مقالات

د.محمد حبش-خطوة… نحو احترام روح الله في الإنسان 3/7/2009

رحل بلا رجعة قانون العذر المحل الذي أساء إلى المجتمع وإلى روح الشريعة وسمعة القضاء، حيث أصدر السيد رئيس الجمهورية أول أمس المرسوم التشريعي رقم 37 للعام 2009القاضي بإلغاء المادة 548 من قانون العقوبات التي تمنح القاتل العذر المحل في جرائم الشرف وتعفيه من العقاب ونص القانون الجديد أنه لا يجوز للقاضي بحال من الأحوال الحكم بأقل من السجن سنتين في الجرائم المرتكبة تحت ذريعة الشرف، وبذلك طويت من التشريع السوري إلى الأبد فكرة العذر المحل التي كانت تخالف العقل والمنطق والشريعة وتبرئ القاتل من أي عقاب بدعوى أنه فقد أعصابه وانخرط في القتل.

زهرة عزو حكاية وردة حمراء بريئة حملها قدرها من محافظة الحسكة حيث وجدت نفسها خطيفة باردة لوحش بشري، ليس في ملامحه بارقة للرحمة، وبعد أيام من الخوف والرعب، كان المفترس يمضي نهمته المتوحشة فيها في سادية لئيمة وجدت ذات الحظ العاثر فرصتها للهرب من جحيمه وسجنه، وكانت قد سمعت أن هناك شيئاً اسمه مخفر، فيه أشخاص من الحكومة معهم بواريد يمكن أن يؤمنوا لها الحماية من هذا الذئب المفترس، وأن يضعوا حداً لهذه المأساة، وانقلبت خائفة باكية إلى المخفر تشكو المصير المر الذي وجدت نفسها فيه، وبعد كتابة الضبط المطلوب تم تسيير الفتاة إلى دار الإيواء في باب المصلى بدمشق.
كانت زهرة تبكي وتقول سيقتلونني، أبي وأخي سيقتلونني أرجوكم لا تخرجوني من هنا أرجوكم لا أريد أن أموت، إن ساطورهم يقترب من عنقي، كانت تصيح في الليل وترجف في النهار، آه كم هو مرير حد الساطور على عنقي، وقد أثار خوفها إدارة دار الإيواء وعلمت أن الفتاة مهددة، وبالفعل لم توافق على إخراج البنت إلا بعد أن حضر أبوها وإخوتها، وكان معهم شاب يتقدم لخطوبتها وتمت مراسم الخطوبة في دار الإيواء وسجل العقد في المحكمة، وخرجت الفتاة المعنفة عروساً كاملة من دار الإيواء إلى دار زوجها الذي أنجز كل مطالب الزواج الشرعي لتكون الفتاة حلاله كما في الكتاب والسنة، وقد قام العريس بإعلان الإيجاب والقبول مع والدها أمام ملأ من العاملين في الدار، وكانت عبارات العريس صارمة في أنه سيقوم بحمايتها وحبها وحنانها وأنها بالنسبة له حاضره ومستقبله وأيامه الباقية، وأنها الوعد الذي كتب في لوح القدر والطهر الذي يسمو فوق البشر، وهكذا زفت زهرة من دار الإيواء إلى دار زوجها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد قامت إدارة الدار بتوقيع أبيها وأخيها على وثائق الزواج وأخذت منهم التعهد بأغلظ الأيمان أن يقوموا بحماية هذه الفتاة الموهوبة التي كتب الله لها هذا القدر المر.
كل من كان في دار الإيواء رقص وغنى وصفق للعروسين، لقد كانت صورة نجاح نادرة أن تدخل الفتاة بضبط شرطة وتخرج بعقد زواج!!
وحدها زهرة لم تعرف كيف ترسم البسمة على شفتيها، على الرغم من أنها كانت فنانة تشكيلية بارعة، وشاعرة ساحرة، ولكنها كانت مسكونة بهاجس الخوف، كانت تعلم أن المسافة بين الحسكة ودمشق تزيد على ستمائة كلم ولكنها لم تكن تشعر بالأمان من ساطور القرية الذي سيلاحقها أينما كانت.
ولم تمض إلا أيام على خروج زهرة من دار الإيواء حتى كان دمها يضرج الأرض بعد أن طعنها أخوها بطعنات غادرة في عنقها وذهب إلى الشرطة ليسلم نفسه وهو يباهي بأنه قد ثأر لشرفه!!

ماتت زهرة عزو، ونحن نحتسبها عند الله في الشهداء، ولكنها ظلت درساً يحير أهل البصيرة، وتبدو فيه قسوة ابن آدم في شهوة الانتقام التي يتم إلباسها لبوس أمر الرب، هكذا فعل فايز شقيق زهرة العزو.
ليست حكاية زهرة إلا قصة واحدة من مئات القصص التي تحدث في سوريا كل عام، وهي جرائم كاملة يفضل مرتكبوها أن تسمى جرائم شرف.
ما أريد تأكيده أن جريمة كهذه هي جريمة كاملة وأنه لا مكان فيها على الإطلاق لأي عذر محل أو مخفف لا على القانون القديم ولا على القانون الجديد، وهي جريمة تامة مهما كانت المبررات التي يتذرع بها القاتل.

