الدين لله والوطن للجميع…. د.محمد حبش
في غمار الجدل الذي تنهض به اليوم لجنة مكلفة بصياغة قانون الأحزاب فإن سؤالاً كبيراً يراودنا اليوم: هل تتجه سوريا نحو السماح بأحزاب دينية؟
ولهذ السؤال إجاباته المعروفة لدى لجنة صياغة قانون الأحزاب، وكذلك في أدبيات العمل السياسي العربي، وثقافة الدولة الحديثة، ولكنني هنا متجه للإجابة على هذا السؤال وفق المنطق الشرعي الأصولي.
من وجهة نظري فإن الدولة التي أنشأها النبي الكريم كانت في الواقع دولة مدنية بكل التفاصيل، يبدأ ذلك بإعلانه لدى وصوله إلى المدينة المنورة دستور المدينة الأول الذي ينص فيه على أن المواطنين متساوون بدون أدنى فارق في الحقوق السياسية للناس، وقد نص الدستور آنذاك على عبارة: وأن المسلمين ومن معهم من يهود يثرب أمة واحدة دون الناس، يتعاقلون فيما بينهم، وفي سياق هذا النص الدستوري عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في المدينة المنورة في ظلال حقوق متساوية من المواطنة، ولولا ما ارتكبه اليهود من تآمر وغدر لظلوا في المدينة المنورة مواطنين تحفظ حقوقهم وكرامتهم.
كان النبي الكريم حريصاً أن يتم اتخاذ القرارات بما يتناسب مع حياة الناس، ولم يكن ينتظر بياناً سماوياً في تحديد منازل المواطنين، بل إن الناس كانوا يستوون في الحقوق والواجبات بغض النظر عن الانتماء الديني الذي ينتسبون إليه، وفي موقف ذي دلالة أرسل النبي الكريم الصحابي الجليل بريدة بن الحصيب إلى غزاة فأوصاه بما هو ضروري في دينه ودنياه، ثم قال له: فإن أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل، ولكن أنزلهم على حكم نفسك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ وبذلك فقد أسس النبي الكريم للحقوق المدنية في المجتمع، ولم يرض لأحد من القادة السياسيين أن يتحدث كناطق باسم الرب، وإنما أمره أن يتصرف كقائد مدني يتصرف وفق المصالح المتساوية للناس.
في موقف آخر فإن النبي الكريم كان يؤكد على هذا اللون من المساواة، وفي سبيل إنجاز رسالته في المساواة فقد قاد أهم حملة عسكرية في حياته وهي فتح مكة، في سياق موقف وطني مسؤول للدفاع عن عدد من أبناء الوطن، لم يكونوا مسلمين وإنما كانوا مواطنين في دولته، ولا بأس بشيء من التفاصيل فقد أنجز النبي الكريم مع خصومه من قريش صلح الحديبية، وفيه أن من شاء أن يدخل في حلف قريش دخل فيه ومن شاء أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، فدخلت قبيلة بكر في حلف قريش ودخلت قبيلة خزاعة في حلف محمد، وهكذا فقد أصبح أهل خزاعة مواطنين في دولة المدينة وفق العقد الاجتماعي، وبعد شهور من ذلك قامت قريش وبكر بالاعتداء على خزاعة لثارات جاهلية قديمة، وذهب رجال من خزاعة يستغيثون بالنبي الكريم لرفع الظلم عنهم، وحين تحرك النبي الكريم بجيشه من المدينة لفتح مكة كانت له أسباب متعددة ولكن السبب المباشر كان مسؤوليته في الدفاع عن عدد من المواطنين على الدين الوثني دخلوا في حلفهم مع الرسول الأكرم.
ولم تكن خزاعة من المسلمين بل كان فيها المؤمن والوثني، ومع ذلك فقد كان حقهم من الأمن والسلام مصوناً محفوظاً،ولم يهدأ له بال حتى انتصر لهؤلاء المواطنين من أبناء خزاعة على الرغم من أنهم كانوا يعبدون الحجر وأنه كان يعبد الله.
إن الصلاة والصيام والزكاة و الحج شرط لدخول الجنة هذا صحيح ولكنها ليست شرطاً لدخول الوطن، إن الوطن حق للجميع يستوي فيه الجميع بالمواطنة، وشرطه فقط الوفاء لترابه والعمل الصالح فيه.
أما الدولة الدينية الثيوقراطية التي عرفتها أوروبا في العصور الوسطى، حين كان الأباطرة يتوجون في روما، ويتصرفون بأمر السماء كما تنقله لهم الإرادة البابوية فهو منطق مرفوض تماماً في الفكر السياسي الحديث كما أنه مرفوض تماماً في الفكر الإسلامي.
نحن ننتمي إلى نبي كريم يقف بكل شجاعة أمام الناس ويقول: إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر مثلكم، فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأسمع منه فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها.
لم يشأ أن يتحدث عن معارف من السماء للفصل بين الناس في الأرض وهو أكثر الناس مساساً بالوحي ووصالاً بالملأ الأعلى وإنما تحدث عن حجج وبينات وبراهين ووسائل إثبات يستوي فيها الجميع تحت معايير العدالة.
وفي حياته الكريمة فقد مارس الحكم المدني بجدارة واقتدار، وحين اقترض من مواطن يهودي، اسمه زيد بن سعنة، فقد دون مطالبته في صك واضح، وأشهد عليه رجالاً من المسلمين، وعندما جاءه زيد بن سعنة مطالباً بحقه اشتد في المطالبة بغضب وأخذ بثوب النبي الكريم يجذبه إليه قائلاً إنكم يا بني عبد مناف قوم مطل، وغضب عمر بن الخطاب ودفع الرجل، وهنا يقول له النبي الكريم، لا ياعمر! كان عليك أن تطالبه بحسن الطلب وتطالبني بحسن الأداء، ثم أمر بلال أن يعطيه دينه وقال له زده دينارين، جزاء ما روعته!!
لكم تكن هناك امتيازات على الإطلاق لموقع النبي الكريم كنبي ورسول وأيضاً كحاكم زمني ولم تكن له أي حصانة تحول بينه وبين حقوق الناس، وقد شرح الأمر كله بكلمة واحدة : والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
تحتاج سوريا لإظهار احترامها الكبير للقيم الدينية التي بشر بها الأنبياء، والاستمداد من مدارس الفقه العظيمة خلال التاريخ، ولكن ذلك كله لا يعني أن نتحنط في لحظة من الماضي وأن نبحث عن كلام السلف في حل مشاكل الخلف، وأن نحتكم في قضايا الواقع إلى حلول الماضي، وأن ننتج أحزاباً في الوطن ولاؤها لجزء من أبنائه دون بقية أفراد الوطن.
إن الشريعة آمنت بالتجدد، وفي القرآن الكريم نفسه تم نسخ عشرين آية قرآنية خلال عشر سنين، وجرى ذلك كله في سياق احترام كبير للعقل الإنساني وسياقه المتطور في سوريا مهد الديانات، وهي الأرض التي تجمع أشواق العابدين في العالمين وهي تسمى في شرق الدنيا بلاد الشام الشريف وتسمى في غرب العالم أرض سوريا المقدسة، ولكن هذه القيم الروحية العالية لا ينبغي أن تنغمس في جدل السياسة ومن حق السوريين جميعاً أن يطالبوا بأحزاب مدنية تلتقي تحت سقف العدالة والمساواة، يكون خطابها الدين لله والوطن للجميع.