يفترض أن تقرأ هذه الكلمات قد حزم رمضان رحاله، وقد غدونا على موعد مع يوم العيد وفيه تمام النعمة وسرور الأمة ويوم الغفران.
والعيد في الإسلام موسم اجتماعي بالغ الأهمية، ولكننا نختزله دوماً إلى نسك ديني من ركعتين في المسجد، تتلوه خطبة موعظة وينصرف الناس.
وفي الواقع فإن هذا النسك لا يشكل إلا طرفاً بسيطاً من طبيعة هذا اليوم الجميل كما أنجزه الرسول الكريم ودعا إليه الناس، ولا أبالغ في شيء إذا قلت عنه قلت إنه نيروز الإسلام ويوم سعده وسروره وحبوره وجماله.
تبدأ مناسك العيد في صدقة الفطر حيث يتعين على كل مسلم أن يخرج صدقة الفطر، وهي توسعة على العيال يشارك فيها الجميع، وتطلب من الغني والفقير والكبير والصغير والحر والعبد حتى الجنين في بطن أمه، وهي لون من التشارك في العطاء بين كافة أفراد المجتمع، حتى يعلم اشد الناس فقراً أنه يمكن أن يكون يداً معطية عليا ولو مرة في العام، وكان الرسول الكريم يقول: أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم.
ومن المؤكد أن الفقير المدقع حين يخرج صدقة الفطر عن نفسه وعياله فإنه يتلقى في اليوم نفسه عشرين صدقة فطر من الآخرين، فتكون أيام سعة وبحبوحة وفرح.
والأصل في صلاة العيد أنها لا تؤدى في المساجد بل في الحقول والبرية، حيث كان الرسول الكريم يتخير حقلاً جميلاً فيه أشجار ونخل وبستان في عوالي المدينة، ويأمر الأصحاب جميعاً بالخروج إلى البرية صباح يوم العيد، الرجال والنساء والأطفال والكبار ومعهم كل موظفيهم، ويأمر الناس أن يأخذوا معهم أطارف الطعام والشراب، وأن يختاروا لباس الزينة الجميل، وتكررت الروايات أن النساء سألنه عن ذوات العذر فأمر الجميع بالخروج بمن فيهن ذوات الأعذار وكان يأمرهن بأحسن الثياب في العيد.
حتى إذا اجتمع الناس صباح العيد صلى بهم ركعتين بسبع تكبيرات وخمس، ثم تحدث فيهم بموعظة حبيبة قريبة، طافحة بالبشر والفرحة، وكان يتوسط أصحابه ويحدثهم عن البشر والبشارة والفرح، ويقول: إذا تصافح المؤمنان أنزل الله مائة رحمة، تسع وتسعون منها لأكثرهما بشاشة في وجه صاحبه وللآخر رحمة واحدة، في جو غامر من الفرحة وتبادل التهنئة ورفع الأصوات بالتكبير وشكر الله على الصيام والقيام.
كانت فعاليات الفرح بالعيد تستمر طيلة النهار، وبعد الصلاة كانت الجموع تتوزع في البستان فتكون حلقات للنساء وأخرى للشباب وأخرى للتجار، وكانت تخرج إلى البستان فرق فنية متخصصة، تقوم بإعداد أغاني جميلة، وتستخدم كل أدوات الموسيقا التي كانت سائدة في ذلك الزمان، من دف ومزهر وطبل، وتقوم المغنيات بأداء أعذب الألحان وأشدها طرباً وفرحاً.
وفيما كان الرسول يستمع إلى غناء المغنيات وصل أبو بكر الصديق فأغضبه المشهد مغنيات ودفوف وعزف وموسيقى، فقال غاضباً امزمارة الشيطان عند رسول الله!! وذعرت البنات، ولكن الرسول الكريم قال: لا يا أبا بكر، دعهن فإنها أيام عيد!.
وفي رواية أخرى أن الداخل كان عمر بن الخطاب وكان رجلاً جهوري الصوت مهيباً فذعرت البنات، وأخذت إحداهن الدف فجلست عليه، وكان قد سمع الغناء ورأى ارتباكهن فصاح فيهن: يا عدوات أنفسكن!! تهبنني ولا تهبن رسول الله!!… ولكم كانت صدمة الجميع حين قالت المغنية بشجاعة وثقة: نعم نهابك ولا نها برسول الله…. أنت أفظ واغلظ!!!