إن فرض عقوبة سنتين على أقل تقدير على القاتل أياً كانت الظروف التي ألجأته للقتل هو احترام للروح الإنسانية التي جعلها الله تعالى أمانة بين الناس في الأرض، وهو تأكيد من المولى سبحانه لرسالة الإنسان في الأرض.
لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يزاود على رسول الله في رعايته للعفاف الاجتماعي، ولكنه مع ذلك لم يتقبل أبداً فكرة أن يمارس الإنسان القتل بدافع الشرف، وحين جاءه هلال بن أمية يقذف امرأته بشريك بن سحماء قال النبي الكريم بثقة وحزم: أين البينة يا هلال؟ والبينة أربعة رجال عدول يشهدون برؤية الفاحشة بدون أدنى تأويل، عاد يردد على مسمعه بحزم وصرامة: البينة أو حد في ظهرك!! وهنا يثور سعد بن عبادة مغضباً وهو يقول يا رسول الله!! أحدنا يجد مع امرأته رجلاً يذهب فيلتمس البينة فلا يلبث أن يكون الرجل قد قضى نهمته وولى، والذي بعثك بالحق لئن رايته لأقتلنه!!! ولكن النبي الكريم لم يرض موقفاً كهذا على الرغم من المعنى (الزكرتي) فيه وقال بوضوح: انظروا إلى صاحبكم إنه لغيور، وإن الله أغير منه !! وعاد يردد قوله الأول: البينة أو حد في ظهرك!!
ومع ما يظهره الموقف هنا من ديمقراطية التنزيل حيث يعترض عدد من الصحابة بصراحة على حكم شرعي يقرره رسول الله!! ومع ذلك ينزل القرآن الكريم مخالفاً لموقف النبي الكريم، ويرفع حد القذف عن الزوج بوجه خاص دون سواه من القاذفين وذلك لأن الزوج ليس محل تهمة لتشويه سمعة أسرته، وتنص الآيات على حكم اللعان وهي ترفع عن الزوج حد القذف ولكنها لا تسمح على الإطلاق بجريمة القتل تحت مبرر الغضب من أجل الشرف، بل إن روايات لا يرقى إليها الشك صرحت بذلك على لسان الصحابة فقد روى عبد الله بن مسعود أن رجلاً من الأنصار جاء مغضباً ترجف أطرافه، فقال: يا رسول الله أحدنا يجد مع امرأته رجلاً فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ!!
ولكن القرآن ظل يقرر أن الاتهام بالزنا جريمة عقوبتها ثمانون جلدة على القاذف إلا أن يأتي بأربعة شهود يحلفون أنهم رأوا الفاحشة رأي العين بلا لبس ولا وهم، والاستثناء الوحيد الذي خفف الله فيه عن القاذف هو حال من قذف زوجته، فهنا يمكنه أن ينجو من سياط الجلد بأن يلاعن المرأة وتلاعنه أمام القاضي بأن لعنة الله على الكاذب منا وعند ذلك فقط فارقته فرقة مؤبدة، وحرمت فلا تحل بعد له، ويتفرقا ويغني الله كلاً من فضله.
أما فكرة القتل الشائعة بدعوى الشرف فدعونا نقول بملئ الصوت إن الدين منها براء وإنها من بقايا الجاهلية العمياء التي لا تقيم كرامة للإنسان ولا للحياة.
اليوم يأتي هذا المرسوم للحسم في جدل يستمر منذ عقود، كتبت فيه آلاف الصفحات بين حماية القاتل وبين الانتصاف للضحية، والمأمول بالقضاء اليوم أن يدرك روح القانون في قمع الجريمة، وأن ندرك أن تسعين بالمائة من الجرائم التي ترتكب باسم الشرف هي جرائم تامة تستوجب الإعدام، ولا يشملها القانون 548 الذي يختص بحالة المفاجأة والذهول بدون سبق إصرار ولا ترصد ولا تخطيط، أما الحالة التي تثبت فيها المفاجأة والذهول فقد خفف القانون حكم الإعدام إلى السجن فترة رادعة يجب أن لا تقل بحال من الأحوال عن سنتين اثنتين.
في مسلسل أهل الراية يقوم الزعيم أبو الحسن بقتل ابنته ويبقى زعيماً، ويقدم لنا المخرج في سياق أسطوري معجزة الله تعالى في ثبوت براءتها ونجاتها من الموت!! ويستمر أبو الحسن في مكانه كزعيم، على الرغم من سلوكه البلطجي المبلل بالدموع، وفي سياق أساطير كهذه كان يمكن لأبو الحسن لو لم تثبت براءتها أن يقتلها مرة أخرى تحت سمع الناس ويبقى زعيماً!! مع أن القتل هنا جريمة إعدام كاملة لا مكان فيها لعذر مخفف ولا محل.

هل سيكون القضاء واعياً ورادعاً في تطبيق هذا القانون؟ وهل سيعلم القاضي أن السجن سنتين هو الاستثناء النادر الذي يلجأ إليه مرة كل ألف مرة؟ وأن الأصل في القاتل القتل، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون؟
أرجو هذا!! وأدعو الآن الأقلام الشريفة للبحث في الأسباب الأخرى التي تسهل ارتكاب جرائم الشرف من الأعراف والتقاليد وعند الزعيم أبو الحسن في أهل الراية ومواجهتها ببسالة وشرف.

Related posts

د.محمد حبش- حكاية المحاريب الخمسة 22/8/2008

drmohammad

تحال الأوراق الى المفتي

drmohammad

د.محمد الحبش- المهاجر الأعظم…. قراءة في صفحات الاغتراب 19/1/2007

drmohammad

Leave a Comment