها الإيمان الإسلامي بالسيد المسيح أنه رفع إلى السماء، وأنه حي عند ربه، وأنه سينـزل إلى الأرض يوماً فيتبعه الأخيار ويحارب بهم الأشرار، وفي دلالة ذات مغزى أخرج الإمام مسلم في صحيحه (وهو ثاني أصح كتاب في الإسلام): بأن السيد المسيح سينـزل في دمشق عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وهو إيمان يؤكد الدور التاريخي لسورية في النهوض برسالات الأنبياء والريادة الروحية على جزء كبير من هذا العالم.

إن من المؤسف أن هذا الإيمان ينظر إليه في مؤسسات تعليمية إسلامية كثيرة على أنه غير ذي دلالة إذ يقتصر على الإيمان بشخص المسيح ثم التنكر للروابط المشتركة مع الأمم التي تتبعه على أساس أنهم حرفوا أو بدلوا على الرغم من ألوف محطات اللقاء المؤكد، وهكذا يختزل ركن عظيم من أركان الإيمان (الإيمان برسل الله) إلى محض خبر تاريخي يتم بمقتضاه احترام خمسة وعشرين رجلاً ذكروا في القرآن، ثم نطفئ أي دلالة لهذا المعنى على مستوى الواقع الذي نعيشه على الرغم من حاجاتنا الأكيدة للمحبة والإخاء وعلى الرغم من الاتفاق (شبه التام) في إقرار سائر الفضائل، ومكافحة سائر الرذائل.

 

وفي الجانب الآخر فإن مؤسسات كنسية كثيرة في الغرب لا تزال تنظر إلى النبي الكريم محمد r نظرة حاخامات إسرائيل إلى السيد المسيح، وتسهم عن عمد في تخريب جسور الثقة التي جاء بها الأنبياء وناضل في سبيلها الصحابة والحواريون، وفي هذا السياق أورد لك كلمة المستر شتيللر مساعد رئيس أساقفة الولايات المتحدة الذي قدم إلى دمشق واطلع على أجواء التعايش التاريخي فيها، وبعد زيارته لدمشق عام 1997 عاد مرة أخرى في العام التالي وقال: بعد زيارتي لدمشق رفعت صوتي في أمريكا مبشراً بنبوة محمد وحين عارضني القوم قلت لهم:

إنكم تؤمنون بأنبياء بني إسرائيل وفيهم من لم يؤمن به إلا عشرة ومنهم من لم يؤمن به إلا أسرته، وفيهم من لم يؤمن به أحد، ومحمد النبي العربي نقل ألف مليون إنسان من عبادة الحجر إلى عبادة الله، فإذا لم يكن محمد نبياً فمن هو النبي؟!.

إن المطلوب الآن في عام 2000 خصوصاً إنما هو وعي آخر بمقاصد الأنبياء ترسم ظلاله هدايات الكتاب لا ظلمات الحروب الصليبية ومطامع الاستعمار، والمطلوب عمل جاد من رجال الديانتين الأعظم لشرح مقاصد هذه العقائد، بحيث لا يكتفي بتقديم التهاني والتبريكات في الأعياد الرسمية ثم ننصرف إلى المحاريب والقداديس ليستأنف كل طرف جهوده في إثبات فساد إيمان الآخر.

يمكن قراءة اللقاء الإسلامي المسيحي بطريقتين مختلفتين:

الأولى: من خلال ندوة الإخاء الديني التي تقيمها سورية يومي (24 و25 /1) في مكتبة الأسد ببادرة كريمة من سيادة الدكتور بشار الأسد ويتتالى المشاركون على توكيد رسالة الأنبياء ووحدة مقاصدهم، وهو ما يذكرنا بندوة الإخاء الديني التي أقامها الرسول الكريم r في مسجده مع نصارى نجران.

والشكل الثاني: هو ما تصطلي بناره اليوم الأقاليم الاندونيسية المختلفة تيمور الشرقية وجزر الملوك، حيث تنادي المساجد بالجهاد المقدس وتنادي الكنائس بالحرب الصليبية المقدسة ويدفع الأبرياء ثمن هذا الجنون وتتحول المعابد التي بنيت للحب والسلام إلى أوكار للجريمة }قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً & الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا{.

وهنا أضم صوتي إلى صوت الأخ العزيز د. جورج جبور في نداءاته المتكررة للبابا ليقوم بالاعتذار رسمياً للعالم الإسلامي عن الحروب الصليبية، وهو موقف تبنته جامعة بنكمتن بالولايات المتحدة الأمريكية في مؤتمرها الثاني والثلاثين يومي 15 – 16/ 10/ 1999 في موضوع الحروب الصليبية: التجارب الأخرى والرؤى المتبادلة تحت إشراف مركز دراسات العصور الوسطى والنهضة ونشرته جريدة العلم تحت عنوان عريض: (هل يقوم البابا بالاعتذار رسمياً عن الحروب الصليبية عند قبر صلاح الدين الأيوبي)، وهو مشروع ينبغي أن تسخر له سائر الجهود الشريفة خلال عام 2000 تحديداً.

وفي المقابل فإن على رجال الوعي والتنوير في الجانب الإسلامي أن يبادروا إلى تعرية الآصار والأغلال التي فرضها حكام المنطقة عقب الحروب الصليبية على الطوائف آنئذ، وهي الأحكام القاسية التي اتخذت بعدئذ صيغة أحكام شرعية وصارت جزءاً من التعليم الشرعي الذي يتلقاه الطلبة على مقاعد الدرس على أنه مسلمات شرعية في حين أنها محض إرث سياسي تاريخي.

فهل يمضي رجال التنوير إلى واجبهم الرسالي مستفيدين من ذكرى الألفية؟.

 

المقال الثاني: احتكار الخلاص                 تشرين الأسبوعي: العدد(97) السنة الثانية: 31/1/2000م

 

احتكار الخلاص

 

يحق لي أن أدعي أنني سبقت إلى التنبيه إلى هذا المصطلح “احتكار الخلاص” في اللغة العربية وفي اللغة الإنكليزية أيضاً:

THE MONOPOLY OF SALVETION وذلك خلال محاضرتي التي ألقيتها في جامعة هلسنكي في فنلندا خلال الشتاء الماضي بدعوة من الجامعة المذكورة،

 

تعقيب:

بعد أربع سنوات من نشر هذا المقال وتحديداً مع الانتخابات النيابية في سوريا ثار جدل عنيف حول مسألة احتكار الخلاص، وتعرض كاتب هذه السطور لنقد لاذع واتهام شديد، وألزمه مخاصموه ما لا يلزم من أن ذلك يعني الكف عن الدعوة إلى الإسلام، والموافقة على سائر خيارات الاعتقاد والسلوك لدى كافة المذاهب والأديان في الأرض، وأنه تنازل بالمجان لرغبات النصارى، وراح بعضهم يتحدث أنها محاولة لصهر الأديان وإنتاج دين جديد، إلى غير ذلك من الاتهامات الجاهزة التي تعودنا الاستماع إليها خلال صحبتنا لرواد التجديد في السنين الأخيرة، ومنهم عمي الشيخ أحمد كفتارو، كلما قدموا طرحاً إنسانياً وعالمياً للإسلام، أو عقدوا حواراً جريئاً مع المختلف دينياً واعتقادياً.

لست أدري في الواقع لماذا تأخر هذا الجدل أربعة أعوام وبالتحديد من تاريخ نشر هذا المقال إلى الانتخابات .

ومع ذلك فأعتقد أن من الضروري أن أعقب بنقطتين اثنتين:

أولاً: إن احتكار الخلاص أو احتكار الجنة هو مرض لدى سائر أتباع الأديان، ولا أعتقد أن المسيحية قد قدمت ما يكفي لإقناع الناس أنها قد تخلت عن عقيدة احتكار الخلاص وأنها تعترف بإيمان الآخرين، وإن الموقف التقليدي لليهود من التنكر لنبوة المسيح وموقف المسيحية المؤسف من التنكر لنبوة الرسول الكريم r هو أبشع أشكال احتكار الخلاص، وهو ما نناضل في مقاومته في كل منبر دولي نصل إليه، وأعتقد أن أي حوار مع الإخوة المسيحيين لن يكون مثمراً حتى يبادلونا بالعبارة الواضحة الصريحة احترام إيماننا واتباعنا للرسول الكريم r ، وأن يقدموا ما يوازي إيماننا بالسيد المسيح رسول الله وكلمة الله وروح الله وأنه الناطق في المهد وأنه الآتي المنتظر في آخر الزمان إلى غير ذلك من المبادرات الطيبة التي قدمها الإسلام في معرض حديثه عن الأديان الأخرى ودعوته للإيمان المطلق بالأنبياء والكتب السماوية.

ثانياً: إن التفكير برفض احتكار الجنة ليس ناتجاً عن مزالق حوارية مع الآخر، بحيث نقدم ذلك في معرض تنازلات لاستجلابهم، إنها على الأقل من جانبي معاناة ألتمسها في المحراب في جوف الليل أكثر مما أواجهها في هياج الخطاب الإعلامي الصاخب، وبالبداهة أقول إن أحداً من أبناء الأديان لم يسألني يوماً أين ستضعوننا في يوم الدينونة؟ فهم في الواقع غير معنيين بموقفنا في السماء لأنهم لا يثقون أصلاً بتفسيرنا للمشهد السماوي، كما إننا أصلاً غير معنيين كثيراً بتفسيرهم للحياة الأبدية وعجائب الدينونة، ولكنهم وإيانا معنيون بالتعايش في الأرض وعادة ما تكون الأسئلة: لماذا فتحتم بلادنا؟ وأخذتم الجزية من أجدادنا؟ ولماذا تدعون إلى الجهاد ضدنا؟ ولماذا يضرب رجال منكم مصالحنا الحيوية في العالم ويقتلون المدنيين؟ وهذه كلها أسئلة في السياسة والاجتماع ولا علاقة لها بالثيولوجيا والميتافيزيق.

ولكن المعاناة التي تدفع إلى إثارة هذه الأسئلة الكبيرة هي معاناة داخل وعي المسلم حين يتأمل بحيدة في عدالة الله في الأرض، وحكمته في توزيع الهدى بين عباده، والإحسان إلى المحسن ومحاسبة المسيء، ويتأكد هذا الشعور الصادم عندما تقف على تفسيرات غريبة ذات شعبية في التراث الإسلامي تجعل عدد الناجين من مشهد العذاب الأبدي الرهيب بالتحديد واحد بالألف!! في حين أن آدم يخرج يوم القيامة بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون!!! وهي تأويلات لها جذورها وأدلتها القوية في الإسناد والرواية!

وبوسعك أن تتصور الانفصام الرهيب الذي يعصف بالمؤمن الذي يدعى في وقت واحد للإيمان برحمة الله ورحمانيته وعدالته وإحسانه وفي الوقت نفسه يطالب بالتسليم لهذه التأويلات التي لا يمكن أن تستقيم مع تطلع عقل حر يبتغي أن يعبد ربه عن رضا ويقين، ولن ينفع في شيء الهروب إلى الأمام بدعوى أن عقولنا قاصرة عن معنى العدل الإلهي، إذ تكفي هذه الكلمة وحدها إلى الحكم بموت العقل وتشييعه إلى مثواه الأخير في متحف التاريخ.

إن تغييب العقل هنا والاكتفاء بما وقف عليه الأولون بأنهم عن علم وقفوا، سيقود حتماً إلى شكوك خطيرة في مبدأ العدالة الإلهية وفي منطق عالمية الإسلام، وسيجعل أمر الخلق كله من وجهة نظر المسلم عبثاً لا يليق بالخالق الحكيم جل جلاله، ولا أشك أبداً أن رعاية هذه المعاني من الإيمان بالله أولى بألف مرة من رعاية تأويلات مبتورة أعتقد جزماً أنها لا تستقيم مع روح الإسلام ومقاصده الكبرى في نشر الإخاء والمحبة في الأرض، ومنطق العناية والرحمة الإلهية في الأرض، فالخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنعهم لعياله.

إنها في المقام الأول من وجهة نظري دفاع عن الله، وهو غني عن العالمين، وبمعنى أكثر واقعية: دفاع عن معرفة الله في ضمير المؤمن، وهذا أولى عندي بألف مرة من الدفاع عن أي شخص في التاريخ مهما كانت منزلته، حيث يمكن تأويل كل نص ولكن لا يمكن أبداً تأويل موقف عقدي صارخ تبتنى عليه مباشرة العلاقة بالكون والحياة، ويحول الإيمان الطاهر إلى ذلك المشهد الذي نقرؤه في التوراة عن إله بني إسرائيل الذي لا يكف عن لعن الآخرين والغضب عليهم، وأحياناً الدعوة إلى إبادتهم لأنهم ليسوا من الملة الناجية من بني إسرائيل!

ثالثاً: إن الفهم الذي أتخيره في هذه المسألة ليس مجرد موقف عقلي محض بل هو أيضاً موقف نصي بامتياز، وهي نصوص ينبغي أن نقرأها بعلم ووعي وأن تصاحبنا فيها دراسة استشرافية تعتمد أسباب النزول وأسباب الورود، بغرض الاستنارة والهدى وليس بغرض الإحلال محل العقل والواقع، وقبل أن أورد هذه النصوص لا بد من القول إن الخيارات الذي ذهب إليها كثير من المفسرين في تأويل هذه الآيات، ليست بالضرورة خياراً إلهياً نهائياً، إنها رؤية إنسانية لمشهد التأويل، وبكل بساطة فإنني أقول إن النصوص هنا توهم التعارض وهذا يحتم التأويل، وهنا نشترك جميعاً في الرضوخ للتأويل مخرجاً من مظنة التعارض، وليس لدي اعتراض على ذلك، فنحن جميعاً مؤولون، ولكن لماذا يلزم تأويل الأوسع لصالح الأضيق ولا يتم تأويل الأضيق لصالح الأوسع، ولماذا لا يتم التأويل لصالح الأعدل والأحكم والأرحم والأصلح، ويجب الإشارة هنا أن النصوص محل النزاع كلها قرآن يتلى وليس بعضه أولى بالقبول من بعض، ولا يخالف أحد في الأمة أن القرآن الكريم كله محل احتجاج وحجة.

وقبل أن تقرأ الآيات الكريمة فإنه يلزم أن تعلم أنه سيبادر كتاب مختلفون لتقديم الأدلة على وجوب تعطيل دلالات هذه الآيات بحجج من الكتاب والسنة وفق رؤية المفسرين الكرام، من خلال القول بأنها منسوخة أو أنها مقيدة أو أنها مخصصة أو أنها مؤولة، وهو جدل لا ينتهي لأنه في الواقع الجواب نفسه الذي سأقدمه في معرض ردي على تأويلهم، وفي الواقع فإن اللجوء إلى النسخ أو التقييد لتعطيل دلالة الآية إنما يستقيم في آية هنا أو حديث هناك، ولكن لا يمكن القول بأن مئات الآيات التي نتعبد بها مبتورة أو معطلة لا يحل العمل بها، وفق ما شاع في الماضي من أن آية السيف نسخت سبعين آية!! وهو منطق يجزم العلماء بضرورة التحفظ عليه بعد أن وضعت الشروط المحكمة للقول بالنسخ.

وفيما يلي بعض الآيات التي يدل ظاهرها بشكل واضح على بطلان عقيدة احتكار الخلاص، وأن المحسن أياً كان دينه لن يظلمه الله شيئاً، وسيثيبه على ما قدم، وأن المسيء لن يعصمه من غضب الله شيء ولو كان ابن الأنبياء، وسأورد بعدها الآيات الكريمة التي يشير ظاهرها إلى بطلان عمل كل أحد لم يتبرأ من الأديان ويدخل في الشريعة الخاتمة، وكلا النصوص بين يديك ولا بد عقلاً من تأويل إحدى الطائفتين، وقد اختار كاتب هذه السطور تأويل الطائفة الثانية من الآيات، وهو مذهب سبق إليه عدد من أئمة التصوف ولكن للأسف تم تصنيفه في باب الشطح الصوفي، وأرجو أن تتاح لي الفرصة لتحقيق ذلك وفق المنهج العلمي بحيث نميز بين جانب الشطح وجانب الحق فيه، فيما اختار الجمهور تأويل الطائفة الأولى من الآيات.

أما الآيات التي يفيد عمومها ثواب المحسن مطلقاً فمنها:

  • فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره
  • إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك سنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً
  • ونزل في وصف عقيدة اليهود والنصارى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ثم نزل في وصف عقيدة المسلمين: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً، ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفاً واتخذا لله إبراهيم خليلاً
  • إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
  • وقد نزلت هذه الآية بالذات مرة أخرى بصيغة: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
  • ونزلت مرة ثالثة بصيغة أشمل ولكنها لا تفيد النجاة: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
  • وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
  • ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم
  • ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين.
  • لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ا أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين

ويتم تأويل هذه النصوص عادة إما بأنها منسوخة أو أنها خاصة بمن دخل في الإسلام وتبرأ من الأديان.

 

ومن الآيات التي ينفي ظاهرها قبول عمل الآخرين:

  • ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
  • وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً
  • والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
  • إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، مثل ما يعملون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون.
  • وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية
  • إن الذين كفروا لن يقبل من أحدهم ملئ الأرض ذهباً ولو افتدى به
  • إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً
  • فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً

ونتأولها بأن الإسلام اسم جامع لكل موحد أسلم وجهه لله سبحانه، وأن الأعمال الزاهقة هي أعمال السوء والشر والأذى التي يقوم بها الكافرون المحاربون للإسلام، أما ما يقوم به الناس من عمل الخير والمعروف والإحسان فإن الله لا يظلم الناس نقيراً ولا فتيلاً ولا قطميراً ولا مثقال ذرة.

 

 

رابعاً: إن الحديث عن احتكار الخلاص ينبغي أن ينبهنا إلى ظاهرة احتكار الحضارة التي تمارسها السياسة الغربية اليوم عبر إرادة التسلط والهيمنة على الأمم المختلفة، ومن تداعيات الأشكال الأخرى من الاحتكار كاحتكار الحقيقة واحتكار الديمقراطية، واحتكار التكنولوجيا، واحتكار المعرفة، ولكل من هذه الأشكال تبعاته في المظالم، ولكنه يعكس في العمق غروراً في الأرض وسوء ظن بالخالق سبحانه.

وينبغي هنا التأكيد أن الجنة والمغفرة عطاء إلهي للعاملين من الأبرار، أما الديمقراطيات والحضارات والحريات والحقيقة فهي منجز إنساني شارك فيه الناس جميعاً، وعلينا أن نتوقف عن الحكم بأن الديمقراطية والحرية والحضارة منجز غربي، وينبغي أن لا ترتسم في أذهاننا صورة العلم الأمريكي كلما ورد ذكر الديمقراطية والحرية، فليست أمريكا نموذجاً مناسباً للحريات، والديمقراطية ثمة محكومة بأهواء أهل الدولار، أما الحريات والديمقراطيات فهذه مشتركات إنسانية كبرى دفع الإنسان ثمناً غالياً من أجلها وهي إرث بشري مشترك، يملكه البشر جميعاً من آدم إلى أخناتون وحمورابي إلى فلاسفة اليونان إلى فرسان الحضارة الإسلامية إلى عصر النهضة والحريات إلى إعلان حقوق الإنسان،  ولا شك أن ممارسة احتكارها سعي ظالم آثم لا يمكن أن يكون مبرراً بحال.

 

 

 

 

المقال الثالث: آمال ندوة الإخاء                تشرين اليومي: العدد (7617): 31/1/2000م

 

آمال ندوة الإخاء

 

في محاضرته القيمة التي ألقاها في ندوة الإخاء الديني برعاية الدكتور محمد زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية طالب الدكتور إسكندر لوقا ، بإقامة جبهة إسلامية مسيحية وقال: نريد جبهة إسلامية مسيحية بكل ما تعنيه الكلمة من نشاط اجتماعي واقتصادي وسياسي …

في الواقع تلجؤك ظروف الانقسام والتشتت التي يعيشها عالم (القيم) في الأرض على تصور أن ما تسمعه هنا ليس إلا حلماً كبيراً يقدمه رجل كبير في مناسبة كبيرة حول حدث كبير، ولكنه لا يخرج عن كونه حلماً.

غير أن قراءة واعية لتاريخ الديانتين المشترك تجعلك تدرك كم يغدو هذا الحلم واقعياً وممكناً، حين تتصور كم من الأعمال المشتركة التي قدمها التشارك الإسلامي والمسيحي في التاريخ؟! فحين تحرك المستعمر البيزنطي عائداً إلى بيزنطة مسلّماً بأن ليس لديه ما يفعله أمام المد الإسلامي، كان في الواقع يوفر الظروف الموضوعية لإجراء أول تعايش إسلامي مسيحي في المنطقة، وسرعان ما قدم هذا التعايش إنجازات متلاحقة في إطار بناء الحضارة الإسلامية، حيث قام المسيحيون برعاية مباشرة من خالد بن يزيد بن معاوية بترجمة المعارف عن اللغات السريانية والرومية، واستأنف النشاط نفسه فيما بعد على يد الخلفاء العباسيين، المأمون والمعتصم، وهي المعارف التي تأسست عليها في الواقع الحضارة الإسلامية الناشئة.

وقد قدم الأب لويس شيخو في موسوعته الإضافية: علماء المسيحية في الإسلام عدداً وافراً من الأسماء الكبيرة التي أسهمت في بناء هذه الحضارة.

وإذا تجاوزنا الماضي إلى الحاضر الذي نعيشه فإن الهموم الإسلامية والمسيحية تتطابق في كثير من المقاصد والمناهج، ويمكنني الإشارة هنا بعجالة إلى حدث ذي دلالة، ففي مؤتمر المرأة في الصين كانت قضايا الإجهاض والزواج المختلف وحرية العلاقات الإباحية مطروحة على مستوى المؤتمر، ولكن الدفاع المستميت من جانب المسلمين والمسيحيين على السواء أجهض مشروع تمرير هذه التوصيات، لقد كان موقف المسلمين والمسيحيين مرتجلاً غاية الارتجال ولم يقم على أساس أي تنسيق بينهم على الإطلاق، ولكنهم فجأة وجدوا أنفسهم مرة واحدة في خندق مشترك يدافع عن الفضيلة، ويقدمون تقريباً الحجج نفسها !!.

إن الأمر واضح إذن من الجانب الفكري والاجتماعي، ولكن ماذا عن الجانب السياسي؟ يجب أن لا ننسى أن المشاعر الدينية في الأرض هي اليوم على أشدها ولم تتحقق نبوآت ساسة القرن العشرين من نضوب المنابع الروحية، بل تبين أن تجاهل السياسة للدين سلوك لا يعود على الدين بضرر كما يعود على السياسة، وتأكد لرجال الإصلاح الاجتماعي أن الحاجة للدين ليست ماضية إلى التبدد، وهكذا فقد استقبلنا الألفية الجديدة والصحوة الإسلامية تتنامى بشكل مطرد، ولا يزال في أوربا 14 دولة ترفع على علمها الوطني صورة صليب، والنداءات تتجدد للعودة إلى المنابع الروحية الأولى لرسالات السماء.

إن المسيحيين والمسلمين يشكلون اليوم ثلاثة أرباع سكان الأرض، وهذا وحده يقدم مبرراً كافياً لقيام هذا الحلف أو الجبهة، ويوفر جانباً كبيراً من أسباب نجاحها، ولكن البداية التي لا بد منها في تقديري هي التأكيد على الجانب الإيجابي في طبيعة هذه الحوارات.

ولكن هل لدى أتباع الدينين من الحس المشترك ما يهيئ لقيام هكذا جبهة؟؟

وهل من الممكن أن يقود الحوار في اللاهوت إلى أي بارقة وفاق ؟؟

فيما كنت أتابع أعمال ندوة الإخاء الديني التي أقيمت في دمشق في 24و25/1/2000، والتي أعدت محاورها بعناية للاستفادة من كل ما هو إيجابي في الحوار، كان يطوف بخاطري مشهد الحوار الذي نظمه المركز الإسلامي في شيكاغو بين كل من الشيخ أحمد ديدات والقس جيمي سواجارت، وكان بالطبع لقاء هائجاً انصرف فيه كل من المتحاورين إلى تحقير خصمه وسحقه، ولم يبال كل طرف في توجيه الشتائم القذرة لمقدسات الطرف الآخر.

ومع ذلك كله راج هذا الشريط في المنطقة رواجاً كبيراً، وطبعت منه نسخ كثيرة (لوجه الله)، كما تم إصداره على هيئة كتب مطبوعة وروج للرجلين على طريقة صناعة النجوم التي يحترفها جيداً أباطرة المال والإعلام، وتتابعت الأخبار بعدئذ في الترويج لفضائح أخلاقية وسلوكية تورط فيها المتحاوران، وراحت الماكينة الإعلامية تروج في سعي فضائحي محموم آخر ما يتصور منه (وجه الله)!

إنه في الواقع الحوار على الطريقة الأمريكية.. الاتجاه المعاكس..

ولكن دمشق تمكنت في الواقع من تحقيق ألق الحوار على المنهج القرآني الفريد.

كم هو ممتع أن تصغي في يوم واحد لسماحة المفتي كفتارو والبطريرك هزيم والشيخ الزحيلي والإمام مهدي شمس الدين والبطريرك عيواظ والمفتي قباني وجورج متري ورياض جرجور واسكندر لوقا يتحدثون على منصة واحدة في قاعة واحدة في برنامج واحد في سمفونية منسجمة من الإيمان والحب، يكمل بعضهم حديث بعض، ويستشهد بعضهم بكلام بعض.

إنه الحوار على الطريقة السورية سوريا مهد الحضارات وملتقى الديانات.

مرحى اسكندر لوقا.. أنا أشاطرك تفاؤلك بقيام جبهة إسلامية مسيحية، إذا كان الحوار فيها على طريقة ندوة الإخاء الديني، التي أطلقها في دمشق الأمل الواعد الدكتور بشار الأسد.

 

 

المقال الرابع: برج دمشق                         تشرين الأسبوعي: العدد (98) السنة الثانية: 7/2/2000م

 

برج دمشق

 

ليس هذا المقال دعاية إعلامية للأبراج التجارية التي تشيدها الرساميل العربية في دمشق ولا هو بشارة ببرج واعد يوشك على البروز بعد استكمال إجراءاته الروتينية في مكاتب الترخيص، ولكنه في الحقيقة حديث عن برج شيده الله هنا في دمشق، برج سياحي وحضاري، تدفع المدن المحترمة ملايين الدولارات لتشييد برج يطل على المدينة يستمتع فيه الزائر والسائح بالنظر إلى أطراف من المدينة، ويتسع برج المدينة عادة لبضع عشرات من الزائرين في أوقات دوام محددة، وبشروط فنية واعتبارية محددة، وبرسوم مالية محددة، وتقدم فيه عادة وجبات محددة وتتطلب صيانته أيضاً ملايين محددة كل عام، وينظر إليه عادة على أنه رمز سياحي وحضاري حتى يرتبط اسمه ورسمه بالمدينة ، وهكذا يصبح برج القاهرة كأنه القاهرة نفسها في عين الزائر، الأمر نفسه في أبراج الكويت وبرج موسكو والامبايرستيت في نيويورك وغيرها.

ولكن دمشق تمتلك برجاً من نوع آخر، إنه أكثر ارتفاعاً من أي برج آخر في العالم، وهو يطل على المدينة بأسرها ويمكن أن يصعد إليه في وقت واحد عشرات الألوف من أبناء دمشق، ومئات من السيارات في وقت واحد، ومن دون أن تفرض أزمنة محددة ولا شروط محددة إنه قاسيون، برج دمشق، برج شيده الله!.

في المدن التي زرتها أو زارها أصدقائي أو تابعت برامج عنها لم أسمع أن مدينة تعيش في حضن جبل أقرب إليها أو أحنى عليها من قاسيون المسافة من ساحة ذي قار إلى جبين قاسيون أقل من واحد كيلو متر ، والزنار الذي يحيط بقاسيون يمنحك فرصة رؤية كل شيء في المدين من علو شامخ، وفيما تكون أبراج المدن حكراً على الأغنياء، والنخب الارستقراطية ويبقى عامة الشعب يكتفي بالوقوف تحت البرج ورفع رأسه إلى حد “شكل الرقبة” مع التصفير والتعجب، فإن برج دمشق يتسع لكل الناس، ويسعى بطانياتهم وترامسهم والدربكة والخمير والفطير وحتى مطلع الفجر دون أي رسوم.

 

ولكن السؤال هنا هل تقدم محافظة دمشق العناية المطلوبة بهذا البرج؟.

إننا نتحمس تلقائياً لدى استقبالنا أي زائر يقدم إلى سورية بحثه على زيارة قاسيون، إذ هو جبين الشام، ولكن ما أن نؤمن لهذا الزائر السيارة، ونقف به على مناظر الشام البديعة، حتى نلحظ ويلحظ هذا البرج الشامخ يتعرض لأقسى أنواع الإهمال والاستغلال، فأنت تطل على أروع المشاهد، وحينما يحسدك أهل المالكي وأبو رمانة لإطلالتك التي تشاهدها، يرثي لك أهل السبينة والسبينات وحتيتة التركمان لفقر الخدمات التي تحتاجها في سيرانك المسكين هذا، حتى أنك لن تجد في طول الجبل وعرضه صنبور مياه واحد للشرب أو الوضوء أو أعزكم الله.

عام 1990 قامت محافظة دمشق بهدم عدد من الأكشاك التي كانت تقدم خدمات “غير مرخصة” لعامة الناس وتفرض أسعاراً انتهازية، وتحدث الناس عن وعد قريب لقيام خدمات سياحية تليق بقاسيون وتليق بدمشق، ولكن مع مرور عشر سنوات فإن شيئاً لم يحدث بالمرة، وهنا قد دخلت الألفية الثالثة ولم تقم المحافظة حتى تاريخه بإرسال ولو “جرافة” لرفع أنقاض الأكشاك التي هدمتها منذ عشر سنوات، والتي مازالت شاهداً حياً على التسيب، لها شكل أنقاض القنيطرة المحررة، من غير أن يكون لها دلالاتها في الصمود وإرادة البقاء.

في بعض أنفاق المدينة التي لا ترى النور “ولا ترى الناس أيضاً” تسلم محافظة دمشق محلات على الهيكل، وربما على المخطط، بأرقام استثمارية صارت جزءاً لا يتجزأ من مداخيل المحافظة، فلماذا تشيح بوجهها عن زنار قاسيون الذي يكفي لإنشاء أكثر من ألف محل استثماري يمكن تسليمها على الهيكل وبعقود استثمارية مجزية، وبشروط فنية تزيد دمشق جمالاً، ولا تحجب الرؤية بحيث تكون أخفض من شارع الجبل، ويكون سقفها امتداداً مجانياً للرصيف يبسط عليه الدراويش بطانياتهم، ويستمتعون بما خلقه الله وأنجزه الشعب؟.

منذ تنفيذ شارع قاسيون في الجبل عام 1977 سمعنا الكثير عن مشاريع طموحة لإقامة فنادق خمس نجوم، وهابي لاند، وماجيك لاند، ومونتي روزا وفلل سياحية باذخة، وحي للسفارات، ومتاحف فنون وغير ذلك.

أظن أن تلك كانت من أحلام رومانسية الربع الأخير من القرن العشرين، أما الواقعية الاشتراكية في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين فهي تأمين حنفية ماء للشرب وغسل اليدين، وتواليت “أعزكم الله” لأن بعض أطفالنا لا يصبرون إلى البيت ولا يعرفون الاستنجاء بالأحجار، ودورية أخلاقية لمراقبة “الشباب الصايعة” التي سبقت الزمن وأقامت نواديها الليلية الخاصة سبع نجوم مستفيدين من نظم الإنارة “الخافتة” التي توفرها في الجبل مؤسسة الكهرباء.

المقال الخامس: مولوكو                         تشرين اليومي: العدد (7637): 24/2/2000م

 

مولوكو

 

ماذا يجري في مولوكو، أو جزر الملوك ؟؟

المذيعون يقرؤون الأخبار المفجعة ببرودة أعصاب، والمحللون يفضلون إنفاق الوقت في الحديث عن ثروة بيل جيتس، وفساتين ديانا، ومغزى منح تايسون تأشيرة دخول إلى بريطانيا، ومصير الآذان التي يقضمها !

يبدو سيل الدم الطائفي هناك بارداً وغير قانٍ بما يكفي لإثارة المراقبين هنا للاهتمام به، وفيما يشاهد الناس مشهد جثث يزهقها الموت ومن ورائها رجال  غاضبون، وآخرون يهددون ويتوعدون تخطف الأضواء منهم نزاعات ويرانتو مع وحيد، ويؤكد الكرسي مرة أخرى أنه أكثر حضوراً أوجاذبية وأحرى بالنجومية!

وهكذا على الرغم من تركيز الضوء على أندنوسيا يتخافت الوعي بمغزى الدرس الأندنوسي الذي يتكرر في أمكنة كثيرة من العالم، ولكن ليس على الشكل الذي كان يتمناه شريف هداية الله وهو يحمل لأندنوسيا طلائع البشارات الإسلامية قبل قرون.

ولكن ألا تلتمس لنا الأعذار في العبور السريع على أحداث بلاد يفصلها عنا أكثر من عشرة آلاف كيلومتر ؟

إن المسألة يا سيدي ليست بالبعد الذي نتصور، صحيح أن حوادث جزر مولوكو تبعد عنا أكثر من عشرة آلاف كيلومتر ولكن الأفكار التي هي في الواقع وقود هذه الحرب ليست بالبعد نفسه، وربما لا تبعد عنك عشرة أمتار!

تقوم منظمات كثيرة في الخليج الآن بجباية الأموال وإرسالها إلى ذلك الصقع البعيد من الأرض، وتصبح خطب المساجد في كثير من الأحيان مرثية صاخبة لذلك الصراع المحموم، والأمر نفسه يتكرر في كنائس كثيرة في أطراف مختلفة في العالم، وهكذا يتحول الصراع الطائفي المرير في جزيرة معزولة من الأرض إلى هم شعبي يتبارى فيه كثيرون لإثبات ولائهم الديني، ومناسبة يتقربون فيها إلى الله، ومن يدري فربما كانت مشكلة (الأفغان العرب) قادمة فيما يأتي تحت اسم (الأندنوسيين العرب)، فهل هذا الأسلوب هو الحل المنطقي لصراع كهذا؟

إن المشكلة في نظري هي مشكلة ثقافية في المقام الأول قبل أن تكون هماً سياسياً، هي تتصل مباشرة بالتوجيه الديني الذي يتلقاه الطلبة على مقاعد الدرس عن الآخَر، إنها من وجهة نظري نتيجة طبيعية لفكرة (احتكار الخلاص) التي هاجمتها هنا مراراً، إذ ما دام الله لن يرحم هذا الآخَر مهما عمل صالحاً، فلماذا أكون أنا أرحم منه بالناس، وما قيمة بلطاتنا وخناجرنا وقنابلنا أمام ناره وسعيره؟ وذلك كله لازم فكري طبيعي قبل أن نصل إلى الحديث عن تفريع المسائل عن الأصول التي هي في الظاهر لا تتردد في النص على هذه النتائج السوداء.

إن إتاحة المجال لبعث مقاصد الشريعة في الحب والرحمة حاكماً كاملاً على ظاهر النص هو المنهج الذي كانت الأمة ترضاه أيام المجد بحيث لا تكون في أزمة مع النص إذا تبين أنه لا يحقق مقاصد الشريعة في الظرف الراهن.

إن نصوصاً مثل: }فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم{، أو ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله))، هي نصوص صحيحة من جهة الإسناد بكل تأكيد، فالأول قرآن كريم، والثاني حديث يرويه البخاري ومسلم، ولكن هل يقبل أحد من فقهاء هذه الأمة إطلاق هذين النصين في الزمان والمكان؟ وهل فعل النبي الكريم ذلك؟ وما تفسير بقاء الألوف من أبناء الأديان الذين عاشوا في كنف دولة النبي وأصحابه؟ بل في مدينته المنورة حتى إنه مات ودرعه مرهونة عند رجل من أهل الكتاب؟

وهكذا فإن أدنى مدارسة للنص حملتهم على التزام اقتضاء ضروري هنا بحيث يصبح النص: فاقتلوا المشركين ( الذين يقاتلونكم )، وأمرت أن أقاتل الناس ( الذين يقاتلونني )، وهو فهم زائد على النص بكل تأكيد، ولكنه ينطلق من روحه ومقاصده.

وحدهم الخوارج اختاروا عصمة النص بالمطلق، وحاربوا كل قيد تلقيه عليه مقاصد الشريعة، وحين اختارت الأمة تكامل العقل مع النص صرح الخوارج بعبارتهم المشهورة (لا حكم إلا لله).

إن عبارة لا حكم إلا لله، كلمة لا تفتقر إلى المصداقية، وليس بوسع مؤمن – من أي مذهب كان- أن يتنكر لها، ولا شك أنها تختصر جهاد الأنبياء وعطاءهم، فلم يكن سعي الأنبياء والرسل منذ فجر عهد النبوة إلا لتقرير هذه الحقيقة، لكن الإمام علياً رضي الله عنه رفض هذا الشعار الساذج وقال فيه: (كلمة حق يراد بها باطل).

لقد أدرك الإمام علي رضي الله عنه أن مقاصد الخوارج تتجه إلى تعطيل العقل والتماس سائر التوجيه في الحياة من ظاهر النصوص، وهو أمر غير ممكن، شرحه بقوله: (أما إني أعلم أنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يريدون لا إمرة إلا لله، أما إنه لا بد للناس من أمير، من يجبي الخراج، من………)

إن السمة التي ميزت فكر الخوارج – إن كان لهم فكر- هي ارتكازهم على مبدأين اثنين:

الأول: تحكيم ظواهر النصوص، ولو أدى ذلك إلى نتائج متناقضة، أو معاندة لمقاصد الشريعة نفسها.

الثاني: رفض الآخر، إذ أسقطوا مقولة الاختلاف، وجزموا بتلازم الاختلاف في الرأي مع اختلاف الحق في ذاته، وقد أدى بهم ذلك إلى خيار تكفير الآخر، وهدر دمه، بل وعدم قبول توبته.

وهذا المعنى هو الذي نشاهده اليوم على الساحة الجزائرية حيث ينقض (الإرهابيون المتأسلمون) الذين تدفعهم هذه الفتاوى الخوارجية التي تسللت إلى أعمال فقهاء مسلمين كبار، فيضربون بالبلطات والفؤوس والخناجر سائر من يشاهدونه من الناس الذين لم يشاركوهم في الخروج من (المجتمع الكافر) الذي سقط في عموم الردة ولم يجاهد للالتحاق (بالجماعة المسلمة) في معاقلها (دار الهجرة) التي يدعو إليها قراصنة الحرب (الجهاد).

وهكذا فإن الخوارج هم الذين تبنوا الفكر الظاهري، وطبقوه عسكرياً، قبل أن ينحسر بعدئذ إلى فتاوى ورؤى يقدمها غلاة الفكر الظاهري، ولو كان لنا أن نستعير مصطلحات عصرنا الحاضر، فنحن أمام منهج واحد، تجلى في جناحين:

الأول: الجناح العسكري، وهو الخوارج.

والثاني: الجناح السياسي: وهم دعاة الظاهرية ومنظرو الفكر الظاهري.

إن ما يقوم به (فدائيو) مولوكو على جانبي خط النار الآثم ليس إلا تطبيقاً عملياً لأفكار الحقد والتعصب التي يقرؤها آخرون على مقاعد الدرس في انتظار اليوم المناسب لتحقيق هذا الفكر في الواقع، فهل يكفي حينئذ الرثاء والأسى والأسف لتجنيب المنطقة ويلات التدين المولوكي؟ التطرف يبدأ فكراً..

هل كان هذا المقال واضحاً في الكشف عن صلة فكرة احتكار الخلاص والفهم الظاهري للنص المقدس بأحداث مولوكو؟ آمل ذلك.

 

 

المقال السادس: دردشة في هموم المرأة           تشرين اليومي: العدد 101 السنة الثانية: 28/2/2000م

 

دردشة في حقوق المرأة

 

لم أكن أظن أن المحاضرة التي دعتني إليها السيدة رباب الكزبري في دار السعادة للمسنين تحت عنوان: “دردشة في هموم المرأة“، ستكون أقوى من العاصفة الثلجية التي ضربت دمشق صباح هذا الخميس، بحيث لم أجد مكاناً واحداً فارغاً في قاعة دار السعادة، على الرغم من تراكم الثلوج في كل مكان وهو مشهد صار نادراً في سوريا بحيث يغري الإنسان بمتابعته والتفرغ له، وهذا ما يعكس اهتمام المرأة المتزايد بالنشاط الثقافي والنهوض بواقع المرأة.

كانت الهموم التي وضعتها السيدات الحاضرات بين يدي تتلخص في شيء واحد هو: من يتحمل مسؤولية تخلف المرأة؟ وكيف يمكن المضي بها إلى سبيل تتجاوز فيه السقوط المريع الذي أورثته عصور الانحطاط.

ومباشرة فهمت مغزى دعوتي إلى هكذا لقاء، لقد كنّ يردن أن يحاكمن المنبر، والفقه الإسلامي برمته، فنحن أصحاب منابر الجمعة متهمون بأننا نصر على تغييب دور المرأة الاجتماعي، وأننا مسؤولون عن تخلفها، متورطون في مظالمها.

ولم تخف المشاركات سخطهن من واقع المؤسسة التشريعية التي قصرت دورها على القيام بعملية تجميلية للتشريعات العثمانية التي كانت سائدة مطلع القرن، ومنذ أكثر من أربعين عاماً رفعت فيها الأقلام وجفت الصحف.!!

بالفعل أين يمكنك أن تغيب رأسك من الانتكاسات التي عصفت بكفاح المرأة التحرري على حد تعبير برهان بخاري، فللمرة العاشرة يصر البرلمان الكويتي على منع المرأة من الحصول على حق التصويت، وواضح أن تيار الإسلاميين هو الذي كان مباشرة وراء هذه (الإنجازات)!

 

ولكن إلى أي مدى يمكن اعتبار الفقه الإسلامي مسؤولاً عما يجري ؟؟

إن الفقه الإسلامي ليس في الواقع محض شرح للنص المقدس، إنه أيضاً ديوان للعقل الإسلامي واجتهاداته في فترة الصعود الحضاري كما في فترة أفوله.

لقد قال الفقهاء كلاماً متفاوتاً حول موقع المرأة في الحياة الاجتماعية، من تصريح الغزالي أن المرأة في حكم الرقيق شرعاً، إلى الخيار الذي مضى إليه الإمام القرطبي من تقرير جواز كون المرأة نبياً !!

ونص كلام الإمام القرطبي: (والصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله تعالى أوحى إليها بواسطة الملك كما أوحى إلى سائر النبيين حسب ما تقدم) وبمثل هذا القول صرح إمام شهير آخر هو الحافظ المناوي في فيض القدير بقوله: ( فإن القول بنبوتها شهير ذهب إليه كثير ومال السبكي في الحلبيات إلى ترجيحه وقال: ذُكرها مع الأنبياء في سورة الأنبياء قرينة قوية لذلك).

وهكذا فإن السؤال هنا: كيف يتسنى لنا نقل الإجماع على عدم منح المرأة حق التصويت ، في حين أن فقهاء كبار لا يشك في علمهم يثبتون لها النبوة وهي بكل تأكيد أعلى درج الولاية !!

إنني لا أزعم أن هذا الخيار كان محل اتفاق ولكنه على كل حال رأي مجموعة من خيار الفقهاء المحترمين، وهذا يؤكد ما كنت أقوله دائماً وهو أننا للأسف نعمد إلى خيارات الأولين فننتقي منها الأسوأ والأشد والأبعد عن ظروف الزمان والمكان الذي نعيش فيه، ونطفئ عن عمد خيارات أخرى فيها حلول حقيقية لمشاكلنا وهمومنا على أساس أنها لم تحظ برضى الجماعة في مراحل التدوين.

وما نذكره هنا في إطار الفكر المجرد يمكن قراءته في الواقع المعاصر فإن حركة طالبان على سبيل المثال تمنع تعليم المرأة في سائر أفغانستان ، فيما أصبحت المرأة في جارتها الشرقية إيـران نائباً لرئيس الجمهورية الإسلامية، ووصلت كذلك إلى أعلى سلطة تنفيذية في جارتها الجنوبية، وهي رئاسة الوزراء في باكستان، ولم يكن ذلك نتيجة تمرد على الشريعة بل كانت الدولة آنئذ ملتزمة بتطبيق أحكام الشريعة وكان من حول بوتو لجنة اختصاصية من رجال الدين معظمهم تخرج من الأزهر ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!!‍‍‍‍‌‌

فلماذا إذن ينبغي أن نتصور أن الإسلام مسؤول مباشرة عن التيارات المناهضة لمشاركة المرأة في الحياة ؟

إن التشريع السوري في مجال الأحوال الشخصية يحتاج حقيقة لمراجعة فقد مر على اكتمال تدوينه قريب من خمسين عاماً، ويمكن القول الآن إن كثيراً من بنوده لم تعد تلبي المصالح العادلة للناس، وهنا يمكن أن تتأسس المراجعة على أمرين اثنين :

أولاً: إن هذا التشريع على الرغم من أنه نتاج جهد صادق لرجال اختصاص ولكنه ليس بالضرورة كلمة الله! إنه في الواقع مجرد خيار واحد في الفقه الإسلامي إلى جانب خيارات محترمة أخرى.

ثانياً: إن حماس المرأة لإجراء تعديلات في النص التشريعي لا يجوز أن يكون عبثياً بحيث نطالب بتنكيس القائم وإقامة المنكوس، بل ينبغي أن يتجه إلى المسائل الملحة وفق ترتيب أولويات دقيق ومنطقي.

