في هذه الزاوية سأكتب سلسلة مقالات عن الطوائف السورية الجميلة، وما تحمله من آفاق روحية وإنسانية مضيئة.
وسأبدأ بالعلويين احتراماً للدماء البريئة التي سفكها هذا الأسبوع أشرار مجرمون، دفعتهم ثقافة الكراهية السوداء إلى ارتكاب الجريمة، فجمعوا بين الجهل والوغادة والجريمة، ومارسوا جرائمهم وهم يتكئون على فتاوى مظلمة آثمة.
وأرجو أن يعتبر هذا المقال جزءاً من واجب التعريف بأهلنا وجيراننا الذي أهملناه في التاريخ وكانت النتيجة حواجز مرعبة من سوء الظن والريب والاحتقان.
والتاريخ أبيض وأسود، وجميل وقبيح، ولكنني سأروي هنا جانبه المضـيء، رجاء أن نعافي الجراح التي حطمت إخاءنا خلال العقود الآثمة الأخيرة.
ونشير هنا أن سياسات النظام البائد كانت تعتمد منطق طمس الهويات وإلغائها، وأحياناً تحقيرها وتسخيفها، وكان يعتبر ذلك ضرورياً لبناء وحدة وطنية، وكان معنى ذلك تلقائياً ممارسة التكاذب الاجتماعي، والتواصي بستر المذهب والطائفة، وهو أمر عكس الطبيعة، وسيؤدي قطعاً إلى الاحتفاء السري بالتقاليد وهو ما يعني فتح أبواب الريب والشكوك إلى النهاية.
لقد حان الوقت لنواجه هذا اللون من الثقافة البلهاء التي تسببت في تشكيل مجتمعات من النفاق والمراوغة والتكاذب، ورسمت صورة غامضة وسرية لجيراننا، كانت تحوطها الأسرار والأساطير، ثم جاءت فتاوى الدم لترسم صورة الآخر كما شاء له التطرف الأعمى، وأصبح مصدر معرفة إخوتنا في الوطن هو الشيخ ابن تيمية والشيخ الغزالي والشيخ ابن العماد الحنبلي، وهم على حسن الظن بهم أشخاص رحلوا قبل تسعمائة عام، وكانوا جزءاً من حروب ضارية سفكت فيها الدماء والأرواح بدون هوادة في هذا الشرق المنكوب.
وتنطلق هذه القراءة من فكرة أساسية وهي أنه ما من طائفة استمرت في التاريخ إلا وهي تحمل قيماً نبيلة وأخلاقية سامية، وأن تمسك الناس بفكرة ما أو رجل ما خلال تاريخ طويل لا يمكن أن يكون إلا نتيجة القيم الإنسانية النبيلة التي وافقت فطرتهم، وهذا قانون قرآني فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وبذلك فإن الأفكار الخيرة هي التي خلدت، وأما الأفكار الشريرة فقد اندثرت بقوة الطبيعة وقانون الله.
ومع ذلك فلا ينبغي أن ينتظر القارئ الكريم مني في هذه الصفحة تفصيلاً تاريخياً للطوائف، ومناقشة فكرية لخياراتهم، ولكنني أكتب هنا في مشارق النور التي سكنت قلوبهم، ورموز المحبة في تاريخهم التي تسهم في بناء حياة إنسانية كريمة ونبيلة.
فمن هم العلويون؟
بدأت قصة العلويين مع الإمام علي عليه السلام، لقد تعلقوا به ككتلة مواهب وعجائب، ظهرت من شخصية آسرة محبوبة، رأوا فيها البطولة والنبل والفروسية، وباتت ملامح مجهه التي رسمها العلويون باستمرار تلهم الأجيال روح الفداء والمصابرة.
وينفرد العلويون بثنائية فريدة تجمع بين شخصي محمد وعلي، ولا يزال اسم محمد وعلي أبرز الأسماء في الطائفة، وأكثرها اشتهاراً وانتشاراً، وتعيش أخبار علي في الذاكرة العلوية رمزاً للفداء والبطولة فيما تخصص صورة النبي محمد للإشراق والأنوار والنبوة.
وفي الأدب العلوي لا نجد الحقد على لاصحابة كما نجده في الحوزات المتعصبة، وينتشر اسم عائشة وعثمان بشكل واسع في القرى العلوية، فيما يذكر أبو بكر وعمر باحترام.
ومن المدهش أن ملحمة الحسين ليست حاضرة بالقوة إياها في الذاكرة العلوية، وبالمقارنة مع الأسماء فإن اسم الحسن بين العلويين أكثر من اسم الحسين، وهو يعكس اتجاهاً مهماً نحو ثقافة المصالحة والتعاون، وإحياء ذكرى الحسن مع معاوية عليهما سلام الله، وفي هذه النقطة يختلفون عن الشيعة الاثني عشـرية الذين اعتبروا سلوك الحسين فقط هو الموقف الحقيقي لمواجهة الطغيان.
