الانتحاري ليس مرتزقا… وليس له مشروع سياسي…..
الانتحاري هو النتاج الطبيعي لثقافة الكراهية… هو في الواقع الثمرة النموذجية لما يمكن أن تقدمه ثقاقة الكراهية في المجتمعات المأزومة.
حين تقدم عبد الرحمن بن ملجم من علي بن أبي طالب ليغمد فيه سيفه المسموم في محراب الكوفة صباح العيد لم يكن ابن ملجم مرتزقاً لدى السي اي ايه ولا الكي جي بي ولم يكن قد حصل على شيك بنكي هائل ليمارس قتل علي.. لقد كان ببساطة مشبعا بثقافة الكراهية للمخالفين، وكان ذاهبا الى مسجد الكوفة للدفاع عن الدين ولم يكن ليتردد لحظة في الإقدام على ما فعل لأنه ينفذ ما يأمره الله تعالى به.
لم يهرب ابن ملجم ولم يول ظهره للناس لقد غمس سيفه في عنق الامام علي ثم سجد لله شاكرا ان تقبل قربانه قبل ان يقدم لسيف القصاص.
والأمر نفسه مع زميليه في عملية الاغتيال الرهيبة التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي بشكل دراماتيكي، حين التقى عبد الرحمن بن ملجم والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، وهم ثلاثة محاربين من الخوارج كانوا في جيش علي قبل ان ينشقوا عليه حين رضي التحكيم.
تداول الثلاثة في أمر الجهاد وقتال المرتدين والمشركين الذي أوجبه القرآن على الأمة، ثم تداولوا في أمر خضوع علي للتحكيم وتركه الأمر القرآني باستمرار القتال، وبدا لهم أن علياً حين قبل التحكيم فقد أوبقه ذنبه بتحكيم غير الله، وترك ما أمره به القرآن من قتال المشركين، وأنه يستوي بذلك مع المرتدين الكافرين معاوية وابن العاص، وأنه لا حكم الا لله، وأن على المجاهدين أن يستنفروا من كل مكان لإنزال القصاص بهؤلاء المرتدين الذين احتكموا إلى غير كتاب الله!!!
كانت حرب صفين قد عصفت بآلاف الضحايا في ريف الرقة المنكوبة ماضياً وحاضراً، وقد قبل علي التحكيم رجاء إنهاء الحرب، وفوض أبا موسى الأشعري في حين فوض معاوية عمرو بن العاص، وانتهى التحكيم إلى وقف الحرب بالفعل مع استمرار الخصام السياسي.
قال ابن ملجم أنا أكفيكم علياً في الكوفة، وقال البرك بن عبد الله أنا أكفيكم معاوية في دمشق، وقال عمرو بن أبي بكر التميمي أنا أكفيكم عمر بن العاص في مصر.
تواعد الثلاثة صباح عيد الفطر ووصل كل واحد إلى المدينة التي التزم بسيفه المسموم، وحين تقدم علي لصلاة الفجر طعن ابن ملجم طعنة قاتلة، أما صاحباه فقد أصاب البراك معاوية في صدره ولم ينجح في قتله، في حين لم يخرج عمرو بن العاص لصلاة العيد وأناب عنه خارجة بن زيد قائد الشرطة الذي لقي حتفه على يد الانتحاري الثالث عمرو بن أبي بكر التميمي.
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة … فدت علياً بمن شاءت من البشر
لم يكن للثلاثة أهداف مادية بكل تأكيد، ولم يكونوا يرتزقون فيما يصنعون لقد كانوا يتقدمون بارجلهم إلى حمام الموت، ويعكسون ثقافة ضارية مسمومة تشربتها شرايينهم وباتوا ينتظرون الفرصة للوصول إلى الحور العين التي وعدهم بها من غسل أدفغتهم من كل أثر للعقل وأعدهم لقمة للموت الأسود الذي لا يبتغون منه شيئاً إلا وجه الطاغوت.
