ثقافة الكراهية وأثرها القاتل
لا يحتاج الشهداء الأبرار الذين دفعوا حياتهم في كنيسة سيدة النجاة ببغداد لنواحين وردادين ولطامين، إنها أسطورة بائسة تلك التي نرتلها كلما وقعت كارثة من هذا النوع الذي يهدم المجتمع ويلغي الأمة، لقد صاروا في جوار ربهم، ولكن علينا نحن الشاهدين على العصر أن نقول الحقيقة كاملة وبدون رتوش لنجنب أجيالنا الآتية مزيداً من الدماء والقهر.
الجريمة واحدة سواء كانت في مسجد أو في كنيسة، ولكن بشاعة العملية الأخيرة في العراق أنها استهدفت إضافة للأرواح البريئة روح الإسلام نفسه، وقدمت صورة الإسلام لأعدائه بدليل من الدم في كل مكان الإسلام على صورة دين دموي لا يعرف إلا لغة القتل والموت.
هل تحتاج جريمة كنيسة النجاة لشيء من الزيت نلقيه على مسامع الفتنة، أم تحتاج للحديث عن العيش المشترك والأحلام الوردية التي طبعت حياة آبائنا وأمهاتنا وأهلنا؟ أم علينا الاعتراف حقيقة بأن عدد المسيحيين في العراق تبخر تماما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ووفق تصريح عضو مجلس الأقليات العراقية لويس اقليس فإن عدد المسيحيين في العراق تناقص من 1.2 مليون قبل الاحتلال إلى أقل من نصف مليون عام 2010 والأرقام القادمة أشد إرعاباً وهولاً.
من يدفع ثمن الاتنحاري الذي يدخل بآلة الموت إلى الكنيسة أو المأتم أو الحسينية أو المسجد؟ تبدو هذه الأسئلة من باب ما أخبر عنه الرسول الكريم: فتن تجعل الحليم حيران!!
المحتل بالطبع الذي وفر بيئة العنف وزرع اليأس في قلوب الناس وقسم المجتمع بمشرط من حديد صارم إلى إرهابيين أو خونة، ولا يوجد في الدنيا طاولة حوار يمكن أن يلتقي عليها الخائن مع الإرهابي، من وجهة نظر كل منهما للآخر على الأقل! ولكن التبرير بوجود المحتل ليس كافياً وعلينا أن نتحلى بالشجاعة والجرأة فحين نعالج الأمور لا بد من مواجهة الحقيقة كاملة بدون رتوش.
الجانب الأكثر مسؤولية في رأيي هي ثقافة الكراهية التي يحشوها التعليم الفلتان في نفوس الناشئة من وجوب البغض في الله، وهي عبارة تبدو غريبة على مسامعنا لأن الخطاب الرسمي المسؤول عادة ما يتجنبها، ففي حين نستخدم في الخطاب الإعلامي المفتوح كلمة الحب في الله، ولكننا لا نزال نعلم في المجالس المغلقة الفصل الثاني من المتقابلة اللئيمة وهو فصل البغض في الله، ويعلم العارفون أنه لا تزال كلمة البغض في الله ترسم ملامح التوجيه الدقيق لمن يتخصص في اللاهوت والإكليروس الديني الذي حاربه بشدة أئمة الإصلاح والتنوير خلال التاريخ الإسلامي.
كثيرون ممن يستخدمون مصطلح البغض في الله للآخر المختلف عقدياً عنك يعتبرون أن ما ينادون به من البغض في الله مسلمة عقدية وأنها كلمة بريئة ومتوازنة وهادئة، لا تنتقص من حقوق جارك الآخر شيئاً بل هي محض تقويم لخطأ اعتقادي، وحماية لعقيدة أبنائنا وضبطاً لهم على العقيدة السليمة.