ويحتفظ العلويون بقدر كبير من الاحترام للأئمة الاثني عشـر، ويعتبرونهم أئمتهم في الفقه والفتيا، ومع ذلك فإن العلويين لم يتعصبوا لهم، ولم يؤسسوا محاكم مذهبية خاصة وكانوا يعقدون عقود الزواج إما في المحكمة الجعفرية في لبنان أو في محاكم سوريا العامة التي تعتمد المذهب الحنفي.
ويمكن اعتبار عام 260 هجرية موعد ولادة هذه الطائفة الكريمة حيث كان محمد بن نصير النميري أبرز مساعدي الإمام الحسن العسكري في العراق وهو الإمام الحادي عشر من أئمة الشيعة الإمامية، وقد عرف ابن نصير بعلمه وتبحره في فقه الشيعة، ونزعته العقلانية، وعندما توفي الحسن العسكري آل أمر الإمامة إلى ابنه محمد بن الحسن وكان عمره عشر سنوات، وسرعان ما اختفى في سرداب بالموصل، وظهرت أسطورة الإمام الغائب، وبات عموم الشيعة ينتظرون خروج الغلام الطفل كمهدي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً، وتتحد تحت رايته كل الأمم.
في هذا الموقف بالضبط تميز ابن نصير برؤية عقلانية موضوعية، ولم يجد في هذه التوجهات الميثولوجية ما يقنع وعيه العلمي، وأدى به ذلك إلى إنكار الأمر كله، والدعوة إلى وعي آخر بالإسلام قائم على التأمل الباطني في القرآن، وطرح نفسه باباً إلهياً لفهم حقائق القرآن وأسرار الشريعة.
لم يكن موقف ابن نصير ليرضي الجماعات الغاضبة التي سكنتها بسـرعة فكرة الغيبة الكبرى وانتظار العائد على أنه مهدي آخر الزمان، وهكذا فقد اختار ابن نصير الانسحاب من المشهد، وواجه بالطبع غضباً شعبياً ، وتلقى سلسلة من فتاوى التكفير والزندقة، وهو أمر يعرفه كل الأحرار الذين يواجهون الجماهير الهائجة، واستمر في دعوته تحت التهديد، ينشر لوناً من الرؤية العلمانية للإسلام إلى وفاته في البصرة 270هـ
كانت وفاة محمد بن نصير انطلاقة مهمة للشباب العلوي الذي تأثر بروحه في الفكر والبصيرة وظهر من تلامذته اثنان كان لهما أكبر الأثر في انتشار المذهب، وهما:
- الأول: الحسين بن حمدان الخصيبي الذي أدرك ابن نمير طفلاً وأخذ معارفه وعلومه عن أصحابه، ثم اختار الرحيل إلى حلب في ظلال الدولة الحمدانية التي كانت دولة علمانية بامتياز ووجدت فيها كل الطوائف آفاقاً للتفوق والإبداع وتشارك شعراؤها المسلمون والنصارى، وفقهاؤها السنة والشيعة، ونجح الخصيبي في الاتصال بسيف الدولة، واختار سيف الدولة الحسين بن حمدان الخصيبي مفتياً للدولة الحمدانية وإماماً للصلاة فيها، ولا زال ضريح الحسين بن حمدان الخصيبي في حلب إلى اليوم.
- الثاني: الميمون سرور بن قاسم الطبراني (نسبة لبحيرة طبرية) الذي كان أبرز فقهاء المذهب العلوي، وقد نشـر علمه في حلب في كنف الخصيبي ثم انتقل بالمذهب إلى اللاذقية، حوالي عام 400 هجرية، واختار جبالها الخضـراء موعداً للربيع والندى والتأمل والاعتبار.
وفي حبال اللاذقية اختارت الطائفة الغوص في أعماق الوعي الإيماني والتأمل في عجائب الخلق، وفي تلك الجبال والوديان السحيقة بعيداً عن صخب العراق وصراعاته دون العلويون الأوائل أرق الشعر وأعذبه في ثقافة الحب والجمال.
وقد وجد العلويون منذ القرن الرابع الهجري الطريق للتكامل بين الدنيا والآخرة، فكانت دنياهم في حلب وآخرتهم في جبال اللاذقية، وكان شبابهم يقصدون حلب للدراسة والنبوغ والتفوق، في رحاب الدولة الحمدانية العلمانية، فيما كان شيوخهم ينشؤون القباب الخضـر على رؤوس الجبال الخضـراء للتأمل والعبادة والصفاء الروحي.
ويمكن القول إن هذا السلوك لا زال الغالب على الطائفة حيث يرحل الشباب في طلب الرزق فترة شبابهم فإذا تقدمت بهم الأعمار عادوا إلى الضيعة وقبابها الخضر وحكاياها الجميلة.