إني على يقين بأن الفقه الإسلامي غني إلى الحد الذي يمكن فيه تخير الحلول لأشد المسائل تعقيداً، ولكن المسألة في حسن الاختيار، والحرية المتاحة للاختيار، وقديماً قالوا : اختيار الرجل قطعة من عقله.

 

المقال السابع: مناسك ومنافع                              تشرين اليومي: العدد (7651): 13/3/2000م

 

مناسك ومنافع

 

يمكنني أن أقول إن الحج من جهة أداء المناسك يعيش اليوم في عصره الذهبي!

ليست هذه مجاملة أهديها لطواقم التفويج الذين يتولون ترحيل الحجاج والزائرين،ولا هي تملق أدفعه للسلطات المشرفة على الحرمين الشريفين، رجاء أن تصلني دعوة مدللة لأداء المناسك، ولكنها في الواقع تقرير لحقيقة واقعة يخبرك بها كل زائر لتلك العتبات المقدسة.

الحرم المكي يتألق في الليل كأنه قطعة قمر، يدرك المرء إلى أي مدى يمكن أن تتقارب الأرض والسماء هناك، يتساوى الناس في أداء المناسك حتى تذوب الفوارق كلها،ويدرك المرء كيف يغدو الإنسان أخاً للإنسان وكيف يغمر النعيم الروحي سائر الذين أسعدتهم الأيام ببلوغ تلك الديار الشريفة.

يمكنك الحديث عن النظافة المدهشة التي تواجهك في كل معنى من معاني النسك المقدس والانتظام في الوقت والالتزام بالسنن الصحيحة في أداء المناسك، بحيث يتعاظم العدد تلقائياً كل عام ويتأكد ذلك حتى تجد نفسك في غنى عن طرح أي طموح في إدخال أي تجديد على المناسك المقدسة

ولكن هل يمكن أن يكون هذا كافياً في حديثنا عن الحج الأعظم؟

وهل يمكن أن تكون غايات أعظم تجمع دوري في العالم عند حدود أداء مناسك عبادية محضة تفتقر إلى ظلال واضحة في الحياة الاجتماعية؟

يتخذ الحديث عن الحج أشكالاً مختلفة، تحملك إلى الأشواق اللاهبة التي تحدو بها الحداة وهم يتوجهون إلى تلك الرياض المقدسة، ولكن ثمة دلالات لا تزال في رواسب المجهول،يتأكد الحديث عنها كلما حملت المحطات الفضائية إلى العيون مشاهد تلك الألوف المؤلفة من المؤمنين وهي تطوف حول البيت الحرام.

إن الحج مناسك ومنافع، وحيث تم أداء المناسك على الوجه الأتم فهل تم تحقيق الأمر ذاته على مستوى المنافع ؟

وفي القرآن الكريم: }ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وفيه أيضاً:ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم،ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم{، وهي نصوص واضحة في التوكيد على مقاصد الحج ومنافعه التي هي أكبر من مجرد أداء المناسك، وواضحة الدلالة على أن الحج أكثر من طواف وسعي وحلق وجمار.

ماذا يعني أن يلتقي في أرض واحدة أكثر من مليوني إنسان على المقاصد ذاتها والأهداف ذاتها وبالمناسك ذاتها.

إنني أقترح هنا أن يكون على هامش الحج الأعظم أكبر متاحف العالم الإسلامي بحيث يتيسر للزائر أن يطلع على كنوز التراث الهامة في الأرض التي يفترض نظرياً أن كل مسلم ينبغي أن يزورها ولو مرة في الدهر.

من الممكن أن يكون في الحج عدد من البانورامات المختلفة التي تشرح أهم أيام الإسلام كيوم أحد وبدر والخندق وحنين بحيث تكون زيارة تلك المواقع متصلة بالبيان التاريخي لتلك الآثار الإسلامية الكبرى

كم هو رائع أن تخصص أرض عظيمة في بعض أطراف مكة المكرمة تكون فيها بانوراما فلسطين بحيث يقرأ الزائر إلى تلك الأرض كل تاريخ فلسطين حيث يتم إنشاء مجسم مصغر لفلسطين بجداولها ومدنها وقراها ومزارعها وأنهارها وبياراتها وشماغاتها وغتراتها، تذكرك بدير ياسين وبئر السبع وأم الفحم وهي مرابع الجهاد التي تزاحمها اليوم (كريات شمونة وكريات أربع ) يكون فيها قاعات للمحاضرات يشارك فيها أعلام كبار من الحجاج الذين عاشوا الهم والقضية في الكفاح والعطاء يلتقيهم الناس ويسمعون منهم ويؤسسون لعلاقات تتصل على الأيام، ويكون ثمة عروض مستمرة تشرح للحاج واقع أمته وتاريخها حتى لا ننسى.

في قضية تتفجر في العالم الإسلامي كالشيشان مثلاً أليس من المطلوب أن تكون ثمة قاعات في درب الحجاج ينتظم فيها رجال من الذين يعيشون الهم الشيشاني مثلاً مفتي الشيشان وزير خارجيتها أدباء وشعراء منها يؤكدون للعالم أن ثمة شعباً كاملاً تعرض للذبح والسحل والقتل على مسمع العالم، حتى لا ينسى هذا العالم وهو يستقبل القرن الحادي والعشرين أنه محتاج لبعض أخلاقيات الغابة في أن الافتراس نفسه حاجة تقدر بقدرها، وليس نهمة سائبة للأطباع السادية الهائجة،التي تحركها دوافع انتخابية مجنونة.

في جانب آخر من مكة يمكن أن نؤسس لما يشبه ديزني لاند العالم الإسلامي، بحيث يتجول المرء في ساعات معدودة بين أبرز عواصم العالم الإسلامي التاريخية بحيث تكون الأجنحة على هيئة أجنحة مفتوحة تقدم فيها لأمم والشعوب تراثها ومعالمها على هيئة قطع تراثية منتخبة، فيتاح للحاج أن يزور عدة عواصم ويتعرف إلى عدة ثقافات ويقتني أيضاً عدداًُ من المنتجات المختلفة في ساعات قليلة.

إن الدعوة إلى إقحام هذه الأنشطة في الحج لا يشكل بحال من الأحوال تغييراً في المناسك المقدسة ولكنها إصلاح للمنافع المرافقة لسلوك الحج.

أعلم مسبقاً أن مثل هذه الأفكار ستهاجم بوصفها تسييساً للحج وهو ما تم في الماضي رفضه بغاية العنف، ولكن هذا الاقتراح مبرأ من ذلك من وجهين اثنين:

الأول: إنني لا أطالب بإقحامه في المناسك بحال من الأحوال،وقد قدمت أن المناسك تعيش اليوم عصرها الذهبي وليس من المبرر إقحام أي شيء فيها، وإنما هي أنشطة تدور في جوانب مكة والمدينة وليس في الحرمين الشريفين.

الثاني: من غير المعقول إتاحة المجال لقضايا تختلف فيها السياسات الإسلامية، ولكن ثمة في كل حين مسائل لا تختلف عليها سياسات المسلمين ويصبح الحديث فيها لوناً من إحياء المثل الاتفاقية

أليس من المدهش أن العرب على وثنيتها كانت تدرك أن الحج أكثر من مجرد لقاء عبادي، وكانت تقيم على هامش مناسك الحج الأكبر أسواق عكاظ والمجنة وذي المجاز وهي أسواق أدبية واقتصادية وسياسية تنعقد فيها الأحلاف وتتعاقد القبائل وتحمل الديات وغير ذلك.

إن تحجيم دور الحج في الجانب العبادي وحده يشكل انتقاصاً لدور الحج التاريخي كمعلم بارز من معالم وحدة الأمة وتلاقيها واجتماع كلمتها والغريب أن مثل هذه الآيات التي تتحدث عن دور المنافع في الحج تبدو حاضرة في ذهن الحاج كلما مارس نشاطه الاستهلاكي في شراء بعض السلع وتهريبها على أساس أن ذلك من منافع الحج. فمتى تتحول منافع الحج إلى شيء واضح يعود على الأمة الإسلامية بالنفع والخير ولا يقتصر أثره حينئذ على المنفعة الشخصية العاجلة كما هو شأن الأمم الاستهلاكية دوماً ؟

وبعد …ألا يحق لنا أن نطالب الإعلام في بلدنا أن يمنحنا قدراً أكبر من نفحات الحج عبر الشاشة الصغيرة؟ وهل من المطلوب أن يظل المواطن في بلدنا يتعقب مشاهد الحج ونفحاته من الأوربت إلى (إل بي سي) إلى.(إم.بي سي) إلى (آ.ر.ت.) إلى الفيوتشر؟ وكأنه ليس هناك ثلاثون ألف حاج سوري ( ما عدا اللحامين ) ليهتم بهم التلفزيون السوري؟

إني أعلم أن هذا الاقتراح سيغضب تجار الستلايت الذين صاروا يعرفون مواسمهم جيداً في رمضان وكأس العالم وموسم الحج، (بالمناسبة لا زال الستلايت مادة ممنوعة قانوناً، بدليل أساطيح دمشق) على أساس أن ستلايت موسم كهذا فيه تكفير لذنوب مواسم كثيرة هم يعرفونها.

وكذلك فأنا على يقين من أن عدداً من البرامج المحلية راغبة أو مرغوب لها أن تقدم الإيثار الممكن والمطلوب لصالح مشاهد الإيمان التي يبعثها مشهد الطائفين الرائع.

وهنا أود أن أؤكد أن الحج ليس حدثاً إقليمياً يهم الحجاز ونجد بل هو بكل تأكيد حدث إسلامي دولي يهم كل أهل لا إله إلا الله.

 

المقال الثامن: أصحاب السعادة                            تشرين اليومي: العدد (7660): 26/3/2000م

 

أصحاب السعادة الوزراء

 

إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً

والآن، جاءت الوزارة الجديدة، آفلون وآملون، كما الدهر، ودولاب الحياة، والبقاء لله.

حديث الناس في الشارع لا يتعدى تسمية الأسماء المرشحة للظهور والأسماء المرشحة للأفول وهي معيار شخصي لن يعود على أي من قضايانا بكبير فائدة.

ولكن ما هو المطلوب من الوزارة الجديدة؟

شخصياً لا أحسن الحديث عن المعالجات الاقتصادية الممكنة، وليس من العيب أن يقول المرء فيما لا يعلم لا أعلم، فأنا حتى الآن لا أفهم كيف يستخرجون الدخل القومي ومعدلات التضخم ودولار التصدير وفتح الاعتمادات وغير ذلك وبكل تسليم أفوض ذلك إلى عباد الله العارفين أهل المعرفة والخبرة الذين قال الله فيهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

وإذا كان خوض المرء فيما لا يعلم زلة فإن سكوته فيما يعلم مذلة،وهذا ما أرفعه مباشرة لأصحاب السعادة الوزراء الجدد،وهم يجلسون إلى كراسيهم الجديدة،قبل أن ينقطع عبير الورد الذي سيملأ مكاتبهم عدة أسابيع خلال شهر العسل الوزاري وما يرافقه من صيغ ثناء وشكر وحمد، وما يقدمه متزلفون كثير يودون لو تفصل الوزارات على مقاس مصالحهم.

لقد كان واضحاً منذ التصريح الذي أدلى به الدكتور بشار الأسد إلى صحيفة الحياة العربية في أمريكا أن ثمة ملفات كبيرة أمام الحكومة الجديدة تتطلبها المرحلة القادمة التي ستحصد ثمرات الاستقرار الطويل الذي عاشته البلاد في ظل الحكومة السابقة وهو ما أفرز في جانب آخر هموداً غير مبرر في جوانب كثيرة أخرى.

إن الرسالة التي أعتقد أنها تفرض نفسها في المقام الأول هي المشهد الثقافي للبلاد الذي لا نبالغ إن قلنا إنه يعيش مخاضاً دقيقاً،حيث تمضي العولمة الأمريكية قدماً لابتلاع العالم والويل لمن يفكر في مقاومتها أو التصدي لها بعد أن أذّن لها فلاسفة نهاية التاريخ.

هل نحن أمة تملك خصائصها وتراثها وذاتها وكيانها، أم إن علينا الذوبان في خيارات العولمة (الاستعمار الجديد) ولا نملك بعدئذ أكثر من اعطس يرحمك الله!!

إن المعنى الذي ظل غائباً في المشهد الثقافي في سوريا هو دورنا الريادي في العالم الإسلامي، وهو ما

جعلته صيحتي الهائجة يوم المعراج قبل عشر سنوات في التلفزيون السوري في خطبتي(هيا يا سوريا) وهي الخطبة التي كلفتني رهقاً كثيراً، وهو معنى ظللنا نجهله أو نتجاهله سنين طويلة مع أنه أكبر رصيد وأبعد عمق استراتيجي للأمة العربية في الأرض.

لقد ظل العرب طويلاً ينتظرون النفوذ السوفييتي في المنطقة عبر الوريث الروسي ولكن كانت النتيجة كارثية بكل معنى الكلمة،وكان أول حصاد البيروستويكا والغلاسنوست في المنطقة هو تسفير نحو نصف مليون يهودي روسي ليسكنوا في بيوت إخواننا وأهلينا في فلسطين،ثم الاعتذار العلني عن أداء أي أدوار حقيقية في إطار الراعي الثاني الضامن لعملية السلام إلى حد نسيان المواعيد الاحتفالية المقررة لأعمال المسيرة السلمية‍‍‍‍‍.

وحين عصفت الحرب في الشيشان لم يبلغ جنرالات الحرب بأي علاقة بين الدماء الشيشانية والأمة العربية التي تربطها بالقوقاز روابط التاريخ والدين والعيش المشترك،على الرغم من أن المحللين الخبراء يعلمون المدى الذي ترتبط فيه دماء القوقاز بالدم العربي، وهذا التجاهل الروسي البارد هوان يوازي بكل تأكيد الموت العربي التام في اتخاذ أي موقف يحد من مظالم الحرب المستعرة، والاكتفاء بالتصريح المشين بأن ما يجري هو نزاع داخلي لا أكثر في حين أن المندوب الأوربي صرخ بغضب في وجه إيغور إيفانوف بأن المذابح التي تجري هناك ليست من الشأن الداخلي في شيء!!

هل نبالغ في شيء إذا قلنا إن الرابط الذي يرسم علاقتنا مع الروس هو المصالح فقط وهو بعينه ما ينبغي أن يحدد علاقاتنا بسورينام ونيوزيلاند وجزر فيجي وهاواي لا أكثر.

أما العالم الإسلامي فإن الآفاق تتلون هناك بلون آخر،ثمة ألف مليون مسلم غير عربي يسمون سوريا بلاد الشام الشريف وهم بدون أدنى تكلف ينظرون إلى سوريا رائداً طبيعياً للآمال المختزنة في ضمائر هذه الشعوب والوعد الحق الذي ينتظرونه من الأيام.

إن علم إسرائيل تحرقه الشعوب الإسلامية من جاكرتا إلى داكار،وترفع مكانه مجسمات الأقصى، في حين رفرف هذا العلم الصهيوني في عواصم عربية كثيرة على الرغم من الخطين الأزرقين الذين يحيطان بنجمة داود فيه ويرسمان حدودها من الفرات إلى النيل.

وترسم الثقافة الشعبية خريطة المنطقة يتوسطها اسم كبير هو فلسطين يمتد من النهر إلى البحر في حين أن هذا الاسم انسحب في أغلب الخرائط العربية إلى الضفة والقطاع، وربما استثقله آخرون فاكتفوا باسم إسرائيل على أساس أنها كافية لآمالنا وأمانينا.

باستثناء الهندوصينا فإن أسماء الناس من أندنوسيا إلى عربستان كأسماء مساجدهم وشوارعهم وساحاتهم ومدارسهم عربية حتى الصميم ولعلها أكثر عربية من كثير من مظاهر العواصم العربية المتفرنجة.

اللغة العربية تدرس في خمسة آلاف مدرسة في أندنوسيا، وينطق بها سبعون بالمائة من الناس في نيجيريا وتشاد، وهي لغة الثقافة والفكر في إيران، وتشكل الكتب العربية خمسة وستين بالمائة من المخطوطات التراثية في مكتبات إيران والملايين الخمسمائة المسلمين في القارة الهندية، ويناضل خمسون مليون مسلم تركي للحفاظ على الأذان باللغة العربية والسماح بطباعة التراث التركي بالحروف العربية بعد المحاولات الشرسة المستمرة لفرنجة الثقافة التركية.

تقدم الشعوب الإسلامية هذه الخدمات الهائلة للثقافة العربية بالمجان تماماً، وفاء مع الرسالة الكريمة لنبي العرب محمد r من غير أن يكون المن وارداً في هكذا علاقة ثقافية وعلمية

والسؤال الآن ماذا فعل العرب لاستثمار هذه المعطيات الهائلة التي توفرها لنا فرص المواقف الشريفة التي قدمها الأسد عبر ثلاثين عاماً من ريادة النضال العربي وعبر التاريخ المجيد لدمشق الشام وحلب الشهباء في ريادة العالم الإسلامي.

إني أتمنى على الوزارة الجديدة أن تتوجه شرقاً خارج أسوار الوطن العربي إلى التعاون الصحيح مع الآفاق التي تختزن أعظم روافد الفكر والعطاء مع الأمة العربية وتتوجه بقلوبها وأفئدتها إلى الأمة العربية في كفاحها المشروع لبناء عالم مستقر وآمن.

إن فرنسا على سبيل المثال تعتبر الفرانكوفونية جسرها الثقافي إلى العالم، ويعلم مسؤولوها أنهم يسوّقون المثل الفرانكوفونية إلى شعوب لا تزال تلعن النموذج الفرنسي الاستعماري في كل صلاة وصوم، إلى حد رجم مسؤوليها بالبيض وبالحجارة، ولكن على ذلك كله فإنه لا يطالب أحد في البرلمان الفرنسي بتخفيض النفقات المخصصة للنشاطات الفرانكوفونية،التي يرونها تواصلاً تاريخياً مع رسالة استؤمنوا عليها.

يعتبر النموذج السوري الإيراني رائداً في إطار العلاقات الإسلامية الإسلامية، وهو نموذج حقق التفافاً متميزاً في إطار المصالح الكبرى للأمة على الرغم من حساسية المسائل الفقهية بين السنة والشيعة، على سبيل المثال فإن السياحة الإيرانية في سوريا تضاعفت من ثلاثة وعشرين ألف زائر في عام 1977 إلى مائة وثمانين ألفاً عام 1996، وليس ثمة ما يمنع من تحقيق نجاح مماثل في إطار سياحة باكستانية وهندية وأندنوسية وماليزية في بلاد الشام.

وأود أن أعتذر عن استشهادي بهذا الرقم السياحي أولاً لأنني قدمت لمقالي بالاعتذار من القارئ الكريم في معارفي المحدودة في الجانب الاقتصادي وثانياً لأني لا أجهل أن السياحة تعتبر عموماً نشاطاً فضولياً في النمو الاقتصادي، ولكن وضوح الأرقام هنا أغراني بتقحّم هذا السبيل.

فهل نشاهد في الحكومة الجديدة توجهاً مناسباً إلى إحياء دور سوريا في العالم الإسلامي كرائد قوي تتعلق به الآمال؟؟

إني أقدم هديتي للوزراء الجدد على هيئة ميثاق شرف لإحياء الدور الإسلامي الريادي لسوريا،وهذا الميثاق من كتابة القائد حافظ الأسد ألقاه في القمة الإسلامية في طهران،واعتبرته القمة أهم وثائقها.

وفيه قال:إن ما يجمع بين دولنا وشعوبنا يفوق كثيراً ما يمكن أن يفرق بيننا وأول ما يجمع بيننا رابطة الدين وأواصر التاريخ والحضارة المشتركة، والمسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.

فإذا قدر لهذه المرحلة من الإعداد لريادة سوريا للعالم الإسلامي أن تنطلق فإن ملامح التغيير الموعود تكون قد جاءت بالآمال التي ينتظرها الناس وأنا سعيد بأن أكون واحداً من الذين أذّنوا لذلك منذ عشر سنين.

 

 

المقال التاسع: مكة وفلسطين بانوراما الأرض المقدسة         تشرين الأسبوعي: العدد (104): 27/3/2000م

 

مكة وفلسطين

 

ترسم مشاهد الطائفين والعاكفين في البقاع المقدسة هذه الأيام صورة تملأ النفوس بالإشراق السامي الذي يخرجك ولو للحظات من حمأة الصخب المادي الذي طبع حياة الإنسان في سائر الوجوه.

أينا لم تدمع عيناه إجلالاً وهيبة وهو يرى تلك الجموع المليونية تتحلق حول الكعبة المشرفة في ذلك المشهد الروحي الآسر الذي يملأ سائر الفضائيات العربية هذه الأيام، (ما عدا قناتنا الحبيبة التي لا زالت للأسف تتعامل مع هذه الظاهرة بكل استحياء).

ولكن من بين تلك المشاهد الآسرة، كان خاطري يطوف إلى حديث نبوي هام يتصل بهذه المناسك من زاوية أخرى، وهو قول النبي الكريم:

لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.

لا يحتاج هذا الحديث النبوي الكريم إلى أي دراسة في السند بعد أن اتفق الأئمة الحفاظ على أنه في أعلى درج الموثوقية والصحة.

وهو كذلك ليس طارئاً على الأذهان، بحيث يسمعه المسلم لأول مرة، بل هو معروف ومحفوظ، يتداوله طلبة العلم على مقاعد الدرس ويروونه في المجالس المختلفة،ويشعر العقلاء بالمرارة كلما مروا بالجدل الذي اعتاد أن يتبادله الصوفية والسلفية إزاء هذا الحديث في مسألة جواز زيارة القبور إلى حد تبادل الإتهام وتناوبه بين صيغ مثل قبوريين وجفاة مبغضين…إلى غير ذلك من قوائم الاتهام الجاهزة التي تعودت سياط التخلف أن تلهب بها إرادة الوحدة والجماعة لدى الأمة.

ولكن هل تنبعث دلالات هذا الحديث في إحياء دور القدس قضية مركزية في العالم الإسلامي؟

إن القدس تبدو هنا ثلث الحج في الإسلام وهي كذلك عبر التاريخ الإسلامي، فقد كانت محافل الحج لا تكاد تعتبر تمام حجها إلا مع زيارة المسجد الأقصى،حيث مسرى النبي محمد r وحرم الأقصى الذي هو أول القبلتين وثالث الحرمين.

وكان من الطبيعي أن يتحول مسرى الحج إلى القدس كلما استوفى الحجاج مناسكهم في إيماءة واضحة إلى أهمية القدس التاريخية والدينية.

ولكن منذ أكثر من ثلاثين عاماً يتعطل الحج إلى الأقصى بسبب الغطرسة الإسرائيلية المستمرة، وغياب الوحدة العربية والتضامن الإسلامي القادرين على إقامة مطالب الأمة في الحريات.

فهل من المنطقي أن تنطفئ دلالات الحج إلى الأقصى لمجرد أن إسرائيل تفرض على المسلمين ذلك؟

أليس ثمة واجب أخلاقي على الأمة تجاه فلسطين تفرضه مناسك الحج الأعظم؟

تقوم إسرائيل بطمس معالم فلسطين وتشويه التاريخ والجغرافيا في الأرض المقدسة عن عمد وإصرار إلى حد تقديم فلسطين عاصمة أبدية لإسرائيل حتى في (ديزني) الأحلام البريئة التي يفترض أنها آخر قطعة أرض في أمريكا تمكن صهينتها، وسط شخير عربي وإسلامي فظيع لم يعكره إلا صراخ الشاب الإماراتي عبد الله بن زايد الذي ظل يصرخ أن القدس عربية عربية حتى اكتمل غروب المشهد بالتمام والكمال!

من وجهة نظري فإن مكة مطالبة بشيء ما من أجل فلسطين بواقع الشراكة التي عقدها بينهما الرسول الكريمr شيء يحفظ لضمائر الحجاج ذكريات الحج الغائب إلى القدس.

قد لا يكون اقتراحي هذا كافياً لأخذ المسائل بالجد المطلوب ولكنني أعتقد أن أكبر المشاريع إنما تنطلق أولاً من أفكار طامحة راغبة في الخير والعطاء.

كم هو رائع أن يكون في حواشي مكة المكرمة معرض كامل لفلسطين، يقدم لضيوف الرحمن صورة كاملة لفلسطين، على شكل أرض كبيرة (عدة هكتارات) يتم تصميمها لتشبه في الجغرافيا والتضاريس أرض فلسطين بحيث يتجول فيها الحاج بين النهر والبحر فيبصر فيها الصخرة المشرفة والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة وبيت لحم ويقرأ أسماء قرى فلسطين وبياراتها ووجوه أهلها التي لا تزال ترقب الفجر الآتي بعيون آملة، ولا بأس أن يكون على أطراف مدائنها مطاعم مقدسية وحلويات نابلسية وبيارات يافاوية وحصر غزاوية وأسواق من رام الله وفواكه أريحاوية،وعن يمين تلك المعالم بيانات وشروح تحكي كفاح أهل فلسطين وصمودهم،وتصل جهاد صلاح الدين بعز الدين القسام وأحمد ياسين وأطفال الحجارة وتذكر بالجرائم الآثمة التي اقترفها البغي الصهيوني، حتى لا تتعرض ذاكرة الأجيال إلى أشكال التزوير التاريخي التي تمارسها إسرائيل في كل مكان في الأرض.

إن ديزني التي يتم فيها الآن تزوير التاريخ لن تقدر على مواجهة دور كهذا الدور إذا نهضت به مكة عاصمة الإيمان في الدنيا، فلا مقارنة بين الأفواج اللاهية في ديزني لغرض التسلية والترفيه وبين الملايين الوافدة على مكة للعج والثج وتجديد العزيمة والتوبة والتزام المواقف الرسالية وتجديد الإيمان.

إن هذا المقترح بالتأكيد لا يشكل إفساداً لأجواء الحج الروحية التي نحرص عليها إذ هو ليس تغييراً في المناسك التي تتم الآن على أتم وجه، وإنما هو إحياء لمنافع الحج التي أمر الله سبحانه ببعثها وإحيائها في الحج والتي فهمها عرب الجاهلية قبل الإسلام حيث كانوا يعقدون أسواق عكاظ والمجنة وذي المجاز على هامش مناسك الحج ويتم فيها عفد التحالفات والتبادل الثقافي والتجاري، فيما لايزيد فهم حجاج اليوم لمنافع الحج عن شراء بعض البضائع و تهريبها أو تسويقها والانتفاع بها.

في الواقع كانت قناعتي بالمسؤولية الأخلاقية لمكة تجاه أختها القدس تلح علي دوماً أن أتحدث عنها، ولكن كان يصدني عن ذلك شعوري بحساسية هذه المسألة التي تأخذ عادة طابع تسييس الحج وهو ما تم رفضه بضراوة في الماضي، وكذلك سيطرة عقليات متحجرة على أعمال نسك الحج، ولكن بوسعي أن أقول الآن إن السعودية اليوم ليست كما كانت بالأمس، لقد كان وقوف القائد الأسد قبل أيام إلى جوار الأمير عبد الله على منصة الشرف في مطار دمشق الدولي رسالة تظهر تلاقي إرادة مكة ودمشق في تقديم وفاء حقيقي للقدس، وهو موقف له دلالته إذ كان من الممكن بروتوكولياً أن يقف إلى جانب الأمير نائب الرئيس، ولكنه كان موقفاً رامزاً منح من جديد للتضامن الإسلامي آمالاً جديدة واعدة.

إن من المنطقي أن يكون لفلسطين بانوراما في كل بلد عربي أو إسلامي، يتم من خلالها التوكيد على التاريخ الحق لتلك الأرض في مواجهة التزوير المتعمد للتاريخ، ومن البديهي أن أول ارض يجب أن تنهض بذلك هي أرض مكة، أرض القبلة الثانية وفاء مع أرض القبلة الأولى.

 

 

المقال العاشر: كل عيد هجرة وأنتم بخير                 تشرين العدد (): 4/4/2000م

 

كل عيد هجرة وأنتم بخير

 

اليوم يرتاح 804422 موظفاً سورياً في بيوتهم، ابتهاجاً بيوم الهجرة العظيم.

وهو عدد الموظفين السوريين وفق بيانات المكتب المركزي للإحصاء لعام 1988، وهو رقم لا يشتمل على العسكريين والعاملين في الرئاسة والقطاع المشترك.

فإذا كان متوسط الدخل اليومي للموظف 150 ليرة سورية فإن معنى ذلك أن الدولة تدفع نظرياً أكثر من 120 مليون ليرة سورية كل عام لإحياء ذكرى الهجرة ودلالاتها في النفوس، وتوكيد الانتماء والهوية في البلد.

ولكن هل يقوم الإعلام والتعليم والثقافة والأوقاف بالدور المطلوب لإحياء دلالات هذا الحدث الذي التقت إرادة الأمة على إحيائه؟

إن متابعة سريعة لبرامج الإذاعة والتلفزيون والصحافة المحلية تكشف لك مدى التجاهل المحير الذي نتعامل به مع تاريخنا وأمجادنا، وهو تجاهل لا مبرر له على الإطلاق بعد أن اختارت القيادة في سوريا اعتبار الهجرة مناسبة وطنية، وبعد أن أصدر السيد الرئيس توجيهه الواضح باعتماد التاريخ الهجري في سائر المعاملات الرسمية،تأكيداً على الهوية وتنويهاً بأهمية الحدث العظيم.

تكمن أهمية يوم الهجرة العظيم في أنه أول يوم يتحقق فيه للعرب قيام دولة القانون على أساس من الالتزام بالدستور الذي قدمته المدينة المنورة كأول وثيقة سياسية تحكم بموجبها الأمة وتنظم العلاقات التي كانت من قبل داشرة للخيارات العشائرية مما أتاح الفرصة للكيد اليهودي أن يمارس دوره التقليدي في استنزاف خيرات العرب.

ومع وصول النبي الكريم إلى يثرب التي سوف تسمى المدينة المنورة في إلماح ذي دلالة فإن أول دولة قانون في الجزيرة العربية أعلنت عن قيامها في ظلال حكم الثائر المجاهد الرسول الكريم الذي رفض الخضوع لأوثان قريش وإرادة سدنتها، ورفض الخضوع للهيمنة الرومية أو الفارسية التي كانت تتقاسم النفوذ في جزيرة العرب.

وفي قراءة سريعة للنجاحات التي تحققت للأمة في عامها الأول من حكم الرسول في المدينة فإننا نطرح في العادة إنجازات على صعيد الرسالة والدعوة وهو كذلك، ولكننا نشيح بوجهنا عن إصلاح كثير تحقق على المستوى المدني والاجتماعي.

مع وصوله إلى المدينة أعلن النبي الكريم عن أكبر خطة طموح من أجل الإصلاح الزراعي في المدينة وتحويل المدينة من مزرعة يديرها الربا اليهودي إلى أرض طَيْبة التي ستصبح إلى زماننا هذا أبرك أراضي الجزيرة العربية في إنتاج التمور، فقد شكل ما يمكن تسميته باللجنة العليا للتشجير،وعهد برئاستها إلى طلحة بن عبيد الله الذي قام بحفر سبعة وخمسين بئراً في المدينة،وتم لأول مرة إرواء المدينة المنورة عن طريق القنوات بدلاً من أسلوب الري بالنضح الذي كان يستغرق جهداً كبيراً ويحقق نتائج متواضعة،هكذا فقد تضاعفت المساحة الخضراء في المدينة على الرغم من المسؤوليات الكبرى والتحديات التي كانت تواجه الأمة.

وبعد ذلك أدخل الإصلاحات التشريعية المطلوبة للنهوض بالزراعة فشرع السَلَمَ والمزارعة والمساقاة،وأذن بالمحاقلة والمزابنة، وأنشأ نظام إحياء الموات وهو نظام فريد يتملك فيه المرء أي أرض ميتة بمجرد إحيائها بالزراعة من غير أي ثمن!

وفي إطار الخدمات تنبه النبي الكريم إلى الموهبة الفريدة التي كانت لدى الصحابي السوري الأصل تميم ابن أوس الداري الذي نور المسجد النبوي بالسرج ومنحه عدداً من المساعدين وشكل ما يمكن أن يسمى اللجنة العليا للإنارة وكلفه بتنفيذ مشروع إنارة طموح حيث أنار بالسرج عوالي المدينة المنورة،حتى أصبحت كأنها قطعة قمر،ولما تم إنجاز المشروع إياه كرمه الرسول الكريم كبطل إنتاج من الدرجة الأولى ثم قال لو كانت لي بنت لزوجتها تميم بن أوس الداري‍ ‍‍وهو لون من التكريم يفوق أي وصف،وبعد ذلك فإن النبي الكريم أقطع الداريين قطعة أرض كبيرة يستثمرونها وحط عنهم الخراج عشر سنين في تشجيع واضح للاستثمار فما زالوا تنمو أرزاقهم حتى أيام عمر حيث أعاد فرض الخراج عليهم، وهو وعي مبكر بمتطلبات الاستثمار في الدول النامية.

وفي الإطار السياسي فقد كانت الهجرة إيذاناً بقيام أول كيان عربي تام الاستقلال يقيم الدولة على أساس غير عشائري،وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان رجال الرسالة يضربون في كل وجه يحملون للآفاق رسالة الله ويبشرون بالإسلام الذي هو خلاص الإنسانية من إسار الفرقة والتشرذم.

إن قراءة عميقة في دلالات الهجرة العظيمة تكشف لنا أن التقويم بالتاريخ الهجري ليس محض رغبة تمييزية بقدر ما هو إحياء لمثل كبرى من مصلحة الأمة أن لا تغفل عنها أو تتجاهلها.

ومن المنطقي هنا أن تنتبه وزارة الأوقاف إلى ضرورة إحياء هذه المناسبة بالشكل اللائق بها،إذ هي بدن أدنى شك أولى بالإحياء من ليلة النصف من شعبان على سبيل المثال التي لا تحظى بإجماع كاف من المسلمين زيادة على أنها محل جدل كبير ليس هذا مكانه.

ومن المؤكد أن إعادة اعتبار التاريخ الهجري أداة تقويمية يتطلب ضرورة بعض الإصلاحات التي ترفع غائلة التردد في ثبوت الشهور عن طريق استخدام وسائل الرصد العلمية التي أصبح احتمال الخطأ فيها غير وارد بالمرة،وهو سؤال نطرحه برسم حراس القديم الذين يرون في كل تجديد لوناً من العبث والزندقة،وهو وهم يعود بالضرر أولاً على النص الذي يحرسون والتاريخ الذي يقدسون.

فهل ستجد المناسبة اعتبارها الحقيقي في المشهد الثقافي العربي أم سيعصف بها صخب المحطات الفضائية العربية التي تنتظر أيام العطل بالساعة والدقيقة لتطلق مذيعيها ومذيعاتها في الزقاق يتحركشون الناس ويتحدثون في كل شيء إلا عن الحدث العظيم؟

 

 

 

المقال الحادي عشر: أين ستقضي عطلة الجلاء             تشرين اليومي: العدد (7677): 17/4/2000م

 

أين ستقضي عطلة الجلاء

 

أحب أن يقرأ المواطن الكريم هذه الخواطر قبل عطلة الجلاء، فقد يقنعه هذا الاقتراح الذي سأقدمه حسبة لوجه الله تعالى ومن دون أن أكون مدفوعاً من أي من الشركات السياحية التي لها أساليبها الخاصة في إشغال أيام العطل الرسمية وغير الرسمية.

الناس تبحث عن مكان تذهب إليه في عطلة السابع عشر من نيسان، إن دلالات الحدث وذكرياته والربيع الأخضر الذي يلفه يجعل الذكرى أجمل وأكرم وأعذب وأغلى، ومن المنطقي أن نبحث عن أجمل مناطق الاصطياف في هذا اليوم الربيعي الجميل، إنه يوم الجلاء 17/نيسان، ذروة تفجر الينابيع في أرضنا الخيرة،عين الفيجة بالتأكيد مكان مميز حيث ترقب فيه تفجر النهر الذي لم نره كذلك منذ سنين، آخرون يفضلون الغوطة التي تملأ العينين منها مناظر الورد البديع.

ولكن أي هذه الروابي كان أوفى بنا من جبل الشيخ وهضبة الجولان ؟

اليوم يمر الجلاء للمرة الثالثة والثلاثين على الجولان الحبيب وهو تحت الاحتلال.

إخواننا في الجولان سيتجمعون عند الشريط الحدودي في موعد سنوي مهيب يعدونه بالساعة والدقيقة ليقولوا للقادمين من وراء الشباك نحن على العهد والوعد نحن سوريون وعرب ومهما طال الظلام فأمانينا بالعودة إلى أحضان الأم الوفية سوريا تتجدد كل يوم.

لا يموت الحق مهما لطمت عارضيه قبضة المغتصب

 

منذ سنوات نتجمع عند عين التينة ويغنينا سميح شقير هناك يا جولان ياللي ما تهون علينا، ويا زهر الرمان، يا زهر الرمان.

العشرات الذين يتجمعون عند شريط عين التينة يؤدون فرض كفاية عن هذه الأمة التي تعيش بمواجيدها وأشواقها فرح الجلاء وألقه.

ولكن لماذا لا يكون سيراننا المفضل يوم الجلاء إلى هذا الشريط ؟

لا أظن أن في جنوب سوريا مشاهد أكثر جمالاً في الربيع من أرض الجولان.

يمكن لشركات السياحة أن تنظم رحلات غبر عادية إلى الجولان، ولا شيء يمنع أن يتجمع عند الجولان مائة ألف سوري من المشتاقين إلى الحرية والعدالة والسلام.

إن مظاهرة لبضع عشرات من المستوطنين الذين يرفضون انسحاب إسرائيل من الجولان تملأ الإعلام العالمي و(العربي) أيضاً بالصخب حيث يقوم الأشرار الصهاينة أصحاب اللحى السوداء والقلوب الظلماء بتناوب الحديث عن المآسي التي ستعصف بهم إن خذلتهم حكومتهم وسلمت الجولان لسوريا!وهي أنشطة تثير في العادة حساسية خاصة لدى جماعة كوبنهاغن وأذنابهم من دعاة التطبيع الذين يرون أن باراك أيضاً يفرط بالسلام المنطقي الذي يجب أن يقوم على أساس عولمة المنطقة وفق قيم (الديمقراطي الإسرائيلي)، والخلاص من (الاستبداد العربي) ‍‍‍‍‍‍‍!.

فلماذا يكون الحضور على الضفة الأخرى لأرض الجولان الطاهر خجولاً إلى هذا الحد؟

لا شيء يمنع أن تكون رحلات المدارس في المحافظات الجنوبية على الأقل دمشق وريفها ودرعا والسويداء والقنيطرة إلى أرض الجولان في يوم الجلاء، خاصة وأن القيادة تعفي المواطنين من سائر الإجراءات يوم الجلاء مشاركة بهذا الحس الوطني النبيل.

لا شيء يمنع من صدور تعميم من وزارة التربية يدعو المدارس إلى القيام برحلة عيد الجلاء إلى مشارف عين التينة في الجولان وأن تشارك الطلائع والشبيبة بأعذب الأغاني لأهل الجولان الحبيب.

لا شيء يمنعك أنت من أن تسير بأولادك إلى تلك الأرض الطيبة يوم الجلاء فهي متعة ونزهة وإيقاظ لمواهب الوجد الكامنة، وبعث لأصدق المشاعر التي يحب كل أب أن تتفجر في نفس أبنائه وبناته.

عندما يجتمع هناك عدد مقنع من القانعين بالحق والراغبين بالسلام سيكون في انتظارهم بكل تأكيد عشرات المحطات الفضائية التي تنقل هذا الصوت الصادق في دعم معنوي كبير للصامدين خلف أسوار المظالم وللمفاوضين على موائد السلام.

جميلة جميلة أرض الجولان، وأراهن أنها منية أبنائنا وإخواننا في هذا اليوم وعلى ترابها قد تكون أمتع نزهاتنا وأفراحنا.

في الحديث الشريف أن المؤمن يؤجر في كل كبد رطبة، ولو أن تلقى أخاك بوجه باش، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وهكذا يكون المرء في طاعة وعبادة على الرغم من أنه يكون في أداء رغائب كثيرة هي له راحة ونزهة.

ووفق الحديث النبوي الشريف فهذا اللون من اللقاء يمكن أن يكون أحد مقاصد قول الرسول الكريم: هلموا إلى جهاد لا شوكة فيه.

رائع أن يكون يوم الجلاء لقاء عفوياً لأبناء سوريا الراغبين بأداء هذا اللون من الواجب لأرحامنا وأهلنا في الجولان الحبيب يسمعون حسنا وأشواقنا ونستمع إلى نداءاتهم وآهاتهم، ونشهد الأسلاك الشائكة والألغام المزروعة هناك بأعذارنا.

عند الشريط يجب أن يكون لقاء أبناء الوطن الذين يؤمنون بعروبة هذه الأرض، رجال الدين، القيادات السياسية، المنظمات الشعبية، الطلاب، الفنانون، رجال الإعلام من مختلف المحطات الصحف،الجميع يغني حماة الديار عليكم سلام.

هل تتمكن تشرين من حشد الألوف من أبناء هذا الوطن لتكون صيحة الحق أعلى وأعلى وأعلى.

إنها من عطايا الوفاء التي نقدمها لإخواننا الصابرين خلف شريط القهر الذين لم يستطع البغي الصهيوني المتسلط أن يسلب الهوية السورية من قلوبهم أو يدخل الهوية الصهيونية إلى جيوبهم.

بالمناسبة فإن المكان الوحيد الذي يمكن لأولادك أن يتمتعوا فيه برؤية الثلج يوم 17/4 هو سفوح جبل الشيخ الوقور وهو جبل يحبنا ونحبه.

 

المقال الثاني عشر: يوم الجلاء والحقائق الجلية                          تشرين اليومي: العدد (7693): 7/5/2000م

 

يوم الجلاء والحقائق الجلية

 

مع أن اسم الشهداء (المرجة) يتم تناسيه في الخطاب الإعلامي والصحافي لصالح اسم المرجة، أو مرجة الحشيش؛ فإنه لا يمكن لأي مثقف أن يمر بالمرجة من غير أن يتذكر بالاسم والصورة ملامح ثلاثة وعشرين بطلاً بالتمام والكمال بعمائمهم وطرابيشهم وشواربهم المفتولة وهم يحملون على كاهلهم هموم هذه الأمة، يتقدمون إلى أعواد المشانق بيقين، تملأ عيونهم رغائب الآخرة.. أليس هذا دليلاً آخر على أن الشهداء لا يموتون، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون!..

أرواحكم الطاهرة أيها الشهداء عبير جنة، تسعد بها الشام كل يوم، والتراب الذي وطأته أقدامكم ما زال مركز المدينة الخالدة رغم أنها توسعت عشر مرات وفاء لعيونكم البارقة وجباهكم الشامخة، وبردى العجوز مازال كل عام يأتي في موعدكم رغم ما جار به الدهر على منابعه وفاء لكم، وإخلاصاً لذكراكم.

وهنا فإني لا أكتب هذا المقال لتقرير التفاصيل التاريخية للحدث الجليل؛ فهذا أمر أتركه لرجال التاريخ.. وإنما أردت هنا أن أناقش الجانب المهموس الذي يتبناه فقه الظلام في جحود لأكبر أبطال الحرية العرب من المسلمين والمسيحيين، في هذا القرن في دمشق وبيروت؛ بغرض التركيز على مظهر واضح من مظاهر التضليل التاريخي الذي راحت ضحيته عدة أجيال حيث تمت ممارسة أشكال من الهوان والجحود مع أعظم رجال الأمة.

إن الصورة التي جهد في تصويرها المعادون للقومية هي أن هؤلاء الشهداء إنما كانوا صنيعة بريطانيا (مكماهون) وأنهم قاموا بأدوار معادية للإسلام حيث ساهموا في إلغاء الخلافة (الراشدة) !.. فكان ما عاقبهم به ولي الأمر (العادل) جمال باشا السفاح متناسباً مع (جريمتهم)!

هكذا يمضي هذا الهوان التاريخي يتبناه مدرسون (مضلخون) في قاعات الدرس، يرضعه أكثر من جيل بريء، يصرحون به في عواصم غافلة.. فيما قد يتهامسون همساً في بلد يتبنى وعياً قومياً مثل سورية!

فكيف يمكن السكوت على ضلال تاريخي كهذا الضلال؟!

إن تصوير الأماني القومية في مواجهة الأماني الإسلامية يعكس قصور نظر في كلتا النظرتين، يذكرك بالنكتة المشهورة: (هل أنت كردي أم مسلم؟).. فالواقع أن الإسلام قدم تاريخياً أعظم خدمة للأمة العربية حينما طرح اللغة العربية لغة للحضارة والثقافة، وهو ما يعني حكماً أنها أصبحت لغة العالم نحو ستة قرون.. والمشهد الثقافي للعالم الإسلامي اليوم كفيل بأن يفتح عيوننا على الحقائق المذهلة من الرصيد التاريخي الذي تحتفظ به الأمة العربية في قلوب العالم الإسلامي من المحيط إلى المحيط.. وبالمقابل فإن الأمة قدمت للإسلام خيرة شهدائها ورجالها في الفجر الإسلامي الأول.. ولا يمكن أن يتنكر لها منصف عاقل بعد ما تواتر من النصوص الشريفة عن النبي r في حب العرب. وهكذا فإنه يسوغ لنا أن نتساءل: بأي حق يوضع الوعي القومي في مواجهة أيديولوجية الإسلام؟

هذه الثورة العربية الكبرى انطلقت من مكة ضد الأستانة، يقودها رجل من آل محمد r ضد رجل من آل عثمان طغرل، وقودها أحرار شرفاء فيهم رجال دين وعلم وخدمة اجتماعية، على رؤوسهم عمائم وعلى شفاههم مصاحف وفي قلوبهم إيمان، يبتغون نصرة الإسلام كما يبتغون مجد العروبة.. ولم يكن وارداً عند مسلميهم ولا مسيحييهم الانفكاك من الحضارة الإسلامية.. وكدليل قريب على ذلك فقد جاؤوا بالشريف حسين على أنه مشروع خليفة يبايعونه على كتاب الذي هو في ضرورة متلازمة: الحرية والوحدة والعزة والكرامة.