في متابعة استقصائية لباب الاعتقاد المنشور على المكتبة الشاملة في الحاسوب وردت كلمة البغض في الله 407 مرات! في حين وردت كلمة الولاء والبراء وهي المكافئ الموضوعي لكلمة البغض في الله 906 مرات!! وسيتضاعف الرقم عشرات المرات لو أدخلنا سائر كتب الموسوعة، ألا يكفي ذلك كله للقول بأننا نمارس ثقافة الكراهية بأبشع صورها ثم نلقي بركام خطايانا على المحتل.
وبإمكانك أن تتصور إلى أي مدى ستأخذ هذه الثقافة أجيالنا الآتية حين يحصل أدنى تقصير في الواجبات الأمنية للدولة.
وحين نتحدث عن الإسلاموفوبيا في الغرب فإن علينا أيضاً أن لا نرى القذاة في عين الآخر وننكر الخشبة في عينك، فهناك في هذه البلاد العربية اليوم غرب فوبيا وشيعة فوبيا ونصارى فوبيا وصوفية فوبيا وطوائف فوبيا الى غير ذلك من الفوبيات التي لا تخطئها العين ولا يتجاوزها القلم، وكلها تقوم بأدوار مدمرة لجهة الفتن الداخلي أو القصف المتبادل للكراهية باللعنات العابرة للقارات.
أيكفي في مواجهة ذلك كله أن يقال إن الفوبيا صناعة أمريكية؟
الأمريكي هو الذي بحتر السلاح العراقي في السوق السوداء، هذا صحيح، ولكن ثقافة الكراهية هي التي وجهت البندقية العراقية ضد العراقي نفسه، وكان بالإمكان أن يذهب هذا السلاح السائب إلى مكانه الصحيح في مقاومة العدو المحتل لو كانت التربية الوطنية على حال من العافية.
إن الأمريكيين لم يأتوا بوعاظ أمريكيين ليتولوا توجيه الناس فيما يحبون أو يكرهون، أو ليقرؤوا على الناس درس الولاء والبراء، ولم يكن معهم قساوسة متخصصون في بيان فسائد عقائد النصارى المشرقيين حتى يندفع الأشرار مغسولو الأدمغة للانتحار داخل صالات كنائسهم، ولم يحملوا معهم دراساتهم الإنجيلية التي تثبت التحريف في الكتب الدينية لينهض الإرهاب بالانتحار داخل كنائسهم رغبة في تصحيح الفساد الاعتقادي والنهي عن المنكر، إنها باختصار أخطاؤنا إن لم أقل (جرائمنا) التي نرتكبها على أشكال متعددة من منابر الوعظ والتوجيه والتأليف المتخصص في الترويج للبغض في الله!! الذي هو أكثر ما ينفع الأمريكي المحتل، ثم نقرن ذلك بلعن الأمريكي والبريطاني والدعاء على أولادهم بالتيتم ونسائهم بالترمل وحواملهم بالفضيحة !!
إنني لا أتحدث عن مشكلة في البيرو أو الأكوادور أو جزر الفوكلاند، إن جولة بسيطة في الحلقات المغلقة التي تتولى تنشئة الجيل على العقيدة السليمة يمكن أن تأتيك بالعجائب، فإذا أردنا أن نتحدث عن عظمة الإسلام فهل يبرر لنا ذلك أن نغمز ونلمز ونهمز بعقائد الآخرين؟ وإذا أردنا الحديث عن سلامة النص القرآني فهل نحتاج إلى الجزم بتحريف كتب الآخرين وهوانها على الله؟ وهل نحن مضطرون كل يوم لذكر الفساد الأخلاقي والاجتماعي في الغرب والأديان الأخرى من أجل إظهار ما في الإسلام من تسامح وحكمة ونور؟ الويل لكل همزة لمزة!!
باختصار إن الاحتلال الأمريكي سبب رئيس في كل المشاكل التي يعانيها العراقيون ولكن ثقافة الكراهية هي سبب جوهري أيضاً وبدون هذه الثقافة لم يكن للاحتلال أن يحقق ما حققه من هدم مجتمعي مقيت وذبح للوحدة الوطنية على أرض الرافدين.