كتبت سلسلة مقالات في الغناء في الإسلام وصناعة البهجة، وكان لها أثر طيب عند أولئك المؤمنين بالرسالة الإنسانية للإسلام، ورأى فيها كثيرون صورة الإسلام الحضاري الذي نسعى إليه.
ولكن في مقابل ذلك كان هناك ردود غاضبة خاصة حين تتحدث عن دور حقيقي للمرأة في صناعة البهجة والفن والجمال، بعد أن استقر العقل الذكوري على وظيفة محددة للأنثى وهي إمتاع زوجها وخدمة بيتها، أو وفق الرواية البائسة المنسوبة زوراً لفاطمة: خير أحوال المرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال!
ولكن هل كان مجتمع الصحابة بالفعل مجتمع ذكور قامع ولم يكن فيه مكان للمرأة في الفنون والجمال؟
المفارقة أن مجتمع المدينة المنورة تحديداً في عصر النبوة وعصر الراشدين كان مجتمعاً متميزاً بالفنون، شارك فيه الرجال والنساء بحيوية، وكان استقرار الحال في المدينة وتحول الحرب إلى الشام والعراق فرصة لازدهار الفن في المدينة، وهذا ما تشرحه دراسات اجتماعية تاريخية كثيرة كتبها أبرز المؤرخين في تلك المرحلة من التاريخ، وحين تستعرض كتاب الأغاني المذهل لأبي الفرج الأصفهاني المتوفي 356هجرية ستجد مئات الروايات عن مشاركات كبيرة ومؤثرة للمرأة في مكة والمدينة ومشق وبغداد في صناعة الفن في ذلك العصر الإسلامي الأول.
بالطبع فإن الأصفهاني صار هدفاً لسهام النقد اللاذع بالمعايير السلفية، وتم اعتبار كتبه كالعادة خبيثة ومزورة، وبات الاستدلال بها لوناً من عمل الشيطان فاحذروه.
ومع أنني لا أقبل أبداً هذا اللون من الاتهام لمؤرخ عميق وموسوعي بحجم أبي الفرج الأصفهاني، ولكن لا بأس يمكننا أن نحيد عنها ونتجه مباشرة إلى الكتب المعتبرة عند السلف، لمعرفة الدور الذي مارسته النساء في عصر الإسلام الأول.
وروايات الغناء موجودة في صحيح البخاري ومسلم والنسائي ومسند أحمد وأربعين كتاباً آخر من كتب السنن المعتمدة!! ويمكنك أن تفتح أي كتاب منها وتتوجه على الفور إلى باب العيدين وباب النكاح من كل كتاب، ولا يعسر على أي قارئ عادي أن يصل إلى هذه المصادر، وفيها أن المغنيات كن يغنين في أيام الفرح والسرور في بيت المصطفى عليه السلام وفي خيام الفرح العامرة، وسط دهشة عدد من الصحابة واستغرابهم، وإقرار ورضا من الرسول الكريم الذي كان مؤمناً تماماً بالإنسان والفن والجمال والأمل.
وحتى نكون أكثر دقة فهذه خمس مغنيات كريمات من الصحابة، برزن في المدينة المنورة واشتهرن واستمع إليهن الناس، والجانب الأكثر إثارة أن النبي الكريم نفسه كان يستمع إليهن، وهن في غاية الحشمة والوقار، وكان يستحسن بعض الأغاني ويصوب لهن في مواضع أخرى، وفي رواية ابن حجر أن النبي نفسه كان يوصي بالمغنية أرنب لأفراح الصحابة ومناسباتهم.
والمغنيات الصحابيات ترجم لهن بدقة الإمام ابن حجر العسقلاني وهو من أوثق الرواة عند السلفيين وذلك في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة، حيث أورد فيه ترجمة كل صحابي برقم محدد وفيه المغنية الصحابية حمامة رضي الله عنها رقم 11059 ، والمغنية الصحابية أرنب رضي الله عنها رقم 10786، والمغنية الصحابية جميلة رضي الله عنها رقم 10786 والمغنية الصحابية أسماء رضي الله عنها رقم 10908، والمغنية الصحابية زينب الأنصارية رقم 11260.