أتمنى على المتحف الوطني في سورية أن يعلق في صدر قاعاته شهادة الأزهر الشريف للمجاهد الشهيد مسلم عابدين، وأن يضم إلى مقتنياته عمامة الشيخ الشهيد أحمد طيارة وعمامة الشيخ الشهيد عبد الحميد الزهراوي كشاهدي عدل على انبثاق هذه الثورة العربية من مقاصد الإسلام في الحرية والعدالة والاجتماعية.

أن الخلافة العثمانية التي كانت تعيش أيامها الأخيرة كانت أضعف من أن تحمي نفسها.. وكانت قد انتهت إلى محض غطاء رسمي لمكائد التتريك التي يقوم بها الاتحاديون الأتراك.. وليس ذلك محاباة من القدر لهذا الاتجاه الطوراني بل نتيجة استهتار وعبث استمرا قروناً؛ حيث عاش (الخلفاء) العثمانيون عشرات السنين في أجواء ألف ليلة وليلة من العبث والمجون.. فيما ترسف شعوبهم في المظالم والفقر والتخلف.

لقد كان التتريك الاتاتوركي قادماً لا محالة.. وعندما أعلن الرجل انتهاء الخلافة لم تجد هذه الأخيرة من يؤذن لها أو يصلي عليها.. وتم تشييعها إلى مثواها الأخير من دون أية مراسم جنائزية وقال لهم لسان الحال:

فابك كالنساء ملكاً مضاعاً           لم تحَافظ عليه مثل الرجـال

أنا لا أشك أن الخلافة الصورية (خلافة من؟) التي كانت تعيش النزع الأخير حينئذ كانت جاهزة لتصدق بخاتم الخلافة المهترئ على سائر انجازات أتاتورك بما فيها فرنجة الحروف التركية والأذان التركي، وفرض البرنيطة ومنع الطربوش والحجاب من دون أي هزة ضمير مقابل الاحتفاظ بالتشريفات الصورية التي كانت تتقلب فيها، كما صدقت على نصب أعواد المشانق وتشييد الخوازيق لمن يقاوم إرادة تركيا الطورانية في الهيمنة والنفوذ.. ولكن مصطفى كمال لم يجد فائدة حتى من هذا التأييد الشكلي الذي تجاوزته المرحلة منذ زمن بعيد..

هذا فإن متابعة بانورامية لتسلسل الأحداث هناك تستلزم رؤية نصب مشانق جديدة لأولئك الذين يرفضون أن يؤذنوا بالتركية أو يخلعوا عمائمهم باعتبار أنهم خارجون عن طاعة ولي الأمر العادل؛ سلطان الله في أرضه!.. ولست أدري حينئذ كيف سينظر فقه الظلام إلى هؤلاء الشهداء (البغاة) الذين يرفضون أن يصلوا خلف كل بر وفاجر، ويرفضون أن يدعوا على المنابر لأولئك الذين يضربون وجوههم وأبشارهم، ويأكلون أموالهم.

ومع ذلك فإن تقرير الحقائق الجلية في مرحلة سقوط الخلافة العثمانية لا ينبغي أن يحملنا على الجحود لموقف بالغ الأهمية، وقفه السلطان عبد الحميد في قصره المشهور في مقاومة الإغراء اليهودي، الذي كان حينئذ طامعاً في فلسطين عبر نفوذ يهود الدونمة في تركيا، حين قدم هرتزل أشد العروض إغراء لذلك المسكين في أيامه الأخيرة.. كذلك الموقف الإنقاذي الذي حققه السلاطنة واستهتارهم على الأمة العربية والإسلامية، وهو الأمر نفسه الذي نشير إليه.. فهذا الإنجاز الهائل الذي حققه مماليك مثل المظفر قطز وبيبرس في وجه المغول لا يشفع أبداً لأحفادهم من المستهترين الذين أصبحوا بعد نحو ثلاثة قرون علقة شقاء للشعب، يبدو معها لورنس العرب خلاصاً من ذل الهوان.

إننا نحني رؤوسنا لشهداء أيار مرتين: مرة للدماء الزكية التي بذلوها، وأخرى للجحود المريب الذي يتلقى به دعاة الظلام جهادهم واستشهادهم في سبيل الحق والكرامة والنور والتي هي بلا ريب في سبيل الله.

إن المدهش أن العثمانيين أنفسهم لم يجرؤوا على تسمية أنفسهم بالخلفاء واكتفوا باسم السلاطين.. فيما يطالب الشعوبيون اليوم بإحياء الخلافة (الراشدة) على النمط الأستاني!!

 

 

المقال الثالث عشر: خطبة الجمعة            تشرين الأسبوعي: العدد (111) السنة الثالثة: 15/5/2000م

 

خطبة الجمعة

 

المكتوب واضح من عنانه، والمقصود هو الإلحاح على نقل خطبة الجمعة تلفزيونياً.

يؤدي التوجيه الديني الذي تقوم به المؤسسات الدينية المختلفة التي تقوم في سوريا الدور الإيجابي البناء المطلوب منها، وقد أصبح من الواضح أن دور الدين في حياة الأمة آخذ في التجدر والتأكيد، وهو المعنى الذي أكده السيد الرئيس في أكثر من مناسبة بقوله: ستبقى راية الإسلام عالية خفاقة في هذا البلد.

لقد دخل العالم إلى القرن العشرين وإن المشهد الثقافي الغالب إلى الساحة الفكرية ينذر بأفول الدين تماماً من دائرة التأثير، وجاءت الأحداث المتلاحقة في النصف الأول من هذا القرن لتؤكد هذا التصور، وقامت كيانات عديدة في العالم تتعامل مع المشاعر الدينية تعاملها مع الرجل الواهن في خريف العمر، وكان هذا النغم يحظى بتأييد نسبي بين طلائع المثقفين في البلاد العربية وذلك في رد فعل مباشر على سياسات العثمانيين في المنطقة التي ارتبطت مباشرة بالتخلف والسقوط الحضاري مع إصرار عنيد على التحدث دائماً باسم الإسلام.

ولكن الأحداث التي ودَّعْنا بها القرن العشرين جاءت بعكس ما كان يتمنى فلاسفة الإلحاد، ومن خلال إطلالة سريعة يمكن القول إن الشعارات التي استقبل بها العالم القرن العشرين لا تكاد تشبه في شيء الشعارات التي توجه آماله في مطلع القرن الحادي والعشرين، ولم يعد الغرب ولا الشرق ينظر إلى الدين كمشكلة تشكل عائقاً في وجه التطور الحضاري بالحدية التي كانت قبل خمسين عاماً وبرز الإسلام كقوة سياسية كبرى في الأرض، ورسالته في التنمية الاجتماعية والحضارية ظاهرة واضحة.

ولكن مع تقرير هذه الحقيقة فهل يسوغ القول إن الخطاب الديني يستوفي اليوم شرائطه في الإقناع والبلاغ المبين بحيث لا ينقص سوى أن يقرأه الآخر ليدخل في أفق الخلاص الروحي بيقين؟ وهل ثمة إلحاح منطقي للدخول في التنوير نسيجاً فكرياً يرتكز عليه الخلاص؟

إن قراءة متأنية لهذا السؤال يحملك مباشرة إلى نتائج أقل ما يقال فيها إنها مخيبة للآمال، حيث يتم عرض كثير من المفاهيم الدينية بعقلية العصور الوسطى !!

إن رسالة التنوير التي انطلقت من مصر مطلع القرن العشرين على يد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لا تتجه اليوم في أي من البلاد العربية ذلك التوجه التي أطلقته تلك الحركة من التحرر والصلح الحقيقي بين العقل والدين بل يبدو هذا التيار التنويري اليوم محارباً على أوسع نطاق بحيث يدرس في كثير من المدارس الشرعية على أنه تيار كفر‍‍‍‍‍‍‍! ويمضي هذا الاتجاه ليجذر وجوده على أساس من المستندات النصية الظاهرية المحاطة بهالة الإرهاب الفكري إلى حد يجعل كثيرين من القائمين على الثقافة والتوجيه ينظرون إلى هذه المسألة على أنها كرة النار! وليس من مصلحة أحد تقحمها، وهكذا يصبح الرضا بالتخلف ضرورة للاستقرار والهمود وأهون الشرين‍ !!.

فكيف يمكن تجاوز هذه المحنة؟ وكيف يمكن للأمة أن تسترد دورها الحضاري على أساس من التجاوب مع الموروث التاريخي الذي حقق في الماضي أعظم ألق هذه الأمة ؟

لا تبدو فرص التنوير في عاصمة عربية متوافرة كما هي في دمشق، حيث يفرز الاستقرار الأمني والتنوع الفكري والاجتماعي فرصاً حقيقية لإحياء رسالة التنوير الهامدة في آفاق كثيرة اليوم، وبسبيل من ذلك يأتي دور سوريا التاريخي في رعاية العلوم الشرعية الأمر الذي جعل من سوريا محجاً لطلبة العلم الشرعي من مختلف أنحاء الأرض، ويجيء الموقف السوري الصامد في مفاوضات السلام ليحقق أوضح صورة التفاف بين الأمة والقائد، وهو يحظى بأوسع قاعدة من الاحترام لدى الشعوب العربية والإسلامية إلى حد يصبح الحديث عن الريادة الكبرى لسوريا في العالم الإسلامي واضحاً أكثر من أي وقت مضى. فإلى متى سنظل نتعامل مع المسألة الدينية بهذه القدر المفرط من الخطوط الحمراء الذي يكـلُّ هذه الطاقة الحيوية من كل فاعلية‍‍‍‍؟

إن تحييد الوعي بالمسألة الدينية من قبل المسؤولين عن التنوير يبدو غير مبرر بالمرة، ويعكس وهناً في فهم الطاقة الحيوية للدين في البناء الاجتماعي وهو المعنى الذي يمكن توظيفه بنبل وشرف في خدمة الوطن البلاد.

في أيام الجمعة يتوجه الملايين من أبناء وطننا إلى صلاة الجمعة في المساجد فيما يختار قسم كبير من المواطنين والمواطنات الجلوس أمام الشاشة الصغيرة لمتابعة هذه الساعة الإيمانية الرائعة، ولا نبالغ في شيء إذا قلنا إن أكثر من عشرة ملايين مواطن معنيون مباشرة بخطبة الجمعة، وهو رقم أكبر بكثير من المعنيين بأي قمة بوب في بلدنا الصامد ومن البديهي أن يتحول المشاهد من قناة إلى قناة ليتابع صلاة الجمعة، ولكن لن أبالغ إذا قلت لك إن النتائج تكون مخيبة للآمال، إذ لا يوجد لدى القائمين على أكثر المحطات العربية رسالة واضحة للتنوير، حيث يتم توفير المطلوب فنياً للنقل الصحيح لشعائر الجمعة من دون أي اهتمام بما يقرره رجل المنبر من خطاب قد يكون غاية في الظلامية والبعد عن الواقع، وهكذا تتحول خطبة الجمعة إلى محض طقس إلزامي، ليس له أي دور تنويري على الإطلاق.

إن من المؤكد أن المحطات الرسالية التي تتبنى فكراً في التنوير لا تتعدى أصابع اليد الواحدة من أصل اثنين وسبعين محطة فضائية عربية تنتشر في القمرين العربيين، وعدد مماثل من المحطات الأرضية، ولا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن سوريا قد تكون هي الدولة الأولى في الوعي برسالة الإعلام، بحيث لم يتورط إعلامنا في أي من حملات الترويج لثقافة الهزيمة، وبالتالي حافظ على رصانة تحظى باحترام بالغ في وسط يصخ أذنيك حتى الطرش بنماذج (ميشو شو)، و(بوب هوب) وأمثالها من البرامج التي تصرِّح عن نفسها كأداة مَسْخرة بكل وقاحة !!

تنقل إذاعة دمشق كل جمعة خطبة من أحد مساجد دمشق وتطوف بين الحين والمين في محافظات القطر للغرض ذاته، ولا شك أن هذا البرنامج أصبح جزءاً ثابتاً من تقاليد إذاعة دمشق وهو يؤدي دوراً طيباً في الحياة العامة، ويعيش الأحداث التي تمر بها الأمة متساوقاً مع كل حدث يذكر بالواجب الوطني والاجتماعي كل جمعة، ولم يحصل خلال عمر الإذاعة كله أن هذا البرنامج قدم أي معطى سلبي لصالح الوحدة الوطنية، ويجب التنويه هنا بما طرأ من تطوير في أداء خطبة الجمعة الإذاعية لصالح التنوير نظراً للإشراف المباشر للسيد وزير الأوقاف على هذا الجانب الحيوي من التوجيه.

فلماذا يُلزم المواطن السوري بتعقب مشاعر الجمعة من المحطات العربية والتي تكون بعيدة غاية البعد عن الواقع الذي نعايشه في اليلاد، ناهيك بما قد تحشد به تلك الخطب التقليدية من صيغ سلطانية ماضوية معادية للتنوير قد تسيء أكثر مما تحسن وتضر أكثر مما تنفع.

إني أعتقد أن نقل صلاة الجمعة كاملة عبر شاشة التلفزيون السوري على غرار ما تقوم به الإذاعة مطلب شعبي حقيقي، للناس في الداخل والخارج، وهو صورة لا غنى عنها نقدمها للآخرين عن تنامي الوعي بمقاصد الدين في هذا البلد، وهو تجاوب طبيعي مع الدور الريادي لسوريا على مستوى العالم الإسلامي، وهو أيضاً واجب رسالي ينبغي أن نقوم به للبلد والناس وفاء مع حركة التنوير.
المقال الرابع عشر: حماه مدينة أبي الفداء                   تشرين اليومي: العدد (7718): 7/6/2000م

 

حماة مدينة أبي الفداء

 

كنتُ في حماه عندما تجمع الناس للقاء ميشو شو، فهل كنت هناك؟

عندما كان تلفزيون المستقبل يهيئ للشعب الكريم هذه الأسطورة الفنية قبل سنوات كنت أقول في نفسي وهل ثمة مكان آخر يمكن أن يتألق فيه هذا اللون من الفن إلا (العصفورية) ؟!

يبدو أننا كنا حينئذ لا نعرف إلا القناة السورية الرتيبة التي لم تتورط حتى تاريخه بالإعلام المسخرة الذي يسوقه اليوم سماسرة الانحلال، ويبدو أننا لم نكن مطلعين بعد على الهوان الفني الذي انحدرت إليه الأذواق !

أن ينزل مقدم البرنامج على عامود ثم يتشقلب أمام الناس أو يقدم برنامجه وهو يتمرجح على رجليه أو يمزق قميصه أمام الجمهور أو يزعق ويحرد ويطبّ على بطنه ويرفع رجليه أمام الشاشة !، الأمر الذي دفع إحدى المحطات في حمى التنافس لتقدم مذيعها بثياب قرد له أنف أحمر كبير، وأذنان طويلتان، وذنب أنيق، ويخلق ما لا تعلمون !كل ذلك أمر لا يمكن تسميته بغير اصطلاح إعلام المسخرة!

ولكن المشهد كان مثيراً للحيرة، أن تشاهد أكثر من خمسة آلاف إنسان قرب قلعة حماة يطوفون حول ميشو شو ليرقبوا تصرفات هذا المذيع الهائج الفارغ تماماً من أي قيمة فنية، لا جلد ناعم ولا شكل حسن، فهل لذلك دلالة إلا همود الأشواق وفساد الأذواق ؟

فأي شيء يبتغيه أولئك الذين يشجعون هذه الظواهر الفلتانة ؟

إذا كان هذا هو مطلب الجمهور فهل يفترض أن نجاري رغائب الجمهور إذا بلغ الهوان الفني هذا الحد، أم إن علينا أن نحافظ على فنٍ عال يرقى إليه الناس بدل أن يهبط هو إليهم ؟

 

كانت ناديا خوست رائعة عندما نبهت إلى أن مصر أعادت إلى الأذهان أسطورة أم كلثوم حتى في عصر الفيديو كليب وأثبتت للناس أن الفن الأصيل لا يموت وبالإمكان إعادة الجماهير إلى ألقه من غير أن نتورط في إعلام الفضيحة إعلام الصراخ والجنون !

إني أعلم أن هذا النمط من الصراخ يجتذب كثيرين ومن وجهة نظري فإن الحدث يعكس مرض الجمهور أكثر مما يعكس مطالبهم، يكشف عن أزمة في الفن أكثر مما يعكس رغبة في المعالجة، من المؤكد أن الجمهور نفسه سيكون أكثر ابتهاجاً لو استمع إلى فيروز في المكان ذاته وهي تغني: يا قدس يا مدينة السلام، من أجل أطفال بلا منازل، من أجل من تشردوا، وإنني أصلي، أيكم لا تسيل دموعه وهو يستمع إلى تلك المشاعر الصادقة وهي ترسم الغيب الآتي لمجد شعب يرسف في المظالم والعذاب، فيما تمضي قيادته إلى واشنطن لتقبيل ما يمكن تقبيله من (خدود أولبرايت وكفها اليمنى واليسرى) أمام الكاميرا وأشياء أخرى وراء الكاميرا (الكندرة مثلاً!) خلافاً للعرف الدبلوماسي الذي يقتضي الحياء والخجل والأدب والحشمة! ودون أي مراعاة لمشاعر الشعب المسحوق بالمظالم الأمريكية حتى العظم إلى حد تغيير أمين عام أمم متحدة لمجرد أنه نشر تقرير (قانا) الغير لائق بالسمعة (الديمقراطية) لإسرائيل! ثم اتهام سوريا بالهروب من السلام لأنها تطالب بمياهها في الجولان!

 

إنني في الواقع لا زلت أشعر بالرضا كلما نظرت في برامج الفضائية السورية التي تلزم سبيلاً رصيناً من الأداء الإعلامي بحيث تلتمس الهدف الرسالي في أكثر البرامج ومع أن طائفة من أبناء (الوطن) لا تجد مبتغاها في برامج الشام فإنه ليس من المطلب أن نلبي كل الرغائب، وليبحث الصايعون عن رغائبهم عند غيرنا !

فهل يتعزز الصمود الذي يخوضه الوطن بهذه الظواهر السـائبة؟ وهل نحن مطالبون بالسقوط الفني مجاراة لرغائب الناس ؟

فيا أخي يا منظم هذه الاحتفالات، البلد بحاجة إلى غير هذا النمط من الفن، وعاصمة الأمويين لا زالت تصر على اللغة العربية لغة للفن المعرفة، ولا زالت تعيش حنينها الشرقي الدافئ، وتلتمس في الفن لوناً يليق بكرامتها وتاريخها وصمودها ومشاعرها ورسالتها.

أرجوك ارحم حماة يرحمك الله، فحماة وأنا أعرفها جيداً بحكم الرحم والمصاهرة، حماة هذه مدينة أبي الفداء، بلد ثقافة ومعرفة، شعراؤها وكتابها وأدباؤها ملئ سمع الدنيا، وهي تحتضن أكبر مراكز الإبداع والاختراع في سوريا، ولا وقت عندها لهذه ال….!!

بالتأكيد هناك عواصم تنتظر هذا اللون من الصخب لكن أرجو أن لا تكون عاصمة الصمود والتصدي على أجندة منظمي هذه الحفلات، فسوريا لها هم آخر، وهي تقدس الفن ولكن الفن الذي يجمل الحياة، ويبعث فيها الدفء والحنين، والحب والجمال، وليس ذلك الذي يختزل الهم الإنساني في مشروع (نكتة)، خاصة إذا كانت غير مضحكة.

قديماً قالوا: الفن الحق هو ما يبكي لا ما يضحك، وعندما أقول لك إن عيوناً كثيرة دمعت لمرأى هذا الهوان، فأنت تعلم جيداً أن سبباً آخر كان وراء هذه المدامع !

 

 

 

المقال الخامس عشر: جامع الرئيس حافظ الأسد          تشرين اليومي: العدد (7736): 27/6/2000م

 

جامع الرئيس حافظ الأسد

 

لو كان الراحل الكبير بيننا لوجب أن لا ننشر هذا المقال إلا بعد إطلاعه عليه، وأغلب الظن أنه لن يأذن بنشره، أما وقد أصبح اليوم في دار الحق فإن من حق التاريخ علينا أن نكشف بعض الصحائف التي اختار هو أن تبقى سراً بينه وبين ربه ذخراً يدخره للقاء مولاه.

والقصة هنا يتناقلها أبناء حي المزة بحماس كلما ورد ذكرها، وهي حكاية جامع السيد الرئيس حافظ الأسد.

هذا المسجد الذي يطل اليوم على ربوة دمشق، فوق النيرب الثاني لربوة دمشق مقابل قبة معاوية قبة السيار التي بناها معاوية، وكان يرتاح فيها ويراقب منها مدينة دمشق، وهكذا صارت قبة السيار وجامع الأسد معالم خالدة للربوة المكتنزة بالتاريخ التي ذكرها الله في القرآن الكريم بقوله: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين، وفي التفسير أن عبد الله بن عباس وجابر وسعيد بن المسيب قالوا هي الربوة التي بظاهر دمشق، فرت إليها مريم بولدها السيد المسيح حين خافت عليه مظالم اليهود.

عند تلك الربوة التي أوت إليها السيدة الطاهرة مريم كان العلامة الشيخ أحمد الطيب قد نزل أواخر القرن الماضي واختار هذا المكان الجميل أنساً لراحة نفسه وهدأة لقلبه، وكان يمضي نهاره في التأمل والتفكر، حول الرياض الناضرة التي كان الفارابي يبدع عندها علمه وفنه، قرب الصخرة المشهورة التي حرر عليها الفارابي أنغامه السبعة المجموعة بقولك (صنع بسحر).

وبعد جولة طيبة من العلم والمعرفة وخدمة الثقافة العلم أمضاها الشيخ الطيب مع زميله الشيخ طاهر الجزائري، نزل الرجل عند تلك الرابية الهادئة وحين أدركته المنية تخير له محبوه تلك البقعة الطيبة ليدفن فيها.

في الثمانينات راح أهل المحلة يفكرون بإنشاء مسجد في الربوة يلبي حاجة المنطقة التي كانت تتزايد باستمرار نظراً للنمو المطرد في السكان وهكذا تم اقتراح الفكرة وتم تخصيص قطعة أرض لبناء المسجد قرب قبر الشيخ الطيب، وبدأ السعي الحثيث لإنشاء المسجد على وجه لائق.

وعندما أوشك المسجد على الاكتمال، فوجئ الناس بما ليس في الحسبان، لقد تم بناء القصر الرئاسي على قمة الربوة وبدا أن الطريق الذي سيسلكه ضيوف الدولة إلى القصر سيمر من المسجد وهو أمر سيحول بالتأكيد دون إكمال المسجد، وتم بالفعل إيقاف بناء المسجد، على الرغم من المحاولات المستميتة للجنة المسجد وأهل الحي ظهر أنه لا فائدة من المحاولات لأن المسجد وفق تصور القائمين على تنفيذ القصر قائم في الطريق، ومن غير الوارد هندسياً أن يكون طريق القصر الجمهوري منحنياً (غير مستقيم) ولذلك لا بد من إزالة المسجد، وصدر من رئاسة الوزراء كتاب بإيقاف بناء المسجد، وهكذا مضت شهور طويلة والمسجد يرفع أركانه إلى السماء دون أدنى أمل في إتمام بنائه، وقدم المشرفون على تنفيذ الطريق أرضاً بديلة لا تناسب إقامة المسجد، وهكذا كانت قبة الشيخ الطيب الموعودة بالمسجد الجديد تتقاسمها الحيرة والأسى من ميعاد لم يتسن لها الفرح به.

بعد نحو سنتين من الأخذ والرد بدا وكأن المسألة لا حل لها لأن أحداً لا يملك الصلاحيات لتعديل طريق القصر الجمهوري، كما أن أحداً لا يملك الصلاحيات لإزالة مسجد هو قيد الإنشاء !!

وحين يشاء الله أن تنتهي تلك المعاناة تيسر للقائد الأسد لقاء مع بعض أعضاء غرفة التجارة بدمشق، ومع أن اللقاء مخصص للمسائل الاقتصادية فقد حمل الحاج تحسين الصفدي إضبارة كاملة حول مسألة جامع الشيخ الطيب، ووضعها بين يدي الرئيس القائد، مشفوعة بالآمال بعدله وبصيرته، وراح يبشر محبيه بأن الأمر قد أصبح الآن بين يدي الأسد وخلال أسابيع سيقول الأسد كلمته ويقترح حلاً مرضياً!

لم يكن أحد يتوقع، ولا حتى الحاج تحسين الصفدي نفسه أن يصدر القائد الأسد توجيهه بهذه السرعة وهو الذي اشتهر بالأناة والنفس الطويل، لم تمض ثمانية وأربعون ساعة حتى صدر توجيه القائد الأسد باستئناف بناء المسجد فوراً وفي نفس الموقع وتعديل طريق القصر الرئاسي بما يتناسب مع موقع المسجد وأن يتم ذلك كله على نفقة القصر الجمهوري!!

وحين قامت مئذنة المسجد في الربوة الطيبة تشق عنان السماء كان أهل المحلة في المساجد المجاورة يطالبون بشيء واحد وهو أن يسمى ذلك المسجد باسم مسجد الرئيس حافظ الأسد، وهو المعروف بأنه نادراً ما يلجاً إلى صلاحياته الاستثنائية ولكنه يومئذ لم يوفر لحظة واحدة في توجيه خطابه برغبته الأكيدة في رؤية المسجد عنواناً على قصره الكبير، في رسالة واضحة صريحة لكل ضيف زائر أن سوريا تعتز بالإسلام الذي هو مجد الأمجاد، أنها لا يمكن أبداً أن تخلع عباءة الإسلام.

ومنذ ذلك اليوم الذي تزامن تقريباً مع عملية السلام فإنه حين يحضر أصحاب الزيارات (المكوكية) إلى دمشق للقاء الأسد ويبدؤون طريق القصر الجمهوري من الربوة، يسلكون طريقاً منحنياً ليطوفوا حول تلك المئذنة الشامخة تبلغهم الرسالة الواضحة: هنا جامع الرئيس حافظ الأسد، إنه العنوان الذي اختاره الأسد ليعبر عن عنوان استراتيجيته في الحرب والسلام، موصولة بتاريخ المجد الذي تألق بالإسلام، في إرادة واضحة واعية شامخة كهذه المئذنة، شاملة كالقبة، صادحة كالمنبر، صادقة كقول الله أكبر !!

 

 

المقال السادس عشر: سورية المجد….        تشرين الأسبوعي: العدد (116) السنة الثالثة: 19/6/2000م

 

سورية المجد من صلاح الدين إلى حافظ الأسد

 

لم يخطر ببالي أبداً منذ بدات أكتب في تشرين أنني سأكتب يوماً كلاماً لا تقرؤه أنت أيها الأسد المجيد، أو أنني سأكتب عنك عبارة الرئيس الراحل، ولكن بكل مرارة أقول الآن أكتب وحدي، فلمن أكتب أيها الوعد الحق؟.

لقد كنت كلما كتبت مقالاً في التنوير والتجديد أقرأ فيه بعض رغائب الأسد يقرأ فيه آماله في الإصلاح والتجديد وهو الرجل الذي ما تعودنا أن نراه إلا ثورة دافقة بالخير والحب والعطاء، وكنت حين يبادلني الدكتور بشار بالمحبة والصلة أشعر بمعاني الرضا التي كانت تحملها إليه الكلمات الثائرة في رغبة التجديد والبناء في الأفق الديني خاصة الذي هو مجد هذه الأمة وألقها ووعدها الآتي.

بين يدي الآن تلك الصحائف الأخيرة التي سعدت بالحضور بين يديك تتحدث عن بعض همنا في معالجة التعصب والتزمت، وكم كنت كبيراًَ أيها الأسد عندما دفعت ذلك إلى قاعات القرار ليقول الوطن فيه ما يجب أن يكون من خيار الحفاظ على الوحدة والجماعة التي غرستها بيديك وسقيتها من ماء عينيك حتى صارت ظلاً يتفيؤه أبناء الوطن فيما يعيش آخرون في لظي نار التعصب المحرق وهوانه، والآن تمضي أنت أيها العزيز، نتمتع نحن بنعيم ما زرعته من روضة الإخاء الديني والوحدة الوطنية.

كيف يمكن للمرء أن يختصر الوطن وجراحه في سطور صحفية.. إنه المشهد نفسه من عين ديوار إلى مجدل شمس لوحة سوداء واحدة تلف كل شيء، تتخللها عيون حمراء دامعة، تقرأ فيها علائم الحزن والأسى والفجيعة، وهو المشهد نفسه يتكرر من جبال طوروس إلى جزر حوار ومن نواكشوط إلى جزر بوبيان، يشترك فيه الشرفاء أيضاً من أبناء العالم الإسلامي من جاكرتا إلى داكار الذين يرقبون أيام عزة الإسلام ومجده وهي الأيام التي ذكرتهم بها لأول مرة منذ صلاح الدين مواقف الثائر الأسد.

نفضت غبار تربك من يدي كفى حزناً بموتك ثم إني
وأنت اليوم أوعظ مني وكانت في حياتك لي عظات

كان أحمد بن حنبل إذا حاوره خصومه يقول: بيننا وبينكم الجنائز!

في الجنائز يقول الناس ما يعتقدون بحق، وتنزاح ستور كثيرة تحول بين الناس وبين درك الحقيقة، ويصبح المرء أمام مشهد الموت في ساعة الحق، ويقال كلام كانت الحياة لا تأذن له أن يقال، ولكن الأسد شهدت له العروش جميعاً وقال جنازته كلاماً كثيراً بملايين الألسنة الناضحة بالمحبة والوفاء، وله وحده اغترف الخصوم قبل الأصدقاء بأنه ظاهرة عصية على التكرار، ربما يكون القرن غنياً إذا سعد بواحد منها.

ليس ثمة كلام يمكن أن يقال إلا قاله المحبون لهذا القائد الكبير عبر العالم العربي طولاً وعرضاً، وعلى ذلك فإن القلم يدافعني لأكتب الكثير عن ظاهرة الأسد الشامخة، ظاهرة رجل شهد تغير العالم ولم يتغير، وحين التقته أمريكا في جنيف وهو في خريف العمر، ذهب يغالب آلامه وجراحه، ذهب وحده وليس معه اتحاد سوفييتي ولا منظومة شرقية ولا غربية، ولكنه كان يعلم جيداً أن معه جماهير الشرفاء من أبناء العالم العربي والأمة الإسلامية وهناك قال لوكيل العالم القوي في عصر العولمة: لا أتنازل عن شبر من الأرض! وفي جنيف سمع كلينتون الكلام الذي يظن أنه قد ولى مع الحرب الباردة وعلمت أمريكا حينئذ أن ثمة بقية في هذا العالم لا يبهرها بريق اليورو والدولار.

لقد عاد من جنيف مرفوع الجبين عالي الرأس، وكأنما كان جبينه في المجد روحاً دافقة جديدة دبت في أوصال المجاهدين في جنوب لبنان ليحطموا خلال أيام قليلة أسطورة البغي الصهيوني الذي لا يقهر وليقف أطفال الجنوب على الحدود الملغّمة يضربون بالحجارة والبيض تلك الرؤوس الذليلة للباغي الصهيوني الذي رحل مرغماً عن أرض العرب ولأول مرة من دون أي شيء على الإطلاق!

كنت بين يديه يوم التقيناه على مائدته العامرة عشية رمضان 1992ويعلم كل الذين استمعوه يومئذ كم كان الراحل الكبير يطرب في لقائه برجال الدين، حيث يبثهم أشواقه ومواجيده، ويختار لهم طرائف المواقف ويختارون له عيون الحكمة.

لقد ابتدأ خطابه يومها في الساعة الثامنة والنصف تقريباً ولكن الخطاب استمر متصلاً إلى الساعة الثانية عشرة والنصف ليلاً وهو يقلب القول في المسائل التي تشغل بال الناس حينذاك.

أما الإعلام الرسمي فقد اكتفى بتلخيص اللقاء الكبير في كليات واضحة تتخير رؤوس الأقلام مما قاله حينئذ، والآن أعتقد أن من الواجب ألا يكتم شيء من كلام ذلك القائد التاريخي الكبير.

لقد كان يقف من أفراد شعبه على مسافة واحدة، ولم يكن أحد يجرؤ على القول إنه أدنى إليه من الآخر، فقد كانوا جميعاً يسعدون بأخوته وبنوّته، أمر واحد كان لا يرضى فيه موقف حياد، وهو الإيمان، لقد كان يعتز بإيمانه حتى العظم

قال: سألني أكثر من رئيس عربي لماذا تحضر بنفسك احتفال المولد النبوي الشريف؟ كان بالإمكان أن ينوب عنك من يمثلك في هذا الاحتفال فأنت ذو مسؤوليات كثيرة والشعب يعذرك؟ ولكن جواب الأسد كان بطريقة غير متوقعة، قال: لقد كان ممكناً ولكن أردت أن يعلم الشعب هنا أن الرسول محمد هو مبتدأ مجد هذه الأمة وحين يشاهد الناس رئيسهم في احتفال المولد فإنهم يعلمون حينئذ أن لهذه الأمة أصولاً ومثلاً علياً، إنها بدأت مجدها من اللحظة التي أعلنت وحدتها وجماعتها تحت راية النبي العربي محمد r وبقدر يقينه وثقته ومجد الإسلام وعزته فقد كان واثقاً من الآتي من الأيام ولم يكن يشك للحظة في أن قدر الرسالة الخالدة التي تنتظرها الأمة إنما هو قراءة موصولة للماضي بالحاضر والمستقبل.

أيها المجيد:

أنا أعلم كم يذكرك المجاهدون ذخراً وأجراً، حين تولت الحكومات العربية فتحي الشقاقي بالشقاق ضممته في دمشق، وحين تنكر العرب للثورة الفلسطينية لم تجد أفقها إلا في دمشقك أنت، وحدها دمشق يصدح منها صوت فلسطين عبر إذاعة القدس الباقية حتى في زمن أوسلو واستوكهولم، وليس ثمة فضاء عربي يتحدث اليوم عن سماء فلسطين حرة تامة إلا في دمشق الأسد، وحين مضى المجاهدون في لبنان إلى ساحات المجد لم يكن ثمة من أفق عربي لهم إلا في سماء سورية التي يرعاها الأسد.

أيها المجيد:

ليس لنا أن ننازع أهلك في القرداحة في أن يضم ترابها مجدك، ولكن الشام كل الشام تستحق بقية منك، من ندى كفيك، من إشراقة وجهك، من شموخ جبينك الذي يرتسم عليه مجد العرب، فهل تسعد الشام بمتحف الأسد؟

نحن ممتنون لجبل اللاذقية الأشم الذي خصنا بك في الحياة وندرك أن من حقه أن يضمك بعدئذ جدثاً باراً طيباً بعد الموت.

هل نصدق نحن الذين فتحنا عيوننا على الدنيا ولا نعرف في سماء الشام إلا القائد الأسد، هل نصدق الآن أن هذا أن هذا القائد قد رحل؟ أين ستمضي آمالنا بعدئذ، وفيم ستتعلق أمانينا؟ ولكن وحدها إرادة الله لا تغالب ولا راد لقضاء الله.

ولكن في الملامح الواعدة التي ترتسم على جبين الغد بشار، عوض من ذلك التراث الكبير الذي نودعه، لسنا أول من اكتشف الخبيئة الواعدة في هذا الفتى، لقد شاركنا في ذلك حكماء العالم، الذين لم يترددوا في أنهم يقابلون نسخة أخرى من القائد الأسد في ملامح شبابه وعنفوانه.

إلى الخلد أيها الوعد الحق، إنها الفترة الأطول في استقرار دمشق الشام عبر تاريخها، إلى جوار حكام دمشق الأقوياء أنت رابع أربعة عبد الملك بن مروان، ثم نور الدين الشهيد، ثم صلاح الدين الأيوبي، والآن حافظ الأسد.

 

 

المقال السابع عشر: من هو أهم رجل في التاريخ؟        تشرين الأسبوعي: العدد (126): 29/8/2000م

 

من هو أهم رجل في التاريخ

 

عندما تسأل مجموعة من الناس من هو أهم رجل في التاريخ؟ فإن هذا السؤال قد يأخذ أوجهاً مختلفة واحتمالات متعددة تبعاً لثقافة المسؤولين ومطالعاتهم، وسيتغير الجواب بشكل طبيعي كلما تحولت به من أفق إلى أفق.

وإذا تصورت أن هذا السؤال سيطرح عبر الإنترنت من جهة إعلامية أمريكية متخصصة، وباللغة الإنكليزية فإن احتمالات ورود اسم عربي ما على أنه أهم شخصية في التاريخ تتضاءل كثيراً نظراً لضعفنا المزمن عموماً في دراسة اللغة، وقصورنا عن اللحاق بركب التكنولوجيا الحديثة، ومن المؤكد أن مستعملي الإنترنت في العالم الذين يقارب عددهم مائة مليون إنسان في العالم فيهم عدد محدود من العرب لا يزيد عن ثلاثة ملايين عربي وربما ضعف ذلك من المسلمين غير العرب.

وهكذا فإن أقل من عشرة بالمائة من مستخدمي الإنترنت هم نظرياً على صلة اتباع مباشرة بالنبي الكريمr.

ولكن النتيجة الدقيقة لأهم استفتاء يتم على الإنترنت تقودك إلى نتائج مذهلة‍ ‍!

والذي يميز هذه المرة هو أن الاستطلاع الذي أضعه بين يديك قد يكون أكبر استطلاع رأي عام تنشره مؤسسة إعلامية كبرى حول منزلة نبي الإسلام.

فقد بدا للمؤسسة الإعلامية العملاقة التي أسسها بيل جيتس أغنى رجل في العالم عبر ما صار يعرف باسمMSNBC أن تدعو بحماس لإجراء أكبر استفتاء عالمي من نوعه على شبكة الإنترنت، يتضمن سؤالاً واحداً: من هو أهم رجل في تاريخ العالم؟ أو بالترجمة الدقيقة: من هم الأشخاص الذين صنعوا الألفية.

تم إعداد الاستفتاء بحيث يشارك به أكبر عدد من مستخدمي شبكة الإنترنت، واتخذت الإجراءات الإلكترونية التي تضمن نزاهة الاستفتاء بحيث لا يمكن لمشترك أن يصوت أكثر من مرة ونشرت في وسائل الإعلام مئات الوصلات التي تحملك مباشرة إلى موقع الاستفتاء، ويمكنك الآن أن تشارك في هذا الاستفتاء الذي تجاوز عدد المشاركين فيه مئات الألوف في موقع www.msnbc.com/modules/Millennium

حيث تم اختيار نحو عشرين شخصية في التاريخ مثل: الأنبياء الكرام موسى وعيسى ومحمد وزعماء دينيين آخرين مثل بوذا وكونفوشيوس وجون كالفن ومارتن لوثر والأم تيريزا وجوزيف سميث

والآن يمكنك أن تفتح الموقع وتصوّت وفق قناعتك ومباشرة سيقدم لك الحاسوب النتيجة المذهلة وهي أن النبي محمد تم اختياره كأعظم شخصية في التاريخ من قبل 82% من الناخبين فيما توزعت خيارات 18% بالمائة من الناخبين على باقي شخصيات التاريخ !!

وأذكر هنا بما قدمت به أن الشريحة التي انتخبت هنا ينتمي 90% منها على الأقل إلى غير الأمة العربية والإسلامية !!

إن موقع msnbc لا يمكن اتهامه على الإطلاق بأنه منحاز إلى العرب أو أنه متعاطف مع الأصولية الإسلامية، وليس المطلوب هنا أن نتبادل صيحات الإكبار والإعجاب بقدر ما يتطلب هذا الإعلان وعياً بالرسالة الكبرى التي ينبغي أن ننهض بها ونحن نبحث عن موقعنا تحت الشمس.

إن ما يرسمه الإعلام الصهيوني من صورة ظالمة للعرب والإسلام وهو ما يعاون على تقريره الخطاب المتهور لبعض الحركات الأصولية المتحمسة يبدو أنه ليس كذلك في الواقع العملي في إطار رؤية النخبة التي تمتلك وسائل المعرفة والتكنولوجيا والتي علمها الحاسوب أن تحاكم الأمور بالمعايير الموضوعية، والتي تؤمن بقيمة الإنسان وفق ما يقدمه للبشرية من نور وخير.

إن ليبرمان المرشح الديمقراطي اليهودي لمنصب نائب الرئيس الأمريكي، أجاب ببرود عن سؤال صحفي حول تأثير تديّنه على قراراته السياسية في دعم إسرائيل بقوله: إن أمريكا كلها تؤيد إسرائيل !! ولولا العيب والحياء لقال إن العالم كله يؤيد إسرائيل !!

ولكن مثل هذا الإحصاء الذي يشارك فيه عادة المثقفون والمهتمون يقول غير ذلك، ويحملنا على التفكير بجدية: هل تعكس المواقف الأمريكية المنحازة ضد العرب حقيقة ما يؤمن به المثقفون في أمريكا؟ أم هي نتيجة الطوشة الإعلامية التي تدار في أمريكا بماكينة يهودية احترافية قد يكون ليبرمان نفسه أحد أدواتها ؟

إن الرصيد الكبير الذي منحنا إياه النبي الكريم على المستوى الحضاري والذي يتبادل رجال الفكر تقريره والثناء عليه اليوم، يضعنا مباشرة أمام المسؤولية التاريخية في رعاية هذا التراث الخالد الذي انبثق مع فجر الرسالة.

فهل الخطاب الإسلامي الذي ننتظره اليوم مهيأ للوعي بمتطلبات المرحلة القادمة من طرح العالم الإسلامي كبديل حقيقي واقعي لنظام العولمة الأمريكي الذي يتحرك في فضاء لا يبدو له فيه- من الناحية العملية- أي منافس واضح ؟

 

المقال الثامن عشر: عوفاديا….                 تشرين الأسبوعي: العدد (127) السنة الثالثة: 5/9/2000م

 

عوفاديا وأسطورة الشعب المختار

 

لم أكتب هذا المقال في إطار حوار موضوعي نعالج فيه القضايا على الأسس العلمية، ولكن سأحكي لك بالتفصيل ما فعلته يوم السبت الماضي يوم نقلت لنا وسائل الإعلام تصريحات الحاخام عوفاديا يوسف حاخام حركة شاس ومرجعها الروحي.

لقد قرأت على موقع MBC تفاصيل إعلان عوفاديا يوسف المثير للخجل والسخرية والحنق وفيه يصرح بأن الرب نادم على خلق الفلسطينيين استناداً إلى نصوص من التلمود الذي يعكس في الواقع العقلية الخرافية التي تتحكم في سلوك اليهود إلى زماننا هذا.

وبدلاً من مناقشة الأمر من الناحية الموضوعية وجدت نفسي أوجه هذه الرسالة إلى موقع MBC رجاء نقلها إلى المدعو عوفاديا يوسف:

إن التلمود الذي تستند إليه في تقرير ندم الرب من خلق الفلسطينيين ليس في الواقع إلا شرحاً غير متفق عليه لنص التوراة، والآن اسمح لي أن أنقل ما قاله النص التوراتي الأصلي في تقرير ندم الرب من خلق اليهود.

سفر الخروج ص 344: (وقال الرب لموسى قد رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة فاتركني يا موسى ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم فأصيرك شعباً عظيماً، وهنا قال موسى للرب: لا يا رب، لماذا يتحدث المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الصحراء! ارجع يا رب عن حمو غضبك واندم على الشر الذي قلت أنك تفعله بشعبك، فرجع الرب عن حموّ غضبه وندم على الشر الذي قال أنه يفعله بشعبه).

وهكذا، فإذا كان ندم الرب على خلقه لبني إسماعيل وارداً بدليل ظني فإن ندمه وحنقه من خلق بني إسرائيل وارد بالدليل القطعي!

بالتأكيد ليس في أي من النصين ما يشم منه رائحة المقدس، ولكن أحببت أن أعملها “لعب عيال” على حد قول المثل: إذا جن ربعك ما عاد ينفعك عقلك!

أما نقل هذا التصريح العنصري السادي، فإنه لا يثير لدى العارفين أي غرابة فالرجل يعكس حقيقة الأساطير المؤسِّسة للكيان الصهيوني، وهو ما يحكم في الواقع أكثر قرارات القوم بدءاً من الكنيست مروراً بمواقع اتخاذ القرار المختلفة في الكيان الهجين ولكن الذي يثير السخرية والحيرة هو إصرار وسائل إعلامية مختلفة على تسمية إسرائيل بأنها دوحة الديمقراطية الهادئة في الشرق الأوسط.

والسؤال الذي يلح هنا هو ماذا لو افترضنا أن باحثاً أو مفكراً طرح هذه المسألة بالعنوان التالي: أن الرب نادم على خلق اليهود وأنهم أفاع سامة يجب التخلص منها؟ وهو سؤال لا يختلف في شيء عن الطرح الحاخامي المصرح به، وله دليله من النص التوراتي الذي قدمناه.

لا شك أن النتيجة المؤكدة لهذا الموقف ستكون تحت قباب تلك المحاكم (النزيهة)! التي ستنعقد بأسرع ما يمكن في محاولات محمومة لمكافحة اللاسامية، والدفاع عن الشعوب المضطهدة في الأرض!

