صدر عن المعهد الاسكندنافي في جنيف كتابي الجديد العقبات الجسدية وكرامة الانسان – نحو فقه أسلامي مناهض للتعذيب
والكتاب محاولة مهمة للاقتراب من التابو الصارم الذي يجعل أي اعتراض على شكل الحدود الشرعية كفراً بالله وكتابه، أو تغييراً لما علم من الدين بالضرورة.
وتؤكد الدراسة أن تطبيق الحدود بالشكل الذي مارسته داعش والنصرة من قطع اليد ورجم الزاني وجلد الخاطئ ما هو إلا شكل من آلة الحد التي كانت مألوفة في القرون الأولى للإسلام ولم تتعرض حينذاك لأي نقد لأن هذا كان شكل العقاب السائد في العالم.
ولكن تطور الحياة فرض أشكالاً جديدة من العقاب ومنع أشكال التعذيب الجسدي بعد أن توفرت بدائل وافية تحقق أهداف الشريعة ولا تمارس تعذيب الإنسان.
وفي إطار التطور التشريعي فإنني لا أعرف في العالم ديناً أو فلسفة أكثر قدرة على التطور والمرونة من هذه الشريعة الاسلامية، فقد أطلق الرسول الكريم رسالته العظيمة لإصلاح الناس، وبدأ التشريع مترافقاً مع التجديد والتطوير، وخلال حياته التشريعية القصيرة التي لم تزد على 23 سنة فإنه تم نسخ 21 آية من القرآن الكريم، وتوقف العمل بما فيها مع أنها باقية في نص القرآن الكريم ويقرؤها المسلمون، وفيها حدود وحلال وحرام، ولكن الحاجة التي أملت نزول النص فيها تغيرت في تلك الفترة القصيرة، ودار الحكم مع علته وجوداً وعدما، وتم وقف العمل بهذه النصوص القرآنية الكريمة بحضرة الرسول الكريم وبأمره ومتابعته.
ومن المفيد ان نشير إلى بعض هذه التغييرات التشريعية الهامة التي تمت خلال حياة الرسول الكريم من خلال النسخ:
• نسخ حكم حبس النساء الخاطئات في البيوت حتى يتوفاهن الموت
• نسخ آية جواز الوصية للوارثين، والتحول إلى قاعدة: لا وصية لوارث
• نسخ آية اعتداد المتوفى عنها زوجها من سنة الى 130 يوماً
• نسخ آية: إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة.
• نسخ الإذن بالإفطار لمن لا يرغب بالصيام وإعلان وجوب الصيام على كل قادر
• نسخ الإشادة بالخمر والإذن بمنافعه إلى التحريم المطلق
وهذه كلها أحكام قرآنية نزل بها الوحي ولا يزال المسلم يرتلها في صلاته، وقد تم تطبيقها زمناً ثم حصل تطور جوهري في سلوك الأمة استدعى أن يتم تغيير الحكم لما هو مصلحة حقيقية للناس، وحيثما كانت المصلحة فثم وجه الله.
وما قلناه في القرآن الكريم ينطبق أيضاً على السنة النبوية فقد تم نسخ نحو 48 حكماً حكم به الرسول الكريم، ولم يكن الرسول ليتردد في القول برجوعه من رأي إلى رأي، وكان يقول: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
وفي الحديث بيان مرونة هذه الشريعة وقدرتها على الاستجابة للأحداث وتطور الأحوال، فمن المعلوم أن الحلف من قبل النبي الكريم لا يكون إلا على ما هو يقين بلا ريب، ولكنه لا يتردد أبداً في ترك ما أقسم عليه إذا ظهر له في سواه وجه أكثر ملاءمة وعدالة.
ولا شك أن النسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي من حلال وحرام، ولا يكون في الخبر ولا في الفضائل ولا في الاعتقاد، فهي حقائق ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان.
والمسلمون متفقون بلا استثناء على نسخ الشرائع بعضها ببعض، فقد أشار القرآن الكريم إلى مواضع كثيرة نسخت فيها أحكام فرضت على الامم الأولى، ومنها قوله تعالى:
• وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم
وجاء البيان القرآني واضحاً بأن هذا التحريم كان بسبب غيهم وتشددهم وليس حكماً سرمدياً في كل زمان ومكان.
وفي آية أخرى يشير القرآن الكريم إلى رسالة السيد المسيح بأنها جاءت لتغيير بعض الأحكام الشرعية المفروضة على بني إسرائيل:
• ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم.
وفي آية أخرى:
• وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وتكررت هذه النصوص في القرآن، ولا يوجد فقهياً أي اعتراض عليها، وقد بين القرآن الكريم النص الواضح بهذا الشأن بقوله:
• لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.
ويتحدث الفقهاء عادة عن الحكمة العظيمة التي اقتضت ان يتم تغيير الأحكام بتغير الأزمان، وأن التطور الفقهي والتشريعي بما يناسب الناس مطلوب كلما تطورت المجتمعات، وأن رسالات الأنبياء ينسخ بعضها بعضاً، ولكل شرعة ومنهاج، ولكنهم لا يقبلون في الغالب الأمر نفسه في الشريعة الإسلامية بل يسود الاعتقاد بأن الأمة قد بلغت أخيراً سن الرشد في الرسالة الخاتمة ونزلت الشريعة تامة فلا تقبل أي تطوير أو تجديد، ويتعين العمل على ما مات عليه الرسول.
إن فكرة فقه إسلامي مناهض للتعذيب هي فكرة واقعية تماماً، وتتجه التشريعات الحديثة في العالم كله لمنع التعذيب في إطار العقاب، وأعتقد أن الفقه الإسلامي أقدر من سواه على تحقيق هذا الانتقال الإنساني الضروري، ومنع كل أشكال التعذيب ضد الإنسان.
ولا شك أن الديكتاتوريات الظالمة التي مارست تعذيب الناس قدمت صورة سوداء قاتمة للتعذيب الوحشي المنافي للكرامة الإنسانية، وعلينا جميعاً أن نقوم بتطوير الفقه الديني بحيث يلتقي مع قيم الكرامة الإنسانية ويدبن بشدة ممارسات التعذيب الذي تطبقها الديكاتوريات المتوحشة، ثم تنسبها إلى الدين، وهي نسبة ظالمة أثيمة، تتناقض جذرياً مع منطق: ورحمتي وسعت كل شيء، وما أرسلناك إلا رجمة للعالمين.