لم يعد جدل الاحتفال بالمولد منحصراً بالجدل اللاهوتي التقليدي بين الصوفية والسلفية كما تعودناه كل عام، فقد برز جدل آخر يحمل همه الإلحاديون العرب الذين باتوا يرون أن إحياء معالم الإسلام أياً كانت في المجتمع المسلم هي لون من التوطئة للإرهاب والتطرف، وأن هذه الأمة عانت ما يكفي من حضور الدين في الحياة وأن الخلاص من القهر الذي نعيشه يتطلب خلاصاً من الدين نفسه، وانخراطاً تاماً في البرامج المعادية للأديان.
وهكذا فقد بات كثير من السوريين يريدون وطناً بلا إيمان، في رد انفعالي على سلوك آخرين يريدون ميتافيزيقاً بدون وطن.
فهل أصبح الإسلام بالفعل عبئاً على قيام هذه الأمة، وهل صار التوثب نحو بناء وطن جديد يتطلب منا فهماً حداثياً منكراً لقيم الأديان؟
إذا أردنا أن نجيب كوطنيين، فإن من المؤكد أن هذه الأرض الطيبة عانت قبل الإسلام لثلاثة عشر قرناً من الاستعمار الرومي واليوناني والفارسي أحياناً، وفي غبار هذا التسلط الأوربي على بلادنا فإن أول مرة يحكم فيها أبناء هذه الأرض أنفسهم إنما كانت يوم وصل الفتح العربي الإسلامي إلى هذه البلاد على أيدي الصحابة الكرام، وأدرك أبناء #الشام أن العرب أمة تامة وأنهم يملكون أقدارهم بأيديهم وأنهم ليسوا بحاجة إلى وصاية من الغرباء.
ورغم أن #سوريا قدمت لروما أباطرة وبابوات ولكن ظل الحاكم السوري يعين من روما وبيزنطة وأثينا وظلت مواهب السوريين قابعة في الظل على أساس أنهم لا يجري فيهم الدم الآري الأزرق، وأن الحكم ظل دوماً شأنا خارجياً إغريقياً أو رومانياً أو بيزنطياً، وكانت أول مرة يتم فيها اختيار الحاكم السوري من أبناء هذه الأرض الطيبة عندما وصل الفاتحون العرب من جزيرة العرب، ليتواصلوا مع الأجداد العرب الذين سكنوا بلاد الشام منذ أن بدأت الحياة والإنسان على الرغم مما مارسه المحتل الرومي والبيزنطي من بغي وقهر ومظالم.
وحين كانت المطامع الاستكبارية الدولية تجتاح هذه البلاد المنهكة من صليبيين ومغول وتتار واستعمار أوربي كان التحرير دوماً يتم على يد الأبرار من أصحاب الرسالة على نهج الجهاد الأول الذي كرسه رسول الله.
وإذا أردنا أن نجيب كقوميين، فإن هذه الأرض كانت تشهد تيهاً قومياً رهيباً، تحولت فيه لغتها القومية إلى مزق وشتات، ودخلت العربية نفسها في ضلال مبين وضاع اللسان العربي بين لهجات اليمن وسريانية الشام وقبطية مصر، وظهرت عربية عبرية ضالة على لسان بني إسرائيل، وظهرت سكسكة قيس وكشكشة تميم وطمطمانية حمير ورتة العراق، وغيرها من اللهجات الضائعة التي أوشكت أن تجعل اللسان العربي أثراً بعد عين، ولم يكن للغة العربية أن تستعيد عافيتها لولا القرآن الكريم الذي أعاد إحياء اللسان العربي ليتبوأ مكانه لساناً للحضارة الإنسانية ويحقق حلم الحكماء في وجود لغة واحدة للعالم حيث ظلت العربية لغة العالم في العلم والمعرفة لسبعة قرون.
ولولا القرآن الكريم فإن المنطقة كانت ماضية إلى فرنجة مبرمجة بغرض تمييع شخصيتها وإذابة كيانها الثقافي واللغوي، وكانت الرومية قد أصبحت لغة الدواوين، وأوشكت العربية أن تصبح غريبة في عقر دارها، بعد أن تعاقب عليها العديد من أشكال الهوان اللغوي والتاريخي، ولأول مرة منذ قرون طويلة تعود العربية إلى دورها الرائد لغة الإدارة والثقافة والحكم.
