يتجدد السؤال حول الهوية في الوطن العربي, وهي أسئلة قديمة ولكنها تتجدد اليوم في حمى الصراع الدائر على لبنان, وهي بالتالي عنوان لكثير من اللقاءات التلفزيونية لتحديد الهوية من جديد.
المنطق العوكري في لبنان اليوم يرى أن لبنان طائر فينيقي أسطوري شارد الأحلام, قبلته إلى الغرب, وعناؤه من الشرق, وأنه جاد في الخلاص من التأثرات السلبية التي حملها إليه الفتح الإسلامي الذي عصف بخصائصه الفرنجية وشوهه عربياً, وهو منطق أطلقه في الخمسينات والستينات كثير من المفكرين العرب على خلفيات إقليمية لا ترى في الإسلام إلا عودة إلى حكم الأستانة يجب الخلاص منه, ويومها كانت الحدود الدموية تفصل بوضوح بين الأطراف السياسية في الشرق العربي وتدعو بشكل صارخ لتحديد موقع الوطن بين الأصالة والمعاصرة, وحيث كانت الأسئلة تطرح عادة بصيغة هل نحن مسلمون أم عرب, وكذلك هل نحن عرب أم سوريون? عرب أم مصريون? عرب أم لبنانيون? وهل سنمضي في خيارنا الإسلامي أم سنختار الموقف القومي أم الموقف المحلي, وهكذا فقد عاش الشارع العربي عدة عقود وهو يعاني من الإجابة على أسئلة ثقيلة رسمها العقل الإقصائي, وافترض إزاءها الإجابات الصارمة التي لا تحتمل أدنى مجاملة أو تأويل.
وقد احتجنا إلى عقود طويلة لإدراك حقيقة أن الإسلام ليس صيغة إلغائية للآخر وأنه ليس ماضياً في سبيل هدم الحياة وبنائها من جديد بل هو مشروع تكامل وتواصل, ومنطق تعامله مع الآخرين تحكمه الآية الكريمة: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.
قبل أسابيع قمت بترتيب لقاء جماهيري حاشد على أرض جامع تنكز بدمشق تأييداً ودعما لصمود لبنان بالتعاون مع لجنة المبادرة للحوار الوطني وقد شارك فيه مئات من القوميين السوريين والحركات اليسارية والشيوعية والعلمانية في البلد, ولا أشك أنني سمعت غمزاً ولمزاً من هنا وهناك, إذ كيف يستقيم التعاون بين جمعية خاصة لعلماء الشريعة وحركات شيوعية ويسارية في الوطن, ولا شك أن أصدقاءنا الشيوعيين واليساريين الذين شاركوا تعرضوا للنقد ذاته, إذ كيف يمكن التعاون بين حركات ثورية متمردة مع حركة دينية محافظة يقودها أرباب الشعائر الدينية? ولكن ذلك الوهم كله يتبدد عندما ندرك أن أي حركة سياسية في سورية إذا كانت راغبة في التبيؤ في رحاب الوطن فإنها لا بد أن تكون واعية للوزن الحضاري للإسلام, وأن الإسلام هو شمس مجدنا في العالم وأننا لا يمكن أن نخوض أي كفاح سياسي في غمرة كفاحنا اليومي بعيداً عن روح الإسلام وقيمه ومبادئه, وكذلك فإن أي حركة دينية راغبة أن تتبوأ مكاناً لها في الحياة العامة لا بد أن تتفهم سائر الطيف السياسي الموجود في الوطن وأن تدرك الأفق الوطني الذي يلم شمل الجميع وأن تكون كذلك في موقع تسامح الإسلام الحضاري يوم كان الصابئة والزرادشتية والدهرية يعملون إلى جانب أهل الكتاب مع المسلمين في بناء الصرح الحضاري الكبير الذي ملأ العصور الوسطى بالضياء في وقت كانت تلقى فيه السلاسل على الكتب المتنورة في أوروبا, ويمنع الناس من أن يشاركوا في الحياة الثقافية والسياسية, ويحالون إلى محاكم التفتيش الرهيبة.
يومها كان يحكم ثقافتنا الإسلامية منطق الآيات البينات: من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره, وكذلك منطق القرآن الكريم في إنصاف الآخر المختلف في الاعتقاد: وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين.
الأمر نفسه لا زلت أذكره يوم انتخبت في البرلمان مراقباً لمجلس الشعب: يومها قلت: إنه لشرف لي أن أعمل هنا في البرلمان مشاركاً مع زميلي حنين نمر وأنا القادم من المساجد وهو القادم من الحزب الشيوعي, وكلانا نعزف سيمفونية الوطن بروح واحدة!!
كان الموقف جد مؤثر, ولا يزال يذكره السوريون كلما تحدثوا عن الوحدة الوطنية, وهو شرف لكلينا بكل تأكيد, ولكن الموقف ذاته لم يمر أيضاً من دون غمز ولمز, فهناك إسلاميون رأوا فيه مداهنة غير مبررة, وشيوعيون فهموه مصانعة غير مقبولة, وأنا سعيد أنه وقع موقعاً حسناً في نفس كل من يفهم معنى أن يكون الوطن غنياً ومتنوعاً وحراً, نعم إنه شيء يحصل فقط في سورية!!
في اجتماع لجنة العمل الإسلامي المسيحي المشترك كانت عمائم الأئمة وتيجان المطارنة تتجاور في رأس جبل عازار الأخضر, حيث تبادل الأصدقاء بصراحة هموم الوطن والحاجة المستمرة إلى تعزيز النموذج السوري من الإخاء, وتقديمه نموذجاً للإخاء الديني في العالم, ومضى المطران باصيل منصور إلى أكثر من الحديث عن العيش المشترك لقد قال: إن كتاب التاريخ المدرسي لا يزال ينظر بخجل إلى إسهام المسيحيين العرب في حركة الحضارة الإسلامية, كما لو أنها كانت شيئاً فرض علينا لم يكن لنا فيه خيار! بل نريد أن نقول إن بناء الحضارة الإسلامية هنا في الشرق كان إنجازاً عالمياً هائلاً بكل المقاييس, وكنا نحن شركاء في مجده, ومن حقي أن أرى دور المسيحي العربي إلى جوار أبي بكر وعمر , وفي دولة الوليد وبلاط الرشيد والمأمون, بل إن صلاح الدين الأيوبي القائد الإسلامي الكبير كان أهم مستشاريه خبراء مسيحيون وشباب فدائيون وقفوا معه من أجل تحرير بيت المقدس من بغي الفرنجة وكيدهم.
متى يدرك الساسة اللبنانيون أن الخيار العربي والإسلامي هو قدر لبنان وهو ليس بالضرورة قدراً ضد الحضارة الغربية, ولا ضد منجزها العلمي والاجتماعي في الديمقراطيات والحريات, بل هو في العمق ضد الإرادة الشريرة التي تحاول استلحاق الأمم بالقهر والغلبة وأحياناً بشيء من الفتات والرشوة الحرام.
previous post