ولا يمكن ذكر التاريخ العلوي دون الإشارة إلى الأمير المكزون السنجاري، ذلك العارف الصوفي العميق الذي جمع إلى جانب تصوفه الحضور الاجتماعي الكبير، وقد جاء إلى جبال اللاذقية من سنجار حيث قاد فريقاً من الرجال للدفاع عن أبناء الطائفة، حيث كانت المنطقة تعاني من ارتدادات الحروب الصليبية، وشهدت في وقت واحد دوراً كردياً واسماعيلياً حربياً، وتعتبر الهجرة السنجارية بقيادة المكرزون السنجاري 1218م أكبر الهجرات في تاريخ اللاذقية، وقد نجح في الاستيلاء على عدد من الحصون الهامة كقلعة أبي قبيس وقلعة صلاح الدين، وإلى جانب فتوحاته العسكرية فقد قاد إصلاحاً دينياً مهماً تمثل في رفض التقية التي كانت ناشئة عن الخوف والقهر، ودعا إلى الجهاد والبسالة، وبذلك فإن المكزون السنجاري يعتبر أساسياً في نشر الروح العلمانية المؤمنة في الطائفة وفق المستشرق ستيفان وينتر، وعلى الرغم من عظيم تأثيره إلا أن الخلاف مستمر في تحديد مكان ضريحه، ولا يزال ضريحه في كفرسوسة بدمشق محل جدل كبير.
قراءتي للروح النبيلة في هذه الطائفة، أنها قامت على روائز ستة:
- الاهتمام بالدين كمصدر إشراق روحاني يتلقاه أهل البصيرة، ويعتبرونه دائم الإشراق، ولكنهم لم يرغبوا بتحويله إلى قضاء أرضي يحكم حياتهم.
- على الرغم من كثرة الإشراقيين والعرفانيين في حياة الطائفة ولكنهم لم يشاؤوا أن يؤسسوا طبقة من اللاهوتيين ورجال الدين، وظل دور رجل الدين محدوداً في الأخلاق والآداب والصلاة، فيما اختاروا صيغاً مدنية عادية للحكم والحياة.
- النبوغ الواضح في الحقول العلمية، حيث يمكن ببساطة بناء العقل العلمي بعيداً عن تأثير الكهنوت، وهذا ما يفسـر الارتفاع الكبير في نسب المتعلمين والمتفوقين خاصة العلويين في الخارج وكذلك الفئات التي لم تنخرط في العمل السياسي مع الدولة.
- الهرب من بؤر الصـراع واختيار قمم الجبال مكاناً للتأمل والعبادة والعيش الكريم باستثمار الطبيعة بعيداً عن مراكز التوتر في المدن.
- النبوغ الواضح في الأدب والشعر حيث عرفت الطائفة خلال التاريخ مئات الشعراء المجيدين الذين كانوا يستنطقون الطبيعة الجميلة في ابتكار روائع الحكمة.
- الرغبة التاريخية بممارسة حياة الفروسية والنبالة والمروءة، وقد ارتبط ذلك بسلسلة من العذابات والاضطهادات التي فرضت عليهم قهراً خلال التاريخ، ومنها الصـــرـاع مع الكرد، ومع الاسماعيلية، ومع الصليبيين، ومع المماليك، ومع السلاطين العثمانيين.
كانت أسوأ تجربة في حياة هذه الطائفة هي في العقود الأخيرة حين اختار النظام
البائد وضعهم كدروع بشـرية للانتقام بهم من خصومه، ومنع التنمية في قراهم الريفية
لإجبارهم على الدخول في سلك الجيش، واستخدمهم في المهام الأمنية، وقد أدى ذلك إلى
خلق حالة سوداء من الريب والشكوك بين الطائفة وبين محيطها الكبير، ويفرض ذلك
جهوداً استثنائية على الجميع لتصحيح هذه الصورة النمطية، ومنع تكرارها بأي وجه،
والبراءة من كل ممارسة ظلم وعنف.
وأختم هذه المقالة بهذه الأبيات الجميلة للشاعر العلوي المنتجب العاني المتوفى 400 هـ:
فسامح أخاكَ إذا ما هَفا *** ولِنْ إنْ قَسا ثمَّ صِلْ إن جَفا
وإن زلَّ كُنْ أنتَ ممّنْ عفَا *** وإن دانَ بالغدرِ دِنْ بالوفا
وكلّ يُجازى بما يكتَسبْ
فمن ذا الّذي ما أسا في الأنامْ*** ومن ذا الذي ما عليه ملامْ
ومن ذا الذي ما توحّى الأثامْ *** فهذا بفعلٍ وذا بالكلامْ
وهذا لفرطِ هواهُ ارتكبْ
فكيفَ ترومُ الصّفا من مزاجْ *** وقدْ وقَعَ الجمعُ والإزدواجْ
كمثل دخانٍ بضوءِ السراجْ *** وربّك أدرى بسرّ العلاجْ
فسلّمْ إليه وخلِّ التّعبْ