بالتأكيد أن تصريحات روجيه غارودي التي شكك فيها بأرقام الهولوكوست (المحرقة النازية) لم تبلغ شيئاً من مستوى إسفاف عوفاديا ولكن المحاكم (النزيهة) في الغرب لم تتردد في إجراء المحاكمة السريعة للمفكر الذي حقق أمجاداً متعددة لفرنسا، وانتهى به المقام إلى الحكم بالسجن والغرامات المالية.

أليس من المفترض لآن أن تتسابق المحاكم الغربية لتنظيم محاكمة عادلة للحاخام وآرائه العنصرية؟ حيث يطرح بكل وضوح على أبواب القرن الحادي والعشرين صيغ الجنون التوراتي المعادي في العمق لكل أشكال المساواة والديمقراطية.

لدي اقتراح: إذا لم تكن هذه الأسباب العنصرية التي أثارها الحاخام كافية للمحاكمة فإني أذكر هذه المحاكم (الجليلة) بأن عوفاديا لم يشكك بأن المحرقة فحسب بل شكك بأن المحرقة نفسها لم تكن عملاً خاطئاً بل كانت تطهيراً ضرورياُ للخطايا التي ارتكبها اليهودي التائه! وهذا فقط الذي أثار غضب الشارع في (واحة الديمقراطية) في الشرق الأوسط.

أما الكلام الذي قاله عو فاديا ولا غبار عليه فهو تساؤله المشروع: كيف يمكن –وهذه هي الحال- أن تتم إقامة أي سلام بين العرب وإسرائيل؟

وما هي التأويلات التي سيقدمها دعاة التطبيع في سبيل تبرير ما أفصح عنه عوفاديا، وهل سيمضون كالعادة إلى تحميل (هياج) الشارع الإسلامي مسؤولية تعثر المفاوضات، وإحراج صديق العرب (الودود) باراك؟

 

 

المقال التاسع عشر: فلسطين والوعد الحق         تشرين الأسبوعي: العدد (132) السنة الثالثة: 5/10/2000م

 

فلسطين والوعد الحق

 

إلى أين يمضي قدر هذا الفلسطيني الثائر؟

تبدو المرحلة التي يشهدها الشعب الفلسطيني اليوم الأكثر عنفاً منذ سنوات عدة وهي مظهر من مظاهر القضية الملتهبة التي يبدو أنها ليست وشيكة الحسم.

ماذا فعلت زيارة شارون ومعه أكثر من ألف عنصر من رجال الأمن الصهيوني إلى قدس الأقداس في باحة المسجد الأقصى؟

هل يدرك العرب أن الرجل جاء ليقول بملئ فيه إن الحرب قادمة _ وقد جاءت_ وأن القوة وحدها هي الخصم والحكم في ذلك الصراع المرير الذي يبدو ظاهرياً أنه يحسم على طاولة المفاوضات.

وهل قرأ دعاة التطبيع العرب الرسالة كاملة، ليدركوا أن الحديث عن السلام القادم ليس إلا طبخة بحص في حمى هذا الصراع المجنون الذي تديره آلة الحرب المتغطرسة.

وهل يقنعهم مشهد الطفل خالد الدرة الذي شاء القدر أن يسطره أمام أعين العالم بالتمام والكمال، وهو يمضي إلى عالم الحق عبر شهية الصهاينة المفترسة للموت، هل يقنعهم ذلك بأن الطرف الآخر على مائدة المفاوضات غير موجود بالمرة، وأنه لا يجالسك إلا حين يكون في يدك شيء يلتهمه، ليأكل الطعم و…على السنارة!!

على الرغم من أنها قناعتي القديمة ولكن لم أكن أتصور أن باراك سيسكت على حماقة شارون عدوه السياسي اللدود، وتوقعت أنه سيندد بهذا الاستفزاز المكشوف والمحرج لأصدقائه الفلسطينيين، وأنها ستكون ورقة رابحة في يده ليكسب بها عطف الشارع الإسرائيلي الذي (يحب السلام)، ولكن النتائج كانت على العكس تماماً، لقد ظهر أن حمام الدم الذي أراقه شارون هو المطلوب بعينه، وهو الذي يمنحه تأييد الشارع الإسرائيلي ال(محب للسلام) وبدلاً من تفجر أزمة سياسية داخل إسرائيل، بسبب إصرار الليكود على تخريب عملية السلام، فإن باراك إضافة إلى عناصر الجيش المدججة بالسلاح التي منحها لشارون في زيارته أنزل صواريخه ودباباته وطائراته في المعركة في وجه الشعب الأعزل، من دون أي كلمة اعتراض على موقف عدوه السياسي الذي فجر الأزمة عن عمد وتصميم!

إن ما ينبغي أن لا ننساه هنا أبداً هو أن كلاً من الرجلين يرتكب جرائمه ويتوجه إلى الناخب الإسرائيلي، وهذا يعني لك بوضوح أن هناك شعباً يكرهنا! شعب كامل جاء من شتات الأرض وليس إدارة سياسية مؤقتة!، شعب يمنح أصواته لأكثر قادته ولوغاً في الدم العربي، وتغدو هنا دماء الأطفال والشيوخ والنساء فطيراً لدم صهيون، حقيقة يشترك في إقناعك بها الصوت والصورة بالوجه المفضوح!

إن كثيراً من صنجات العرب تتهيأ لمعزوفة السلام ولكن تبدو الأحداث التي تملأ العيان اليوم تحملك على اعتقاد آخر…

في عام 1899 أي قبل مائة عام بالتمام والكمال عقد في ألمانيا مؤتمر دولي ترحيباً بقدوم القرن العشرين، وتناوب قادة أوربا الحديث عن القرن القادم وأنه سيشهد تحول الإنسان إلى أفق حضاري تام وأن القرن العشرين هو عصر التكنولوجيا والتقدم والكهرباء والفضاء، وأن الحروب ستنتهي من الأرض وأن المدافع ستتحول إلى مداخن مصانع وأن الدبابات والبنادق ستوضع في المتاحف وسيعم السلام ربوع الأرض وسيرعى(الذئب مع الغنم) وسترعى (الأفاعي مع الأرانب) وسينتهي كل شر في الأرض، لقد كانت أحلاماً بهيجة ولكن ماذا كانت النتيجة؟

جاء القرن العشرون أكثر مما توقعوه في التكنولوجيا والمعرفة، ولكن ماذا عن أطماع الإنسان؟ لقد احترق العالم كله، ولا يعرف في تاريخ البشرية عصر أكثر سوءاً من القرن العشرين، خربان عالميتان حصدتا تسعين مليون قتيل ومعاق وأكثر من مائة حرب إقليمية،

واليوم على أبواب قرن جديد لا يبدو أن الآتي أقل سوءاً، لقد ودعنا القرن الماضي بحروب البلقان واستقبلنا القرن الجديد بمأساة السلام المتصدع في فلسطين، ومشاهد القتل والتدمير التي تمارسها الآلة الصهيونية المجنونة تذكرك أبشع ما كان يرتكبه الإنسان من جرائم عبر تاريخه الطويل.

إن ما كتب ويكتب في الشأن الفلسطيني لا يمكن أن يكون أبلغ مما تشاهده العيون كل يوم من مواقع الفظائع التي يصعب تصديقها بالخبر ويصعب تكذيبها بالعيان.

والرسالة التي نأمل أن توصلها الانتفاضة الجديدة هي أنه لا سلام مع المحتل، وهي نداء للمهرولين من دعاة التطبيع العرب أن تكون لهم وقفة مجد أمام شعوبهم فيبادروا إلى قطع سائر العلاقات التي أقاموها مع العدو ونعود بالأمور إلى نقطة البداية، إلى الذكريات التي كنا نشعر بها ونحن نقتطع من رواتبنا للمجهود الحربي، ونصبر على فقرنا وجوعنا لأننا دول مواجهة في انتظار اليوم الذي يناديك فيه الواجب إلى اللغة الوحيدة التي تفهم بها إسرائيل لغة الدم!!

 

المقال الثامن عشر: غارودي أمريكا       تشرين الأسبوعي: العدد (133) السنة الثالثة: 17/11/2000م

 

غارودي أمريكا

 

 

عندما تدخل إلى مكتبه في لوس أنجلوس ستشعر مباشرة كما لو كنت تختصر الجغرافيا وتدخل إلى فلسطين مباشرة، أو على أقل تقدير إلى سفارة فلسطين في العالم الغربي!

على يمين أورانج تاون حيث تقع الكنيسة الكريستالية ربما أعجب مبنى ديني في أمريكا، ستدخل إلى حجرة ذات نكهة خاصة إنها مكتب ويليام بيكر (غارودي أمريكا) الصوت الصارخ في البرية يصدح: (ولكن الحق الفلسطيني لا يمكن أن يطمسه الحقد الأعمى).

أستاذ التاريخ القديم في جامعة أكسفورد وعضو بارز في عدة هيئات علمية في العالم الغربي، لا يلبس الكوفية العربية ولا يعفو لحيته ولا يبرم شنبه، ولا يتقن اللغة العربية، ولكنه يتقن الوعي بالقضية العربية الكبرى، ويعرف كيف يدافع عن الحق العربي من منبر الشرفاء.

عدة مرات تعرض للقتل من قبل جمعيات يهودية متطرفة، ولكنه مع ذلك لا يزال يملأ جدران مكتبه الفاخر بصور المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وبين أركان الحجرة ستجد الكوفية الفلسطينية والعقال وصورة له مع الشيخ أحمد ياسين، ومع خالد مشعل وحسن نصر الله ورموز أخرى في الكفاح الفلسطيني.

في كتابه الأول the theft of a nation (سرقة وطن) يتحدث بيكر عن الكيد اليهودي المستمر الماضي إلى تزوير التاريخ والجغرافيا، والدعوة اليهودية إلى مجتمع الحقد والكراهية، ويجيد التفريق بين الموسوية كدين وبين السلوك العدواني الذي تمارسه الصهيونية العالمية، وكيف تمكنت من تضليل الرأي العام الأمريكي عدة عقود بتصوير الصهاينة في موقع الضحية والفلسطيني في موقع الجلاد.

كتابه الثاني بعنوان وادي الموت كتبه بعد عدة زيارات ميدانية لمنطقة جامو وكشمير وهو يتضمن رؤية محايدة للصراع في كشمير وهو حافل بصور التقطها شخصياً لمشاهد مذهلة من فظائع ما يجري في كشمير وما يفعله الحقد الهندوسي التعصب بدعاة التحرر في كشمير.

وفي كتابه الجديد (more in common than you think) ترجمته: (الأمور المشتركة أكثر مما تعتقد) يتناول بيكر الجانب الفكري من تيار التسامح في المسيحية والإسلام متجاوزاً الرؤى السياسية المختلفة، ومؤكداً على تعزيز الجوانب المشتركة التي جاءت الشريعتان بتوكيدها، فالعقيدة الإسلامية والعقيدة المسيحية جاءتا لتقرير عبادة الإله الواحد، و(الله) أو (God) هما في الواقع تقرير للإله الواحد الخالق للكون المدبر لأمره وحكمه، وهو بذلك ينسف الفكرة التي يروج لها الإعلام الحاقد في أن المسلمين يعبدون إلهاً آخر خاصاً بهم، ثم يتحدث عن انتشار الإسلام في الأرض مؤكداً بطلان الفكرة الشائعة بأن الإسلام انتشر بقوة السيف، ومؤكداً على حقيقة أن الإسلام مشتق من جذر عربي هو (سلم) وهي تتضمن معنيين اثنين: السلام بين الناس، الاستسلام لحكم الله وأمره، وكلا المعنيين أبعد ما يكون عن التصوير الظالم الذي يتبناه الإعلام الصهيوني المسيطر في الغرب، والذي يروج فرية انتشار الإسلام بقوة السلاح بين الناس.

ويمضي بيكر إلى التأكيد بأن أركان الإسلام الخمسة من الشهادتين والصلاة والصيام والزكاة والحج هي في الواقع أمور تستحق الاحترام، وينبغي أن يتفهمها الوعي الغربي في دراسة الأديان المقارنة.

ولا ينسى الؤلف أن يشير في مقدمة كتابه إلى الدور المحدود لهذه الدراسة فهي ليست وافية مستوعبة بل هي محض توضيحات هامة للنقاط التي تم تشويهها عن عمد في الإسلام، وإيراد للحجج المقنعة في رد هذه التهم.

وهكذا يبدو بيكر واحداً من الذين كرسوا حياتهم لنصرة القضايا العربية والإسلامية بالمجان، بعد أن أدركوا عدالة القضية، وحجم التآمر الدولي على قضايا العرب والمسلمين.

إنه صديق آخر لقضايانا يتحدث بالصوت المسموع في بلد الإعلام اليهودي، وقد تعرض لعدة محاولات اغتيال عبر خطابات متفجرة ويرى أن جهاده يبدو صغيراً بالنظر إلى جهاد أطفال الحجارة الذين يعتز بأنه يعلق صورهم في مكتبه في إشارة ذات دلالة واضحة لدور أطفال الحجارة في ضمير العالم.

إنه غارودي آخر من أمريكا هذه المرة، ولكن هل يعرف العرب أصدقاءهم في هذا العالم؟ أم أن فتاوى تيار التعصب والتزمت ستكون جاهزة لاستقباله بالتبديع والتضليل والتفسيق كما فعلت بغارودي من قبل بحجة حلق اللحية، أو مقاومة الظاهرية، أو عدم إعلانه للولاء والبراء، أو تجاوز بعض الروايات التي لا تحتملها العقول؟!

 

مقالات عام 2001م


المقال الأول: ديمقراطيات.                                 تشرين اليومي: العدد (7904): 16/1/2001م

 

ديمقراطيات

 

لا توجد في القاموس العربي مفردة مقابلة للديمقراطية.. ذلك أن المفردات لا تكتسب دلالاتها فتكسبها الغنى والثراء.. ذلك أن اللفظة تركبت في الأصل من كلمتين يونانيتين: ديموس: أي الشعب، وكراتوس: أي الحكم.. لتأخذ معنى: حكم الشعب. ثم مضى التطبيق الواقعي إلى تطبيقات متعددة في نظم الحكم تتوخى العدالة والقراءة الصحيحة لإرادة الجماهير.

وفي القاموس العالمي أصبحت هذه الكلمة السعيدة (الديمقراطية) مثاباً ومآباً لآمال الإنسان في الحرية والعدالة والكرامة والمشاركة في السلطة والبحث عن حياة أفضل.

ولكن هذا الإجماع العالمي لم يشفع لهذه العبارة في أن تتبوأ موقعاًَ رائداً في الحركات القومية والدينية العربية التي لم تر فيها أكثر من لون من ألوان الغزو الفكري الوافد، الذي وصل عبر مدافع المستعمر الأوروبي.. فهل هذه هي القراءة الصحيحة للمثل الديمقراطية؟

إن غربة الاصطلاح لا ينبغي أن تحملنا على التنكر لدلالاته ومثله، وهذا المقال سعيد في أنه راغب في أن يقدم للقارئ الكريم الأدلة على حضور هذه المثل في الثقافة الإسلامية منذ فجر الرسالة.. وذلك قبل أن تشيع في الواقع موضة: الرأي والرأي الآخر، والاتجاه المعاكس، وحق الاختلاف.. وهي العناوين التي تكتسب اليوم شعبية صاخبة، يتناولها القبول والرفض على طول الشارع العربي والإسلامي.

منذ فجر الرسالة كان واضحاً أن الإسلام ثورة على الجمود الفكري.. ومن أجل ذلك كانت ثورته على الأوثان، وكفره بسائر العقائد التاريخية التي تجعل الحجر شريك الإنسان في الإرادة.. وكذلك جاء ساخطاً على الابائية التي كانت ترى (كل خير في اتباع من سلف، وكل شر في اتباع من خلف).. “إنا وجدنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون”.

ثمة في أسباب النزول موقف ترويه كتب التفسير جميعاً بلا استثناء، وهو خبر خولة بنت ثعلبة التي كانت سبباً في نزول سورة المجادلة.. فقد جاءت هذه المرأة إلى النبي الكريم تشكو زوجها الذي ظاهر منها، والظهار هو قول قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، يعني يحرمها على نفسه بالقول.. وكان عرب الجاهلية يرون الظهار أشد أنواع الطلاق، وأن الرجل إن قال ذلك فإنه لا سبيل على الإطلاق لعودة الحياة الزوجية.. وحينما قالت خولة ذلك للرسول أفتاها بالعرف السائد، وقال ما أراك إلا قد حرمت عليه.

كان من المفروض بالمرأة أن تمتثل لأمر النبي الكريم، وأن لا تعترض فتطرد! كما هي ثقافة التخلف.. ولكن خولة انتفضت حرة أبية، تشرح حججها أمام الرسول قائلة: يا رسول الله.. أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبرت سني ووهن عظمي رماني بسبق لسانه!.. (الله أعدل من هذا).. وعندما كرر النبي فتواه: ما أراك إلا حرمت عليه، قالت تدافع عن رأيها: إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا!

وما زالت تلك المرأة تدافع عن رأيها في جرأة ووضوح أمام النبي الكريم حتى نزل الوحي الكريم وجاء القرآن منتصراً لها في مطلع سورة المجادلة: )قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(.

وكانت خولة بعدئذ تسمى: المرأة التي استمع الله إليها من فوق سبع سماوات..

إن القصة وردت في سائر كتب التفاسير.. والسورة القرآنية نفسها سميت سورة المجادلة.. ولكن السؤال هنا: هل يبصر جيل الصحوة الإسلامية في موقف خولة أي مجد هائل ذلك المجد الذي قاد إليه تحرر المرأة في عصر الرسالة؟

إنها امرأة حرة بكل تأكيد حرة العقل والروح والإرادة، لا تشبه في شيء المرأة المائتة المسحوقة التي تقدمها لنا عصور الانحطاط رمزاً للعفاف والاستقامة، مغسولة العقل هامدة الفكر، صوتها عورة وعقلها عورة ووجهها فتنة وخروجها إلى الحياة مصيبة.

إننا نقرأ سورة “المجادلة” في مدارسنا ومعاهدنا، ونعلم الطلبة أسباب نزولها.. ولكن ما إن تخرج المرأة (المجادلة) من جديد حتى تطولها سهام الجمود بالقذف والتهمة والريبة، وكأننا نريد لهذا الموقف المتألق في صدر الرسالة أن يبقى موقفاً أصم بدون دلالة!!

ليس موقف خولة إلا صورة واحدة لما كان يجري كل يوم في أرض الرسالة من مواقف حرية الفكر والتعبير.. وهي الحريات التي تأسس عليها مجد الإسلام.

 

المقال الثاني: أحرار في عصر التنزيل…                   تشرين اليومي: العدد (7910): 23/1/2001م

 

أحرار في عصر التنزيل

قراءة في الوعي بمقاصد الرسالة

 

إلى أي مدى يمكن أن تكون حرية الفكر خياراً واقعياً في حضور النص؟..

يبدو عنوان حرية الفكر آسراً إلى الحد الذي لا يفكر أحد في مقاومته، وتشترك سائر الاتجاهات الفكرية والمذهبية في مديحه وإطرائه، على أنه أبسط حقوق الإنسان.

ولكن استعراضاً سريعاً لواقع حرية الفكر في القرون المنصرمة تجعلك في حيرة من الدعاوى المتناقضة، وتجعل الحديث عن حرية الفكر محض لون من فاكهة القول، لا ظل له في الواقع.. وبغض النظر عن القمع السياسي الذي مارسه الاستبداد عبر التاريخ؛ فإن محنة حرية الفكر كانت تعاني القمع في الإطار الاجتهادي أيضاً، عندما كانت الحلول الجاهزة التي يقدمها فقهاء السلطان تلبس لبوس العصمة، وتلقي بالآخر في دائرة الخروج عن الملة، وبالتالي هدر الدم والمال؛ الأمر الذي جعل حرية الفكر في الغالب خياراً باطنياً لا يتوسل إليه إلا عبر سلسلة من إجراءات الحيطة والحذر والتكتم.

ولكن هل كان هذا هو المنهج الذي ارتضاه النبي الكريم في عهد الرسالة؟

يمكن هنا استعراض علم أسباب النزول، وهو علم محترم، خدمه الأئمة بالبحث والاستقصاء، وندرسه نحن في مدارسنا ومعاهدنا على أنه قطعة من تاريخ التنزيل من دون أن نبعث دلالاته الحقيقية في أنه يرسم صورة جلية لمشاركة الإنسان في اقتراح الشريعة!..

إن قسطاً كبيراً من آيات القرآن الكريم نفسه إنما تنزل وفق حاجة المجتمع، وبعد مطالبة ملحة من الناس.. وفي هذا السياق تندرج الآيات التي تُعرف باسم موافقات عمر؛ حيث كان هذا المجتهد الكبير يقول رأيه بصراحة ووضوح، خلاف رأي النبي الكريم في بعض الأحيان.. وكان القرآن يجيء بتصويب رأيه، كما هو الحال في مسألة الأسرى، وفي مسألة الحجاب، ومقام إبراهيم.

وفي موقف ذي دلالة حضر هلال بن أمية إلى النبي الكريم ليقذف امرأته بشريك بن سحماء، وعندما ذكر ذلك أمام النبي الكريم، قال له: أمعك بينة؟ قال: لا يا رسول الله!.. وإزاء ذلك قال له الرسول: البينة أو حد في ظهرك!!..

لقد كان النص في هذه المسألة واضحاً: )وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدً(!..

كان الموقف في غاية الوضوح.. فالكتاب صريح في حد القذف، والسنة حاضرة في شخص النبي الكريم تؤيد ذلك، وكان على الرجل أن يكف عن أي اعتراض في مواجهة الكتاب والسنة؛ حيث لا مجال لأدنى تأويل.

ولكن هلال بن أمية نهض قائلاًك لا يا رسول الله.. أحدنا يجد مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟..

ومازال النبي الكريم يكرر عليه القول: البينة أو حد في ظهرك، وهو يقول: يا رسول الله.. والله إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد.. ومازال كذلك حتى نزل استثناء خاص في النص لأولئك الذين يرمون أزواجهم؛ بحيث لا ينطبق عليهم حد القذف المنصوص عليه من قبل.

إن موقف هلال بن أمية يمكن التماسه عشرات المرات، من خلال مواقف مشابهة للصحابة في حياة النبي الكريم، الذي كان يفسح المجال للرأي الحر، ويحترم فكر الناس واجتهادهم، وكانت الشريعة تجيء بعدئذ بما يحقق مصالح الناس.

ولكن المعنى الذي نفتقده إزاء هذه الأدلة هو إعادة بعثها في الحياة؛ بحيث يمتلك المرء ثقة في الشريعة تحمله على اليقين بوجوب العدل، وترسم لنا ملامح قراءته في كل جيل.. بدل أن ترصف هذه المواقف المتألقة في بطون الكتب الصفراء، ونعجز عن إعمالها في حياتنا الواقعية.

إن من المؤسف أن يكون كل حدث، مثل هذا، محنطاً في التاريخ غير قابل للتكرار على أساس أن خيارات الحرية والإرادة والفكر، كانت مسموحة في زمن الرسالة، وأن الإنسان فقد سائر هذه الحقوق مع رحيل النبي الكريم، ولم يبق أمام العقل من رسالة إلا الاجتهاد في تفسير النص ضمن قيود وضوابط وشروط تلجئك إلى قول الأول: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، وما من خير إلا سبقوا إليه، وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر في ابتداع من خلف!!..

إن الوعي بكفاح النبي الكريم في رم ملامح الشريعة هو الذي يدعونا هنا إلى إطلاق حرية الفكر إلى الغاية؛ بحيث يكون النص نوراً هادياً، نستضيء به، وليس قيداً آسراً يحول دون دور العقل في التماس الخير ودرء الشر.. وهو غاية المقاصد التي جاءت بها الشريعة.

 

المقال الثالث: آخر الكلمات..                تشرين الأسبوعي: العدد (127) السنة الثالثة: 5/9/2001م

 

آخر الكلمات

قراءة في الرسالة

 

ورحل الإمام كما يرحل الكبار وترك للناس من بعده رسالته التي عاش لأجلها وجاهد لها، رسالة الوحدة الإسلامية.

على إطلاق الرحيل الكبير سيعيش الناس مع عطائه وجهاده تاريخ رجل حمل على كاهله هم أمة هائلة تعيش على مفترق الطرق بين ماض حافل بالمجد، واقع صاخب بالتحديات وسيتحدث على كفاحه وجهاده رجال شهدوا معه أيامه الكبيرة ومواقفه الجريئة، فهل لي أن أحدثك هنا عن رسالته؟

كان الإمام شمس الدين واعياً لمطلب الوحدة الإسلامية الذي يزداد إلحاحاً كل يوم ومع أفول المنظومة الاشتراكية وقيام أمريكا بمهمة إرادة الأرض أصبح واضحاً أن هذا التفرد سيقود العالم لا محالة إلى ركام من المظالم وإن تفرد القوي بلا ريب سيبدد آفاق العدالة وأن شيئاً ما ينبغي أن ينهض في مواجهة أمريكا.

وفي قراءة صحيحة للمشهد السياسي في الأرض كان الإمام شمس الدين يدرك أن العالم الإسلامي هو الذي يملك مقومات المواجهة فهو أكبر نسيج متحد في العالم وهو أسرع الأديان نمواً وهو يمتلك قدراً وافراً من الرصيد التاريخي المشترك والعقيدة المتماسكة وبإمكانه أن ينهض عملاقاً في وجه الغرب.

ولكن العالم الإسلامي يشكو هو الآخر من شتات الإرادة السياسية وعمق الانقسام المذهبي وهنا تكمن رسالة المجدد. وهكذا كرس الإمام شمس الدين كفاحه في هذا السبيل وأدرك أن الوحدة الإسلامية لا تتطلب إلغاء الآخر وأن الأمة ليست في وجود المذاهب وإنما في التعصب المذهبي، والسنة والشيعة في الواقع مدرستان إسلاميتان وليس من الحكمة في شيء التفكير بتشييع السنة أو تسنين الشيعة فذلك هدر للطاقات وإثارة للنعرات والمطلوب أن نتسامى فوق ذلك كله لنعيش في الهم الإسلامي والوطني لنجعل من هذا التنوع – الذي يفكر فيه آخرون بشكل كارثي – صورة غنى وثراء ووحدة وجماعة.

لقد تسلم الإمام مهامه كنائب لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى عقب اختطاف الإمام الصدر 1978 في مرحلة دقيقة جداً، فلبنان ملتهب بالسعار الطائفي والعرب يعيشون شتات كامب ديفيد، وإسرائيل تبدأ بقضم الجنوب اللبناني وكان في الوارد أن تنتفض (أمة الصدر) على كل شيء وأن يغرق لبنان في الفوضى بدوافع الغضب والنقمة وهنا يأتي دور الإمام شمس الدين رجل المرحلة، رجلاً قد على قياس الحدث وبهدوئه واتزانه وعمقه ووعيه استطاع أن يدخل الفكر والعقل رائداً في الكفاح وكان لا يكف عن طرح المشاريع الفكرية الرائدة، ويمكن القول أن أبرز ملامح فكر الرجل أنه تمكن من إقناع لبنان كل لبنان أن عدوهم واحد وأنه لا صوت فوق صوت المعركة ولا جدال في شفير الخنادق وهكذا وجه السلاح وجهته الصحيحة وتمكن من ريادة الحركة الإسلامية في لبنان على أساس التشارك في الإرادة والمصير، وفي وقت كان الصراخ على أشده في التناقض المطلق بين ما هو إلهي وما هو وضعي ظل الإمام شمس الدين هادئاً واضحاً في طروحه وقدم للبنان وللفكر الإسلامي صورة فريدة للإسلام المشارك في الحياة، الإيجابي البنّاء وتظهر فرادة هذا الطرح أنه يأتي من عمق المؤسسة الشيعية عشية اختطاف الصدر وثورة إيران، وهما حدثان كان كل واحد منهما يكفي لتحويل شيعة لبنان جميعاً إلى بارود.

إن الرجل مضى الآن وبقيت من بعده ورسالته، رجل تحدث عن العالم الإسلامي مارداً قادماً ليس ليدمر الآخر ولكن ليحقق التوازن في الأرض، قدم في جهاده أصول وحدة هذا العالم وريادته ليس بمشاركة سائر الطوائف الإسلامية فحسب، بل تمكن من توفير مناخ حضاري للمسيحيين العرب ليكونوا جزءاً فاعلاً من العالم الإسلامي ورسالته الشريفة في الأرض وبسبيل ذلك كانت مشاركته الفاعلة في ندوة الإخاء الديني الرائدة التي أطلقها في دمشق القائد الدكتور بشار الأسد.

هكذا يمضي الإمام شمس الدين في وقت عصيب وتبقى رسالته التي عاش لأجلها رسالة الإخاء والتسامح يكون الدين قوة رائدة في المحبة كما كانت مقاصد الأنبياء.

 

المقال الرابع: رسالة إلى الغرب…                             تشرين اليومي: العدد (7921): 4/2/2001م

 

قراءة في كتاب: رسالة إلى الغرب

للدكتورة رنا قباني

ترجمة الدكتور صباح قباني

 

قد يكون أكثر ما شدني إلى الكتاب هو عنوانه الذي يبدو مشابهاً إلى حد بعيد لعنوان كتابي الذي أصدرته مؤخراً بعنوان:

A call to the west

وهو يشتمل على مجموعة محاضرات ألقيتها في جامعة هلسنكي بفنلندا، واستعرضت فيها علاقات العالم الإسلامي بالغرب، وبدا لبعض القراء كما لو أنني تحاملت فيه على الثقافة الغربية حين وصفتها بانها تمارس الغرور الثقافي على الشعوب الإسلامية، وقد قيل لي حينئذ بأن أسلوبي الخطابي غلب على الكتاب بحيث ظهر فيه التجني على الغرب، وأن ذلك صفة لازمة للذين يصعدون منابر الجمعة!!، ولكن كتاب (رسالة إلى الغرب) الصادر عن دار الأهالي في طبعته الجديدة قدم لي إجابة شافية في هذا السبيل.

رنا قباني.. صوت آخر قادم من بريطانيا يتحدث عن معاناة المسلمين في المجتمعات الغربية، وهذه المرة في خطاب هادئ يحدثك عن سحر الشرق ودوره الرائد في معزوفة العالم الجديد.

ولكن الذي دفعني إلى الاهتمام بالعمل الجريء للدكتورة رنا قباني هو إحساسي بمبلغ التشابه الكبير الذي يحس به كل عربي مسلم عندما تتاح له فرصة الاتصال بالمجتمع الغربي.

إنها رسالة أخرى إلى الغرب، هذه المرة لم تأت من منابر الجمعة التي يتهمها الغرب عادة بالأصولية ورفض الآخر، ولم تأت من تنظيم أصولي يشرف عليه (أبو حمزة) ويتدرب في أفغانستان، ولا يعرف أكثر من سباسب (بريدة وعنيزة) وشعابها، إنه هذه المرة قادم من فتاة سورية تخرجت من مدرسة الراهبات وأنهت دراسة الماجستير من جامعة جورج تاون بواشنطن، ثم الدكتوراة في الأدب والفلسفة من جامعة كامبردج البريطانية.

ومنذ إقامتها في لندن أصبحت محور حركة للناشطين في حقل الدفاع عن حقوق المسلمين البريطانيين حتى إن ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز يشاورها فيما يتصل بالشؤؤن الإسلامية.

رنا قباني التي ولدت بدمشق في بيئة جدها أبي خليل القباني وعمها نزار القباني، وتنقلت مع أبيها السفير د. صباح القباني بين عواصم العالم المتحضر بدءاً بمانهاتن وانتهاء بجاكرتا واستقر بها المطاف في بريطانيا حيث تكتب بالإنكليزية والفرنسية لا يمكن اتهامها بالأصولية أو التعصب وهي تنثر غلائل شعرها المتجعد على غلاف كتابها، ولكنها حين تكتب في الهم الإسلامي تجعلك تشعر بالاعتزاز والفخر، حين تجد أن بريق العالم المتحضر بأسره لا يمكنه أن يسرق من فؤادها سحر الشرق ودفء الروح الإسلامية التي يصطبغ بها حال المؤمن في كل أفق يرحل إليه.

وحين تتوجه برسالتها إلى الغرب فإنها واعية في التنبيه إلى الخطر القادم عبر روح الكراهية التي كرسها الحقد الأوربي على الإسلام، وتوالت في تكريسها دراسات صليبية متعاقبة تبث روح الكراهية وهي لا تزال تحكم كثيراً من قرارات السياسة الغربية تجاه المسلمين أياً كانت مستويات اندماجهم بالحياة الاجتماعية بالغرب. تتحدث عن جولتها في أرجاء يوغوسلافيا السابقة: لقد كان مسلمو البلقان أكثر اندماجاً في مجتمعاتهم الأوربية من أقرانهم المسلمين في البلدان الأخرى، كما كانوا الأكثر علمانية في تفكيرهم ونمط حياتهم، بل كانوا من جهة المظهر لا يختلفون في شيء عن معذبيهم من الصرب والكروات، ومن هنا استبد بي القلق ورحت أتساءل: إذا كان هؤلاء المسلمون الدمثون ذوو العيون الزرقاء والشعر الأشقر يلقون مثل هذا المصير السيء في وسط اوربا فما الذي ينتظرنا نحن الذين لا نزال نحمل السحنة العربية والعلامات الدينية الفارقة ؟

فأولادي، والذين هم مسلمون أوربيون أيضاً لا يختلفون في السن عن أولئك الصغار المذعورين الذين كان المسلحون المرعبون ينقضون عليهم كالوحوش الضارية فيقتلعونهم من أسرتهم وبيوتهم ويكدسونهم في شاحنات المواشي وسط الليل ويسوقونهم إلى غياهب المجهول، وهنا تساءلت فيما إذا كنت سألقى مصيراً أفضل من مصير الأمهات المسلمات في أوربا الشرقية اللواتي كنت أشاهدهن على شاشات التلفزيون وقد عجزن عن حمية صغارهن؟ زهل سيكون بمقدوري أن أصد موجة الكراهية العنصرية الدينية إذا ما اجتاحت أوربا الغربية دون أن يعترضها أحد، وبخاصة أنها آخذة في الجيشان الخفي تحت السطح؟

وفي إطار إيراد الوقائع تشير الباحثة إلى المدى الذي تورط فيه الحقد الصليبي على كل ما يمت للإسلام بصلة، وتقدم الأدلة المتعددة على أن التطرف الأصولي الذي يهدد الغرب اليوم هو نتيجة طبيعية للمواقف المتعالية التي دأب الغرب على ممارستها تجاه الإسلام والمسلمين، وهو الذي تجلى في المواقف القذرة التي تفسر تعاطف الغرب الأعمى مع شتائم سلمان رشدي الموجهة إلى العالم الإسلامي برمته، وهي الوقائع التي يعبر عنها عنصري كريه مثل جان ماري لوبان، ويقدم الوقود لكافي لإيقاد نار العنصرية والحقد ضد المسلمين حتى يقول د. شايير آكتار في الغارديان: في المرة القادمة سيكون في أوربا غرف للغاز، ولا أحد يشك في هوية الذين سيساقون إليها!!.

لقد أصبح من الواضح أن الاعتداءات العنصرية والدينية التي تستهدف المسلمين قد غدت وباء مستوطناً قي امعظم المدن الغربية ولا تنفك وتيرتها تتسارع باستمرار، حتى غدت قوات الشرطة تتخذ مواقف اللامبالاة حيال هذه الاعتداءات من دون أي هزة ضمير، وفي الاعتداء المشين على المسلمين في روستوك بألمانيا وقف رجال الشرطة موقف المتفرج بينما كان الألمان الحليقون الرؤؤس يسكبون البنزين على النساء والأطفال الأتراك ثم يضرمون فيهم النار، بل تبين فينا بعد أن عدداً من هؤلاء الشرطة كانوا متورطين بالفعل في هذا الاعتداء.

إن ما يغضب المسلمين اليوم هو أن تمسك الغرب بالافتراء على الإسلام وتشويه صورته قد أمعن في البقاء الطويل حتى بعد أن تلاشت الامبراطوريات الغربية، وتحررت الشعوب التي استعمرتها، فالثقافة الغربية لا تزال تتخللها تلميحات معادية للإسلام، ولا تزال سيرة النبي الكريم تدرس بنسيج من الأساطير، وفق ما أفرزته الكوميديا الإلهية، وما قدمته دراسات الاستشراق الذي كان لا يني من تقديم الأدلة الوافية للجيوش الضالعة في الجريمة الاستعمارية بأن تاريخ هذه الشعوب المستضعفة صارخ في أنها لا تستطيع أن تحكم نفسها، وأنها بحاجة إلى العون (النبيل) من الرجل الأبيض، ولو كان هذا العون على هيئة جيوش جرارة تمارس الإبادة والتشريد!!

ومع أن الكتاب يتحدث بحنين دافئ في قراءة أليفة حميمية، عن طفولة الكاتبة في دمشق وعن حارات دمشق وياسمينها ووردها ورياحينها ونافوراتها على الطريقة (القبانية)، فإنه يقدم تفسيراً هادئاً ومنطقياً لأدق الأحكام الشرعية التي تصبغ سلوك المرأة المسلمة، ويظهر بشكل لافت مزايا الحجاب الإسلامي ومقاصده، ويتناول تصحيح الفهم الغربي الفج لمسالة الحجاب الذي يصور دوماً على أنه محض صيغة قهر، ويعالج خطأ المقولة التي تربط تحرر المرأة بأشكال الزي النسائي وتغيب جوهر التحرر الذي هو رسالة العقل والفكر والثقافة في المقام الأول.

وتبدو مقاصد الدراسة ملحة في التوكيد على رسالة الغربة بإلحاح، حيث تحذر الكاتبة من خطر الانسحاق في الغرب، يذكرك بكلام إقبال :

كـل من أنــكر ذاتيــته         فهو أولى الناس طراً بالفــناء

لن يرى في الدهـر قوميــته     كل من قلد عــيش الغرباء

وتركز الكاتبة بوضوح لافت على أن رياح البغضاء التي يشيعها التعصب الأصولي الغربي هي الخطر الحقيقي على الحضارة الحديثة وأن الأصولية الصليبية أشد خطراً على الاستقرار العالمي من أي أصولية أخرى.

 

المقال الخامس: الجانب الآخر للوجود الإسلامي…    تشرين الأسبوعي: العدد (149) السنة الثالثة: 13/2/2001م

 

الجانب الآخر للوجود الإسلامي في الغرب

 

لا بأس أن تعتبر هذا المقال تقريراً صحفياً عن زيارتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة وإن كان ذلك غير مطلوب مني في هذا الموضع على الأقل، ولكني أرغب هنا أن أتحدث بصيغة أخرى غير تلك التي تعودنا أن نسمعها كلما تحدثنا عن الغرب.

من المفيد هنا ان تدرك بعض المعالم الدقيقة عن رسالة الحفاظ على الوجود الإسلامي داخل القطار الحضاري الراكض بجنون!!والذي لا تفتأ تتطاير من نوافذه أوراق كثير من الأمم، وهو ما أحب أن أحدثك عنه من خلال زيارتي لمنظمة الإسنا الإسلامية في أمريكا، وهي الاختصار الشائع لمنظمة:

Islamic students for North America

وهي في الواقع من أنجح التجارب التي وفق إليها المسلمون في أمريكا، حيث تمكنت هذه المنظمة من طرح نفسها رابطة عامة للنشاط الإسلامي في أمريكا، تقبل الجميع من غير أن تفرض عليهم الخروج من مفاهيمهم وخياراتهم وهكذا فإنه ينضوي تحت اسم المنظمة عشرات التنظيمات الطلابية والاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، تعمل في مجالات شتى وتتفاوت منطلقاتها النظرية تفاوتاً شديداً ولكنها جميعاً: كلها في الهم شرق!!.

وفي المؤتمر السنوي الذي أقيم في شيكاغو حضر أكثر من سبعة وثلاثين ألفاً من المشاركين، وظهر الحضور الإسلامي لافتاً بحيث كانت مشاركة المسلمين فيه تعكس أجلى صورة لاتحادهم وهو ما يؤمل أن يكون مظهر وعيهم في الأيام القادمة.

كنت سعيداً عندما تلقيت الدعوة لحضور مؤتمر السيرة النبوية وهو أحد المؤتمرات التخصصية التي تعقدها الإسنا كل سنتين بغرض استلهام حياة النبي الكريم باعثاً وموجهاً للمسلمين في الغربة.

كان المشاركون أكثر من ألفي مفكر ومهتم بالشأن الإسلامي جميعهم من الولايات المتحدة، أما المدعوون من خارج أمريكا فقد كنا ثلاثة، وقد سعدت بصاحبيّ الكريمين إمام الحرم المدني والمفكر الهندي وحيد الدين خان.

كان الجو متحفزاً لجهة الفتاوى التي تصل إلى القوم بين الحين والآخر من مدن متفرقة في العالم الإسلامي وهي في الأعم الأغلب فتاوى غائبة عن همّ القوم تنظر إلى جانب من المسألة من غير وعي بجوانبها الأخرى، وربما كان من أكثرها إلحاحاً فتوى تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين واعتبار تحصيل الجنسية الأجنبية حراماً شرعاً لأنه عنوان الولاء للكافر!!

واضح أن الهدف الذي يرمي إليه هؤلاء هو هدف شريف وطيب، وهو جهد يبذلونه في مقاومة التفريط الذي تقوم به حكومات العالم الثالث من (تطفيش) الكفاءات التي ينظر إليها بوليسياً بأنها مصادر (وجع الرأس) !!وأنها بخروجها من الأرض العربية تريح وتستريح.

وهكذا فإن هذه الفتاوى تهدف إلى تحقيق هجرة معاكسة وتدعو أبناء العالم الإسلامي أن يقدموا كفاءاتهم ومواهبهم في بلدانهم التي لها عليهم الحق الأكبر.

ولكن المسألة يا سيدي ليست بهذه البساطة فالمسلمون والعرب في عواصم الغرب أصبحوا في كثير من الأحيان جزءاً من النسيج الاجتماعي لتلك البلاد ولديهم العديد من المشاريع الطموحة التي تعود على البلاد والعباد بالخير والبركة.

قلت في كلمتي إنني أرفض أولاً تسمية المسلمين هنا بالغرباء، هذه الأرض أرض الله، ونحن عباده، ولقد كتب في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وما في أمريكا من عرق أخضر إلا وهو يسبح بحمد الله، والمؤمن أولى بذلك كله من غيره، ثم إن أمريكا إنما بنيت بزنود إخواننا من الأفارقة السود الذين هم في الوافع أبناء العالم الإسلامي وقد تم تحت السلاح إرغامهم على التخلي عن هوياتهم ودينهم.

إن التعميم في أي فتوى يقود إلى نتائج مدمرة ولا بد من وضع أي خيار فقهي نطمح إليه في حدود الزمان والمكان الذي وردا فيه، كم كان المسلمون رائعين عندما صرحوا بهذه الحقيقة ليست في إطار الاجنهاد البشري فحسب بل في إطار النص المقدس نفسه، البلقيني على سبيل المثال يصرح تصريحاً ذا دلالة إذ يقول: ما من آية في القرآن إلا وقد طرأ عليها تخصيص أو تقييد ثم يجزم في ثقة بأن آية واحدة في القرآن لم يطرأ عليها مخصص وهي قوله تعالى: إن الله بكل شيء عليم وبين قوسين نشير هنا إلى تحفظ المعتزلة على إطلاق هذه الآية أيضاً.

وهكذا فإن طرح وجوب الرحيل من أرض (الكافر) حلاً مطلقاً للمسلمين في الغرب سيكون له بكل تأكيد نتائج مدمرة، ففي أمريكا على سبيل المثال ثمة نحو تسعة ملايين مسلم، منهم أكثر من أربعة ملايين ولدوا في أمريكا فهل من المصلحة أن يظل هؤلاء رعايا من الدرجة الثانية دون أدنى فاعلية في المجتمع الأمريكي؟ يتهددهم الترحيل عند كل ظرف يلجؤؤن إليه؟

ثم ما هذه العودة التي يتحدثون عنها إلى أين سيعود المسلم الذي ولد في أمريكا؟ وإلى أين سيعود المهاجر القادم من الهند أو سيريلانكا؟ وحتى القادم من لبنان أو العراق؟ وهل نظن أن العودة ستكون إلى مكة المكرمة كما كانت أيام النبي الكريم؟

من المسلمين من يجب أن يعود وإقامته في أمريكا حرام، وهؤلاء كثيرون يذوبون في الكيان الغربي ويتحللون من انتمائهم، ومنهم من يجب أن يبقى وعودته حرام، هل نقول لهؤلاء الذين يعقدون هذه المؤتمرات ويجمعون عليها الناس إن عليكم أن ترحلوا؟ ومنهم من يجب أن يهاجر إلى الغرب ليؤدي الرسالة التي أؤتمن عليها، وهكذا فإن الحكم الشرعي متعدد بحسب الحال التي يكون عليها كل فرد من الأمة، في الموقع الذي يكون فيه أكثر فائدة لأرضه ودينه.

مسلم أمريكي يقيم في واشنطن يتمرد على المظالم الأمريكية ويقاومها، ويدافع عن كرامة أمته ومجدها هو أشد فاعلية وأثراً من آخر يقيم في مكة ثم لا يجد ما يقدمه لأمته من أزر وعون.

إن تحميل المسلم وزر الإقامة ليعيش هناك بعقدة الذنب سيؤدي إلى إضعاف فاعليته في الحياة العامة، وبالتالي سيقدمه للمجتمع الغربي إنساناً مفرغاً من الحس الوطني وهذا موقف جد خطير قد يعصف بسائر الآمال التي يبتغيها المسلمون في إقامة حياة حرة كريمة، في خضم هذا العالم المادي الهائج.