بالمناسبة فقد أصبح من الضروري الخلاص من الفكرة الضبابية التي تحيط بتاريخنا وتصور الشعوب (السامية) التي سكنت المنطقة ومنهم الأكاديون بفرعيهم الكلداني والبابلي والإيبليون والفينيقيون والكنعانيون على أنها شعوب غير عربية وأن الفتح الإسلامي هو الذي جاء بـ(الضيوف) العرب إلى المنطقة وهذا زيغ تاريخي افتراه المستشرق النمساوي شلاوزر حين بدأ باستخدام لفظة (الشعوب السامية) كمصطلح أبستمولوجي لأول مرة بعد أن كانت محض ميثولوجيا تاريخية.
وهنا أشير إلى دراسة جد هامة وهي كتاب فقه اللهجات العربيات للصديق الدكتور بهجت قبيسي حيث تولى بالبحث العلمي الدؤوب من خلال الرقم والآثار تعرية هذا الوهم الذي نمارسه وندرسه دون أن ندري أننا ننسف به وجودنا القومي من أساسه، وقدم الأدلة الواضحة من الرقم والمخطوطات المادية لإثبات أن الآرامية والبابلية والكلدانية والسريانية وغيرها ليست إلا لهجات عربية غير عدنانية، وإن تفاوت بعضها عن العربية السائدة ليست إلا مسألة لهجات، وأنها في النهاية ليست إلا اللغة العربية بالحامل الإقليمي.
وهكذا فإن كل شواهد التاريخ تؤكد أن الفتح الإسلامي الذي أطلقه النبي الكريم هو الذي حفظ عروبة المنطقة، وحين جاء الفاتحون المسلمون وبأيديهم القرآن الكريم ينطق بلسان عربي مبين فإنهم كانوا يمارسون دوراً إنقاذياً هائلاً على صعيد وجودنا القومي، ويمكن القول بدون أدنى مبالغة أنه لا يوجد مدرسة واحدة تدرس العربية في طول الوطن العربي وعرضه إلا وهي مدينة للنبي الكريم وللصحابة الفاتحين، ولولاهم لكنًا ندرس اليوم اللغة الرومية أو اليونانية!
بل إن امتداد اللغة العربية في الأرض عبر العالم الإسلامي وجعلها لغة العلم والحضارة لأكثر من ستة قرون وتدوين التراث الإسلامي من الهند وآسيا الوسطى إلى الغرب الأفريقي باللغة العربية دون سواها على الرغم من انتشار عشرات اللغات والقوميات في تلك المناطق وهو ما منح اللغة العربية دوراً معرفياً رائداً في الأرض كل ذلك لا يمكن تفسيره موضوعياً دون الانطلاق من مولد الرسول الكريم.
وإذا أردنا أن نجيب كحضاريين نؤمن بالإنسان فإن سوريا لم تأخذ دورها الحضاري اللائق بها إلا في عصر الخلافة الأموية، حيث كانت قبل ذلك ولقرون طويلة تعامل كتابعة تسويقية لروما، أو ضيعة غناء في طرف صحراء شرقية، أو محض أرض طقوسية دينية تصلح للرهبنة والتزهد، وهكذا فإنك تجد فيما تركه الرومان هنا المعابد والأديرة والآلهة وقنوات المياه دون أن تجد مدرسة أوبيمارستانا أو مكتبة تعكس دوراً حضارياً للمنطقة ولكن سرعان ما أصبحت دمشق مع وصول الصحابة الكرام إليها عاصمة حضارة هائلة تمتد من طليطلة إلى السند وتملأ أطراف الأرض بالعطاء الحضاري والمعرفي.
وإذا أردنا أن نجيب كمؤمنين فبحسبك أن تقرأ في القرآن الكريم: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
أرجو أن تكون كلمات الوفاء هذه لرسول الله في مشروعه الوطني والحضاري بداية لإطلاق حوار حقيقي حول مستقبل سوريا التي أنهكتها الحرب، وقد باتت تنتظر الخلاص نحو برنامج بصير يتقبل أحسن ما في الدين وأجود ما في الحضارة.
لماذا نحتفل برسول الله؟
محمد حبش لم يعد جدل الاحتفال بالمولد منحصراً بالجدل اللاهوتي التقليدي بين الصوفية والسلفية كما تعودناه كل عام، فقد برز جدل آخر