لم يهرب ابن ملجم، وتقدم إلى السيف بكل ثبات وعزيمة ورحل تماما كما أراد أن يرحل، بعد أن نكب المسلمين بفتنة لم تنته حتى هذه الساعة.
أما أولئك الذين كانوا يحملون ثقافة الكراهية إياها فلم يتوقفوا عن التحريض على الموت وقال شاعرهم عمران ين حطان في الثناء على فعل ابن ملحم:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
إني لأذكره يوماً فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزاناً
لم أكتب هنا لأكرر رواية التاريخ ولكنها الحقيقة نفسها التي نكابرها كل يوم، إلى أين ستؤدي بنا ثقافة الكراهية التي لا نزال نعلمها في مدارسنا وثقافتنا.
مع أنني أعلم أن داعش ليست على الإطلاق صديق ودودا لأي من مدارسنا الإسلامية وأنها لا تحظى بأدنى قبول في ثقافتنا المتناقضة، ولكنها بكل أمانة موجودة بقوة في مناهجنا التعليمية.
قام الأزهر الشريف بمراجعة شاملة لمناهجه التعليمية لنزع مبررات التطرف في المناهج، ولا أملك إلا أن أشكرهم على هذا ولكن يؤسفني القول بأن هذه المناهج لا تزال طافحة بما يغذي ثقافة التطرف
ففي المنهاج الأزهري الجديد المطبوع عام 2017 وهو مقرر المعاهد الأزهرية في الفقه الحنفي بعنوان: المختار من الاختيار لتعليل المختار
ينص الكتاب ص 75 على وجوب مقاتلة القرية التي تمتنع عن الأذان، ونص عبارته فإن امتنعوا عن الأذان قاتلهم!!!
لا يتوقف الأمر عنذ ذلك بل يقوم مؤلف الكتاب بطرح سؤال اختباري بعد الدرس بنص: ماذا يجب على الإمام أن يفعل إذا امتنعت قرية عن الأذان؟
بالطبع حين نورد مثلاً من المناهج الأزهرية فيجب أن نقول بوضوح إنه مغسول مائة مرة عن تلك النصوص التي لا نزال ندرسها لطلابنا في معاهد كثيرة ونختبر طلابنا فيها ثم نذهب لنعلمهم السلام ومحاربة الإرهاب.
وحتى لا نبقى في إطار التعمية فإن المعاهد الشرعية لا تزال بحاجة إلى مراجعة عميقة في ثلاث مسائل على سبيل المثال:
قتل تارك الصلاة، وهو المروي عن فقهاء المذاهب الأربعة، وعادة ما ندرسه لطلابنا بإضافة تحفظ ضروري وهو أنه يستتاب قبل أن يقتل!!!
قتل المرتد… وهو لا يزال مادة أساسية في كتاب الحدود الذي ندرسه لطلابنا في معظم المدارس الشرعية وغاية ما يفعله المعلم أن يسجل تخفظين اثنين: ان القتل لا يتم الا بعد استتابة وأن المخول بتنفيذ هذا القتل هو الامام وليس العامة.
الجهاد… فلا يزال درس الجهاد في مهاهدنا الدينية يتبنى مبدا قتال المشركين حتى يخضعوا للدين الحق، أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون…
هذه ثلات مسائل لم تجرؤ ختى الآن مناهجنا التعليمية في الحقل التربوي على الاقتراب منها، ولا يزال كهنة المعبد بالمرصاد لمن يقترب منها حيث سيتهم بانه يكيد للدين وينقض عرى الإسلام عروة عروة!!
ومن الواجب أن نسجل هنا أن ثقافة الكراهية لا تكفي بالضرورة لانتاج انتحاري، ولكن حين يلتقي الظلم بثقافة الكراهية فأنت أمام خلطة جاهزة لصناعة الموت.
متى نقف أمام مسؤولياتنا بشحاعة، ونكف عن الاختباء وراء أصابعنا، ونقول الحقيقة…
الإنتحاري ليس مرتزقاً ولا هو صاحب مشروع سياسي …
الانتحاري هو الحصاد المر لثقافة الكراهية.. ….