ضحك الرسول طويلاً حتى بدت نواجذه وأشار للصبايا أن يتابعن الفرح، وجعل الرسول يشاركهن ما يغنين من كلمات، حتى إذا قالت إحداهن جذلانة: وفينا نبي يعلم ما في غد، قال الرسول الكريم: لا… لا يعلم الغيب إلا الله، دعي هذا وقولي ما كنت تقولين، فعادت لغنائها وعاد رسول الله يأنس بما تغنيه وتدفف فيه.
وأما الفرق الرياضية فقد كانت تؤدي رقصاتها وتراثها وفولكلورها أمام الرسول الكريم، وحين صعدت المنصة فرقة الحبشة نادى الرسول الكريم زوجته عائشة يا عائشة.. تشتهين تنظرين؟ قالت نعم، فأسندت خدها إليه، كم هو رائع أن تكون الزوجة إلى جانب زوجها وخدها على كتفه في حفل رياضي بهيج، وهو يقوم بتشجيع فريق بني ارفدة ويقول هيها بني ارفدة إرموا وأنا معكم، واشتد حماس لاأرفديين وقد تولى الرسول تشجيعهم، ولكن وقوف الرسول مع فريق سيخلط الأوراق ويطيح بالفريق الآخر، فاعترضوا بشدة، كيف نغالبهم ومعهم رسول الله، فضحك الرسول وقال: أنا معكم كلكم….
وكان سائر النهار يطوف بين فريق وفريق، فطاف على النساء فوعظهن واستمع إليهن ومازحهن وسمع منهن، ورأين منه أنساً ولطفاً فارتفعت أصواتهن بمطالبات جندرية عالية، فضحك وقال لهن مازحاً: ما رأيت أخلب للبّ الرجل الحازم منكن!! تماماً كما قالت العرب:
إن العيون التي في طرفها حور *** قتلننــــــــــا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به*** وهن أضعف خلق الله إنساناً
وذهب إلى ملاعب الأطفال فضحك معهم وآنسهم ولاطفهم، وقال لطفل صغير أضاع عصفوره، يا أبا عمير ما فعل النغير!! وضحك وضحكت الأطفال والنساء والرجال واستمرت الفرحة.
وبسطت النساء أطايب الطعام والحلوى، ولبست الصبايا جديد الثياب من المعصفرات والوشحات والمطرزات، وراح الشباب يظهرون مواهبهم وقدراتهم، وتلفت الصبايا بجمالهن نظر الشباب ويلفت الشباب الصبايا بشجاعتهم وثقتهم، والكل يتسارق النظرات بالمحبة والفرح والأمل.
كان يوم العيد يستمر سائر يوم الأول من شوال، وكانت تعقبه أيام أفراح وأعراس وسرور، فقد جمع العيد شباب المدينة وصباياها، وتعارف الجميع فكان شوال شهر الأفراح والأعراس، قالت عائشة ما كان شهر أبرك لي من شوال فيه خطبني رسول الله وفيه زففت إليه، فأي نسائه كانت أحظى عنده مني، وكانت تأمر النساء ان ينجزن أعراسهن في شوال.
أعتقد ان كثيراً من الأصدقاء سيصدمهم ما نرويه، فقد تعودوا أن يسمعوا عن الإسلام يوم بدر وأحد وخيبر والخندق وقريظة، سيوف ودروع، وهي أيام مجد كبير حقق فيها دفاعه عن أرضه وعرضه، ولكن ضاع في غمار ما نرويه عن جهاد الرسول ما كان من حياته وفرحه وأمله وحبوره، لقد رسمنا الحياة بريشة قاتمة تحديات وصراخ ووعيد، وأعداء وكفار ومشركون، يا خيل الله اركبي إنا إذا حللنا بقوم فساء صباح المنذرين!!!، وفي غمار هذه الصراعات غاب عنا النبي الإنسان والدين الجميل والبسمة البيضاء والفن الجميل واليوم النوروز.