أعداء الله…. أعداء الوطن … أعداء المقاومة … أعداء العروبة…
هذا هو العالم كما يتعرف إليه طلابنا على مقاعد الدرس، وكما يقدمه لهم خطاب الاستبداد على منابر الدين ومنابر السياسة…
وبهذه الطريقة من الرهاب خلقنا جيلاً انفعالياً لا يطمئن لتجارب الأمم ولا يثق بمنجزاتها ويرى وراء كل كشف علمي خديعة، ووراء كل نجاح مؤامرة، وراء كل مبادرة كيداً، ووراء كل حل مصيبة….
والعدو يحيط بنا من كل جانب ويتآمر علينا من كل وجه ولذلك يجب ان نكرس جهودنا لمواجهة العدو وأن تتوقف كل برامج التنمية والبناء إلى حين القضاء على العدو فلا صوت يعلو صوت المعركة وعلينا الاستمرار في اكتشاف الأعداء وتعريتهم وسحقهم إلى النهاية، ولم تعد كلمة المؤامرة العالمية كافية، بل تم اختراع مصطلح المؤامرة الكونية التي يشارك في التآمر علينا فيها المريخ والمشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتو… ويخلق ما لا تعلمون
هذه بالضبط هي الثقافة التي استيقظنا عليها في مجتمعاتنا التي ابتليت بالأنظمة المقاومة الثورية الهادرة الصاخبة ضد الامبريالية والاستكبار والاستعمار!!
وحتى نكون أكثر تفصيلاً فبإمكاننا أن نتذكر خطاب قيادتنا السياسية في البعث العربي الاشتراكي، حيث يعلن الحزب منذ تكوين فكرة قيامه أن العالم يتآمر علينا، وأن أرضنا هي مركز العالم وفيها خيرات الكرة الأرضية ونحن من يصل الشرق بالغرب وعندنا تنزل الأنبياء وتفيض الأنهار والبحار والشلالات والنفط والغاز والذهب والفضة ولذلك فإن المؤامرة خلقت هنا مع أبينا آدم وهي مستمرة بالليل والنهار والفصول الأربعة والشرق والغرب والشمال والجنوب.
ويبدأ عداد القومية العربية بإحصاء الأعداء، فإسرائيل عدو، وأمريكا حليفتها عدو أيضاً، أما الاتحاد الأوروبي فهو عدو أيضاً وقد أوصى وزير خارجيتنا الراحل بشطب أوربا كلها من الخارطة، وأما الدول العربية فهي جامعة العهر والشر والبترودولار، يجب القطيعة معهم وتعريتهم وفضحهم، وأما جيران وطننا العربي من ترك وكرد فهم أدوات للامبريالية العالمية يجب القضاء على شرهم والخلاص منهم بأي ثمن!
وهكذا يطوقنا خطابنا السياسي بين عالم من الأعداء يحيط بنا من كل وجه ولا سبيل للتعامل مع المحيط من حولك إلا بالعداء المستمر فقدر الأحرار أن يكونوا في حرب لا تنتهي ولا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه.
وأما الخطاب السائد في الوعظ الديني فهو يقدم النتيجة نفسها في سياق آخر، فالعالم اثنان مؤمن وكافر، والأديان كلها كافرة ماكرة إلا دين الحق، وشروط المؤمن التي يقدمها الواعظون تضيق وتضيق حتى تحدد أهل النار بأنهم 999 من كل ألف، همج كافرون حدهم جهنم وبئس المصير.
ومع اندلاع الثورة في سوريا استيقظت من جديد نظرية العدو ونظرية المؤامرة، وراح فلاسفتها يعددون بثقة ثمانين دولة في العالم انتظمت في حرب كيدية ومؤامرة كونية ضد سوريا الصامدة وأن سوريا تقاوم بإصرار المؤامرة الكونية، وأن كل الموارد يجب أن تسخر للمعركة فلا صوت يعلو صوت المعركة، والعالم كله هيئة ماسونية صهيونية خلقت لتحاربنا وتمص دماءنا.