تشير التوقعات التي قدمهاباحثون إحصائيون في مؤتمر الإسنا إلى أنه إذا استمر النمو الذي شهدته أمريكا خلال السنوات العشر الفائتة فإن عدد المسلمين عام 2025 سيبلغ خمسين مليوناً، وأمر تسارع النمو الإسلامي في أمريكا واضح لا يحتاج إلى تدليل وقد صرح الرئيس كلينتون بذلك خلال حفل مجاملة أقامه للمسلمين في حديقة البيت الأبيض في عيد الفطر 1420 العام المنصرم.

والمسلمون في أمريكا طبقة مثقفة واعية، قدم الدكتور إبراهيم أحمد أستاذ الإحصاء بجامعة إيلينوي إحصاء دقيقاً في ذلك، إذ يبلغ عدد الحاصلين على الدكتوراة من الأمريكيين المسيحيين 8 بالألف فيما يبلغ عدد الحاصلين على الدكتوراة من اليهود 18 بالالف، ولكن النسبة ترتفع بين المسلمين إلى 31 بالالف، وهي نتيجة طبيعة نظراً لأن العرب والمسلمين هاجروا أصلاً للدرسة والمعرفة، وأمامهم إذن فرص حقيقية للنمو والتفوق.

والسؤال الآن إذا كان ذلك كذلك فهل سيجد المسلمون سبيلاً لجمع كلمتهم ليحققوا دوراً أكثر فاعلية في الحياة العامة؟ يمكنني أن أقول إن النفوذ الإسلامي والعربي القادم إنما هو في حقل الأكاديميا الذي نستجمع فيه عدة معطيات موضوعية للتفوق والتأثير.

حتى الآن لا مقارنة بين أثر اللوبي الصهيوني وأثر الإسنا في أمريكا، ولكن من الذي يستطيع أن يزعم أن هذه الصورة باقية إلى الأبد؟

 

 

 

 

 

المقال السادس:قراءة مقارنة لرومي وسارتر                 تشرين اليومي: العدد (7935): 20/2/2001م

 

رومي وسارتر

قراءة مقارنة

 

تتناوب الفلسفة والأدب عبر التاريخ التأثير كل في الآخر على أساس حاجة الفلسفة للأدب وافتقار الأدب للمضمون الفلسفي.

والمقال الذي بين يديك يجتهد في رسم ملامح فلسفتين متناقضتين من خلال ما تقدمت به كل فلسفة في الإطار الأدبي وهو ما نستعير له هنا اسم الرجلين الكبيرين رومي وسارتر، وفق ما تقرؤه في (مثنوي) جلال الدين، و(الرحمن والشيطان) لسارتر.

والمثنوي عبارة عن مجموعة شعرية من نحو 24000 بيت زاد عليها النساخ والشراح حتى بلغت 48000 بيت. نظمها الفيلسوف المسلم جلال الدين الرومي (604 ـ 672هـ) باللغة الفارسية وضمنها أغلب فلسفته وحكمته.

وترجم الكتاب إلى التركية والأوردية والهندوستانية كما ترجم إلى الانجليزية والألمانية، وتأخرت ترجمته إلى العربية إلى القرن الأخير حيث ترجمه نثراً د. محمد عبد السلام كفافي.

أما الشيطان والرحمن فإنه رائعة سارتر التي يتحدى بها إرادة القدر مرتين ولكنه ينهي صراعه من حيث بدأ حيث تتكرر الأساة كلما تكرر جيل وانه لا أمل بالمرة في اي خلاص للإنسان طالما أن سائر كفاح الإنسان سيعود إلى تكرار العبث ذاته، وليس ثمة أي سبب موضوعي يجعلك تتصور لزوم انتصار الخير على الشر وان القرائن المتكررة تحمل على اعتقاد العكس حيث سيغلب الشر في آخر كل جولة.

ولكن ماالذي يجمع بين رومي وسارتر على الرغم من تباعد المواقع التاريخية والجغرافية التي انطلق منها كل واحد منهما ؟

في التاريخ الإنساني قرنان متشابهان، القرن الثالث عشر والقرن العشرون، وللأسف فإن ما يجمع بينهما إنما هو الجانب الدموي في كل منهما.

فقد شهد القرن الثالث عشر الميلادي خروج المغول من قمم الجبال التي عاشوا فيها لينساحوا في الأرض ويأكلوا الأخضر واليابس من العالم ويبنوا جماجم الرؤوس المقطعة على أنقاض المدن المتهدمة، وهي المشاهد التي لم يقرأ الإنسان في التراث المكتوب أشد منها هولاً !!.

أما القرن العشرون فقد جاء_ على الرغم من البسط الخضراء التي فرشت في أيامه الأولى على أساس أنه قرن الحضارة والتكنولوجيا والمعرفة_، جاء أشد القرون هولاً، حربان عالميتان أكلتا أكثر من مائة مليون إنسان بين قتيل ومعاق وأكثر من مائة حرب إقليمية حصدت أرقاماً مماثلة.

شهد جلال الدين الرومي القرن الثالث عشر وشهد سارتر القرن العشرين، ولكن فيما طفحت فلسفة رومي بالأمل والحياة جاءت فلسفة سارتر طافحة بالغثيان والقنوط والإياس من إمكانية إصلاح الحياة داعية الإنسان إلى استنزاف ما يمكنه من أشكال أنانيته!

كان عصر (جلال الدين الرومي) أعقد عصور التاريخ الإسلامي على الإطلاق فحياته التي تمتد من 604هـ إلى 672هـ هي فترة الغزو المغولي التتري الذي حطم معالم الحضارة الإسلامية، وأسقط كثيراً من أوابدها ورموزها.

و(رومي) لم يكن غائباً عن الأحداث في تلك الفترة الصاخبة بل كان يتنقل بين عواصم العالم الإسلامي المشتعلة فمن بلخ إلى نيسابور إلى بغداد حيث كانت مشاهد الموت تنطبع في خياله وهو يغادر تلك المدائن إلى أن استقر به المقام في قونية من أرض الروم.

ولم يكن أصحاب جلال الدين وإخوانه يعلمون أن ذلك الفقيه الهادئ الذي رأى مراكب الموت الجامحة يطوي في صدره فلسفة كامنة ستمكث غير بعيد لتتبوأ محلها في تاريخ الفلسفة الإسلامية كواحدة من أنضج وأشمل الحلول لكل مشاكل الإنسان ومآسيه.

لقد كانت فلسفة رومي فلسفة حرب نشأت في وقت كانت فيه مذابح المغول والتتار تصخ آذان العالم الإسلامي، ولكن رومي كان يقدم في روائعه الرقيقة فلسفة الكفاح والنضال مخاطباً أولئك الذين أفلتوا من المجزرة وهم يرتقون جراحهم ويعيشون مآسيهم أنه لم ينته كل شي، وأن المجزرة ليست نهاية العالم، وأن أمام الإنسان كثيراً من النضال والكفاح في هذه الأرض.

الروح عند جلال الدين هي حقيقة الإنسان وهي خلوده، وهي التي لا يجوز أن يلحقها الفناء، والروح حتى وهي في هذا القفص الجسدي العابر، لا يمكن أن تكون شيئاً تافهاً على الإطلاق، بل هي في سجنها وأرقها تسخر الوجود وتملؤه بالحب والجمال.

استمع إليه وهو يستنطق الروح المتعبة:

قالت الروح وقد أرهقهــا

 

 

قفص الأبدان في طول العمر
أنا كالــبدر الذي قوسـه ألم العشق وأضـناه السهر
لست بالميـت ولو غـيبني عبث الدهـر وآذاني القدر

 

سوف أغدوا مشرقاً من غربتي وأعيش الدهر في كر وفر([1])

ثم يمضي جلال الدين يستنطق الجماد الصامت ويبني على أساس سلوكه فلسفة الكفاح:

حبة القمح إذا تدفــنها تجعل القبر مخاضاً مستمر
وإذا تطحنها صلب الرحى فهي خبز فيه طعمى للبشر
وإذا تسحقها أســنانهم فهي للعاقل روح وفكر([2])

لقد كانت صورة الحضارة الإسلامية آنذاك على غاية من الضعف والشيخوخة وكان (جلال الدين) يعلم ذلك ويفهمه ولكنه كان لا يرضى لروح المسلم أن تشيخ بل كان يريدها في شباب دائم لا توهنه عوارض السقم وفي ربيع مشرق لا يقنطه برد الشتاء فكان جل خطابه للروح يقدسها ويمجدها ويأمرها أن تبعث الحياة من جديد في تلك الأبدان الواهنة الزاغبة بسكرات الموت.

واستعراض رسالة الأمل والحب في فلسفة رومي لا يعسر على كل من تصفح المثنوي العظيم، ولعل أوضح أشكال ذلك ما صار واضحاً عند قبر جلال الدين في قونية حيث تتأسس الحركات المختلفة بين الحين والآخر لتجعل من قبره روضة المحبين وليتلاقى عند ضريحه رجال من أديان مختلفة، ومذاهب مختلفة ليغنوا هناك ويرقصوا لوجه الحب وحده، حيث تصبح الأرض بحق قطعة من فردوس العشق الموعود!!

والوجود عند جلال الدين ليس مشكلة مفروضة بل هو ثمرة إنسانية تعكس كفاحه ونضاله وينبغي أن يتجلى فيها طموح الناس وأمانيهم.

هكذا كانت دعوة جلال الدين للتعامل مع الحياة والأحداث، وعلى عكس ما كان يفترض أن تقوم عليه فلسفة ما بعد الحرب من بأس وقنوط جاءت فلسفة رومي طافحة بالأمر والحب والبشر.

لقد احترق العالم مرة أخرى هذا القرن ولم يقم النازيون بأفظع مما قام به المغول والتتار وقامت عقب الحرب العالمية الفلسفة الوجودية في دعوة صارخة إلى الفوضى والغثيان واليأس وهو مصير كل فلسفة لا تقوم على أساس من الإيمان، وبدا للإنسان انه موجود في هذه الحياة نتيجة ورطة تفاعل هيدرو كربوني صدفي عاثر، كان من الأليق أن لايحصل وأنه يعيش هنا مع آلهة بغيضة لا يحبها ولا تحبه ويتربص كل من الطرفين للإيقاع بالآخر، وتبدو الطريقة اللائقة في مواجهة هذه الحقيقة هي الانتفاض بغضب على كل موروث القيم والفضائل المتهمة أصلاً بالانتحال والزيف لتقوم مكانها مملكة الإنسان المادي البحت الذي هو في الواقع إنسان الهوى والأنانية، وهنا تكون الأنانية قيمة مجيدة لأن الذات هي الحقيقة الوحيدة في مواجهة فظائع الواقع.

أما قيامة الشرق التي أفرزها غزو التتار فقد أيقظت فلسفة (الرومي) على أساس من الإيمان فكانت فلسفة الحب والحياة والخير والأمل، وفي ضياء ذلك كتب روائعه الشهيرة وخلدها في المثنوي.

أنت تدخل المثنوي شاكاً متردداً ولكنك سرعان ما تجد نفسك في زورق جلال الدين في عباب البحر وهو يمد مجدافه إلى قاع المحيط ثم يقلب به القمر والنجوم ويعود بكثير من رمال الصحراء وخضرة المزارع، ويمنحك في كل حال دفء حكمة، ونور معرفة.

 

المقال السابع: مؤتمر القدس                  تشرين الأسبوعي: العدد (151) السنة الثالثة: 27/2/2001م

 

مؤتمر القدس

شرفاء العرب في مواجهة مكائد التهويد

 

جاء مؤتمر القدس الذي دعا إليه المؤتمر القومي الإسلامي وحركات المقاومة الإسلامية، والوطنية، والذي انعقد مؤخراً في بيروت العاصمة الصابرة ليؤكد من جديد رفض الشارع العربي لسائر محاولات التطبيع، حيث احتشد في بيروت أكثر من أربعمائة مفكر وكاتب عربي وإسلامي يمثلون تيارات مختلفة تشترك في قدر واحد من الرفض التام لمحاولات الهيمنة والتشرذم، في ظروف محزنة من التآمر الغربي والبلادة العربية والتطنيش الدولي.

سورية كانت حاضرة من خلال مشاركة واضحة للرفيق عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي قدم ورقة صريحة حول موقف سورية من المفاوضات والتأكيد على صيغة الحل العادل والشامل وهي صيغة التقبل أي مساومة أو تفريط، وهو خطاب لم يتغير على الإطلاق في اللهجة السورية منذ قامت الحركة التصحيحية قبل ثلاثين عاماً، وكان لثبات هذا الموقف معنى بالغ الأهمية إلى الحد الذي أغضب “الراعي” الأمريكي، الذي صرح غير مرة أن من العبث المساومة مع سورية، حتى أن أولبرايت في حديثها الأخير في البيت الأبيض قبل “بخاطركم” لم تجد ما تقوله غير تصريحها: إن السوريين غير معقولين، وبشار الأسد أكثر تشدداً من أبيه!!.

ولاشك أن هذه العقد ة التي تحزن الوسيط الأميركي منذ ثلاثين عاماً مرشحة للاستمرار ثلاثين أخرى على الأقل، إذ لا توجد في هذه البلد أدنى فرصة للمساومة على أي شيء من الحقوق الوطنية بالمرة!!.

كنت سعيداً عندما كلفني سماحة مفتي الجمهورية بحضور المؤتمر نيابة عنه، فقد قدر لي أن أشارك في عدد من المواقع الإعلامية في إثارة قضية القدس حرَّة أبية، من خلال إذاعة القدس في البرنامج الأسبوعي الذي أقدمه، ومن خلال عدد من المشاركات في فضائيات عربية وإسلامية، غير أني أعلم علم اليقين أن هذه المشاركات جميعاً وأضعافها لا تعدل قطرة دم تهرق من شهيد واحد في جنبات بيت المقدس!!.

كانت كلمتي في المؤتمر لطبيعة هذا العدو الغادر يلمس بداهة أنه لا يوفر سلاحاً من أسلحته المتنوعة في تبرير جرائمه التي يقترفها كل يوم ولو كان هذا التبرير سيمس أقدس المقدسات تزويراً وافتراء، وهي السياسة التي دأب تاريخياً على انتهاجها عبر تاريخ المكر الطويل الذي صبغ سيرته في الأرض تائهاً وباغياً وغادراً.

واضح لكل مراقب أن أمريكا هي السند الحقيقي للوجود الإسرائيلي في المنطقة وأن هذه الدولة التي “تلعب” دور الراعي “النزيه” لعملية السلام لا تخفي تواطؤها مع الغاصب المحتل من أجل إقامة الكيان اليهودي.

بالتأكيد ثمة مصالح أميركية في المنطقة، ومن مصلحة أميركا أن تكون لها “حاملة طائرات” متقدمة في المنطقة تحت اسم “إسرائيل” ولا شك أن هذا الواقع أصبح جلياً لكل مراقب، ولكن ما الذي يدفع الناخب الأميركي للإقبال على تأييد المصالح اليهودية على الرغم من وجود مصالح حقيقية لأمريكا أيضاً في البلاد العربية؟ وهنا يبدو أن راسمي السياسة الأميركية يخونون ثقة شعوبهم ويفرطون عن عمد بكثير من مصالح دافع الضرائب الأميركي من أجل رعاية الأمن الإسرائيلي، ولكن كيف يتم ترضي الشعب الأميركي لجهة دعم إسرائيل؟.

إن المسألة من وجهة نظري تتصل مباشرة بالتوجيه الديني الذي تمارسه الكنيسة الغربية فقد تم عن عمد تشويه رسالة الكتاب المقدس وتبارى الواعظون في تفسير بعض نصوصه بحيث بدا أن إرادة الرب متجهة لتمكين شعبه “المختار” من الوصول إلى القدس بحيث ستكون القدس مجمع الشعب المختار حيث تتوقف عودة المخلص إلى “أورشليم” على تجمع الشعب اليهودي هناك!!.

لقد استمعت بنفسي إلى القس جيمي سواغارت وهو واعظ شهير في أميركا يسيطر على إمبراطورية إعلامية فظيعة تدخل بيوت جميع الأميركيين، وعندما كان الرجل يتحدث كانت دموعه “على عرض خدوده” وهو يقول ان الرب لن يوفق أمريكا طالما ظل “شعبه المختار” تائهاً في الأرض وأن وصول اليهود إلى القدس نسك ديني ينبغي أن ننفق في سبيله أشرف الصدقات !!.

بالتأكيد ليس جيمي سواغارت ظاهرة وحيدة بل إن مثل هذا التفكير يسيطر على جانب غير قليل من الشارع الأميركي وهذا يفرض مسؤولية دقيقة على المفكرين المسيحيين العرب على وجه الخصوص الذين يتعين عليهم أن يكتبوا في اللاهوت الدراسات الوافية التي تبرئ الكتاب المقدس من تهمة العنصرية التي انجرف إليها اللاهوت في أمريكا، وان تبذل الجهود الإعلامية لاوافية لإيصال هذه الرسالة الدقيقة إلى مكامن التأثير الديني في الغرب.

إن رسالة بهذه الدقة ليست واجباً وطنياً فحسب بل إنها أيضاً واجب ديني فالكتاب المقدس حمّال أوجه، تماماً كالقرآن الكريم، حيث تقوم سائر الفرق بتأويله من منطلقاتها المختلفة متشددة ومتهاونة، وما لم تنهض الدراسات الدينية بالواجب المطلوب في هذا السبيل فإن الخطة ماضية إلى تهويد الدين وهي المحاولات التي لم تنقطع عبر التاريخ حتى في إطار تفسير القرآن الكريم ومن أجل ذلك فقد كان علماء أصول التفسير يوردون باباً في كتب الأصول للتحذير من ذلك تحت عنوان: الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير.

بالطبع لا يمكنني أن أنسى هنا الموقف النبيل للأخ العزيز جورج جبور الذي تحدث عقب كلمتي مباشرة ليؤكد تأييده لهذا المسعى وهو بذلك بحسب ما عرفته عنه من متابعة ودأب، بحيث لا تبقى الأفكار أسيرة الورق والقرطاس أو منابر المؤتمرات.

إن النضال في الجانب الفكري ليس أقل شأناً من النضال العسكري، وأن تقديم المؤازرة والعون لهذا المسعى إنما هو دور مبرر في الدفاع عن القضية المقدسة التي من أجلها يمضي الشرفاء إلى مواكب الشهادة.

 

المقال الثامن: قراءة في تحرر المرأة                                   تشرين اليومي: العدد (7943): 1/3/2001م

 

في يوم المرأة العالمي

قراءة في تحرر المرأة في عصر الرسالة

 

في اللقاء اللافت الذي قدمته الفضائية السورية بمناسبة يوم المرأة مع الوزيرة الشاعرة د.مها قنوت كانت أكثر من قضية تطرح نفسها للنقاش في رسالة المرأة بين الأصالة والمعاصرة.

ووجدت نفسي أعجب للنجاحات التي تمكنت المرأة من تحقيقها في كفاحها السياسي والاجتماعي، وفيها قدمت الدكتورة قنوت عدداً من النجاحات الحقيقية للمرأة في السياق الاجتماعي، في إطار سعيها لتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص وهو سعي حققت منه الكثير.

ولكن يبقى السؤال مطروحاً وهذا أوان الحديث عنه فهل تمكنت المرأة من الوعي بنجاحاتها التحررية الحقيقية في غمرة ما يطرح بين الحين والآخر من رواسب التخلف ووجوب الانعتاق منها والنظر إلى المستقبل الجديد؟

إن كثيراً من دعاة التحرر يطرحون تحرر المرأة على أساس التمرد على كل موروث، وهكذا فإن الحديث عن تنكيس القائم وإقامة المنكوس هو الخيار الذي يتبناه كثيرون في إطار الحديث عن تحرر المرأة !!

إننا نستقبل القرن الجديد في حال محيرة فدعوة تحرير المرأة لا زالت تحظى باهتمام لافت ولكن من دون أن تتحدد معالمها بشكل جلي وبالمقارنة مع حركة النهضة والتنوير التي تبناها الشيخ محمد عبده في القرن الماضي فإن حركة التحرر قد تراجعت نسبياً على الأقل في إطار التوجيه الديني الذي كان في الواقع طرفاً إيجابياً في حركة تحرر المرأة ولكنه تراجع الآن إلى خيار سلبي في هذه المسألة!

كان من المألوف أن يتحدث كثيرون عن تحرر المرأة خياراً فكرياً حقيقياً في رحاب الأزهر الشريف وأن يتسابق لتدبيج الخطب في الدعوة إلى تحرر المرأة رجال مختلفون في المحاريب ولكن الصيغة التي نواجهها اليوم بمرارة أن التيار الديني لم يعد يرى أن تحرر المرأة مطلب إسلامي، بل صارت الصيغة السائدة أن المرأة لا تعاني من أي مشكلة وأنها إن حققت التزامها بأشكال الحشمة التي يأمر بها النص الفقهي فهي في غاية من التحرر والعافية لا تحتاج معها لمزيد، إن لم نقل إن المزيد هو غزو فكري خبيث يراد به اجتثاث المرأة وإغواؤها.

لقد أسهم في غربة حركة تحرر المرأة تورط بعض دعاة التحرر في طرح مسألة الزي على أنها المعلم الأول للتحرر وهكذا تم ربط المسائل بالزي عن عمد، وتم تصنيف بنات المجتمع إلى تقدميات متحررات أو رجعيات متخلفات على أساس من الزي وحده!!

مع أن أبسط ما يدركه أي عاقل هو أن الزي محايد وهو ليس معياراً بكل تأكيد وأن التماس التحرر من خلاله موقف لا يخلو من مغالطة وتمحل!!

عندما نتحدث عن المرأة المتحررة فإن أجلى صورة لها إنما هي في الواقع صورة نساء السلف الصالح في عصر الحضارة الإسلامية يوم شاركت المرأة إلى جوار النبي الكريم من اللحظة الأولى التي كانت فيها أول قلب اطمأن بالإيمان في شخص خديجة إلى أن صارت المجاهدة والطبيبة والمعلمة والشاعرة والأديبة والمحدثة والراوية، وكل ذلك بحضرة النبي الكريم وتشجيعه وإطرائه.

فإلى أين يتجه خيار الجمود حينما يقرر أن خير أحوال المراة أن لا يراها الرجال ولا ترى الرجال؟

في إحصاء ذي دلالة فإن الحافظ المزي صنف كتاباً شهيراً أسماه: الكمال في أسماء الرجال، عمد فيه إلى التعريف بأهم أعلام الأمة في مجال علم الرواية الذي كان آنئذ أباً للعلوم جميعاً تندرج تحته علوم التاريخ والأدب إلى جانب المعارف الدينية، ثم اختصره بعدئذ إلى: تهذيب الكمال في أسماء الرجال، ثم رأى الحافظ ابن حجر العسقلاني أن الكتاب كبير فاختصره في: تهذيب التهذيب في اثني عشر مجلداً، وبعد فترة اختصره مرة رابعة وأسماه: تقريب التهذيب، وعندما تطالع تقريب التهذيب هذا الذي هو سجل لعلماء الإسلام في عصر المجد الإسلامي تقف على أسماء 824 امرأة من نساء السلف الصالح حتى مطلع القرن الثالث الهجري، وهذا الرقم من كتاب واحد بعد الاختصار للمرة الرابعة، وكلهن ترجمت حياتهن ودرسن وصنفن على أنهن أعلام في الإسلام، وذكر أمام كل واحدة منهن تلامذتها من الرجال والنساء في صورة جد واضحة لمشاركة المرأة في الحياة العلمية على أوسع نطاق!!

في دراسة إحصائية للكتب التسعة التي هي أوثق كتب الرواية في الإسلام فإن الرواية عن هؤلاء النسوة تعكس مدى مشاركتهن وحضورهن في الحركة العلمية والاجتماعية، ويمكنك قراءة هذه الأرقام لبعض منهن:

عائشة بنت أبي بكر: أخذ عنها 299 تلميذًا فيهم 67 امرأة و232 رجلاً.

أم سلمة بنت أبي أمية : أخذ عنها101 تلميذاً منهن23 امرأة و78 رجلاً.

حفصة بنت عمر: أخذ عنها 20 تلميذاً فيهم 3 نساء.

أسماء بنت أبي بكر: أخذ عنها 21 تلميذاً فيهم امرأتان.

هجيمة الوصابية : أخذ عنها 22 تلميذً كلهم رجال.

أسماء بنت عميس: أخذ عنها 13 تلميذاً فيهم امرأتان.

وهذه أمثلة واضحة لكل من أراد أن يدرك مدى حضور المرأة في العمل الحضاري ومدى تجاوز السلف لما نفرضه اليوم من القيود على مشاركة المرأة في الحياة العلمية باسم الموروث الثقافي، وتحت عنوان فساد الزمان وتهتك الذمم!!وهل يقنعك بعدئذ القول بأن كل هؤلاء الرجال كانوا يأخذون العلم من وراء حجاب!!

أستطيع الجزم هنا بأن حال الانحطاط التي طرأت على المرأة بعدئذ وجعلت خروجها فتنة وصوتها عورة وإقبالها مظهر شيطان !! ليست أبداً حال المرأة التي أطلقها الإسلام من عقال الجاهلية الأولى، وبدون أدنى تكلف فإن من العسير أن تستخرج ترجمة لنصف هذا العدد من نساء اشتهرن بالنبوغ في القرون العشرة التالية لعصر التدوين الذي دون فيه كتاب الكمال في أسماء الرجال!!

سؤال نطرحه برسم حراس الماضي الذين يقومون رقباء على رعاية القديم ومناهضة كل حديث، الذين يقولون إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.

 

المقال التاسع: رسالة إلى قداسة البابا                      تشرين اليومي: العدد (): 12/3/2001م

 

رسالة إلى قداسة البابا

مائة خطوة بين الضريحين قد تنهي ألف عام من الصراع

 

كان نبأ بهيجاًَ ذلك الذي أكدته وسائل الإعلام عن نبأ وصولكم إلى سوريا في أيار القادم ذروة تفجر ينابيع الخير في هذه البلد المعطاء وفي هذه السنة الخصبة الخيرة حيث جادت السماء بخصب انتظرناه سنين عدداً وهاهو قد جاء معكم على ميعاد طيب استهلالاً بوابل الخير.

بالتأكيد ثمة رصيد هائل للسيد المسيح في الأرض العربية السورية، وذلك نتيجة طبيعية لمبعثه الطاهر الذي شرفت به الأرض الطيبة سوريا، وكذلك الهدي المصدق لرسالة السيد المسيح الذي جاء به نبينا العربي الكريم محمد مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل، حيث تكاملت هذه الرسالة في أرض الشام.

ولا شك أن ما تم الإعلان عنه من إقامة صلاة إسلامية مشتركة بينكم وبين سماحة المفتي العام لسوريا الشيخ أحمد كفتارو سيكون حدثاً ثورياً بكل تأكيد خاصة أنه يأتي في مكانه الصحيح في سوريا بلد التسامح والمحبة حيث سيكون المسجد الأموي شاهداً على هذا الحدث التاريخي الكبير، ولا شك أن سماحة المفتي كفتارو يعتبر رائداً عالمياً شجاعاً في مدرسة التسامح وهو بذلك يستكمل رسالة من التقارب بين الديانتين الأعظم بدأها منذ أكثر من سبعين عاماً من حياته المديدة الحافلة بالحوار والدعوة إلى التقارب.

رائع أن يشهد الأموي هذا النشيد التاريخي الذي سيتردد صداه طويلاً وهو بكل تأكيد سابقة لا شبيه لها ولكنها تعكس للناس إلى أي مدى يمكن أن يكون الدين رسالة في الحب والتسامح.

ولكن يا قداسة البابا إن مروركم برحاب المسجد الأموي الذي شهد تاريخياً أدق تفاصيل الحضارة الإسلامية التي ظلت شاهداً على العصور سيحمل لك ولا ريب ذكرى بطل قومي كبير يقيم على بعد أقل من مائة متر إلى جانب النبي الكريم يحيى (يوحنا المعمدان) الذي اختاره السوريون قروناً طويلة شاهداً باقياً على تكامل رسالات الأنبياء حين جعلوا ضريحه في قلب المسجد الكبير رمز حب وتسامح وتواصل.

إنه يا قداسة البابا بطل التحرير الذي يحظى بشعبية عارمة في الشرق الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، بالتأكيد سيكون حضوركم هنا ذكرى بهجة وأنسٍ لذلك الضريح العظيم لأنكم تحضرون هذه المرة في صيغة تختلف تماماً عن حضور أساطين حروب الفرنجة الذين جاؤوا من دوقيات أوربا المختلفة عبر نداء أوريان الثاني الذي لم يكن عملاً حكيماً والذي قلب طبيعة العلاقة الودية بين الإسلام والمسيحية إلى سياق آخر بحيث أوقد نارالكراهية بين الشرق والغرب قروناً طويلة بحيث لا زالت تطل بين الحين والآخر ذكرى الحروب الصليبية التي دفع المسلمون والمسيحيون من أبناء المنطقة على السواء ثمناً باهظاً من نفوسهم وأرواحهم من أجل سداد فواتيرها.

لقد ظل المؤرخون العرب جميعاً قروناً طويلة لا يستخدمون لفظة الحروب الصليببية نظراً لأنهم لم يصدقوا أبداً أن الرمز الديني يمكن أن يكون أداة للحرب والكراهية، واستخدموا بدلاً من ذلك صيغة أكثر واقعية حين سميت هذه الحروب بحروب الفرنجة، على الرغم من أن الفرسان من بارونات الحرب كانوا يصرون أن لا تغيب صورة الصليب عن صدورهم وجباههم كلما تقدموا صفوف الكتائب التي كانت تحمل رياح الموت، ومع أن المسلمين يحتفظون بوعي آخر في مسألة الصلب ولكنهم لم يشاؤوا أن يطبعوا أنفسهم بخيارات الفرنجة في العصور الوسطى الذين كانوا لا يتورعون عن استخدام سائر الوسائل مهما كانت مقدسة من أجل إذكاء نار هذه الحرب.

لقد كان صلاح الدين أكبر بطل قومي وديني في بلاد الشام، وحول ضريحه العظيم تفوح رائحة مئات الألوف من الشهداء من المسلمين والمسيحيين على السواء الذين وقفوا من حوله يدافعون عن هذه الأرض في وجه أطماع الفرنجة في العصور الوسطى، وهو المعنى الذي أكدته دراسات كثيرة محايدة من الشرق والغرب تعد بالألوف.

هذا الفارس الفريد الذي قدم الكثير لبلاده وأرضه بات هنا هادئاً بعد أن طرد الغزاة من الأرض، وكانت مواقفه من خصومه بعد انتصاره عليهم أشبه شيء بهدي السيد المسيح الذي كان يحب أعداءه ويبارك لاعنيه، إلى الحد الذي جعل بعض المؤرخين الغربيين يبحثون له عن أم فرنسية !! وهكذا أنهى كفاحه بالتحرير وطرد الغزاة من دون أن يطرح في الفقه الإسلامي أي صيغة ناقمة تشطب سطور المحبة التي يطفح بها الأدب الإسلامي في خطابه مع أهل الكتاب وخاصة مع الجانب المسيحي الذي صرح القرآن بأنهم أكثر أهل الأرض مودة للذين آمنوا، واختار أن يكون ضريحه عند أعتاب يحيى عليه السلام (يوحنا المعمدان)، في إشارة واضحة إلى أن كفاحه التحرري كان مطابقاً تماماً لهدي السيد المسيح وموصولاً بكرازة ابن الخالة الحصور يحيى عليه السلام الذي كان رائداً آخر من رواد المحبة.

ينام صلاح الدين على بعد أقل من مائة متر من ضريح يوحنا المعمدان الذي سيسعد بلا ريب بحضوركم فيه ولا شك أن أبصار المسلمين والمسيحيين هنا تتعلق بكم وأنتم تخطون هذه الخطوات التي تفصل بين الضريحين لتكون أهم شاهد عصر في التاريخ تقوم بإنصاف هذا البطل القومي الكبير الذي أعاد الأمور إلى نصابها.

إننا لا نشك يا قداسة البابا أنكم تتفهمون مدى ما يشعر به أبناء المنطقة هنا من الأثر السلبي الذي تركته حروب الفرنجة، خاصة عندما نشعر أحياناً أنها لم تندمل بعد تلك القروح التي خلفتها رياح الكراهية، وفي مطلع العشرينيات كان غورو طاغية الحرب الاستعمارية الفرنجية الذي أذاق شعبنا السوري واللبناني الويلات كان بقف عند ضريح صلاح الدين وينهره برجله ويقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين ‍‍!! الآن انتهت الحروب الصليبية !!.

هل تتقبل يا قداسة البابا رجاء أبناء دمشق والسوريين بعامة الذين ينتظرون هذا الحدث التاريخي ليصححوا من خلاله التاريخ الذي عبثت به الأهواء قروناً طويلة، هل سيسعد العالم برؤيتك وأنت تمشي بهيبتك ووقارك لتقف أمام هذا القبر المجيد وتحمل اعتذار الكنيسة للعالم الإسلامي عما خلفته الحروب الصليبية من آلام ومآس في العالم الإسلامي الذي أثبت مراراً أنه يقف معكم في خندق واحد لمواجهة الإلحاد والظلم والكراهية في الأرض.

يا قداسة البابا حتى الآن يبدو كل شيء في زيارتكم هذه غير عادي وغير مسبوق: دخولكم أشهر مساجد المسلمين في الأرض بعد الحرمين، وصلاتكم المشتركة مع المسلمين وهو حدث ثوري بكل تأكيد لم يشهده التاريخ من قبل، فهل يكون وقوفكم عند ضريح صلاح الدين _ وهو حدث غير عادي أيضاً _ هل يكون الحدث الذي سيهدم أكبر أسباب الكراهية التي لا تزال رياحها تعصف بين الشرق والغرب.

إنها مائة خطوة فقط !! ولكنـها قد تنهي تاريخ ألف عام من الصراع بين الشرق والغرب !!.

 

المقال العاشر: الهجرة بين ضباب الخوارق وضياء السنن      تشرين اليومي: العدد (7962): 27/3/2001م

 

الهجرة بين ضباب الخوارق وضياء السنن

 

هل كانت الهجرة النبوية واحدة من الخوارق التي تستعصي على التكرار ؟أم أنها كانت حصيلة كفاح بشري حكيم يعتمد السنن الكونية ويقود نضالاً تحررياً واضحاً للخلاص الإنساني؟

بدأ التأريخ بالهجرة أيام الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب وذلك استكمالاً لهوية الأمة الثقافية وتأكيد استقلالها،ومن أجل ذلك فإنه جمع مستشاريه فسألهم أي أيام الإسلام أعظم؟وبعد مشاورة ومداولة انتهوا إلى الاتفاق أن يوم الهجرة هو أعظم أيام الإسلام وهكذا فقد اعتبر مبتدأ التأريخ وله حكم اليوم الوطني على المستوى الإقليمي للدول.

بداية يلزم التأكيد أن يوم الهجرة النبوية لا يصادف الأول من المحرم كما يغلب على الأذهان،وتعطل لأجله المؤسسات الرسمية،فالهجرة النبوية كانت في الواقع في مطلع شهر ربيع الأول، حيث خرج النبي الكريم من مكة في ليلة الأول من المحرم ووصل المدينة في الحادي عشر منه.

ولكن لماذا الاحتفال في أول المحرم؟ يبدو أن هذا العرف جرى لواحد من معنيين: الأول أنه إحياء لرأس السنة القمرية التي تبدأ عادة في المحرم حيث اعتمد التأريخ بها رسمياً من السنة التي هاجر فيها الرسول الكريم،والثاني أن مطلع شهر المحرم كان يداية وصول المهاجرين الأولين من الصحابة الكرام قبل وصول الرسول الكريم.

أياً ما كان فإن إحياء ذكرى الهجرة لا يجوز أن يمر دون الوقوف على دلالاتها التي تتكرر كل عام، وهي دلالات تقتصر في الخطاب التقليدي على رواية الحوادث،وحشد الأحداث بالخوارق التي تسيء إلى الحدث أكثر مما تحسن إليه، من دون توظيف دلالاته في الواقع الذي تعيشه الأمة.

وفي قراءة سريعة لدروس الهجرة يمكن الوقوف عند حسن الإعداد والتخطيط وهو ما تحتاجه حركات النضال التي يحملها إخلاصها وحماسها على المغامرة التي لا تعود في الغالب بأي فائدة على النضال الاجتماعي،وتحمل الجماهير في الغالب عنت الحماس الهائج وما يحمله بعدئذ من ضياع وفوضى.

مع أن الرسول الكريم كان مؤيداً بالوحي وكانت الأحداث الدقيقة التي يمر بها تستدعي تدخل الغيب ولكن المتأمل في رحلة الهجرة النبوية سرعان ما يتأكد له أن هذه الهجرة كانت في الواقع كفاحاً بشرياً تم الإعداد له وتنفيذه على أتم وجه.

لقد خرج من خوخة في الدار والمشركون يحيطون بداره من كل وجه،وترك مكانه على الفراش علي بن أبي طالب تمويهاً على المشركين، ثم توجه إلى دار أبي بكر فأخذ الزاد كاملاً كما أعدته السيدة أسماء بنت أبي بكر ثم توجه صوب اليمن بعكس اتجاه المدينة فأقام في غار ثور ثلاثة أيام وكان عامر بن فهيرة يروح بأغنامه خلالها على آثار أقدامه ليضلل أعداءه عن الوصول إلى الغار، وكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما كل يوم بأخبار المشركين إلى الغار،وبعد أن هدأ هياج قريش خرج النبي الكريم إلى سيف البحر حيث كان قد استأجر خبيراً بالطرق هو عبد الله بن أريقط ليقوده وصاحبه في رحلة الهجرة في شعاب الحجاز ووديانه.

وهكذا فإن أدنى تأمل يكشف لك أن النبي قد خطط لرحلة الهجرة بإحكام ودقة وعهد إلى ستة لجان بأدوار محددة وهي:

لجنة تمويهية قام بذلك علي بن أبي طالب إذ بات على الفراش للتمويه على المشركين وتأخير مطاردتهم المتوقعة إلى الصباح وهي فترة كافية للخروج من مكة.

لجنة تموينية كلفت بإعداد الطعام الكافي للمهاجرين وهي أسماء ذات النطاقين

لجنة مرافقة كلفت بمصاحبة النبي في سفره،قام بذلك أبو بكر الصديق.

لجنة تضليلية مهمتها إزالة آثار أقدام لنبي وصاحبه حتى لا تتبعها قريش في مطاردة النبي الكريم وقد قام بها عامر بن فهيرة.

لجنة إعلامية مهمتها متابعة أخبار قريش وتبليغ النبي وصاحبه بها في الغار وقد قام بذلك عبد الله بن أبي بكر.

لجنة دلالية وهي عبد الله بن أريقط الذي كان دليلاً النبي في رحلته عبر الشعاب والوديان.

هكذا فإن ست جهات قامت بدورها على أتم وجه لتحقيق نجاح الهجرة النبوية على أساس من الكفاح الإنساني.

لقد قام بتأمين زاده ولم ينتظر مائدة من السماء،وقام بالتمويه على أعدائه ولم يكتف بطلب الغشاوة على أعينهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم،وقام بتضليلهم عن غاره ولم ينتظر ريحاً ذارية تعفو آثاره عنهم، وقام بدراسة تقارير عبد الله بن أبي بكر بدقة ليعرف تحرك أعدائه ولم يكتف ببيان روح القدس،واستأجر ابن أريقط ليدله الطريق على الرغم من أنه كان يستنير بنور الله، واتخذ لنفسه رفيقاً وأنيساً على الرغم من أنه يعلم أن الله معه في كل حال!

من العجيب بعدئذ أن يكون الخطاب التقليدي في فهم كفاح هذا المهاجر العظيم غائباً عن دور الإعداد البشري، يتحدث عن دلالات ذلك في ضباب الخوارق دونما توكيد على حضور السنن الكونية في هذا النضال الاجتماعي.

إن ما أوردناه هنا ينبغي أن يكون ملهماً في كل نضال اجتماعي وهو دليل واضح أن الإيمان لا يتلاقى أبداً مع الفهم الاتكالي للحياة الذي روجت له كثير من التكايا والزوايا في الماضي، وكثير من الفضائيات العربية في الحاضر التي تمارس مهنة صناعة النجومية لكثير من المشعوذين والخوارقيين الذين يرتدون كرافتات، ويبررون الاستسلامية والانهزامية على أساس من قراءة الغيب!

 

المقال الحادي عشر: عاشوراء…                               تشرين اليومي: العدد (7970): 5/4/2001م

 

عاشوراء

الحسن أخو الحسين

 

عاشوراء على وزن غير قياسي في العربية (فاعولاء) وهي أيضاً حدث غير عادي، لا زال يلهم الأمة معاني البطولة والفداء، ويؤجج نار الثورة في المستضعفين في الأرض، إنه يوم العاشر من محرم، اليوم الذي اختار فيه الإمام الحسين أن يسجل أروع سطور البذل والتضحية من أجل أن يعلن للناس أن المؤمن لا ينام على ضيم.

الحدث كبير وجليل ولكنه ظلم عبر التاريخ الإسلامي بين الجحود والجمود، وفرطت الأمة بكثير من دلالاته التي يمكن أن تكون أكبر معالم الوحدة والجماعة.

درج المسلمون على إحياء ذكرى استشهاد الحسين يوم عاشوراء، وهو يوم الشهادة والفداء، وإحياؤه يبعث في الناس مشاعر الجهاد، وبالفعل أي شيء ألهب المجاهدين الأبطال في جنوب لبنان وهم يدافعون عن كرامة الأمة ويعلون راياتها أكثر من ذكرى الحسين؟ العصائب الحمراء على جباههم بوارق شهادة في أمانيهم، وسياط عدل لاهبة في ظهر أعدائهم، كل ذلك يتم بذكرى أبي عبد الله الحسين !

لأول مرة في تاريخ العرب تنسحب إسرائيل صاغرة مهينة ذليلة من أرض عربية من جنوب لبنان ويصرح قادتها الهاربون بحنق مجنون إلى متى سنظل نقتل جنودنا يقتلون في لبنان كأنهم الأرانب؟!

ولكن إحياءنا لذكرى الإمام الحسين التي هي ثورة ترعد منها فرائص العدو لا ينبغي أن يصرفنا عن ذكرى أخيه الإمام الحسن التي هي أيضاً ملهمة الوحدة للأمة الإسلامية، وفي تكريم الإمام الحسن قال النبي الكريم r: «إن ولدي هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»

كان الإمام الحسن بن علي خليفة والده الإمام، وقد أقبل عليه الناس يمنحونه البيعة بعد أبيه، حتى بايعه من الناس اثنان وأربعون ألفاً كفلاء على من وراءهم من الأمة، يبايعونه الدم الدم والهدم الهدم، حتى إذا مضت على بيعته شهور، ونظر حال العالم الإسلامي حينئذ، ورأى ما يتقلب الناس فيه من الفرقة والضياع، آثر جانب الله على هوى أصحابه، وجعل يتصل بخصومه يدعوهم إلى مشروع رشد وجماعة، وواعد الناس بمسجد الكوفة آخر ربيع الآخر، واجتمعت في مسجد الكوفة الألوف المؤلفة غاضبة ثائرة، مشرعة السيوف، على جباههم عصائب الدم، وقد ادّهنت بالقطران، حتى إذا صارت جماجم العرب بين يديه يحاربون من حارب ويسالمون من سالم، فوجئ الناس حينئذ بإمامهم وزعيمهم عميد أهل البيت يدخل المسجد يداً بيد مع خصمه معاوية، ومشى حتى قام على المنبر، وألقى كلمته الخالدة التي ينبغي أن تكون دستور الوحدة الإسلامية الباقية، وها أنا أجمع أطرافها من روايات ابن عساكر والطبري.

قال: (يا أيها الناس.. إنما نحن أمراؤكم ضيفانكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً..) فكررها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يخن بكاء‍‍‍‍.‍‍

ثم قال: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. وحقن دماءكم بآخرنا.. وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه مع معاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أدفعه إليه أو حقاً لي فأنا أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم).

ثم قال: (إن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر الله ونزل)…

وحين كانت الملائكة تحف بالبشرى ذلك اللقاء الوحدوي الخالد وتحقق معجزة البشارة النبوية بدور الحسن في الإصلاح، جاء شقي من الأشقياء وهمس في أذن الحسن: يا مذل المسلمين !!.

فالتفت إليه عميد أهل البيت، وقال له كلمته الخالدة: (العار ولا النار).

وكان يقول بعد ذلك: (قد كانت جماجم العرب في يدي، يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه؟..)

وقد عرف المسلمون فضل ذلك اليوم، وسموا ذلك العام كله عام الجماعة، وعرفوا فضل الإمام الحسن، الذي نشهد الله أنه أقدم على ما أقدم عليه من غير جبن ولا خور، ولا شك، ولا وهن، وقد علمت سائر الأمة أن الحسن خير عند الله من طلاع الأرض من أخصامه، ولكنها رسالة الوحدة التي ألقاها الله على عاتق قيادات هذه الأمة.

فهل ندرك هنا الوعي المطلوب بالدرس التاريخي وكيف يمكن أن تتحول دروس التاريخ إلى بوارق رحمة ووحدة كما يمكن أن تتحول إلى سياط فرقة وشقاق؟ وهل ندرك أن الحسن أخو الحسين؟ وأن لكل منهما رسالة باقية في الضمير التاريخي للأجيال.

أي درس كان هذا الحسَن الكبير , رآه العرب في القمة العربية الأخيرة يوم قام القائد الأسد برتق الجراح العربية وضم إلى صدره الحاني رفاقه العرب وتجاوز كثيراً من مواجع الفراق، وحقق عيد الجماعة (عيد الحسَن) من أجل أن تبقى جذوة نار الحسين تلهب ظهور أعدائه في هذه الانتفاضة الباسلة، ومن أجل أن يندمل جرح الشقاق العربي ؟

هذه دعوة لكل الباحثين كي نجدد بكل الوسائل ذكرى الإمام الحسن رضي الله عنه، ذكرى عام الجماعة، ذكرى البيعة العظيمة التي جمع الله بها أمة محمد، ذكرى فناء الفرد في الجماعة، وإيثار مصلحة الجماعة على حاجات الأفراد، والتي تصادف كما حققتها يوم 28/ربيع الآخر/عام واحد وأربعين للهجرة، وقد صادفت يوم 1/أيلول/661 للميلاد.

 

 

 

 

المقال الثاني عشر: تراث الإبداع في عهد النبوة           تشرين اليومي: العدد (7976): 12/4/2001م

 

صفحة مغيبة في تراث الإبداع في عهد النبوة

على هامش معرض الباسل للإبداع والاختراع

 

في إشارة ذات دلالة فإن اسم المبدع اسم من أسماء الله الحسنى، ولكن ورد القرآن الكريم بالإذن في استخدام بعض أسمائه الحسنى على سبيل المقاربة مع ما يكون من العباد فورد فيه: أحسن الخالقين وأسرع الحاسبين وخير الوارثين. ..

ومع ما اشارت إليه الدراسات التفسيرية في مغزى هذه المقاربة فإن من الواضح أنها تعكس بوضوح رغبة القرآن بتشجيع البحث الإنساني الذي أعطى الفرصة الوافية لتشجيع المعرفة، في شتى أشكالها.

واضح أن معرض الأختراع والإبداع يعني سائر المثقفين ولكن عادة ما يتناوله المشتغلون بالتراث بنظرة عابرة على أساس أن الإبداع نشاط تقني لا ظلال له في المجال التاريخي والتراثي.

وهنا يبدو مشروعاً أن نتساءل أين يمكنك قراءة الإبداع في التاريخ العربي والإسلامي على أساس من الإدراك النبوي لحاجات الإبداع والاختراع؟

إن كتاب السيرة النبوية لم يعنوا بتفصيل جوانب الإبداع المادي التي حققها الرسول الكريم في حياته الحافلة بالعطاء وإذا كان ذلك يبدو أحياناً غير مبرر فإنه في الواقع جاء نتيجة طبيعية للدور الأسمى الذي ارتبط بجهاد النبي الكريم وهو تحقيق الوحدة والجماعة والأخوة الإنسانية، وهو معنى تتضاءل بجانبه سائر الإنجازات المادية ومن الواضح أن أحداً لا يرغب بتقديم الرسول الكريم على أنه رئيس بلدية عظيم، أو مجرد حاكم سياسي ناجح، إنه أكبر من ذلك بكثير، إنه في العمق أكبر مجد تطلع إليه الإنسان ‍‍!!. ولكن ذلك لا يمنع أيضاً من محاولة الاقتراب إلى عطائه الكبير في رعاية الإبداع والمبدعين.

في أبامه الأولى في المدينة نتحدث عادة عن نشاط النبي الكريم في بناء المسجد على أساس أن ذلك هو ما عنيت به كتب السيرة المختلفة، وعادة ما يتحدثون عن نشاط النبي الكريم في إطار رسالة الهدى التي حملها للناس في المدينة المنورة، وربما تحدثنا عن دوره في الإخاء بين المهاجرين والأنصار ولكن قلما نتحدث عن إبداعه على الأرض، وعن عطائه في بناء الحياة على أسس أكثر تحقيقاً لراحة الإنسان واستفادة من مظاهر الطبيعة حوله.

تميم بن أوس الداري قد يكون أوضح الملامح التي تحدثت عنها تلك المرحلة من وعينا التاريخي بأخبار الإبداع.

فقد وصل هذا الصحابي الكريم قادماً من سوريا إلى المدينة المنورة عقب الهجرة وعندما دخل المسجد رأى الناس تصلي في العتمة وربما يسرجون ألواح النخيل للإنارة وهو ما يشكل لوناً بدائياً من التعامل مع التنوير ومن فوره قام تميم يتنفيذ عدد من السرج التي توقد بالزيت ووزعها في المسجد النبوي لتكون شاهداً على أول عمل لتنوير المساجد في الإسلام.

لقد كان موقفاً لافتاً وبالتأكيد فإن بعض أصحابه رأوا في ذلك بدعة غير مستحسنة، وربما واجهوه بما يواجهك به أهل الجمود عندما تتحدث في التنوير الفكري بأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وربما اعتقدوا أن في اختراعه هذا تزيداً في آداب النسك وهو أمر طبيعي في أمة كانت لا تزال قريبة عهد بالوثنية، وربما رأى فيه بعضهم لوناً من الاقتداء بالمجوسية لأنه يدخل النار إلى حرم المسجد، _ بالمناسبة كان هذا تصور البعض هنا إلى عهد قريب _ ولكن النبي الكريم عندما رأى سرج تميم سر غاية السرور ولم يتردد أبداً في تقرير أن ما حققه تميم إنما هو في الواقع مطلب شرعي حقيقي وأعلن أن تميم حقق غاية رائعة في الشريعة وأعلن من فوره عن تشكيل مجموعة عمل بقيادة تميم بن أوس الداري وكلفه أن يسرج في عوالي المدينة وهو ما جعل المدينة كلها تتلألأ كأنها قطعة قمر وغدت بذلك أول مدينة عربية يتم تنويرها بالكامل وهو ما عكس سبقاً إبداعياً فريداً في حياة الأمة، إلى الحد الذي جعل النبي الكريم يثني على تميم ثناء فريداً وأمام حشد كبير من أصحابه أعلن النبي الكريم أن تميماً حقق هذا الإنجاز الإبداعي وفي أسلوب غير مسبوق في التكريم قال النبي الكريم: نوّر الله قلب تميم لو كانت لي ابنة لزوجتها تميم !!، وهو لون من تكريم أبطال الإنتاج من العسير أن يتكرر !!.

وفي أختراع آخر سجل لتميم فإنه قام بصناعة أول منبر في الإسلام ليقف عليه النبي الكريم وحين رآه الرسول الكريم لم يتردد أبداً في ترك الجذع الذي كان يستند إليه والصعود على درجات المنبر الذي صنعه تميم وهو في حال من البهجة والسرور وقرة العين.

وفي أعقاب ذلك تنبه النبي الكريم إلى موهبة تميم الإبداعية وأقطعه أرضاً في فلسطين يقال لها عيون وحط عنه فيها الخراج، في رعاية واضحة لخبراته الاستثمارية، ومع أن فلسطين لم تكن قد فتحت بعد ولكن ذلك كان إرهاصاًَ بهذا الفتح المبين.

واضح أن تميم ليس حالة فريدة في التاريخ الإسلامي بل هو حالة تكررت ألوف المرات وسجل أعلام التاريخ العربي ما هو إلا تقرير لهذه الحقيقة الباقية.

وكان النبي الكريم لا يتردد في الإفادة من أي خبرة جديدة يمكن أن تفيد الناس في دينهم أو دنياهم، وفي هذا الإطار يسجل اختراع سلمان الفارسي الذي قدمه للمدينة يوم ابتدع فكرة الخندق ومن خلال ذلك أمكنه أن يحقق سبقاً رائداً في الدفاع عن المدينة العربية.

ولعل أدق صورة للإبداع الذي يقدره الإسلام ويرعاه قول النبي الكريم: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

إنه على هذي من ذلك سجل المسلمون السبق الرائد في كثير من ميادين العلوم والمعرفة، فيوم كان الأوربيون يقدمون من يجرؤ على القول بكروية الأرض إلى المقصلة والمحرقة كان العالم العربي ابن خرداذبة المتوفى عام 280 هجرية الموافق 900ميلادية يقول: (الأرض مدورة كتدوير الكرة، موضوعة في جوف الفلك، كالمح في جوف البيض، والنسيم حول الأرض، جاذب لها من جميع نواحيها إلى الفلك).

وواضح ان ما قرره ابن خرداذبة لا يختلف في شيء عن آخر ما قررته المعرفة في القرن العشرين، بحيث لو كتمت اسم المؤلف عنك لظننت أنك تقرأ من دائرة المعارف البريطانية ‍‍!.

والوقع أنه ليس بالإمكان أن يستعرض المرء هنا إلا لمحاً خاطفة من أثر العرب والمسلمين في خدمة شعلة الحضارة وهو ما تقوم بشرحه دراسات مستفيضة طويلة، وكحدث ذي دلالة فقد أشارت مجلة الفيصل مؤخراً في مقال مترجم إلى قيام وكالة الفضاء ناسا الأمريكية بإطلاق اسم ستة عشر عالماً عربياً على مواضع في القمر اعترافاً بمنزلتهم في خدمة العلم والمعرفة.

 

في محاضرتي الأخيرة بالمركز الثقافي في حماة تحدث الدكتور محمد سعيد عقيل محافظ حماة قائلاً: إن العرب قدموا للعالم رقم الصفر، وهذا الصفر الذي هو لا شيء هو أعظم كشف إنساني في الرياضيات والمعلوماتية على الإطلاق، إن العالم مدين للعرب بنصف علم المعلوماتية الذي ينظم العالم اليوم ويقود معظم تقاناته، إن الكومبيوتر في لغته التقنية الدقيقة ليس إلا رقمين اثنين الواحد والصفر، ومن خلال تعاقبهما تنشأ سائر أوامر الحاسوب التي بلغت أربعمائة مليون أمر في الثانية الواحدة، وهذا الصفر الذي هو نصف علم الحاسوب بالتمام والكمال ليس إلا إنجازاً عربياً خالصاً، لفظه ورسمه وجذره عربي حتى الصميم، وليس (زيرو) الغرب إلا تحريفاً رديئاً للصفر العربي الذي يشير في اللاشيء إلى كل شيء.

 

 

 

المقال الثالث عشر: يوم الشهداء                             تشرين اليومي: العدد (7999): 9/5/2001م

 

يوم الشهداء

العمليات الاستشهادية وبيعة الرضوان

 

نعوش أقوى من جيوش ‍‍‍‍!!

اليوم العيد الخامس والثمانون لشهداء الأمة الذي تعلقت بهم أبصار العرب يوم زرعوا عطاءهم في مرجة دمشق وهم يغنون للمستقبل والحق والشهادة.

إنهم طلائع أبطال العمليات الاستشهادية الذين تعتز بهم اليوم في صراعنا مع هذا العدو الغادر، إنها النعوش التي قامت بما عجزت عنه الجيوش والعروش!!

ذلك أن كلمة (لا) التي كان يقولها هؤلاء الشرفاء لجمال باشا السفاح كانت في الواقع عملية استشهادية حقيقية تكلف المناضل حياته، ولكنها تقع تماماً في مسمع عدوه ليفهم بوضوح أن عليه أن يرحل!!

تسمية العمليات الفدائية هي التسمية التي كانت شائعة في الخطاب الإعلامي العربي للتعبير عن البطولات التي كان يقوم بها الأبطال العرب في الدفاع عن الأرض والإنسان، ولكن الإعلام العربي تورط بعدئذ في الاصطلاح الوافد (العمليات الانتحارية) وهو اصطلاح خبيث لا يراد منه إلا المقاربة الذهنية المباشرة بين البطولة التي هي أعظم أحوال الأمل والمجد وبين الانتحار الذي هو أسوأ أشكال اليأس، وإنني أشعر بالخجل إذ أكتب هذا المقال في يوم الشهداء والشارع العربي ذاهل بالفتاوى الجبانة العمياء التي لا يتردد مطلقوها في عقد شرائط القياس المعتبرة وعلله بين أشرف ألوان الجهاد وبين القنوط البائس الذي يحمل الإنسان على الانتحار، في قراءة ظاهرية للنص تجرده من كل مقاصده من دون أدنى إدراك لما يمكن أن يقدمه هذا الموقف البليد من خدمة للعدو الإسرائيلي حين يصف هؤلاء الراغبين في مجد الآخرة بالمنتحرين الراحلين إلى (جهنم)!! ولا يتردد الإعلام العربي للأسف بترداد هذه الفتاوى واستجرارها، مع التأكيد على أن (الشهيد الفادي) ليس إلا مشروع منتحر وأنه لا يجوز أن يدفن في مقابر المسلمين!!

لقد كان من المنطقي أن لانشير لهذه الفتوى أصلاً لو أن الأمر كان يتعلق باختيار فردي نهج إليه بعض دعاة الهمود، ولكن تداول الإعلام العربي البائس لمثل هذه الفتاوى يجعلك ملزماً بفتح هذا الملف وهو ملف يطول حتى يطرح السؤال المشروع هنا إلى متى ستظل الأمة تمارس الإساءة إلى الدين بما هو قوة دافقة في التغيير والبناء، إلى صيغة همود وهوان تجعل من أنبل بني البشر شريحة خارجة عن الحياة والواقع، عبر أكبر المراجع الدينية والألقاب العلمية والتشريعية؟؟

إنه لا يعيب جهادهم أن تناوشه سهام الهامدين فالشهادة ليست تاجاً يقدمه لك الناس إنها شيء يحبوه الله في مجده الخالد يتنافس له أهل السماء وتباهي به الارض، إنه خط الشهداء المتواصل الذي توالى على تقديمه رموز المجد من هذه الأمة بدءاَ من أصحاب النبي الكريم إلى سائر الشرفاء من المناضلين الأحرار.

الآن أصبحت أدرك أكثر من أي وقت مضى لماذا بقيت المرجة الخضراء مركز مدينة الجهاد دمشق، على الرغم من بناء ساحات أكبر وأوسع وأرقى، إن دمشق ترفض أن تنتقل إلى مركز آخر لا في غربي المالكي ولا في الفيلات الشرقية ولا في (السيتي مول) إتها تصر أن تبقى هنا في المرجة قرب السوق العتيق حيث تقدم أبطالها الاستشهاديون أمام مشانق جمال باشا السفاح، يعلقون على صدرها أكاليل الغار.

شهداء أيار كانوا في جهادهم الكبير يرسمون مستقبل الأمة العربية وبدمائهم خطوا تاريخ بعث عربي وإسلامي في المنطقة، ولولاهم لكان نصيب الأمة العربية اليوم في ظلال تركيا كنصيب الكردي التائه الذي لا يؤذن له في تركيا حتى بتعلم لغته وثقافته، ولا بحمل بطاقته الشخصية، ولو قد مضى العرب في إرادة جمال باشا السفاح لكان عليهم أن يؤذنوا بالتركية ويلبسوا البشناق ويترافعوا إلى حضرة القائمقام وسلامات أفندم، وستجد أن الفتاوى ستكون جاهزة إذا شاءت إرادة السلطان أو العسكر إطلاق إرادة التتريك في أرض العرب.

إن من المرارة بمكان أن كثيراً من مراكز التعليم الديني في البلاد العربية لا تزال تشيع همساً مريباً حول أبطال أيار، على أساس أنهم ما كانوا يقاتلون في سبيل الله، وأن جهادهم كان من أجل حظوظ وطنية واجتماعية، وكأن سبيل الله التي يدعو إليها القرآن هي شيء مختلف عن العدل والخير والنور الذي ينشده الشرفاء! وكأن ليس في القرآن بصريح العبارة مشروعية الجهاد في سبيل الله وفي سبيل المستضعفين في الأرض، -انظر سورة النساء 75- وكأن النبي الكريم لم يقل من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أرضه فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد.

إنه ليس من العسير الوعي بذلك كله، ولكن المؤسف والمر أنه لا يزال يتحكم بالوعي الديني في عدد من مراكز التأثير عقليات جامدة لا تزال ترى في الحسين سيد الشهداء محض خارج على الإمام الشرعي (الصالح) يزيد !!، وفي الثائر الكبير عبد الله بن الزبير محض شاق للطاعة ومفارق للجماعة، ومعارض للإمام الشرعي (الحجاج) !! وهو الرجل الذي قال عنه عمر بن عبد العزيز: والله يابني أمية لو جاءت الأمم بذنوبها يوم القيامة وجئتم بالحجاج لغلبتم سائر الأمم!!

يوم تقدم أبطال أيار إلى مركب الشهادة كانت ظنون عجيبة تغلب على عقول بعض المنظرين، لقد كان يبدو أن عصر الجهاد والعنف قد انتهى مع وصول الكهرباء وانتشار التكنولوجيا والمعلومات، إلى الحد الذي جعل الحديث عن الجهاد لوناً من الجهل بالواقع، وفي نهاية القرن الماضي عقد مؤتمر في أوربا لاستقبال القرن العشرين وتبادل رؤساء أوربا الحديث الطافح بالآمال عن القرن العشرين قرن النور والحضارة والتكنولوجيا والمعلومات وهو القرن الذي سيبدد أطماع مراكز الشر في الأرض ويقود إلى الوحدة والحرية والرخاء والسلام، وسيصبح الإنسان أخا الإنسان، سيرعى الذئب مع الحمل وستدخل الدبابات إلى المتاحف وستحول المدافع إلى مداخن مصانع، وأمثال ذلك من الأحلام الوردية القرنفلية، ولكن بعد مضي القرن العشرين يمكنك أن تحس بمرارة إلى أي مدى كان القوم مفرطين في التفاؤل الغبي الذي لا يفهم على الإطلاق طبيعة الشر في الأرض، فقد انتهى القرن العشرون بأشد صور التاريخ ظلاماً، حربان عالميتان حصدتا نحو تسعين مليون قتيل ومعاق، وأكثر من مائة وعشرين حرباً إقليمية حصدت ضعف ذلك من القتلى والمشردين، ويستمر الظلم، وها أنت تستقبل القرن الحادي والعشرين بالدبابات الإسرائيلية والمدافع والطائرات التي تدخل بيوت المدنيين في فلسطين فتقتل وتشرد وتدمر وتثكل وترمل، ولا تسمع في هذا الأفق أكثر من دعوات رزينة يلقيها المندوبون المحترمون في منابر العالم المتحضر يطالبون فيها الفلسطينيين بالكف عن العنف ومنح شارون (فرصة)!! لصنع السلام!!

إن تسع سنوات من المفاوضة مع العدو كافية لرسم صورة واضحة حول أفشل شيء فعله العرب كما عبر عن ذلك الرئيس القائد بشار الاسد في مؤتمر القمة الأخيرة، إنك لن تجد شيئاً أفشل من هذا السلام!!، وهنا يتأكد المعنى في أن رسالة الشهيد هي الرسالة الوحيدة التي يفهم بها هذا العدو أنه لن يجد في هذه الأرض أماناً ولا استقراراً وأن شيئاً واحداً ينبغي أن يفعله إذا أراد لأبنائه أن يعيشوا في سلام هو أن يرحل من حيث جاء !!

في فلسطين والشتات قدمت الانتفاضة الفلسطينية حتى الآن نحو أربعمائة شهيد في هذه الانتفاضة، وهو رقم كبير بكل تأكيد ولكنه في مقابل المجد والأرض شيء طبيعي تبذله الأمم الشريفة عبر التاريخ، وينبغي أن يعلم الغاصب الإسرائيلي أن مواليد الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات يبلغ نحو ألف مولود في كل يوم !!، جميعهم من الذين يهيؤون ليكونوا أبطال عمليات فدائية واستشهادية، تزغرد عند ضروحهم الأمهات ويورق بهم الزهر وتنمو بهم الحياة.

إنهم أبطال الجهاد في سبيل الله، رغم كل الفتاوى الجبانة، إنهم المدركون حقيقة لطبيعة الصراع من دون أن يتخرجوا من معاهد عالية للعلوم السياسية، إنهم تخرجوا من الأرض نفسها، إنهم أبناء النبي الكريم محمد الذي وقف يوم الحديبية عند شجرة الرضوان يبايع أصحابه على (الموت)!! إنهم أبناء جيش مؤتة الذين خاضوا حربهم ضد الروم وهم ألفا مقاتل في وجه أكثر من مائتي ألف رومي، إنهم أبناء القعقاع بن عمرو الذين وثبوا يوم اليرموك يبايعونه على الموت، فاقتحم بهم جيش الروم وكانوا أربعين بطلاً استشهادياً فلم يخرج منهم أحد، وعرفت الأمة بعدئذ كيف تبوئهم مواقع المجد الأعلى.

 

المقال الرابع عشر: نحو تأصيل أيدلوجي للحوار بين الأديان               تشرين اليومي: العدد (8014): 27/5/2001م

 

نحو تأصيل أيديولوجي للحوار بين الأديان

المشتَرَك أكثر مما نعتقد

 

هذا هو عنوان الكتاب الذي فرغت من ترجمته مؤخراً للكاتب العزيز البروفسور وليم بيكر، مؤسس منظمة الكامب (مسيحيون ومسلمون من أجل السلام) والاستاذ بكلية الحقوق في لوس أنجلوس ) (more in common than you think، وهو الكتاب الثاني له الذي يهتم بشؤون الشرق الأوسط بعد كتابه الشهير ((the theft of a nation الذي تحدث فيه بالوثائق والأدلة عن الأطماع الصهيونية، والتآمر الدولي الأمريكي خاصة على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، مشيراً إلى الآثار السيئة التي يلحقها هذا الموقف المنحاز بمصداقية أمريكا كطليعة في العالم المتقدم، وقد نشرت دار طلاس بدمشق هذا العمل منذ سنين بالعربية تحت عنوان (سرقة وطن).

إنها محاولة لقراءة مسالة الحوار الديني من زاوية أخرى، زاوية لا تتجه إلى المختلف بقدر ما تتجه إلى المشترك، وتبحث عن نقاط اللقاء أكثر مما تبحث عن مكامن الفراق، وهو لون قد نكون نسيناه في غمرة ما ننجر إليه عادة من اكتشاف مواطن الاختلاف والشقاق، حتى تصبح لغة الحوار المعتاد هي لغة البحث عن مزالق الآخر وأوجه الاختلاف معه، وهو ما يرغب بارونات الإعلام إظهاره دوماً على أنه النموذج الأكثر نجاحاً في الحوار (الحقيقي).

الكتاب يطرح صيغة أخرى للحوار، صيغة تؤسس على المشترك وتدعو إلى تعزيزه والبناء عليه، ولكن إلى أي مدى يبدو هذا الخيار منطقياً من وجهة النظر الإسلامية ؟

إننا نطرح الحوار عادة على أساس الكشف عن مكامن الفراق المتصورة في العلاقات الاجتماعية، وهنا يبدو النمط (الديداتي السواغارتي) أبرز أشكال الحوار (الديماغوجي) وهو الحوار الذي يرمي إلى إهانة الخصم وإذلاله، تلبية لمطالب الجمهور الهائج المتحفز أصلاً لسحق الآخر بغرض تحقيق استعلاء أيديولوجي مهما عاد ذلك برهق على المتحاورين والمستمعين جميعاً.

يقدم بيكر في دراسته قراءة سريعة لظاهرة المشترك في العقيدة المسيحية والعقيدة الإسلامية، وهنا أسمح لنفسي أن أستبق الأمور إذ سيبدو ذلك محل جدل غير قليل فيما يتصل بالحديث عن مشترك ولكن جولة سريعة في نصوص الكتاب العزيز ستجعلك تدرك أن ما نتحدث عنه من المشترك هو في الواقع منهج القرآن الكريم والسنة النبوية.

في القرآن الكريم ترد صيغة: مصدقاً لما بين يديه سبع عشرة مرة، وواضح أن تكرار هذا التعبير يتصل مباشرة بالمقصد القرآني الهادف إلى تعزيز المشترك، ومع أن هذه الصيغة واضحة في التعبير عن ذلك ولكن من المؤكد أن أثرها ظل يتخافت تاريخياً في حمى الإرادات السياسية المتناقضة، حتى غلب على الخطاب التقليدي صيغة: ناسخاً لما بين يديه، أو ناسفاً لما بين يديه، أو مبطلاً لما بين يديه، أو ملغياً لما بين يديه، إلى آخر ما هنالك من صيغ أنانية لا تتفق ومقاصد القرآن كما أوضحته السنة النبوية في التعبير النبوي البليغ بقوله: مثلي ومثل النبيين من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأجملها إلا موضع لبنة، فكان الناس إذا مروا بها يقولون: ما أحسن هذه الدار لولا موضع هذه اللبنة فكنت أتا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين !! وهو موقف تواضع رائع، يجعلك تؤمن بتكامل سعي الأنبياء، وتدرك أن الإسلام يعترف بثقافة الآخر ويؤمن بتكامل المعرفة، إنه لم يقل أنا البناء كله وإنما قال أنا لبنة في هذا البناء !!.

من البداية رأى النبي الكريم أن يتوجه بقبلته إلى قبلة أهل الكتاب نظراً للمشترك الذي يبدو بشكل ظاهر بين الديانتين، الأمر الذي أثار قومه في مكة من الوثنيين ولكنه استمر على ذلك أكثر من نصف عمر الرسالة ولولا أن أهل الكتاب فهموا ذلك خطأ، حين تحدثوا عن قصور في رسالة النبي الكريم وحاجة الرسالة إلى ظهير من مناسكهم لبقي الأمر في إطار الوحدة الفكرية والتشريعية، ثم تمت النعمة على النبي الكريم بتحول القبلة إلى الكعبة المشرفة في مكة.

يكشف المؤلف عن جانب من جوانب الدعاية المضادة للإسلام فيقول: لقد تلقينا على مقاعد الدرس في أمريكا أن الإسلام يكرّس لكراهية السيد المسيح من خلال إنكار صلب المسيح، وقد كان هذا المعنى من البداهة بحيث لا يفكر أحد بتجاوزه مع أن التأمل البسيط يكشف لك أن إنكار حادثة الصلب لم يكن أبداً بدافع الكراهية أو التخالف بقدر ما كان بدافع زيادة الاحترام للسيد المسيح عليه السلام، والاعتقاد بعصمة الله تعالى له ومعونته بحيث لا يمسه السوء.

ثم يتجه الكاتب لإجراء مقارنات مقاربة بين الصلاة والصوم والزكاة في وعي كل من الديانتين ويظهر المشترك في كل من المنهجين التشريعيين، ودور العبادة المشترك في دفع المؤمنين للعمل الصالح، ثم يورد سياقاً متجاوراً للنص المقدس من القرآن والإنجيل، مشيراً إلى المواضع الكثيرة التي تشترك فيها الآيات بالمقاصد العظيمة للرسالتين.

ويعقد بيكر فصلاً خاصاً للحديث عن المراة في الإسلام ويستعرض الشبه التي تثار في الغرب عن اضطهاد المرأة في الإسلام ويقدم الأدلة المتضافرة على أن الإسلام أطلق المرأة من مظالم الجاهلية ومنحها أعظم أنواع الحريات، ويستدل لذلك بالمشاركة الكبيرة للمرأة في عصر الرسالة، ثم يستعرض مسالة العنف في فصل خاص تحت عنوان الإسلام والجهاد فيتناول الهجوم الغربي على الإسلام على أساس أنه دين العنف والسيف ويقدم الأدلة المتتابعة على أن الجهاد ما هو في الواقع إلا الدفاع المشروع الذي تقره شرائع الأرض كافة، ويبين أن خطاب العنف الذي يغلب على الشارع الإسلامي ما هو إلا نتيجة طبيعية للقهر والغرور الثقافي الذي يمارسه الغرب كل يوم على البلاد النامية والضعيفة.

في الفصل الأخير يتحدث بيكر عن مستقبل العلاقة بين الغرب والإسلام، ويكشف الستار عن التضليل الإعلامي الذي يمارس في الغرب على الجاليات الإسلامية حين يصورون على أنهم محض مهاجرين شاردين أو لاجئين سياسيين ليقدم الأدلة على أن الوجود الإسلامي في الغرب أصبح اليوم جزءاً من النسيج الاجتماعي الحقيقي للحياة العامة، ويحدثك عن المسلمين في أمريكا هذه المرة بلسان الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي تحدث في يوم عيد الفطر 1419هجري خلال حفل خاص أقامه للجالية الإسلامية في أمريكا قائلاً: لقد أصبح من الواضح أن الإسلام هو أسرع الأديان نمواً في أمريكا، وقال: إن هذه الظاهرة مدعاة سرور للحكماء، إذ يمكنني أن أقرر هنا أن الأحياء التي يسكنها مسلمون في أمريكا تصبح مباشرة أنظف الأحياء من الكحول والمخدرات والعنف والجنس، بل إنه تحدث عن حياة المسلمين المتحضرة في مجال النظافة والطهارة.

ثم يتحدث بيكر عن زياراته المتكررة لسوريا وعن تأثره البالغ بالشيخ أحمد كفتارو المفتي العام للجمهورية، ويعقد فصلاً ضافياً للحديث عن الحوار الماراثوني الذي جرى بينه وبين الشيخ في دمشق لمدة خمس ساعات والذي كشف له عن كثير من محاسن الإسلام التي يتعمد الغرب تشويهها وإخفاءها.

إن منطق تعزيز المشترك الذي يطرحه المؤلف مؤهل أن يكون حاضراً في كل خطاب تحاوري ويمكنك التماس إرهاصاته في منهج الرسول الكريم الذي كان يطرح تعزيز المشترك على أساس من الوعي بخصوصيات الآخر: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، وكذلك قوله: وقل آمنت بما انزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير.

 

 

المقال الخامس عشر: لماذا نحتفل بعي المولد                تشرين اليومي: العدد (8020): 3/6/2001م

 

لماذا نحتفل بعيد المولد؟

 

إذا أردنا أن نجيب كوطنيين، فإن من المؤكد أن هذه الأرض الطيبة عانت قبل الإسلام لثلاثة عشر قرناً من الاستعمار الرومي واليوناني والفارسي أحياناً، وفي غبار هذا التسلط الأوربي على بلادنا فإن أول مرة يحكم فيها أبناء هذه الأرض أنفسهم إنما كانت يوم وصل الفتح العربي الإسلامي إلى هذه البلاد على أيدي الصحابة الكرام، ورغم أن سوريا قدمت لروما أباطرة وبابوات ولكن ظل الحاكم السوري يعين من روما وبيزنطة وأثينا وظلت مواهب السوريين قابعة في الظل على أساس أنهم لا يجري فيهم الدم الآري، وأنت عارف بأن المندوب السامي مهما كان (سامياً) فإنه متهم في إخلاصه للارض والناس.

وكحدث ذي دلالة أورده ابن كثير قي البداية والنهاية فإن دمشق الشام حوصرت من قبل الصحابة سبعين يوماً قبل أن يتم تحريرها، وكان من خبر الفتح أن أبناء دمشق الذين كانوا يعانون من جور الروم، كانوا يطلعون خالد كل يوم سراً بأنباء القوم، وتم لهم الفتح عندما رزق حاكم دمشق يومها واسمه نسطاس بن نسطورس مولوداً، ومن أجل ذلك أقام فرحاً هائلاُ وأحيا تلك الليلة بالسهر والصخب إلى الصباح من دون أي مبالاة بحصار البلد والوضع العسكري الاستثنائي وعند الصباح كان خالد بن الوليد يطرق أبواب مدينة دمشق بالفتح المبين، ولأول مرة في تاريخ الشام تحكم هذه الأرض بيد أبنائها الأصليين العرب الذين سكنوها منذ آلاف السنين بعد أن تغلبت على إرادتهم فيها مطامع الاستكبار العالمي لقرون طويلة.

وإذا أردنا أن نجيب كقوميين، فإن هذه الأرض لم تستعد عافيتها القومية إلا على يد الفاتحين من أصحاب النبي الكريم، وبدونهم فإن أرض الشام كانت ماضية إلى فرنجة مبرمجة بغرض تمييع شخصيتها وإذابة كيانهها الثقافي واللغوي، وكانت الرومية قد أصبحت لغة الدواوين، وأوشكت العربية أن تصبح غريبة في عقر دارها، بعد أن تعاقب عليها العديد من أشكال الهوان اللغوي والتاريخي، ولأول مرة منذ قرون طويلة تعود العربية إلى دورها الرائد لغة الإدارة والثقافة والحكم.

بالمناسبة فقد أصبح من الضروري الخلاص من الفكرة الضبابية التي تحيط بتاريخنا وتصور الشعوب (السامية) التي سكنت المنطقة ومنهم الأكاديون بفرعيهم الكلداني والبابلي والإيبليون والفينيقيون والكنعانيون على أنها شعوب غير عربية وأن الفتح الإسلامي هو الذي جاء ب(الضيوف) العرب إلى المنطقة وهذا زيغ تاريخي افتراه المستشرق النمساوي شلاوزر حين بدأ باستخدام لفظة (الشعوب السامية) كمصطلح أبستمولوجي لأول مرة بعد أن كانت محض ميثولوجيا تاريخية.

وهنا أشير إلى دراسة جد هامة وهي كتاب فقه اللهجات العربيات للصديق الدكتور بهجت قبيسي حيث تولى بالبحث العلمي الدؤوب من خلال الرقم والآثار تعرية هذا الوهم الذي نمارسه وندرسه دون أن ندري أننا ننسف به وجودنا القومي من أساسه، وقدم الأدلة الواضحة من الرقم والمخطوطات المادية لإثبات أن الآرامية والبابلية والكلدانية والسريانية وغيرها ليست إلا لهجات عربية غير عدنانية، وأن تفاوت بعضها عن العربية السائدة ليست إلا مسألة لهجات، وأنها في النهاية ليست إلا اللغة العربية بالحامل الإقليمي.

وهكذا فإن كل شواهد التاريخ تؤكد أن الفتح الإسلامي الذي أطلقه النبي الكريم هو الذي حفظ عروبة المنطقة، وحين جاء الفاتحون المسلمون وبأيديهم القرآن الكريم ينطق بلسان عربي مبين فإنهم كانوا يمارسون دوراً إنقاذياً هائلاً على صعيد وجودنا القومي، ويمكن القول بدون أدنى مبالغة أنه لا يوجد مدرسة واحدة تدرس العربية في طول الوطن العربي وعرضه إلا وهي مدينة للنبي الكريم وللصحابة الفاتحين، ولولاهم لكنًا ندرس اليوم اللغة الرومية أو اليونانية!

بل إن امتداد اللغة العربية في الأرض عبر العالم الإسلامي وجعلها لغة العلم والحضارة لأكثر من ستة قرون وتدوين التراث الإسلامي من الهند وآسيا الوسطى إلى الغرب الأفريقي باللغة العربية دون سواها على الرغم من انتشار عشرات اللغات والقوميات في تلك المناطق وهو ما منح اللغة العربية دوراً معرفياً رائداً في الأرض كل ذلك لا يمكن تفسيره موضوعياً دون الانطلاق من مولد الرسول الكريم.

وإذا أردنا أن نجيب كحضاريين نؤمن بالإنسان فإن دمشق لم تأخذ دورها الحضاري اللائق بها إلا بعد وصول أصحاب النبي الكريم، حيث كانت قبل ذلك ولقرون طويلة تعامل كتابعة تسويقية لروما، أو ضيعة غناء في طرف صحراء شرقية، أو محض أرض طقوسية دينية تصلح للرهبنة والتزهد، وهكذا فإنك تجد فيما تركه الرومان هنا المعابد والأديرة والآلهة وقنوات المياه دون أن تجد مدرسة أوبيمارستان أومكتبة تعكس دوراً حضارياً للمنطقة ولكن سرعان ما أصبحت دمشق مع وصول الصحابة الكرام إليها عاصمة حضارة هائلة تمتد من طليطلة إلى السند وتملأ أطراف الأرض بالعطاء الحضاري والمعرفي.

وإذا أردنا أن نجيب كمؤمنين فبحسبك أن تقرأ في القرآن الكريم: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.

هل أدركت إذن لماذا يمضي كان القائد الأسد الراحل الخالد في القلوب الذي نعيش اليوم ذكراه الباقية يمضي كل عام إلى مسجد دمشق الجامع، في يوم مولد النبي الكريم ليشهد بنفسه مجالس البهجة والأنس بمولد الرسول الكريم، وهو خيار انفرد به من بين سائر الزعماء العرب، إذ جرت العادة أن تقام هذه الأفراح في البلاد العربية ولكن برعاية بعض المسؤولين في الدولة، ولكنه كان يحضر بنفسه يجتاز السوق الحميدي ترقبه عيون محبيه من أبناء الوطن، يدخل ومعه عبق التاريخ مكللاً بالغار ليقوم في محراب الوفاء للنبي الأعظم محمد r في يوم مولده ؟

 

المقال السادس عشر: الراحل الأسد فقه آخر للصمود    تشرين اليومي: العدد (8027): 10/6/2001م

 

الراحل الأسد فقه آخر للصمود

 

في غمرة الذكرى القاسية التي تؤرخ لمرور عام كامل على رحيل القائد الأسد فإن الأوفياء من أبناء هذه الأمة يكتبون في ذكرى الراحل الكبير من جوانب كثيرة تتصل بصمود ذلك الراحل الكبير وجهاده وعطائه، وتحليل مواقفه وخياراته الدقيقة هو شغل مئات الباحثين والمفكرين منذ انطلق الأسد في الواقع العربي والإسلامي ظاهرة جديدة تؤرخ لعصر موصول بعصر المجد العربي والإسلامي يوم كانت دمشق عاصمة الحضارة في الأرض.

لك أن تسأل وما عساك ان تضيف إلى معرفتنا بالقائد وإنما أنت رجل محراب ومنبر ؟

في الواقع كان الراحل الأسد مدرسة فريدة في الصمود، ولكن في الكلام الذي ستقرؤه ستكتشف أي درس صارم ورهيب قدمه الرجل لكل حاكم عربي يفكر أن يفرط بفلسطين أو الحق العربي!.

كنا على مائدته العامرة في إفطار رمضان 1411هجرية، حيث عودنا كل عام أن يسهر معنا ليلة من ليالي رمضان على الرغم من زحمة مشاغله وحجم مسؤولياته، ولم يكن لقاء القائد الأسد برجال الدين الإسلامي في شهر رمضان يشبه أياً من لقاءاته الأخرى، فقد كان رحمه الله لا يكتم فرحه واغتباطه بهذا اللقاء وكان إذا تحدث يسترسل إلى الغاية بحيث لا يتنبه للوقت ولا للزمن، ولم لا يكون كذلك وهو يعلم أنه يلتقي بنوع من الرجال يفترض أنهم كرسوا حياتهم لخدمة الأمة، وتخلصوا من نوازع الأنانية ونصبوا أنفسهم بدون تنصيب رعاة للأمة يخدمونها بلا أجر ولا عوض !!.

في لقائه يومذاك بدأ القائد الأسد حديثه واقفاً عند الساعة التاسعة مساء ولم يكن أحد يعلم من الضيوف أو المشاركين أو العاملين في قصر الرئاسة حتى ولا (أبو سليم) أن القائد الأسد سيتواصل في حديثه إلى الساعة الواحدة ليلاً، وهو شيء لم يكن وارداً في حسبان أحد أبداً !! ومع ذلك فقد استمر الحديث خمس ساعات متتالية بغير انقطاع وهو واقف على قدميه والمستمعون جميعاً جلوس، ولكن القائد الأسد كان قد أخذ عدته وانطلق في الحديث ولم يجرؤ أحد على تذكيره بالوقت أو الراحة التي كان أحوج ما يكون إليها، ومن البدهي هنا أن الصحافة لن تنقل سائر الخطاب وإنما تتخير منه تخيراً، وهنا أسمح لنفسي أن أروي ما لم ينقله الإعلام آنذاك، وأرجو أن يتمكن هذا النص من التفلت من (مقص الرقيب) نظراً لأن العادة جرت أن الإعلام ينقل العبارات الواضحة، وربما يتجنب إيراد بعض المحطات التي قد تثير تكهنات نحن في غنى عنها، أما وأن الرجل قد صار في دار الحق اليوم فإن التكهنات جميعاً قد حسمها فيصل الأيام فجاء ما كان منها حقاً وزهق ما كان باطلاً، ونطق التاريخ بشهادته التي لا ينكرها أحد.

قال يومذاك: هل تعلمون لماذا لا أقبل التنازل عن شبر من الأرض؟ لقد حكمت نحو ربع قرن وقد شبعت من الحكم وأريد أن ألقى ربي طاهر الكف والقلب، إن هذه القضية قدر الأمة ولا أحد يملك أن يفرط بالحق التاريخي للأرض المقدسة، ليس هناك إدارة مخولة بحق التنازل عن الحق العربي ولا دولة ولا جيل، يعني لو اتفق جيل كامل على التفريط فإن ذلك لن يكون ملزماً للأجيال الآتية، وعلينا أن نعلم أن هذا الشعب حي وقوي إلى الحد الذي لا يسمح لأي مشروع تفريط أن يمر، ولا شك أن مقاومة أي اتجاه تفريطي ستكون قاسية وصارمة، وأقول بوضوح إن علي إذا فكرت بالتفريط أن أحمي نفسي من كل مواطن شريف، إنني أعتقد أن من واجب من يقدم لي القهوة أن يقتلني إذا ثبت أنني أفرط بالأرض والحقوق ‍‍!!، ثم التفت في حزم وصرامة وقال: أحبهم أن يسمعوا ذلك!! ذلك أنني لو كنت مكان واحد منهم لما ترددت أن أعمل العمل نفسه !، ولكان من واجبي أن أبادر إلى قتل قائدي إن اكتشفت أنه يتحدث في الوطنيات بالنهار ثم يبيع الأرض للعدو بالليل !!

لقد كان يريد أن يسمع ذلك كل حاكم عربي، ليتبين له جلياً أن التاريخ لا يرحم وأنه لا حق للخونة ليس في كراسيهم فحسب بل ولا في أعناقهم أيضاً، وهو موقف جدي كان يقدمه بحزم، وظاهر أن أحداً لا يمكنه أن يتحدث بذلك إلا وهو على أتم يقين بطهارة قلبه ونظافة يده !!

وفي كلمته تلك قال: لقد عملت للوطن والشعب، وبعد أكثر من عقدين من الحكم فإنني لا أمتلك ضياعاً ولا قصوراً، ثم سكت هنيهة ونظر في عيوننا ثم قال: لعلكم تقولون الآن، ولكن ما هذه القاعة الدمشقية الباذخة التي نلتقي فيها. ؟

هنا أود أن أجيب، وتحدث بلهجة جد متواضعة ولهجته المحلية قائلاً: هذه القاعة ليست لي هذه للوطن، ولضيوف الوطن، ثم تابع يقول: عندما يأتي أقاربي من (الضيعة) فأنا لا أنزلهم فيها إنها ليست ملكاً لي إنها ملك الأمة ستقبل فيها ضيوف سوريا ويعلم المقربون مني أن أحب أحوالي إلي أن أكون في الحقل أحصد بمنجل أبي وأنام على حصيره !!.

إنه لون آخر من فقه الجندي العربي يذكرك بالرجال الأولين الذين حملوا على كواهلهم عناء العالمين وانطلقوا في الأرض يزرعون مجد الأمة في كل مكان يشتاقون إلى الموت فتكتب لهم الحياة !!

 

 

 

 

 

 

المقال السابع عشر: الشجرة والمقبرة                         تشرين اليومي: العدد (8045): 2/7/2001م

 

الشجرة والمقبرة

 

كتب حسن.م.يوسف في زاويته اللطيفة في تشرين هل هناك ما يمنع شرعاً من غرس الأشجار في المقابر؟

في الواقع يطرح هذا التساؤل البريء مسألة إحياء السنة النبوية التي جاءت واضحة في غرس الأشجار على المقابر، فقد وردت الإشارة إلى ذلك في مواطن متعددة في السنة النبوية حيث لم يكن النبي الكريم يفوت موقفاً واحداً إلا وهو يتحدث عن بركة العرق الأخضر في المقبرة، وهو العرف الذي يحييه الناس عادة في العيدين حيث تمتلأ المقابر برائحة الآس، ولكنه يتخافت سائر العام إذ لا يتجدد الآس في المقابر إلا مع سماع تكبيرات العيد، والآس عرق أخضر أمسكه الرسول الكريم بيده ووضعه على قبر رجل متوفى، وأخبر أنه لا تزال رحمة الله فيه ما لم ييبس.

وتبدو هذه السنة النبوية الكريمة ملهمة للأمة في غرس الأشجار في المقابر إلى الحد الذي ينبغي أن يجعل المقابر روضة فواحة الشجر الأخضر، ولكن لماذا لا ينطبق ذلك على الواقع؟

إننا نعاني في الواقع من الفهم الظاهري للنص، ذلك الفهم الذي يحنط العقل عند مرحلة من الوعي لا تتجاوز حدود الشكل الذي جاءت عليه السنة المطهرة، ثم لا يجد أي حاجة للتجديد أو التطوير.

إن السواك على سبيل المثال سنة نبوية كريمة وهو يهدف إلى تحقيق صيانة دائمة للأسنان واللثة، ولكن من البدهي أن هذه السنة الكريمة لا يعقل أن تتوقف عند حدود ما كان سائداً في عصر النبي الكريم من وسائل النظافة المتوفرة من عود الأراك، وبالتأكيد لو امتد به الزمن لأدخل تحسينات كثيرة على السواك تحقق درجة أدق من الغاية المطلوبة مع تجنب البكتيريا التي يمكن أن تنشأ من السواك غير المحمي، خاصة إذا رأينا بعض التطبيقات الغريبة لهذه السنة حيث يبيت السواك أحياناً في جيب مستعمله مع المفاتيح والمسامير وما تيسر من أشياء ثم يجد طريقه بعدئذ سالكاً إلى اللثة والأسنان وذلك في رأيي عمل ينافي مقاصد الشريعة، ولا يحتاج المرء لكثير نظر حتى يدرك أن معجون الأسنان المحمي بالفلورايد هو في الواقع السواك الذي أمر به النبي الكريم وأخبر أنه مطهرة للفم مرضاة للرب، ولو أن النبي الكريم أدرك بعض تطبيقات السواك اليوم لتعجب من جمودنا على اختياره من دون نظرنا في مقاصد ذلك الاختيار وأهدافه.