ولكن أسوأ ما في نظرية العدو لم يأت بعد، فقد تم تصنيف السوريين الرافضين لمنطق الاستعداء هذا بانهم عدو أيضاً أيضاً، وكل من خرج في مظاهرة يصرخ ضد الظلم وينادي بالحرية فهو عدو أيضاً لأنه يخدم الامبريالية والليبرالية الحديثة، وخلال أسابيع من عمر الثورة تم تصنيف الأعداء في كل مكان من القنيطرة إلى عين ديوار ومن البدروسية إلى البوكمال، وبدا أن هذا الشعب عن بكرة أبيه متورط في خدمة العدو وأن الأعداء ينتشرون في كل مكان، وإذا كان لديك عشر رصاصات فأطلق على عدوك الخارجي واحد وعلى عدوك الداخلي تسعة، وهكذا كان، والمطلوب من جيشنا الباسل مطاردتهم والضرب على دماغهم بالجزمة وعلى بيوتهم بالبراميل حتى يعودوا إلى الصواب الوطني والقيادة الرشيدة.
وهكذا استيقظ السوري خلف قيادته الرشيدة ليرى أن العالم كله عن قوس واحدة يتآمر عليه دون سواه، وأن العواصم الكبرى في العالم مشغولة بنهب ثرواتنا العظيمة وخبراتنا النادرة، من دون أن يفهم أحد السبب الذي يجعل العالم يتآمر علينا دون سوانا، ويكرس كل مكره وغدره للقضاء على الإنسان السوري ومقاومته الباسلة.
هل هناك مبالغة فما ذكرت؟ لا نحتاج لنفهم الواقع أكثر من قراءة واقع جواز السفر السوري ومع أنه أغلى جواز سفر في العالم ولكنه صار عاجزاً عن إدخال السوري إلى أي مكان في العالم وتم إغلاق كل الدول التي كانت تفتح صدرها للسوري ولم يعد في العالم دولة تفتح بابها للسوري إلا إيران! وعدد قليل من البلاد والجزر الهائمة البعيدة التي لا يأتيها أحد، فيما يتم طلب الفيزا المعقدة من السوري في كل مكان في الأرض، وهي مستحيلة على دول الجوار الأربعة الأردن ولبنان وتركيا والعراق.
ولعل من سخرية القدر أنه لم يعد قادراً على إدخالك إلى سوريا ايضاً إلا بمائة دولار!!
بالطبع الحصاد السياسي نتيجة طبيعة لسلوك الدولة المارقة، ولا يتحمل السوري ثمن هذا الهوان، ولكننا جميعاً نتحمل مسؤولية الخطاب الثقافي والديني الذي قدم خدمات مجانية للنظام السياسي الطائش الذي اختار محاربة العالم، وتلفع بشعار المقاومة.
هل سيستيقظ الطفل الجديد على وعي آخر؟ هل سيدرك أبناؤنا أن العالم انتهى منذ عقود من الحروب الدينية والسياسية والثأر والكراهية والانتقام، وأن ثقافة الكراهية بائسة ومدمرة، وأن علينا أن نبني الإنسان صديقاً للعالم محباً للأمم سعيداً بتنوعها واختلافها وطموحها وتنافسها، وأن نجاحك لا يتوقف على تدمير نجاح الآخرين ولا تحطيم حضاراتهم ولا التربص بهم كأعداء، وإنما على التكيف مع تنوع العالم وغناه والفرح باختلافاته والوانه ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم وأديانكم وثقافاتكم وحضاراتكم ومصالحكم وبرامجكم، وأن نجاحنا في هذا العالم الجميل يمكن اختصاره بكلمة واحدة وهي (التكيُّف)..
أيها الشاكي وما بك داء***** كن جميلاً ترى الوجود جميلاً