 

والأمر نفسه ينبغي أن ننبه إليه في إطار الوعي بمقاصد السنة في تجميل المقابر، إن المقبرة في الهندسة الإسلامية جزء رئيس من التكوين الهندسي للمدينة الإسلامية وقد اعتاد المسلمون أن يؤسسوها في قلب المدن تذكيراً للناس بالموت والدار الآخرة، ووفاء مع سلفهم الصالح الذي سبق إلى لقاء الله، وهو معنى قد لا تتقبله بعض النظم الهندسية المستوردة التي ترى في الموت محض ظاهرة بؤس ينبغي أن نبعدها عن أعيننا ما استطعنا، فيما ينظر المؤمن إلى الموت على أنه جسر إلى نعيم الآخرة ورغدها ومن الضروري أن يتواصل الأحياء مع ذكريات السابقين إلى الأجل بالصيغة المحببة التي وردت بها السنة المطهرة: السلام عليكم يا أهل القبور، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، وهي تحية تكشف لك خلود الإنسان في عطائه وروحه بحيث لا ينتهي عند طارق الموت!.

ولكن هذه المقاصد لا تتعارض شرعاً مع تجميل المقابر، ومن السنة نشر الرقعة الخضراء فيها، حيث أنها كانت إلى جانب وظيفتها الدينية مراكز للتعليم أيضاً فرب متن قرئ عند ضريح فلان أو تمت إجازته بأعتاب فلان، ومن الواضح أن قبور السلف الصالح في أي من مقابر الشام على سبيل المثال هي أجمل ما فيها عادة وأكثرها شجراً وأغزرها ثمراً ومن المنطقي أن لا تكون على الوجه الذي نراه اليوم من الرثاثة والإهمال.

 

وجرى عمل الفقهاء على اعتبار إخصاب المقابر بالعرق الأخضر لوناً محموداً من السنة المطهرة، ومع أنه تم ربط المسألة بجانب غيبي فإن النبي الكريم مضى على اعتبار ذلك سنة دائمة، وهو منهج تعرفه الشريعة حتى اشتهرت في ذلك الحكمة الشهيرة: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها!!.

الشجرة في القرآن آية ونعمة وبركة، وبها شبه الله نوره العظيم بقوله يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، وعندما وصل النبي الكريم إلى المدينة المنورة أطلق حملة كبيرة للتشجير والغراس وشكل ما يمكن تسميته أول وزارة زراعة في الدولة الإسلامية يوم كلف طلحة بن عبيد الله أن يحفر الآبار بالمدينة وبالفعل فقد حفر فيها أربعة وخمسين بئراً، وبوسعك أن تتصور إلى أي مدى أطلق ذلك النشاط الزراعي الأمر الذي حول المدينة المنورة إلى رقعة خضراء في حياة النبي الكريم، وفي الواقع فإن قليلاً من االباحثين من يشير إلى إصلاحات النبي الكريم على صعيد التشجير ورعاية الزراعة والحفاظ على الشجرة، وسبب ذلك كما هو واضح أن المطلوب أن يشار إلى عطاء النبي الكريم في المقام الأول في إنجازاته الكبرى في وحدة العرب وخلاص العالم من المظالم والشرور قبل التنبيه إلى إصلاحاته الأخرى على صعيد الإدارة والتنمية، إذ لا يتسع ذلك للحديث عن النبي الكريم على أنه رئيس بلدية عظيم ‍‍‍!! ولكن حديثنا هنا ينبغي أن يحملنا على توضيح ذلك.

وفي الخبر أن سلمان الفارسي جاء إلى النبي الكريم يذكر له معاناته في الرق فامره النبي الكريم أن يكاتب على تحرير نفسه فكاتب سيده على زرع ثلاث مائة نخلة يزرعها له بالعفير، وكانت هذه المكاتبة مناسبة يدعو فيها الرسول الكريم إلى التشجير قال سلمان:فقال رسول الله r لأصحابه: “أعينوا أخاكم”. فأعانوني بالنخل، الرجل بثلاثين غرسة، والرجل بعشرين غرسة، والرجل بعشر، حتى إذا اجتمعت إلي ثلاث مائة ودية قال رسول الله r: “اذهب يا سلمان فازرعها لها فإذا فرغت فائتني فأكون أنا أضعها بيدي”. قال: فعفرت لها وأعانني أصحابي حتى إذا فرغت منها جئته فأخبرته، فخرج رسول الله r معي إليها، فجعلنا نقرب إليه الغراس ويضعه رسول الله r بيده، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها غرسة واحدة.

إنها إرادة واضحة في إطلاق الأرض الخضراء على أكبر رقعة ممكنة وهو ما حققه الإسلام على الأرض، وهو المعنى الذي تحدث عنه النبي الكريم مراراً عن غوطة الشام المباركة وهي الغوطة التي افترسها (الباطون) حتى النهاية، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

المقال الثامن عشر: المرأة بين الشريعة والحياة                           تشرين اليومي: العدد (8069): 1/8/2001م

 

المرأة بين الشريعة والحياة

 

لست أدري إن كان من حقي أن أعرَف بكتابي الجديد عبر صحيفة تشرين بنفسي إذ جرت العادة أن يتولى ذلك عادة قارئ آخر، تجنباً للمحاباة والرؤية بعين واحدة، ولكن أجد نفسي أسارع إلى هذا التعريف وقد خرج الكتاب من المطبعة للتوّ وهو شعور يعرفه المؤلفون إذ يفرح المؤلف بكتابه الجديد كما تفرح أنت بمولودك الجديد وهو فرح لا يغالَب ولا بد أنه يقدم لي بعض العذر في هذا التسرع !!

إنها محاولة أخرى نقدمها للمكتبة الإسلامية، رغبة في الكشف عن المواقف المتألقة لفقهاء مجيدين في التاريخ الإسلامي اجتهدوا في إنصاف المرأة وتخليصها من عزلنها وهوانها الذي عاشته تحت سياط التعصب في مراحل تاريخية مختلفة.

مع معرفتي الأكيدة بما سيثيره الكتاب في أوساط متشددين كثير من الريبة والشك ولكنني متأكد أن سائر الخيارات التي تجدها في الكتاب تنمى جميعها إلى أئمة موثوقين يحظون بأكير قدر من الاحترام ولكن من المؤسف أن هذه الآراء المتألقة التي تدفع رهقاً كثيراً عن مشاركة المرأة في الحياة تم تغييبها في غمرة ما نرويه عن خيارات فقه التشدد التي أخذت بخناق المرأة وحصرت وعيها ومشاركتها في أضيق نطاق.

إن الآراء التي سيجدها القارئ في الكتاب لا تختلف عن الخطاب السائد منهجياًُ إلا في نقطة واحدة ولكنك ستكتشف أنها كفيلة بتغيير كثير من مفاهيمنا حول مسالة المرأة في الإسلام، ذلك أن كلا الخطابين حريص أن لا يخرج من باحة الفقه الإسلامي وجنته، ولكن بينما يتولى المرجحون القدماء الاختيار لأجلنا في الفقه السائد، فإنني في هذه الدراسة أدعوك أن تختار لنفسك من هذا الفقه الإسلامي الغني الغزير، ومن المؤكد أنك ستجد الحلول المتألقة لأدق مسائل المرأة بقدر ما تتعاظم سعة اطلاعك على خيارات الفقهاء المجيدين.

إننا نتناقش اليوم في مشاركة المرأة في التصويت الانتخابي وأنت عارف أن تيار التشدد في الكويت على سبيل المثال تمكن عدة مرات من إجهاض محاولات إطلاق المرأة من عزلتها ويدفع الأحرار الآن ثمناًُ غير قليل في الدفاع عن حقوق المرأة، في حين أن سلفنا الصالح قدموا في الواقع نماذج غير قليلة في هذا السبيل، فعلى سبيل المثال لم يتردد إمام جليل كالإمام القرطبي وهو صاحب أكبر موسوعة تفسير فقهي للقرآن الكريم لم يتردد في الجزم بأن المرأة يمكن أن تبلغ رتبة النبوة وقد بلغتها بالفعل في شخص السيدة العذراء مريم، وقد تابعه على ذلك أئمة كثيرون منهم الإمام ابن حزم صاحب المحلى، ومنهم الإمام ابن حجر العسقلاني في شرحه لصحيح البخاري!!!

إننا الآن بالتأكيد لسنا في وارد الحديث عن أنبياء ولا نبيات بعد أن أجمعت الأمة على ختم النبوة في إطار الرجال والنساء جميعاً وبعد أن تحولت البشرية وفق جودت سعيد من ضباب الخوارق إلى ضياء السنن، ولكن يمكنك أن تدرك إلى أي مدى وجدت المرأة أفقاً ريادياً في المشاركة في الحياة ولا شك أن هذه الآراء مغيبة تماماً في الخطاب السائد تقليدياً، ولا شك أن إطلاق المرأة في آفاقها الواقعية في الحياة وفق ما يليق بطهرها وعفافها كان أمراً حقيقياً عبر التاريخ الإسلامي وهو ما جعل امرأة مسلمة كأم الدرداء الصغرى تعلن عن محاضراتها في الجامع الأموي حيث كان يشهد هذه المحاضرات الرجال والنساء جميعاً في مشهد يكشف بوضوح عظيم منزلة المرأة إلى الحد الذي جعل عبد الملك بن مروان وهو الخليفة الأموي الأبرز في تأسيس حضارة الأمويين يواظب على حضور مجالسها، وهو مشهد لا يتخيل الخطاب السائد اليوم تصوره بالمرة وهو الذي وضع قيوداً تعجيزية في بعض الأحيان حتى على دخول المرأة المسجد وحجب ذلك الحق البدهي عنها بخيارات لا يد للمرأة فيها على الإطلاق، ولا يمكن إدراك أي وجه من غاياتها أو حكمتها، وفي هذا السياق أورد ابن كثير في البداية والنهاية أن الخليفة عبد الملك ابن مروان تقدم رسمياً لطلب يد هذه الأستاذة الجليلة أم الدرداء وفاء لما قامت به على صعيد رسالة التحرر، ولكنها سجلت هنا موقفاً آخر في الإرادة والمعرفة عندما تمنعت بإباء من هكذا نكاح على الرغم مما يعنيه من دخولها التاريخ من أوسع أبوابه !!

وبعد محاولات كثيرة يئس عبد الملك من إمكان رضوخ أم الدرداء الصغرى لمطالبه فراح يتحدث عنها بالسوء وعنما نقل إليها كلامه قالت بثقة واقتدار: إن نؤبن بما ليس منا فطالما مدحنا بما لس فينا، وهي عبارة تكشف عن المدى الذي بلغته هذه المرأة الحرة في ظلال عصر المجد الإسلامي أمام عبد الملك بن مروان الذي دوخ الشرق، وأرسى مجد بني أمية من السند إلى طنجة.

إنها محاولة أخرى لتحرر حقيقي للمرأة، تحرر لا يتجه إلى الشكل وإنما يتجه إلى المضمون، حين تكون مقاصد الشريعة في العفاف والحشمة هدفاً تسعى إليه المرأة والرجل جميعاً وإن اختلفت الوسائل بحسب اختلاف الأمصار والبلاد.

إن حركات تحرر المرأة تنهض بها اليوم منظمات نسائية كثيرة في مختلف مواقع التوجيه في البلاد العربية، ولكن هذه الحركات قد انتبذت وللأسف من الحركة الإسلامية على شقاق، مع أن الهدف واحد تماماًً، وقد كانت حركات التحرر تنبعث تاريخياً من تحت عمائم المجددين الذين قادوا نضال المرأة إلى آفاق بعيدة في التحرر والانطلاق، وفق منهج الكتاب والسنة ومصالح الأمة.

إنها محاولة لتوحيد الخطاب التحرري الذي ينطلق من محراب المسجد مع الخطاب الذي تتبناه سائر الحركات الشريفة المخلصة في الوطن.

هل وفقت في ذلك؟ هذا ما سيجيب عنه القارئ الكريم.

 

المقال التاسع عشر: شهيد العولمة…                      تشرين اليومي: العدد (8074): 7/8/2001م

 

شهيد العولمة

أول قتيل بين الصفين في مقاومة الربا

 

لا أدري لماذا أجد نفسي مندفعاً لكتابة الرثاء لهذا المناضل الكبير الذي سقط على أرض جنوة خلال كفاحه العنيف في مقاومة العولمة ؟

قد لا يكون ما قام به فعلاً حكيماً، وقد نختلف معه في تقرير اعتماده العنف وسيلة مشروعة لمقاومة الربا العالمي، بل في تقرير صوابية فهمه للمآرب الحقيقية لاجتماع الكبار، ولكن ما ينبغي التركيز عليه هنا هو أن هذا الفتى الثائر لم يكن إلا واحداً من مائتين وخمسين ألفاً من الشرفاء تحركوا من بلاد غربية مختلفة يمثلون ملايين آخرين من أجل أن يدافعوا بضراوة عن الشعوب الفقيرة التي تنسحق كل يوم أمام مطالب الدول الكبرى عبر القروض الربوية المجحفة التي تفرضها الدول الكبرى في برامج التنمية التي تقترحها على العالم الفقير حيث تؤمن له بعض الخبز والطحين مقابل الإشراف التام على برامجه الاقتصادية والسياسية والفكرية بحيث تكون متجهة حكماً إلى الإله الأوحد الذي لا يجرؤ أحد على النطق باسمه (على حد تعبير غارودي) وهو وحدانية السوق، وفق معيار لم يعودوا يخفونه وهو مصالح الدول الكبرى، فهم إنما يتصرفون بالأساس ليحققوا رضا ناخبيهم من دافعي الضرائب وهم في الغالب قوم بليدون لا حس حي لهم بالآخر، حيث يكون الرئيس بالنسبة لهم هو محض وكيل تم تكليفه انتخابياً من أجل تنمية ثرواتهم في المقام الأول.

ومع أن العولمة ليست أيديولوجيا محددة بل هي توصيف لما آلت إليه الأمور من تقارب المسافات واندماج الهم الإنساني بعضه ببعض، ولكن من وجهة نظري فإن الجانب العولمي الذي تنادى هؤلاء الشرفاء لمقاومته في جنوة ليس إلا الربا الذي حرمته الشريعة ومن أجل ذلك ينبغي أن نتفهم طبيعة هذا الصراع المحتدم على أرصفة جنوة وشوارعها المؤدية إلى حيث يجتمع الكبار وهو يؤكد لنا أن الربا تجارة بشعة لا تزال تستقبحها كل العقول التي تحس بالآخر وتؤمن به وهو يفسر لك جزئياً معنى الحرب التي أخبر عنها القرآن بين الله وبين آكلي الربا: فإن لم تفعلوا أذنوا بحرب من الله ورسوله.

المشهد نفسه الذي دفع النبي الكريم إلى خوض حرب لا هوادة فيها في المدينة ضد آكلي الربا حتى لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، والمشهد تمكن قراءته فيما كان يمارسه الإمبريال البهودي في )مستوطنات( قينقاع والنضير وقريظة بالمدينة المنورة، حيث كان المرابي اليهودي يكدس أواقي الذهب في خزائنه ينتظر مصائب الناس حتى إذا نزلت المصيبة ببعض الناس لم يكن لهم ملجأ إلا إليه، حيث كان يقرضهم ما يبتغون وفق سندات مجحفة ظالمة بالربا الفاحش، يقبلها المسكين مضطراً ثم يمضي يعمل ليل نهار ليسدد القرض والزيادة الربوية الظالمة التي كان يفرضها المرابي اليهودي تجنباً لما يمكن أن يفرض عليه لو عجز عن السداد وهي عقوبات كانت تبلغ حد استرقاق المدين، وكانت الأعراف الاجتماعية تستسيغها وتلزم بها في العرف الجاهلي، ومن هنا فإن النبي الكريم خاض هذه الحرب العنيفة ضد المستبدين حتى وضع سائر ربا الجاهلية تحت قدميه.

 

هذا المشهد القبيح لن تجد أحداً يجرؤ على تزكيته بعد أن ملك الإنسان قدرة تمييز الخير من الشر، إنها باختصار تجارة المصائب، الاتجار بمصائب الناس وتحقيق الربح على أساس اضطرارهم وحاجتهم، وهو ماعبر عنه القرآن الكريم بالآية: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا.

وظاهر أن أجلى مظهر من مظاهر الربا إنما هو الاستغلال، وهو وصف ظاهر منضبط عند أهل العقول يصلح معياراً حقيقياً لتمييز الربا الحرام من التجارة المباحة المأذون بها شرعاً.

واضح في كل ما قدمناه من أمر الربا أن المقترض هنا هو الضعيف المضطر والمقرض هو القادر المستغل، ومن وجهة نظري الخاصة فهذا يختلف اختلافاً جذرياً عما هو سائد في بعض الأوساط من اعتبار سائر المعاملات المصرفية عقوداً ربوية، على الرغم من عدم وجود عنصر الاستغلال فيها، ويمكن هنا أن نقرأ الآيات من جديد لندرك هذه الحقيقة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) وهذا آخر ما نزل في أمر الربا ثم قال (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) وهو يكشف عن بشاعة جريمة الربا وقبحها بحيث ينذر الله المرابين بالحرب، ثم أخبر أن التائبين يمكنهم أن يأخذوا من المقترض المسكين رؤوس أموالهم بدون زيادة (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون) ثم عاد بعد ذلك يحذر المقرض من التعجيل على المقترض المسكين ويدعوه أن ينتظره زمناً حتى ينقضي اضطراره (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ثم عاد بعد ذلك يرغبك بمزيد من الخير فنصح الدائن أن يسامح المقترض المسكين حين لا يجد سداداً (وأن تصدقوا خير لكم غن كنتم تعلمون) وظاهر أن السياق والسباق هنا لا يشبه في شيء ما يعرفه الجميع من أمر العلاقة بين المصرف والمودعين فيه، حيث يكون المصرف القابض هو الطرف القوي القادر فيما يكون المودع هو الطرف الضعيف الساعي إلى حفظ ماله وتثميره تثميراً مضموناً لا يوقعه في مزالق (خربوطلي وكلاس) وغيرهما من شركات ما يسمى ب(الربح الحلال) التي استغلت إيمان الناس وصفاءهم لتودع أموال أكثر من أربعة وستين ألف أسرة في مشاريع وهمية هلامية بدعوى تجنيب الناس الربا، على الرغم من الوسائل الدنيئة التي كانوا ينتهجونها في تثمير ذلك المال بالطرق التدليسية.

وهذا المعنى الذي نجتهد في تقريره هنا هو الذي سبق إلى تحريره فقهياً أئمة معاصرون كبار كالشيخ محمود شلتوت والشيخ مصطفى الزرقا حين فرقوا بوضوح بين القرض الاستهلاكي والقرض الاستثماري، وكان إرهاص وعي متقدم بالفارق الجوهري بين القروض الربوية التي حرمتها الشريعة وبين النظام المصرفي الذي تتبناه اليوم المؤسسات المصرفية التنموية.

 

إن الربا كبيرة من أكبر الكبائر لم تحل في دين من الأديان ويقاومها الشرفاء في مكة ودمشق والقاهرة كما يقاومها الأحرار في جنوة بإيطاليا، وفي سياتل بأمريكا وفي كل مكان يجتمع فيه المرابون الكبار ليبحثوا عن الطرق التي تكفل لهم تسمين ثرواتهم الآثمة على حساب سائر الفقراء والجوعى في الأرض.

لقد تجمع هؤلاء الثائرون حول قاعات الائتمار التي تلاقى فيها الكبار، وأجمع المراقبون أن نجاحهم في تحقيق أهدافهم كان أكبر من نجاح المجتمعين داخل قاعات القرار وقد تمكنوا من إيصال أصواتهم إلى العالم وسمع الناس في الأرض أن هناك مناضلين يقاومون الربا العالمي، وقد صار لهم رصيد من الشهداء والجرحى وها هم يخطون بالدم تاريخاً جديداً لكفاح الإنسان في محاربة البغي والاستبداد، وتمكنوا من تسجيل مطالبهم على قائمة القرار الذي اتخذه الكبار حيث أعلنت قمة جنوة بوضوح أن أهم مقرراتها تحرير الدول الفقيرة من الفقر، وهي قرارات تفتقر إلى المصداقية وعلينا أن ننتظر الأيام لندرك صدق توجهات الكبار في احترام حقوق الإنسان، والأهم من ذلك كله من وجهة نظري هو أن ندرك أن الربا البغيض الذي حاربته الرسالات السماوية هو عدو مشترك لسائر الحركات التحررية في العالم وهي الحركات التي قدم الإسلام تاريخياً أروع نموذج طليعي لها في محاربة الربا والاستبداد.

 

المقال العشرون: الأرض المقدسة…                       تشرين اليومي: العدد (8093): 29/8/2001م

 

الأرض المقدسة

قراءة أخرى للصراع

 

ليس من شك أن الحدث الفلسطيني يطغى اليوم على كل حدث وأن من غير المعقول أن يتجاوز المرء أياً من الأحداث التي يفترض أن تكون محوراً للكلام وهو ما ألزمني تغيير الموضوع الذي ذهبت من أجله إلى قناة الجزيرة في قطر لنتحدث عن التصوف في الإسلام لنتحول مباشرة للحديث عن الانتفاضة وأهلنا الصابرين في الأرض المقدسة.

من الواضح أن القرآن سمى فلسطين بالأرض المقدسة وسمى البلاد المجاورة بالأرض المباركة: الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا.

السؤال المطروح كان بعنوان: لماذا هذا التخاذل العربي في نصرة الانتفاضة، وهذا السؤال جعل البداية مباشرة من سوريا حيث انعقد مؤتمر خاص للحديث عن مقاطعة إسرائيل والمقاطعة محض مقاومة سلبية مشروعة لا غبار عليها، ولكن ثمان دول عربية تغيبت عن المقاطعة لأسباب في غاية الوهاء ومع أن المجتمعون قرروا جزئياً إعذار الدول التي ارتبطت بمعاهدات مع إسرائيل ولكن واضح أن ذلك كان عذراً أقبح من ذنب!!

والسؤال الذي طرحته في الندوة كان بالتحديد ماذا لو تحقق لبعض العرب رغبتهم بإنهاء الانتفاضة وقفاً لحمام الدم؟ وهل المصلحة العربية تتحقق بذلك ؟؟

إن النتيجة الكارثية التي ستترتب على تنفيذ ذلك إنما هي تحقيق الإرادة الشارونية الاستفزازية التي جاءت إلى السلطة في إسرائيل على أساس خيار البلطة، وأنه لا شيء أنفع للمفاوضة مع الفلسطينيين من أسلوب البلطة والدم، وهو ما سيجعل حمام الدم خياراً مستمراً إلى النهاية !

ثمة مسؤوليات أخرى تترتب على الأمة بمجموعها، لقد طالبت بتدويل الصراع على أساس العالم الإسلامي، ويعلم الكثيرون أن العالم الإسلامي بسائر شعوبه يعيش هم القضية الفلسطينية حتى العظم وفي كل مكان من العالم الإسلامي يحرق علم إسرائيل ويداس بالنعال، وترفع صورة الأقصى وقبة الصخرة، وتسمي الشعوب الإسلامية أبناءها باسم صلاح الدين ونور الدين وغيرهم من أبطال التحرير.

لقد عاش العرب زمناً في آمال الحل القومي، وبمثل ذلك عاش آخرون يراهنون على الحل الاشتراكي والمنظومة الشرقية وآخرون كانوا يراهنون على الحل الإسلامي، ولكن ذلك كله لم يحقق الآمال المنشودة لفرض حل عادل وشامل للصراع، وإنما تعمقت هوة الخلاف بين التيارات الناشدة للتحرر وخيل لكل فريق أن نجاحه لا يتحقق إلا بغياب صوت أخيه وفي الواقع فإن المطلوب إنما هو تحقيق التكامل بين الشعوب والقيادات والنتباه إلى المعاني التي تؤلف وتجمع

إن إسرائيل تواجهنا بشارون وتفاوضنا بيريز وتستعطفنت بميرتيس وتهددنا بجماعة أمناء الهيكل وتقتلنا باليعازر وتلعننا بشاس!!

إنها منظومة قذرة مختلفة في كل شيء، ولكنها متفقة فقط في محاربة الحق والعدل والخير، وهنا أود التركيز على كلمة الرئيس بشار الأسد في القمة العربية التي تحدث فيها بوضوح، إنه ليس ثمة ما نراهن عليه في إسرائيل فشارون هذا وصل إلى السلطة عن طريق انتخاب وليس عن طريق انقلاب، إنها إرادة مجتمع متواطئ على الشر، هنا أمة تكرهنا، ليست محض إرادة سياسية، إنها أمة تمارس القتل والشر من أجل أوهام توراتية تعيش خارج التاريخ!

ثمة سؤال له ما يبرره: ما الذي دفع الناخب الأمريكي أن يقدم دعمه اللامحدود لإسرائيل؟ إننا نتحدث عادة عن المصالح الأمريكية في المنطقة، لاشك أن من مصلحة أمريكا أن تكون إسرائيل بمثابة حاملة طائرات أمريكية في عمق الشرق الأوسط، ولكن هل يكفي ذلك لدى الناخب الأمريكي لتبرير مواقف البيت الأبيض المنحازة لصالح إسرائيل؟؟

في الواقع من وجهة نظري فإن المسألة اعمق من هذا الجانب المصالحي، فدافعوا الضرائب لا تقنعهم الاستراتيجيا البعيدة وهم بحاجة إلى تعليل أكثر مساساً، وهذا ما يجعلني أؤكد هنا ما قلته في مؤتمر اقدس ببيروت في أنه قد تحقق قدر كبير من النجاح لمآرب اليهودية في تهويد بعض الكنائس الغربية، وأصبحت عقيدة عودة المخلص ترتبط ارتباطاًً مباشراً بجمع الشعب المختار في فلسطين ولو على أسلاء (الغوييم) وهو معنى شاهدته بعيني يوم رأيت القس جيمي سواغارت وهو من أشد القساوسة ذوي (الكاريزما) الطاغية في الخطاب الإعلامي الغربي، لقد كان يجهش في البكاء خلال عظته التي يتابعها إعلامياً نحو عشرين مليون أميركي، وهو يصرخ أن الرب لن يبارك أمريكا ولن يمنحها مجدها حتى تحقق إرادته القديمة في جمع شعبه المختار في أرض الميعاد كي يتحقق مجيء الخلاص!!

مع أنني أدعوا إلى منح الصراع بعده الإسلامي الحقيقي الذي يجعل سائر مسلمي الأرض طرفاً في النزاع إياه، ولكن لابد من التوكيد على دور إخواننا المسيحيين العرب على القيام بواجبهم في مقاومة هذه الفكرة المدمرة التي تتصادم مع مقاصد الأديان جميعاً وتمجد الغدر والقتل والقتل، ولاشك أن هذا الدفاع سيكتب لهم في إطار تبرئة الكتاب المقدس من وصمة العنصرية التي يحاول اليهود أن يفرضوها على المقدس من خلال تأويلاتهم الشريرة لبعض ما ورد في الكتاب مع انهم أكفر الناس بالمسيح وأشدهم عداوة له، وه الذي فضح شرورهم ومكائدهم في عظاته وتبشيره، وقلب الموائد الآثمة التي كانوا يقامرون ويتآمرون عليها جوار الهيكل.

إن الصواريخ الإسرائيلية تقصف بيت جالا وبيت حانون وبيت لحم صباح مساء وهو معنى ينبغي أن يفهمه العالم، أن الاضطهاد لا يلحق مسلمي فلسطين وحدهم بل يطال المسيحيين والمسلمين على السواء، وهذه النقطة بالذات غير واضحة بالمرة في ذهنية دافع الضرائب الأميركي، الذي تمكنت إسرائيل من إقناعه أن الصراع إنما هو بين أصحاب الكتاب المقدس من جهة وبين الأعراب القادمين من الصحراء الذين يحملون كتباً ناسخاً وناسفاً لسائر كتبهم!‍

فمتى سيدرك المواطن الغربي حقيقة الصراع في الشرق وأن القرآن ليس إلا هدياً جاء مصدقاً لما بين يديه، يكمل بنيان الأنبياء ويستأنف جهادهم ونورهم؟

 

 

المقال الواحد والعشرون: العنف واللاعنف                 تشرين اليومي: العدد (8118): 29/8/2001م

 

العنف واللاعنف

 

يطغى الحدث الأمريكي وذيوله على سائر الأحداث التي عصفت بالعالم خلال السنين الأخيرة وكأن تاريخاً جديداً للعالم سيجري تدوينه بدءاً من الحدث إياه وسوف يؤرخ به لكل حدث آخر، من قصف أمريكا؟ ولماذا بدأت أول حروب القرن؟ ومتى تنتهي؟ وهل يجب أن نطوي الأحلام الوردية التي صورت للناس أن الحرب محض رواية تاريخية؟ وأن لا محل للنشاط الحربي في العالم المتحضر، وهل سيبقى الكبار لا يعانون من شرور الحروب وأن أرض الحروب هي فقط تلك المدائن المتعبة المثخنة في العالم الثالث ؟

أسئلة كثيرة مشروعة يطلقها المرء وهو ينتظر تلاحق الأحداث، والسؤال الذي لا بد منه الآن هو ما دور الفرد اليوم في عالم المتغيرات العاصفة هذا؟

العنف واللاعنف هو السؤال الذي يتردد اليوم في مسمع العالم كله بعد أن أعلن بوش انطلاق الحرب الأولى في هذا القرن، وهي حرب لا يستبعد الخبراء أن تكون كونية ونووية بعد أن دفع الطرف الأمريكي سلفاً الخسائر المطلوبة لحرب عالمية كاملة !!

لقد أصبح واضحاً الآن لماذا يقود أهلنا في الداخل الفلسطيني وفي الشتات كفاحاً مسلحاً في وجه إرهاب دولة منظم، بعد أن أدرك الشعب الأمريكي نفسه أن الإرهاب لا يقاوم بالخطابات والمواعظ والمؤتمرات الدولية والمحلية، وأن السبيل الوحيد لمواجهة الإرهاب هو القوة، وأن العنف ينبغي أن يقاوم بالعنف.

ولكن بعيداً عن الحدث الدولي وذيوله يسوغ التساؤل: هل قدّر على ابن آدم أن يكون سعيه معمّداً بالدم، وهل ثمة أمل في بلوغ مجد الروح حيث ينبعث الدم نفسه أقحوان حياة من شقائق النعمان؟

خلال خطبة الجمعة في مسجد الزهراء سعدت بحضور السيد خالد مشعل وهو رمز من رموز الجهاد الفلسطيني الذين نعتز بهم ونفتخر وهو الشهيد الحي الذي ظل رمزاً حياً للجهاد الإسلامي لعدة سنين وكانت الأمة تتابع جهاده وكفاحه وهكذا فقد تعجلت في خطبتي وتوجهت إلى الإخوة المصلين وأخبرتهم بوجود خالد مشعل بيننا، وهو رجل حاضر الحجة، قوي العبارة، كتب الله له القبول في نفوس الناس واعتاد الناس في مسجد الزهراء أن يصغوا إليه كلما حضر مشاركاً في الصلاة.

وكان من لطائف التقدير أن العلامة المفكر الإسلامي جودت سعيد كان أيضاً يشارك في صلاة الجمعة نفسها وكانت مناسبة فريدة أن نستمع من رجلين يبدو أنهما على طرفي نقيض، ففيما يختصر خالد مشعل بكلمة: الكفاح المسلح،فإن العلامة الشيخ جودت سعيد يعرف برجل اللاعنف، وكانت مناسبة نادرة ليستمع المرء من كلا الرجلين، وبالفعل طلبت إلى الجمهور الكريم أن يشاركنا هذه المناسبة فهنا معنا شيخ العنف وشيخ اللاعنف ولا بد أن نتفهم مواجع كل من الاتجاهين!!

وبالفعل تحدث خالد مشعل وكانت كلمة هائلة تحدث فيها عن مبررات الكفاح المسلح مستعرضاً تاريخ الجهاد في فلسطين ومؤكداً على حقيقة واحدة وهي أن المجتمع الإسرائيلي كله مجتمع محارب وعسكري، وأنه لا وجود لمدنيين في الكيان الإسرائيلي لأن مجرد وجود المحتل في الأرض المغتصبة هو موقف عدواني، ومع ذلك فإن المجاهدين يهاجمون في عملياتهم في المقام الأول المواقع العسكرية أو التجمعات التي يتزاحم فيها العسكريون.

وبدا واضحاً أن الحاضرين جميعاً يتعاطفون مع خطاب مشعل وحماسه وعنفه، وهو ما جعلني ألتفت إلى الجمهور الكريم وأطلب إلى أستاذنا المفكر الإسلامي جودت سعيد أن يتولى الحديث عقب مشعل وأن يبين لنا الخيار الذي ينهجه في مقاومة العنف بعد الحجج المفحمة التي قدمها مشعل!!

جودت سعيد كان واضحاً وهادئاً عندما قال: إن الأفق الذي تحدث أخي مشعل عن مواجهته هو العلاقة مع العدو وليس لدي أي تعديل لما قدمه مشعل في هذا السبيل، وواضح أن ليس بيننا وبين العدو إلا الجهاد طالما لم تكن لديه إرادة السلم، ولكني أتحدث عن السلام بين المسلم والمسلم، بين العربي والعربي، ثم سأل السيد خالد مشعل قائلاً: كم بلغ حصاد الانتفاضة من الشهداء منذ تفجرها في 27/9/2000 ؟

أجاب خالد مشعل إنهم نحو خمسمائة وأربعون شهيداً، قال جودت: إن المأساة الجزائرية وحدها حصدت خلال الفترة نفسها ضعف هذا الرقم!!

ولو أحصينا مجموع من استشهدوا في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي منذ النكبة إلى يومنا هذا لم يبلغوا ما حصدته الحرب العراقية الإيرانية، أو حرب الخليج الثانية، أو الحرب الأفغانية في صراع المجاهدين الأعداء!!

إنها قراءة رقمية دقيقة لقول الحكماء: لعل أعدى عدو لك هو نفسك التي بين جنبيك !!

إن السلاح العربي الذي يدفع ثمنه بالمليارات الآن لا يشترى لمواجهة إسرائيل بل إن كثيراً من صفقات السلاح التي يبرمها العرب صارت تنص على ذلك صراحة، وأكثر من ذلك فإن فاعليتها لن تكون من الناحية الفنية رغم ارتفاع أثمانها قادرة على فعل أي شيء مقابل السلاح الإسرائيلي حتى لو قرر العسكريون العرب نقض الاتفاقيات ومقاتلة إسرائيل بها، إن علينا أن نعترف أنه شيء يقدمه لنا العدو بأغلى الأثمان لنقاتل به بعضنا فقط وليس لنقاتل به عدونا!!.

قال جودت: إن الله وملائكته وآدم والإنسان والشيطان أجمعوا أن مشكلتنا نابعة من ذواتنا، وأن كل نفس بما كسبت رهينة!

قال الله: قل هو من عند أنفسكم، وقال آدم: رب إني ظلمت نفسي، وفي القرآن الكريم: بل الإنسان على نفسه بصيرة، وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم فلا تلوموني ولوموا أنفسكم.

إن أعظم رسالة يمكن أن يتوجه إليها المصلحون إنما هي إصلاح الذات والتغلب على الشقاق الداخلي الذي ينتج عنه اليوم أكثر الصراع الذي نشهده في هذا العالم الإسلامي الساخن!

لقد كان لقاء فريداً بين شيخ العنف وشيخ اللاعنف ولكنه يعلمنا الكثير مما يلزم أن نتعلمه من وحدة المقاصد وإن اختلفت الوسائل والدروب، وأن الأمة ينبغي أن تكتشف أسباب وحدتها على الرغم من اختلاف الوسائل التي تنتهجها، وهو ما يعبر عنه بأنه الواحد في إطار التعدد.

إن الحرب فيما يبدو شر كتب على ابشرية أن تعيشه وينبغي أن لا تخدك الشعارات البراقة التي تصور لك القرن القادم على أنه قرن الأحلام الوردية

 

 

 

 

 

 

المقال الثاني والعشرون: الإسراء والمعراج                 تشرين اليومي: العدد (8132): 14/10/2001م

 

 

الإسـراء والمعـراج

دلالات أخرى

 

يجري الحديث عن المعراج عادة في سياق الرواية الدينية التي أشارت إليها الآيات الكريمة في سورة الإسراء وفي سورة النجم.. ولكن أليس من المهم هنا أن نتحدث عن المعراج في سياق دلالاته الباقية؟

إن تعاملنا مع التراث لا يخرج في كثير من الأحيان عن استجرار الماضي والترجيح بين الروايات المختلفة التي ترسم صرة الحدث المختلفة على أنه قطعة من التاريخ.. ولكن ثمة دلالات باقية لأي حدث تاريخي ينبغي ألا تغيب عن البال.

1- سؤال يتكرر كل مرة لم كان العروج من بيت المقدس ولم يكن من مكة المكرمة؟ عندما انعقد مؤتمر الصهيونية في بال في سويسرا عام 1897 كان أباطرة الصهيونية العالمية قد أعدوا كل شيء من أجل الوصول إلى الحلم التاريخي لهم في فلسطين، وكانت الإمكانات التي رصدوها لهذا الهدف تكفي لشراء كامل التراب الفلسطيني كما جرى في جزيرة مانهاتن في نيويورك.. وعلى عادة الخبراء الاقتصاديين فغن الموازنة المرصودة كافية تماماً لبلوغ الهدف المنشود، مع هامش نفقات غير ملحوظة كانت تتألف منها الموازنة العتيدة تكفي لكل شيء!!

شيء واحد لم يكن في حساب المخططين للمؤامرة، وهو مسرى النبي محمد r الذي انطلق إلى القدس وعروجهة منها بعدئذ حيث جعل منها قضية دينية تسكن في قلب وجدان أمة، تمتد من المحيط ويزيد تعدادها عن ألف وخمسمائة مليون نسمة، تعيش مسألة الأقصى في قلوبهم خارج دائرة التنازل والتفريط، وهذا ما جعل صخرة الأقصى الذي تتكسر عنده أوهام الصهيونية التاريخية.

لقد اختار النبي الكريم r أن يتحدث عن إسرائه إلى الأقصى المبارك ليكون معراجه العظيم من بيت المقدس، وتكون الصخرة المشرفة هي الأرض التي يرقى منها إلى المناجاة العلوية في سدرة المنتهى، وفق ما قال الإمام البوصيري:

كما سرى البدر في داج من الظلم سريت من حرم ليلاً إلى حرم
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم وبت ترقى إلى أن نلت منزلة

إن عروجه من القدس بالذات ألغى كل إمكان للتفريط والمساومة بالأرض المقدسة: إذ صارت القدس تراثاً إسلامياً شديد الارتباط بالنبي الكريم محمد r، لا يملك أحد على الإطلاق أن يفاوض أو يتنازل عنه.

من وجهة نظري فإن صخرة المعراج رسمت تاريخاً مختلفاً لبيت المقدس.. وبالتأكيد فإن الأحداث كانت ستجيء مختلفة لو لم يكن للصخرة وجود في الضمير الإسلامي والعربي، حيث ستغدو المسألة حينئذ مشكلة إقليمية محضاً، يحلها ألف حلال!!

2- وفي جانب آخر من دلالات المعراج فإنني أترك الجدل في مسألة العروج بالروح أم بالجسد أم بهما جميعاً إلى محله في كتب الاختصاص، وأرجو أن لا أبتعد كثيراً عن دلالات المعراج الكبرى عندما أستعرض أمراً دقيقاً ذا دلالة، وهو مسألة فرض الصلوات التي تطرحها الروايات المتعددة في السنة النبوية، وهو أمر بالغ الأهمية في وجداننا الإسلامي، وفيها أن الرسول الكريم تلقى أمر الله سبحانه بخمسين صلاة في اليوم والليلة، ومع أن المسألة هنا مسألة نصية في غاية الوضوح يتلقاها أصدق البشر عن الله مباشرة من دون أي سلسلة من الإسناد، ومع أن النبي الكريم أولى العالمين بقول (سمعنا وأطعنا) وهو كذلك، ولكن الرواية تمضي إلى معنى دقيق وهام وهو أن النبي تشاور مع الرسول الكريم موسى عليه السلام في أمر الصلاة، وأن موسى كان يقول له يا محمد لقد بلوت الناس قبلك وخبرتهم، وإن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف.. وبوسعك أن تتصور إلى أي مدى يحب الله من الإنسان أن يكون حراً جريئاً في الحق.. ويمضي الرسول الكريم إلى ربه فيسأله التخفيف.. فخمسون صلاة في اليوم والليلة شيء لا يطيقه الإنسان، وحين يسأل الله ذلك يحط عنه خمساً، ثم عاد موسى يقول له قوله الأول.. فما زال به حتى رجع تسع مرات يطلب التخفيف من ربه، ومازال محمد يرجع إلى ربه، يحط عنه في كل مرة خمساً حتى بقيت خمس صلوات في اليوم والليلة!.. هذه الرواية تتناولها بعض أقلام بالجرح والتضعيف.. ولكنني أعتقد أن دلالاتها الباقية تجعلك مطمئناً إلى موثوقيتها وصدقها ولا سيما وأنها تقع في أعلى درج الموثوقية من رواية الإمام الجليل البخار، وأنها توافق مقاصد الشريعة في إطلاق حرية الفكر إلى الغاية.

ذلك أن النبي الكريم يضرب لنا هنا أدق مواقف حرية الرأي في الإسلام وما ينبغي أن تكون عليه الأمة في وعيها بمصالح الناس ومقاصد الشريعة.. هنا يحاور محمد ربه في مسألة تشريعية غير عادية: إنها مسالة الصلاة.. ومع أن البيان الإلهي كان واضحاً في خمسين صلاة: فإن النبي الكريم عمد إلى الحوار والمناقشة مع ربه ابتغاء تحقيق العدالة المنشودة!!

من المؤكد أن الله سبحانه لا يجهل مصالح العباد وقدراتهم ولكنه أراد بصراحة أن يشرك الإنسان في اقتراح الشريعة.. وهو موقف متألق من منزلة الرأي الحر في الإسلام وهو معنى لا يمكنك تجاوزه ما لم يدفعك القرآن الكريم إلى إدراكه.

إنني احب هنا أن أضع هذا الموقف المتألق للرسول الكريم لنقارنه مع ما ساد في الثقافة المتخلفة أيام الانحطاط التي كانت تتعامل مع الإنسان على أساس أن دوره ينحصر في تلقي الأوامر الجاهزة من رجل السلطة ورجل الدين: حيث كان الأول يحتكر إرادة الأمة والثاني يحتكر المعرفة عن الله.. وكان كثير من الزوايا تصرح، في غياب المعرفة الصحيحة بمقاصد الشريعة، أن السلطان ظل الله على أرضه، وأن أربعين عاماً من إمام جائر خير من ساعة واحدة بلا إمام، وغير ذلك من صيغ الاستبداد، وأن أفضل طريقة لبلوغ مرضاة الله هي الطاعة المطلقة لشيخ الطريقة الذي يفترض أن تكون بين يديه كالميت بين يديه غاسله!!، وأن خطأ الشيخ خير من صواب المريد!… وأنه لا تعترض فتنطرد!! إلى غير ذلك من الصيغ التي لا تشبه في شيء المعنى القدسي الذي تحملنا إليه رحلة المعراج.

منذ قرأت حديث المعراج وأنا لا يغيب عني في كل صلاة مشهد النبي الكريم أمام ربه في الملأ الأعلى.. وهو يدافع عن مصلحة الأمة، يحاور ربه، ويقدم حججه كأعظم محام متألق يذكره الدهر، وهو لا يجهل أنه في حواره يقف أمام من يعلم السر وأخفى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).. ولكنه رسم بحواره العظيم ملامح دين يدفع بالإنسان إلى أبعد مدى في حرية الرأي واحترام الحجة ورعاية مصالح الناس.

إن حوار المعراج حدث وقع في السماء، صحيح ؛ ولكن المطلوب تكراره في الأرض كل يوم.. وهو المعنى الذي يؤكده حديث الرسول r الصلاة معراج المؤمن.

 

 

 

المقال الثالث والعشرون: متى ستعرف أمريكا عدوها الحقيقي             تشرين اليومي: العدد (8151): 5/11/2001م

 

متى ستعرف أمريكا عدوها الحقيقي؟

 

يمكن التعريف ببنيامين فرانكلين (1706 – 1790) على أنه مؤذن الوحدة الأمريكية وأنه الرجل الذي ارتقى فوق الشبهات في الولايات المتحدة، وهو بالنسبة للأمريكيين كسعد زغلول بالنسبة لمصر أو سلطان باشا الأطرش بالنسبة للسوريين، إنه رجل باع وجوده من أجل بلاده ولم يقدر له أن يحكمها، واختار الشعب الأمريكي أن يضع صورته على الدولار الأمريكي على الرغم من أنه لا يحتفظ بأي وسامة لافتة!!.

كانت جهوده الهائلة التي بذلها من أجل قيام الولايات المتحدة تتواصل بدون انقطاع من خلال جولاته المكوكية بين بريطانيا وأمريكا حتى تمكن بالحوار والكفاح المتواصل من إقناع بريطانيا العظمى أن قيام الولايات المتحدة يوم كانت آنئذ ليست أكثر من الولايات الأمريكية المتحدة الثلاثة عشر.

وقد نشرت هذه الوثيقة في مجلة تشارلز بيكيني قبل 155 عاماً في ولاية نورث كارولينا بأمريكا، وهي عبارة عن تدوين دقيق لكلمة ألقاها بنيامين فرانكلين في مؤتمر كرس للحفاظ على استقلال أمريكا عن التاج البريطاني، يقول فيه:

هناك خطر عظيم يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية، ذلك الخطر هو اليهود.

أيها السادة: في أي مكان يستوطن اليهود فإنهم يهبطون بالمستوى الأخلاقي، ويفسدون الأمانة والصدق في التعامل المالي.

لقد ظلوا منعزلين ومقموعين لا يندمجون في الأمم حولهم، وحاولوا ابتزاز الشعوب مالياً كما هو الحال مع البرتغال والاسبان، ولأكثر من 1700 سنة وهم يندبون قدرهم العاثر، وبشكل أساسي إخراجهم من أرضهم الأم (كما يزعمون).

ولكن أيها السادة، لو أن العالم المتحضر اليوم يسَّر لهم سبيل العودة إلى أرضهم وممتلكاتهم في فلسطين، فإنهم في الحال سيجدون الذرائع والمبررات للعودة إلى هنا!! لماذا؟ لأنهم كمصاص الدماء لا يستطيع أن يمص دم نفسه بل لابد أن يمص دم الآخرين ولذلك يجب أن يعيشوا مع المسيحيين وغيرهم الذين لا ينتمون إلى عرقهم اليهودي!!

إذا لم يخرجوا من الولايات المتحدة في غضون قرن بالطريقة الدستورية، فإنهم خلال أقل من مائة عام سوف ينساحون في هذه البلاد وسيتحكم عدد منهم بنا وسوف يدمروننا ويغيرون شكل حياتنا ونظامنا وهو الذي دفعنا نحن الأمريكيين دماءنا، ومعاناة حياتنا من أجله ومن أجل ممتلكاتنا وحرياتنا.

وإذا لم يخرج اليهود خلال قرنين من أمريكا فإن أولادنا سيعملون في الحقول ليطمعوا اليهود فيما سيبقى اليهود في قصورهم يعدون المال ويفركون أيديهم بشماتة!!

إنني أحذر أيها السادة: من أن اليهود إذا لم يخرجوا من أمريكا للأبد فإن ابناءكم يلعنونكم في قبوركم.

أفكارهم وعقائدهم (العنصرية) لن تصبح وفق مثل أمريكا ولو عاشوا فيما بيننا عشرة أجيال أو أكثر لأن الفهد لا يستطيع أن يغير بقعه.

اليهود خطر على هذه الأرض وإذا سمح لهم على هذه الأرض وإذا سمح لهم أن يدخلوا فإنهم سيعرضون دستورنا للخطر، إنهم يجب أن يخرجوا بالطرق الدستورية من أمريكا.

هذه هي بالتمام والكمال نبوءة بنيامين فرانكلين التي أطلقها عشية قيام الولايات المتحدة الأمريكية قبل مائتين واثني عشر عاماً، ليست هذه نبوءة مثل نبوءات نبوستراد ومس الذائعة الصيت هذه الأيام، والتي تتحدث عن مستقبل أمريكا بالألغاز والأحاجي والحزازير، بل هي قراءة في الواقع الأمريكي لم يكتبها مناضل من حماس أو الجهاد الإسلامي أو كتائب القسام، إنها ليست خطاباً هائجاً يلقيه شاب متحمس من جيل الانتفاضة، إنها تصريح من أحد فلاسفة الحضارة الأمريكية وأحد المؤسسين للعالم كما هو اليوم.

فهل عرفت أمريكا عدوها الحقيقي الذي يكيد بالليل والنهار ليس لأمريكا فقط بل لكل أصناف البشر الذين لا ينتمون إلى العرق (المختار) الذي ينتمي إليه هؤلاء.

في اعتقادي فإن مشكلات أمريكا التي تعاني منها اليوم تعود في مجملها للكيد اليهودي العنصري الذي ينخر في عظام المجتمع الأمريكي كل يوم.

 

 

المقال الرابع والعشرون: هلال رمضان                      تشرين اليومي: العدد (8158): 13/11/2001م

 

هلال رمضان

قراءة في دلالات الوحدة وواقع الفرقة

 

يرمز الهلال إلى العالم الإسلامي من عدة جوانب، فهو أولاً المعيار الذي اعتمده الإسلام للتعبير عن مواقيت العبادات، كالصلاة والصوم والحج والحول في الزكاة، وهو ثانياً ترميز لصورة العالم الإسلامي الممتد من أندنوسيا شرقاً إلى نواكشوط غرباً حيث يتقبب في آسيا الوسطى، وهو ثالثاً رمز لجهة القبلة التي يصلي إليها المؤمنون حيث يشير قاب القوس في الهلال دوماً إلى جهة القبلة هذه، وهو رابعاً رمز للسيف العربي المقوس الذي هو آلة الجهاد وهو ما أخبر عنه النبي الكريم بقوله الجنة تحت ظلال السيوف، وهو الذي حفظ للأمة مقاماً مرهوب الجانب عبر التاريخ، ولا بأس أن يكون في دلالاته أيضاً المنجل الذي يرمز إلى زراعة الأرض وإحيائها إذ هو مقتضى قول النبي الكريم: من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وكان ذلك بكل تأكيد أكبر باعث للنهضة الزراعية في الحجاز آنئذ.

وقد بدأ استعمال الهلال رمزاً للعالم الإسلامي بدءاً من أيام محمد الفاتح عقب فتح القسطنطينية عام 1453 م، ومنذ ذلك التاريخ فإن استعمال الهلال شعاراً للدول الإسلامية يتزايد دوماً بعد يوم وهو الآن في صدر أعلام كثير من الدول الإسلامية تركيا وإيران وتونس على سبيل المثال.

ولكن هذا الهلال الذي ظل في التاريخ أكبر معالم الوحدة يصبح اليوم في سلوكنا المعاصر ظاهرة شتات!!

لقد اعتدنا في الشرق على ترقب الهلال في التاسع والعشرين من شعبان كل عام وذلك في عادة طيبة أصبحت جزءاً من فولكلور الناس حيث يرقب الأطفال كما الكبار مشاهد المبشرين بالشهر الكريم وأبو طبلة، وبائع العرقسوس، ويغدو مدفع رمضان جزءاً جميلاً من عادات رمضان الموحية التي تتكرر كل عام.

ويتابع الناس اليوم المحطات الفضائية وهي تعلن الواحدة تلو الأخرى إهلال رمضان في مشهد يذكرك برائحة الماضي يوم كان الناس يرقبون بزوغ الهلال في أطراف البلدات العربية، بالتأكيد ثمة متعة وبهجة في تعقب أخبار الهلال الواردة من كل بلد عربي، بحيث تغدو هذه الأخبار ليلة رمضان من أمتع الأخبار طرافة وجدة.

ولكن هل هذا هو المشهد الكامل لترقب الهلال ؟

قد يكون ذلك ممتعاً للمقيم في البلد المرتاح في التزاماته وعمله، ولكن الأمر يبدو شديد الاختلاف حين تعرض الجوانب الأخرى من المشهد.

وهل من المعقول أن يظل المرء حائراً إلى انتصاف الليل وهو لا يدري أمر غده أعيد أم فطر ؟

خلال زيارتي الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية كان أكثر سؤال أتلقاه من الجالية المسلمة هو هل من سبيل لمعرفة إهلال الهلال عن طريق الحساب الفلكي ؟

المسألة بدأت منذ سنين عندما كافح المسلمون دستورياً للوصول إلى تحقيق عطلة يوم واحد في نهاية رمضان تعتمدها الأمم المتحدة أسوة بالأعياد التي تعتمدها، وهو شكل من الإقرار بدور العالم الإسلامي له مغزاه ودلالاته، وهنا أذكر الأخ العزيز د.جورج جبور الذي كان يتابع هذا الحق العربي في عدد من الدوائر المهتمة في الغرب وبعد معاناة طويلة توصل المسلمون إلى استحصال قرار من الأمانة العامة باعتبار يوم عيد الفطر عيداً رسمياً تعطل فيه دوائر الأمم المتحدة كافة، وتقدم التحية والتهنئة الرسمية للجالية المسلمة بمناسبة عيد الفطر، وعندما دقت ساعة الحقيقة وأقرت الأمانة العامة العطلة رسمياً لم يكن هناك أحد يعرف متى يكون يوم العيد؟ لقد كان المطلوب أن نترقب الهلال ولكن هذا الأمر لا يبدو في حدود الإمكان في تلك الأجواء الضبابية، ورأى آخرون أن نقلد مكة المكرمة، وآخرون أن نقلد القاهرة.. ولكن هذه الخيارات جميعاً غير مقنعة ولا مبررة إذ لا تتمكن الأمانة العامة من (شنكلة) العطلة إلى ما بعد منتصف الليل، وأخذ الأمر أبعاداً أخرى تجعل التساؤل مشروعاً هنا: هل الفقه الإسلامي بالضرورة يلجئك إلى هذه الخيارات الضيقة؟ أليس في سماء الفقه الإسلامي ما يعالج حالة كهذه؟

وأين هو فضاء الاجتهاد الذي نتحدث عنه في الشريعة الصالحة لكل زمان ومكان؟

يبدو جلياً هنا أن من الغرور القول إن الشريعة صالحة لكل زمان مكان ونحن قاعدون عن الاجتهاد، إن الشريعة تصلح في الزمان والمكان عندما تكون الأمة في رشد عمر وعلي، عندما نملك أن نخصص النص ونقيد النص ونؤول النص ونتحدث عن السياق التاريخي للنص بحيث تصبح النصوص حينئذ معالم هادية ملهمة لا آصاراً تسكب أغلالها غشاوة على العقل وقيداً على الفكر.

الحديث الشريف: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، صيغة مثالية في عالم إسلامي يتألف من مكة والمدينة في القرن السابع الميلادي، ولكنه يحتاج تأويلاً آخر في عالم القرن العشرين حين تمتد البلاد الإسلامية عبر العالم وتتألف الأمصار الإسلامية من تراكيب متعددة من البشر يسكن بعضها في بلاد يمتد نهارها اثنين وعشرين ساعة فيما تشهد بلاد أخرى صوماً لا يزيد عن أربع ساعات، ويشتد الحر في بعضها حتى يبلغ خمسين درجة مئوية فيما يشتد البرد في أخرى حتى يكون أربعين درجة تحت الصفر !!

وبعد ذلك كله نتحدث عن عدم الحاجة إلى الاجتهاد؟

إن تغييب العقل الإسلامي كارثة، وأشد منها أننا نحتاج كل حين للتوكيد على الحاجة إلى العقل في مجتمع يطارد العقل في كل حين.

العجيب أن مناسك الإسلام جميعاً تعتمد التوقيت القمري كما في الصلاة والحج والجهاد، وجميعها قد أقر الناس فيها مبدأ الحساب الفلكي الذي أصبح قطعياً إلى حد أن هامش الخطأ فيه لا يتعدى الواحد من مليون، ومع أن النص القرآني في الصلاة مثله في ميقات الصوم: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل، ولكن لا يوجد مؤذن يرقب دلوك الشمس ولا غسق الليل إنه يعتمد الروزنامة وحسب، لقد تم تجاوز حرفية النص الذي يدعو إلى النظر في مطلع الشمس وزوالها وغروبها معياراً لتحديد المناسك ولكن الأمر لم يتحرك على الإطلاق في إطار مناسك الصوم،ولا يوجد أي سبب مقنع لحدوث ذلك، اللهم إلا الجمود على ظاهر النص الذي هو أسوأ آفات التعامل مع التاريخ المجيد خاصة وهو مرض شائع لدى الأمم جميعاً.

تمام الحديث هنا: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر يكون هكذا ويكون هكذا، أشار بيديه مرة إلى تسع وعشرين ومرة إلى ثلاثين)، فإذا كان هذا النص في أعلى درج الصحة أليس جلياً أن الخيار المشار إليه مرتبط في الواقع بالأمة الأمية وأن العلم والمعرفة والتكنولوجيا ينبغي أن يقود الناس إلى خيارات أخرى، أم أن المطلوب هنا أن نحافظ على أميتنا وجهالتنا من أجل الاحتفاظ بخيار هذا الوصف كأنه مزية وليس واقع حال؟

إنهم يتحدثون على أساس أن الحساب الفلكي والرؤية بالمناظير ظن، مع أن هامش الخطأ فيها لا يتعدى واحد من مليون، فهل الرؤية بالعين المجردة جاءت باليقين؟ وهل أفلحت في جعل العالم الإسلامي يصدر في صومه وفطره عن رأي واحد؟

هذا العام قامت مصر بإطلاق قمر صناعي بتكلفة 27 مليون دولار خصصت جانباً من نشاطه لمراقبة الهلال، ومع أن المبلغ يبدو باهظاً في موازنة دولة نامية كمصر ولكن السؤال هنا هل ستقبل المؤسسات الدينية اعتماد هذا الأسلوب الحاسم في تقرير موعد الإهلال وتوحيد الناس عليه أم ستنطلق فتاوى الابتداع والزندقة على سعي كهذا على أساس أنه اختراق للنص وعبث بالشريعة وأن على الأمة أن تمضي في اختلافها المألوف قروناً أخرى ؟

إنها إحدى محن العقل القاسية التي نكابدها ونحن نتحدث عن أماني الوحدة والجماعة وهي أمانٍ لن نجد رائحتها حتى نتمكن من الإنصات لصوت العقل الذي لا يمكن أبداً أن يكون الدين الحق نقيضاً له بحال.

 

 

المقال الخامس والعشرون: التراويح           تشرين اليومي: العدد (8164): 19/11/2001م

 

التراويح

 

التراويح هي قيام رمضان، ومن المعلوم أن النبي الكريم قام يصلي من ليل رمضان فصلى رجال بصلاته ولما حضر من غده ازداد عدد الذين يصلون بصلاته، فترك الخروج في اليوم التالي خشية أن تفرض صلاة التراويح على الناس.

ولا شك أن هذا الموقف من النبي الكريم يعكس رؤية حضارية ودعوة للناس لممارسة خيار تشريعي لا تهيمن عليه سلطة النص، وإحياء لرغائب الصلاة الاشتياقية، صلاة الحب والشوق التي هي بلا ريب أكمل أشكال العبادة، بدلاً من الصلاة الإرغامية التي يندفع إليها كثيرون ليؤدوها في الدنيا قبل أن يؤدوها على بلاط جهنم !.

وهكذا فقد بقي الناس يصلون التراويح على أشكال مختلفة إلى أن جاء عمر بن الخطاب فجمعهم على صلاة واحدة في المسجد يؤمهم أبي بن كعب الأنصاري.

ومع مرور الزمن فإن الفقهاء لا يزالون غير متفقين على موقف عمر إزاء صلاة التراويح واختلفوا في عدد ركعاتها ووترها وقراءتها وذلك كله من وجهة نظري مراد، إذ المطلوب حينئذ أن يتخير المسلم من ذلك كله ما يناسب ظرفه في الزمان والمكان.

وصلاة التراويح واضحة الأثر في عافية البدن إذ يحتاجها الصائم بعد وجبة الإفطار في أثر واضح لا يحتاج لأي توكيد، وهي أكبر مظاهر إشراق رمضان الروحي حيث تشرق في نفوس الناس تجليات الصوم من خلال ما يتدبرونه في التراويح كل يوم، وهي كذلك أكثر ما ينشر في أجواء بلادنا عبير رمضان ورائحته العطرة.

إن تقويماً آخر لصلاة التراويح أجد نفسي متحفزاً لتقديمه هنا وهو أن هذا المشهد الروحي يتم تجاهله إلى حد مريب في خطابنا الإعلامي المساوق للحدث الرمضاني كل يوم، التلفزيون يحملنا إلى خيام رمضان كل يوم، وواضح أن الخيام التي يقيمها المريديان والشيراتون وأمثالهما في رمضان لا يحضرها إلا بضع مئات ممن أنعم الله عليهم ورزقوا وفرة المال وراحة البال وانسجام العيال، وأوتوا حسن المأكل وطاب لهم حسن الملبس، وهي مشاهد غنية فنية، ولكنها فقيرة تماماً في الألق الروحي الذي يحمله رمضان، وبالمقابل فإنه لا يشكك أحد أن الملايين من أبناء هذا الوطن يغدون إلى المساجد بعد الإفطار لشهود التراويح، ولكن لم نجد التلفزيون مرة يستوقف أحداً من هذه الملايين ليسال عن النعيم الروحي الذي يشهده هؤلاء المنعمون بربيع الإشراق، ولم نسمع أي تغطية إعلامية من أي نوع لتلك البرامج الرمضانية الإيمانية التي تطرب بها سوريا كل ليلة، ولم يتقدم أي نشاط إعلامي للتعريف بالكفاءات المدهشة في مجال النعيم الروحي الغامر الذين يرحل إليهم الألوف المؤلفة من أبناء الوطن كل يوم ؟

أليس من المنطق أن يحملنا التلفزيون إلى بعض الأنشطة التي تجري داخل المساجد الجميلة التي هي بكل تأكيد أجمل معالم الوطن بدلاً من الاكتفاء بتصوير المآذن والقباب والحيطان والمحاريب الخالية؟

إن الحاجة إلى إحياء دور المحراب والمنبر في بناء المجتمع حقيقة لا تحتاج إلى أي تأكيد، وإن الوعي بهذه المقاصد يخدم المجتمع بكل تأكيد، وهنا يمكنني أن أستعير عبارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون قبل عامين خلال استقباله للجالية المسلمة قال: لقد أصبحنا ندرك بالتأكيد أن أكثر الأحياء في أمريكا سلامة من الانحراف الاجتماعي هي تلك الأحياء التي يقطنها المسلمون حيث تنخفض بشكل تلقائي معدلات الجرائم والمخدرات، وواضح أن بناء مسجد ما في أي بقعة في الأرض يحقق استقراراً في الحي وإقبالاً على الفضائل والمحبة.

إن ما يجري في المساجد في رمضان ليس محض مهرجانات روحية، إنها أيضاً مساهمات اجتماعية هائلة وأنا أسمح لنفسي أن أقدم هذه الأرقام التقريبية في قراءة أولية ولكنها ذات دلالة لا تخفى على أي مراقب :

يجمع في كل مسجد خلال شهر رمضان ما لا يقل عن مائة ألف ليرة سورية، (وهذا رقم وسطي إذ من المعروف أن بعض المساجد ربما تجمع نصف مليون ليرة في أسبوع واحد)، وهذه المبالغ تنفق في وجوه البر الاجتماعي، فإذا علمت أن المساجد في سوريا أكثر من خمسة آلاف مسجد فمعنى ذلك أن نحو نصف مليار ليرة سورية تقدمها المساجد كل عام في وجوه البر الاجتماعي وهي وجوه رئيسة في التنمية.

وإلى جانب هذا الوجه فإن من المؤكد أن ثمة وجوهاً كثيرة غير منظورة في الدور الاجتماعي للعبادة فكم من الخصومات الاجتماعية تعالجها روحانية المسجد، ويتم بذلك تخفيف عبء كبير عن محاكم الدولة، وكم من أشكال البؤس الاجتماعي يعالجها الإيمان حيث يجد البؤساء أنسهم في رياض رمضان الروحية والإيمانية، وكم من الخاطئين المقبلين على عالم الجريمة يتحولون في المسجد وعبر نفحات رمضان إلى تائبين آيبين.

إن مساجد دمشق ليست في الواقع كما نراها عند أذان المغرب محض جدران وثريات وأقواس، إنها في الحقيقة أكثر ما يضخ بالنشاط في الوطن كله خلال هذا الشهر العظيم.

 

المقال السادس والعشرون: فوازير رمضان                  تشرين اليومي: العدد (8169): 22/11/2001م

 

فوازير رمضان

 

في الماضي كان يمكن الحديث عن ملامح رمضان من خلال الأسواق والمحال والمساجد والمشاهد والولائم والسهرات الرمضانية.

والآن يتم تقويم جزء كبير من نشاط رمضان عبر جهاز التلفزيون، والموقف هنا يحتم علينا أن نرسم صورة تقويمية لأداء هذا الجهاز الفريد والساحر في الحياة الاجتماعية.

أصبح من الواضح أن رمضان يمثل ذروة المشاهدة بالنسبة للمواطن العربي وقبل بزوغ هلال رجب بشهور وشهور نسمع عن احتدام المعارك بين بارونات الشركات الإعلامية بغرض حجز حصة على الشاشة الصغيرة، وخاصة في وقت الإفطار.

ومع أننا لسنا في العير ولا في النفير في هذه المنافسات التجارية ولكن من حقنا أن نسأل ما هي المعايير التي تعتمد من قبل المسؤول الإعلامي لاعتماد هذا البرنامج أو ذاك في العرس الرمضاني؟

من الواضح أن المعيار هو متعة المشاهدة والتقييم الفني للعمل، الإضاءة، الصوت، الحبكة، الموسيقا التصويرية، المستوى الإخراجي، ولكن السؤال البدهي هنا هو: أليس من العقل والحكمة أن تضاف معايير أخرى في هذه البرنامج مثل: توافقه مع أحكام الصيام الشرعية، والتزام قدر من الحشمة، والأدب، واتفاقها مع آمال الناس وبرامجهم في الصلاة والصوم والنسك؟ أليس من احترام الاختصاص أن يكون ثمة رأي لرجال المعرفة الإسلامية في برامج رمضان يوازي رأي الخبير الإعلامي؟ وإذا كان هذا كله غير مهم فلماذا يزاحموننا في الساعة الإعلامية الدافئة عند مدفع الإفطار؟

من أوضح أشكال المواريث السوء ما ورثه التلفزيون عن أمه السينما فقد كانت السينما في ما مضى من سالف الأيام هي الرحم الذي دلفت منه التلفزيونات ولا غرابة من القول إن جمهور السينما كان ذا ميول محدددة، وكان شريحة واحدة من المجتمع، الأمر الذي أتاح أن تكون السينما نادياً للفن والفنانين، وهو سياق طبيعي، ولكن التلفزيون ليس كذلك، إن جمهوره في الحقيقة هم كل الناس، والناس هنا ليسوا بالضرورة من الشريحة التي كانت ترتاد السينما، إن ميولهم أكثر اختلافاً بكل تأكيد، إننا لم نذهب إلى استوديو التلفزيون إنه هو الذي جاء إلينا في المنزل، ودخل علينا غرفة الطعام وجلس يحدثنا على المائدة، ومن واجبه هنا أن يلتزم حرمة البيوت وآدابها، وأن يتنبه إلى رعاية ما يناسب الأذواق جميعاً.

فهل من الممكن أن تكون فوازير رمضان ملمحاً رمضانياً محترماً من منطق اجتماعي؟ وهل ثمة مبرر لأمة تعيش ظروف المواجهة أن تتقبل إنفاق ملايين طائلة على تبديل لوحات البرامج الصاخبة إلى حد تبديل ثياب الفرقة ومكان التصوير والكادر والاستوديو ليس فقط كل مشهد جديد بل كل ثانية من ثواني الاستعراض!

حتى أولئك الذين يراقبون استعراض الفوازيريات العربيات فإنهم ينددون بهذا اللون الهائج من الفن في رمضان، ويشعرون بأن قداسة الصوم ونفحاته الطيبة لا تتناسب مع هذا الشكل من الفن.

من الواضح أنني لا أفكر هنا بالتماس الآراء المتشددة في تقرير حرمة الغناء، فالأدلة من وجهة نظري متواترة في إقرار الغناء في الإسلام فناً يجمل الحياة ويملأها بالبهجة، وقد استمع النبي الكريم بنفسه لغناء الجواري وصوّب بعضه، في الحديث عن عائشة زوجة النبي أن النبي سمع عندي غناء جاريتين تغنيان بغناء يوم بعاث فقالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد فقال لها: دعي هذا وقولي ما كنت تقولين، وقد وردت أحاديث استماع النبي الكريم لغناء المرأة في صحيح البخاري اثنتي عشرة مرة، وحين كان بعض الصحابة ينكر ذلك كان النبي هو الذي يتبنى الدفاع عن رسالة الفن والجمال في الحياة.

وكيف ننسى أعذب أغنية غنتها فتيات المدينة بالدف والمزهر، وهن يستقبلن النبي الكريم مرتين: مرة يوم الهجرة، ومرة عند عودته من تبوك:

طلع البدر علينا من ثنيات لوداع

وجب الشكر علينا مادعا لله داع

على كل حال فإن الإمام الفقيه ابن حزم أفرد في كتابه المحلى نحو خمسين صفحة لاستقصاء الأدلة على إباحة الغناء وقدم عشرات الأدلة من السنة النبوية ومناهج الفقهاء على إباحة الغناء وأوضح بجلاء أن الغناء نهض فناً متيناً في عهد الصحابة الكرام وأن المدينة المنورة بالذات أصبحت عاصمة فنية رائدة في عصر بني أمية على وجه التحديد.

ولكن تقديم الأدلة على وعي الإسلام بالمسألة الفنية لا ينبغي أن يحملك على الظن بأن الفن كله لون واحد، وأن إقرار الفن الشريف البريء لا ينبغي أن ينضم فيه المرذول والمردود، وأن ثمة معايير لا يجوز تجاهلها ونحن نتحدث عن الفن الرمضاني.

أليس من حق أجواء رمضان الروحية والإيمانية أن تطالب المذيعات والفنانات في الفضائيات العربية بالحشمة اللائقة للأحداث التي يقدمونها ويعرفون بها ؟

وإذا كان البعض لا يحب أن نشير إلى الواجب الديني في سياق العمل الاحترافي، أليس من الطبيعي أن يكون هذا الالتزام هو نوع من الاحتراف والوعي بالمسالة الفنية على أقل تقدير ؟

 

المقال السابع والعشرون: رمضان تربية وجهاد              تشرين اليومي: العدد (8175): 2/12/2001م

 

رمضان وتربية الجهاد

 

واضح أن الصوم من أكثر مناسك الإسلام شعبية في العالم الإسلامي، بحيث يمكن أن نتحدث عن أكثر من مليار صائم من دون أن نتهم بالمبالغة في شيء، وهنا يمكن القول أن الصوم هو النسك الديني الذي يلتزمه أكبر عدد من الناس في الأرض في وقت واحد !

إن تقرير مثل هذه الحقائق الموضوعية لا يجوز أن يتوقف عند حدود الاغتباط والبهجة، إن الأمم الواعية تنظر إلى المسألة من جوانب عملية، فحين يتم حساب الأشياء بمقاصدها، فإن الأمور يمكن توجيهها إلى مصالح الخير العام، بحيث ينظر إلى ذلك في إطار الطاقات الكامنة التي تتطلبها الأمة في كفاحها وسعيها المتواصل.

الصوم مشقة وربما لا نتلمس معاني المشقة فيه في صوم الشتاء هذا ولكن عندما يأتي الصوم في الصيف فإن المسائل تغدو أكثر وضوحاً، والأمر نفسه حين تتذكر أن الصوم فرض في الحجاز عندما كان الحر على أشده حتى إنهم قالوا إنما سمي رمضان لشدة الحر الذي صادف افتراضه على الناس فيه.

والآن كيف يمكن أن يكون هذا الصوم مظهراً لبناء جيل رسالي؟

الإسلام ينهج منهجاً فريداً في بناء الإنسان فحين يحرم على الذكور الحرير والذهب لم يكن ذلك بدافع اقتصادي بدليل إباحة ذلك للمرأة ومعلوم أن تزين الرجل بالذهب لن يبلغ أبداً عشر ما تتزين به المرأة، ولكنه كان موقفاً رسالياً يراد منه بناء جيل عقائدي لا يعرف الدعة والرفاهية في سبيل حمل الرسالة التي ادخرته لها الأيام.

كثيراً ما نتخيل أن هذه المقاصد الإسلامية من بقاء الجهاد حكماً شرعياً ماضياً إلى آخر الدهر هي من مبالغات (المشايخ) وأن الزمان قد تجاوز ذلك، وأن عصر العلم والتكنولوجيا دفع عن الناس غوائل الحروب ولم يعد أمام الشعوب إلا الجلوس قبالة الكومبيوتر والأنترنت والنتميتنغ والنت فون وغيرها من أدوات العولمة الطاغية، لنحقق بذلك ما تصبو إليه آمالنا في التقدم والازدهار.

وددت ذلك، ولكن قراءة بصيرة لواقع الإنسان في القرن العشرين وكوارث الصدام المتواصل بين الأطماع المسعورة والنوايا الطيبة تجعلك تدرك بوضوح أن إنسان اليوتوبيا (الطوباوي) لا وجود له إلا على أوراق الفلاسفة وأن الإنسان مدعو لممارسة الكفاح والعناء حتى يتحصل له العيش الكريم.

إن أهلنا في فلسطين الذين فرضت عليهم المواجهة يعيشون أيضاً في مطلع القرن الحادي والعشرين، ويعرفون استخدام الإنترنت والمالتيميديا، ولكن قدر المواجهة مع الغاصب الغادر فرض عليهم أن يزجوا بصدورهم العارية في مواجهة الرصاص المتفجر وهو ما تصفه كثير من مذيعاتنا (الدلوعات) وفق التضليل الإعلامي المبرمج بقولهن (الرصاص المغلف بمادة رقيقة من المطاط) والذي يعطيك إيحاء مقصوداً بأن هذا الرصاص ليس إلا شكلاً من أشكال المزح اللطيف لا يؤذي ولا يجرح وكأن الدماء الحمراء التي تنبعث من جراح هذا الرصاص الغادر ليست إلا مبالغة فلسطينية ذات أهداف إعلامية !.

إن تربية الجهاد التي تبعث الحماس في قلوب أبطال الحجارة وتقود جهادهم، هي في الواقع ضمانة المواجهة وبالتأكيد فإن توهين تربية الجهاد في نفوس هؤلاء سيأخذ الجيل بأسره إلى حانات العجز والخور.

لا يوجد في الواقع أي ضمانة أن القدر الذي كتب على إخواننا في فلسطين غير قابل أن يتكرر أيضاً في بلاد إسلامية وعربية أخرى، ظالما بقي المشروع الصهيوني المدعوم أمريكياً قائماً في المنطقة.

يبقى الصيام شاهداً واضحاً على إرادة الإسلام في إبقاء جذوة الروح الجهادية متقدة فعالة، فحين يمتنع الشاب عن رغائب الجسد وهو عليها قادر وهي منه قريبة فإنه حينئذ يستعلن بملء إرادته أن الإنسان ليس محض نوازع الجسد إنه أقوى من ذلك بكثير إنه الروح التي تتحدى الصعاب وإنه قادر أن يرتفع فوق رغائب الجسد عندما يدعوه الواجب لذلك، وستكون روحه عندئذ على كفه حين يتحدى الموت في سبيل الرسالة.

يحدث عامر بن الطفيل قال: أرسل النبيr بعثه إلى بئر معونة وكنا أهل جاهلية غدرنا بهم فلما تمكنت من حرام بن ملحان طعنته بالرمح طعنة أثبتته، فلما تفجر الدم من بطنه ملأ راحتيه دماً ومسح به وجهه وقال: فزت ورب الكعبة!!.. قال عامر فقلت في نفسي: والله ما فاز أنا قتلته!!

فما زالت كلمته تلك في خاطري حتى شرح الله صدري للإسلام.

لقد كان جيلاً فريداً ذلك الجيل الذي حمل أفراده على كواهلهم عناء العالمين، وتوجهوا في أطراف الأرض،وكانت تربية الجهاد التي نشأوا عليها تحمل لهم عبير الجنة فترتفع آمالهم عن حطام الدنيا ورغائبها.

وهكذا فإن الصوم جزء من هذه المدرسة التربوية التي يريد الإسلام أن ينشأ عليها شباب الأمة تمنحهم زاد الاستعداد للأيام الفاصلة عندما يناديهم الواجب.

أنقل لك هنا ما أخبرني به سفيرنا السابق في الإمارات الأستاذ علي عمران، قال: ذات يوم قال رابين لأركان حربه: كم عدد العرب في مواجهتنا؟ الجواب: عدة مئات من الملايين! قال: كلا. .إنني أحصيهم في صلاة الفجر في المساجد!! هؤلاء في المقام الأول يهددون حقيقة كيان إسرائيل!!

ألا تشعر الآن بدقة تعبيره وأنت تراقب الانتفاضة المنبعثة من رحاب الأقصى المبارك؟؟

فهل تتوجه برامج رمضان الإعلامية باتجاه إحياء هذا اللون من مقاصد الصيام ؟

وهل نشعر حقيقة بأن الصوم لا يزال يحمل للصائم تربية الجهاد أم أن المطبخ الرمضاني نسف ذلك كله ووقف بالصائمين عند عبارة الأول: احملوا أخاكم فقد شبع!!

 

 

المقال الثامن والعشرون: توفيق المنجد                     تشرين اليومي: العدد (8179): 6/12/2001م

 

توفيق المنجد الصوت الذي يحمل عبير رمضان

 

هذا هو رمضان الرابع الذي يغيب فيه عنا أمير المنشدين، منذ أن غيبه الموت في 12شعبان /1419 وهل هناك صائم في الشام لا يتذكر توفيق المنجد.

شخصياً لم يتيسر لي التواصل المباشر مع توفيق المنجد فقد كان بيننا من العمر نحو سبعين عاماً، ومع ذلك فقد كنت أشعر أن أشواقي التي أحب أن أغنيها تأتي تماماً على نسق إنشاد هذا (الشاب) ابن المائة واثنين ربيعاً !! وتماماً كما يحس كل صائم أن هذه الحنجرة التي أوتيها الرجل تدخر سائر ذكريات رمضان، وكان الناس يتذكرونها كلما أهل هلال رمضان.

كنا أطفالاً يوم كان رمضان يحملنا إلى جنبات الجامع الأموي مع أول أيام السحر لنستمع الأناشيد الجميلة التي يطربنا بها توفيق المنجد تحت قبة الجامع الأموي العريق.

قد لا يكون في تاريخ الإنشاد وربما الغناء أيضاً من ظل واقفاً ينشدك ويطربك حتى صار سنه مائة وعامان بالتمام والكمال إلا توفيق المنجد.

كانت طلته الرقيقة وملامح وجهه ونبرات صوته ترسم لنا ملامح رمضان وتجلياته، بحيث أصبح سحر رمضان مختلفاً جداً بعد أن رحل أبو أسامة إلى ربيع الخلد.

وهنا أليس من الطبيعي أن نتساءل ما الذي خلد المنجد في قلوب محبيه في دمشق؟

إن الأداء الذي قدمه للفن النشيد يستعصي في الواقع على التقليد، بحيث لا يمكن أن تسمعه من منشد آخر إلا المنجد.

خلال أيام عطائه ولد منشدون كثير وسمع بهم الناس زمناً ثم نسيهم الناس وهو واقف على قدميه، يمنحك كل يوم دفئاً جديداً في دفق النشيد الديني وروحه وألقه.

من الواضح الآن أن الإنشاد الديني أصبح فناً قائماً بذاته، ويتبارى المنشدون اليوم لتقديم اللافت والجديد مستخدمين التكنولوجيا المتوفرة والوسائل الإعلامية المتيسرة، وضم كثير منهم إلى جوقته الدف والمزهر والعود والربابة، وهكذا ظهر المنشدون في البر والبحر، ولكن ما السحر الذي كان لأبي أسامة حتى كان صوته الأعزل يفعل في النفوس ما لا يفعله كل هذا الطبل والزمر؟

لقد كان ينشد من ذاته ووجوده وكنت تشعر أن كل شيء فيه يغني، وكان يؤمن بالاختصاص فلم يشأ أن يكتب على إنتاجه: كلمات وألحان وأداء وإخراج وإنتاج وتوزيع توفيق المنجد كما يحلو لكثير من الموهوبين اليوم، كان يعلم أن هذه المسائل اختصاص وعليه أن يحترم هذا الاختصاص، لقد اكتفى أن يكون هو الصوت الذي تعبر من خلاله أشواق شعراء كثير وألحان فنانين كثير، وبحسبه أن ينقل إليك ما دبجه هؤلاء الشعراء بأقلامهم عبر حنجرته التي جمع الله فيها أنين الناي وفرح الربابة وطرب العود.

ثمة أسماء أصبحت تحمل عبير رمضان كلما ذكرت وقد تمكنت التكنولوجيا من منحها حياة أطول فصار من حق الجيل الجديد أن يترنم بالأصيل الراقي مما أبدعته تلك الحناجر الموهوبة.

أيّنا يمكنه أن ينسى أيضاً مناجاة الشيخ علي الجمّال الذي كانت روحه الطيبة تخالط السحر وتمنحك دفء العشق الأعلى وتجلياته؟ وهل يمكن أن يموت صوت كهذا تعزف نفحاته على روح القلوب المشتاقة، وهو الصوت الذي لا تزال أمهاتنا تطرب له وهي تعد لنا طعام السحور.

أليس من حقنا هنا أن نقول إن الأصيل يبقى والهزيل يموت؟

أحياناً يغلب علينا السقوط بحيث نتصور أن الجيد الأصيل نتاج الزمن الموغل بحيث نزداد انحداراً كلما تقدم الزمن ونزداد أصالة كلما أوغلنا في الماضي، وهذه فكرة نجد تطبيقاتها في كثير من فروع الآداب، على سبيل المثال نتحدث اليوم عن الشعر الجاهلي على أنه أقوى أشكال الشعر العربي أصالة واعتدالاً، وأن الشعر بعدئذ لا زال ينحط حتى وصلنا إلى: (والله لانصب مرجوحا بين اسطوحي واسطوحها)، فهل هذه قراءة دقيقة لواقع تطور الأدب العربي؟

من وجهة نظري فإن الأدب الجاهلي كالأدب المعاصر فيه الجيد وفيه الرديء، ولكن سمْعَ الزمان انتخب الجيد وأهمل الرديء، وهكذا فإن العبارات الهزيلة تم سقوطها وضياعها فيما استمرت العبارة القوية الجزلة تتبوأ مكانها في ضمير الناس وتساوق مشاعرهم.

كم مر في سماء دمشق من المنشدين؟ كثير بالتأكيد، ولكن لماذا لا ننسى توفيق المنجد؟ ولماذا تهف روحه علينا كل رمضان؟

سؤال نضعه بين يدي المنشدين الجدد برسم الوعي بين الأصالة والبازارية.

 

المقال التاسع والعشرون: السيد المسيح في ضمير دمشق    تشرين اليومي: العدد (8197): 30/12/2001م

 

السيد المسيح في ضمير دمشق

 

لدى تسلمه مهامه في دمشق قام السفير الكندي بزيارة إلى مفتي سورية الشيخ أحمد كفتارو، وذلك في اللقاء البروتوكولي سأل السفير:

السفير: يا سماحة المفتي كم عدد المسيحيين في سورية؟

المفتي: إنهم سبعة عشر مليوناً.

السفير: عفواً سماحة الشيخ أنا أسأل عن المسيحيين فقط وليس عن سائر المواطنين.

المفتي: وأنا أجيبك بدقة إنهم سبعة عشر مليوناً.

السفير: عفواً سماحة المفتي لقد سألت بعض المتخصصين وأخبروني أن العدد أقل من ذلك بكثير، إنهم نسبة محدودة من المواطنين.

المفتي: من هؤلاء المختصون؟ أنا هنا المفتي العام للبلاد. .!

السفير: أرجو المعذرة إنني لا أفهم ماذا تقصد..

المفتي: سأشرح لك: إنه لا يقبل في الإسلام إيمان أحد من دون أن يوقن يقيناً جازماً أن السيد المسيح روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورسوله إلى عباده وأنه ولد من غير أب، وهكذا فإن كل مواطن سوري يختزن في جوانحه إيماناً كاملاً بالسيد المسيح هنا، وهو شأن كل مسلم في الأرض.

من المؤكد أن المسلمين يحتفظون بوعي خاص فيما يتصل بالسيد المسيح عليه سلام الله وإكرامه، وهي خصائص تزيد عما نعتقده في سائر أنبياء الله الكرام.

وحده من بين سائر الأنبياء يذكره القرآن الكريم على أنه روح الله وكلمته وأنه ولد من غير أب، وتبدو هذه الحقائق بدهية إلى حد أننا لا نحتاج إلى التذكير عليها في مثل هذه المناسبات، ولكن هل يملك هذا المقال أن يضيف إلى وعينا شيئاً جديداً عن السيد المسيح عليه سلام الله ؟

أهداني العزيز القس فيلوثاوس فرج كاهن الكنيسة المرقصية نسخة فريدة من الكتاب المقدس وهي الكتاب التطبيقي للإنجيل وهي طبعة فريدة طافحة بالجداول والخرائط التوضيحية التي تشرح معالم الكتاب والجغرافيا التي تحركت فيها الأحداث الكتابية، وكذلك عدداً من الجداول التي تضمنها الكتاب وفيها جدول خاص بمعجزات السيد المسيح، وبالمقارنة فإنك تجد عددا من المعجزات التي اشترك في الإشارة إليها القرآن والإنجيل في حين أن بعضها انفرد الإنجيل بإيراده كما أن بعضها ورد في القرآن ولم يرد في الإنحيل.

من المعجزات التي ذكرت في القرآن ولم تذكر في الإنجيل معجزة كلام السيد المسيح في المهد (فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) وكذلك أنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، ومنها المائدة التي أنزلها الله على الحواريين من أصحاب السيد المسيح عليهم السلام، ومنها أيضاً نجاته من الصلب الذي مكر به اليهود.

ولا شك أن تنويه القرآن الكريم بهذه المعجزات يكشف لك عن العمق الذي قصدت الشريعة الإسلامية إلى إحيائه في سلوك المؤمنين.

وهكذا فإن عيد الميلاد في الواقع عيد مشترك يعرفه المسيحيون حدثاً لاهوتياً فيما هو في القرآن الكريم سورة مفردة كاملة يتولى القرآن من خلال سورة مريم الحديث عن أدق تفاصيل ولادة السيد المسيح إلى حد أنه يشرح تفاصيل الحلوى التي قدمت يوم ولادته الطاهرة: وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً فكلي واشربي وقري عيناً.

من الفريد الذي يلزم هنا تقريره أن المسلمين يحتفظون بجانبين اثنين فريدين من وعيهم بالسيد المسيح الأول هو إيرادهم لخبر وصوله إلى دمشق طفلاً، كما أشارت الآية الكريمة: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين إذ ذكر عدد من المفسرين أن الربوة المذكورة في القرآن الكريم هي ربوة دمشق من هؤلاء ابن عباس وسعيد بن المسيب، وذلك أن السيدة العذراء مريم خافت عليه من بطش اليهود فأتت به إلى الشام، وأما المسألة الثانية التي أشارت إليها النصوص الإسلامية فهي عودة السيد المسيح من دمشق، حيث ورد في صحيح مسلم أن الله يبعث المسيح ابن مريم. فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين. واضعا كفيه على أجنحة ملكين. إذا طأطأ رأسه قطر. وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ.

بالتأكيد السيد المسيح ملك للبشرية كلها ولكن ألا يحق لدمشق أن تختص بجوانب من حياته العظيمة وفاء لما قدمته من تاريخ الرسالات مهداً للمسيحية ومنارة للإسلام.

ولا شك أن هذه الجوانب من حياة السيد المسيح جديرة أن يتحدث عنها بإمعان وبصيرة وأن ندرك أثرها في العمق في إطار ما يتصل بوحدة الوطن في إطار بناء الإخاء الديني الذي حققته سوريا على أتم وجه.

إن عقيدة الإيمان بالسيد المسيح وهي ركن من عقيدة كل مسلم في الأرض، وكذلك الاعتقاد بعودته إلى الأرض حكماً عدلاً يجتمع عليه المؤمنون، كاف في بناء أروع حال من الود والتكامل بين أتباع الرسالات السماوية من أبناء الأنبياء.

ها نحن نتابع الاحتفالات بميلاد السيد المسيح والعام الجديد تمتد في الواقع إلى كل مكان في الأرض، تشارك فيها الشعوب كافة من الشرق إلى الغرب مع أن كثيراً من هذه الشعوب لا تعتقد بالمسيحية وربما لا تعتقد ديناً سماوياً على الإطلاق، ومع أن هذه البهجة المشتركة حدث سعيد ولكن ألا يحق لنا أن نشير هنا إلى أن الحدث الذي يكتب عنه اليوم سائر الناس في الأرض وتتغنى به وسائل الإعلام هو حدث سوري في المقام الأول؟

سوريا التاريخية كان يعبر بها عن الأرض الممتدة من جبال طوروس إلى عريش مصر، وفي جوانحها يختصر التاريخ كله حتى يقول أهل المعرفة بالتاريخ على حد تعبير آرنه تويفانين: لكل إنسان في العالم وطنان، وطنه وسوريا.

تحية إلى ذكرى فتى الناصرة الثائر في وجه الفريسيين والكهنة من تجار الدين، لقد كان بانتفاضته تلك أول أبطال انتفاضة الأرض المقدسة، وقدم بصدره العاري ملامح الكفاح الأول في نصرة الحق والخير والجمال وكان يطلق آماله وإصلاحه وإشراقه من بيت لحم وكنيسة المهد صوب الشام التي ستسأنف كفاحه عبر تاريخ طويل من الهدى والنور.

 

 

 

نموذج

}إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ & ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{.

 

تشرين الأسبوعي: العدد96 السنة الثانية 24/1/2000

([1]) مثنوي جلال الدين، ترجمة د. كفافي جـ1 نظم الصفحة 410 .

([2]) نفس المصدر السابق، نظم ص369 .

 

 

تحميل الملف على باب قرن جديد

Related posts

شرف الكلمة

drmohammad

الإنسانية قيم مشتركة

drmohammad

د.محمد حبش- البابا يغسل أقدام اللاجئين…27/3/2016

drmohammad

Leave a Comment