وقد ظهرت هذه القدرات الفنية في عصر الصحابة وتبنى الصحابي الجليل حسان بن ثابت وأبناؤه وكذلك الصحابي الجليل عبد الله بن جعفر الطيار رعاية حركة فنية حقيقية في المدينة المنورة شارك فيها الرجال والنساء في جو من الوقار والحشمة وتألق الفن، وقد تألقت تلك المواهب بظهور ابن سريج في مكة والسيدة المغنية عزة الميلاء في المدينة التي كانت أشبه الناس بأم كلثوم السلف الصالح، والتي كانت متخصصة بإنشاء أشعار حسان بن ثابت وفي آخر حياته كان يحضر مجالسها مع أولاده وفد كف بصره، وكلما تألقت في الفن والأداء كان يأخذه البكاء والحنين، والروايات بذلك كثيرة ومشهورة.
بالطبع ليست هذه الصحف مكاناً مناسباً لجدل التراث وتوثيقاته، ولكننا نواجه مشكلة في صميم الوعي الاجتماعي، حيث استقر لدى الطيف المتدين أن الغناء مهنة دنيئة وأن الفن كله سلوك غير إسلامي، وأن الفن الذي تقدمه النساء خاصة هو فن ملعون يستوجب غضب الله وزلزلة العرش، الأمر الذي ظهرت نتائجه بشكل مريع في الانقسام الاجتماعي وتبادل الريب، واعتبار نصف المجتمع متآمراً على الإسلام عدواً لله ولرسوله.
إنني أشعر بالحرج وأنا أقدم الدليل تلو الدليل أن الغناء والفن كان مشروعاً في أيام الإسلام الأولى، وسيشعر كثير من الأصدقاء اننا نناقش البدهيات فلا يوجد مجتمع في العالم يشكك في قيم الفن في صناعة الحياة، والإسلام دين الفطرة، وقد جاء ليتمم مكارم الأخلاق ويطلق مواهب الناس في الخير ولا يمكن أ نيغلق أبواب الحياة والفن على نصف المجتمع ويلقي بالنساء في دائرة الرهبنة بعيداً عن كل أفق وأمل .
لا أعتقد اننا نحتاج أكثر من قراءة الكتب الستة المعتمدة في السنة النبوية لنجد فيها أسماء العشرات من المغنيات من الصحابة والتابعين، ومن المؤسف ان كل كتاب منها ألحق به تفسير بائس ينكر الروح الإيجابية في هذه النصوص ويتأولها بلغة متخشبة لا تسمح ببقاء أي ظل للروح والأمل فيها.
ولكن لماذا أكتب في جيل تجاوزه الزمن منذ أربعة عشر قرناً، وبات أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ولا تسئلون عما كانوا يعملون؟
أكتب في التاريخ لأننا لا زلنا نعيش فيه، ولأننا لا زلنا نعتقد ان كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، ولأنني مؤمن أيضاً أن الماضي الذي يعشقه الناس لا بد أن يكون مجيداً أو لا بد أن يكون فيه شيء مجيد، فالناس ليسوا أغبياء وعندما تتعلق أبصارهم وأرواحهم وقلوبهم بعصر غابر فلا بد ان قوة ما منحت ذلك العصر ألقه وجلاله وجعلت الناس تحن إلى الروح فيه.
وحين نقول إن هناك مغنيات في الصحابة فنحن لا نأتي بجديد، فهي روايات قديمة في كتبنا المعتمدة، ونحن لا نشوّه ذلك العصر بل نصحح وعينا المشوّه، فقد كان مجتمع الصحابة مجتمعاً إنسانياً يحتفي بالفن ويطرب به ولم يكن مجتمع رهبان كئيب.
الصحابي كل من لقي الرسول مؤمناً به ومات على الإيمان وهذا حال المغنيات الكريمات، فلا تعرف واحدة منهن بكذب ولا نفاق… بل كن محل احترام وتقدير ومحبة، ولم تكن مهنة الغناء تعني الفحش او الخطيئة بل كانت مهنة فنية راقية يحترمها الناس ويثنون عليها.
أما هذه الروايات المشهورة التي قرعت أسماعنا على المنابر: من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة، فهي روايات بائسة لا يعرف لها إسناد، وهذا الحديث بالذات رواه ابن صصري في أماليه وليس اليوم بحوزة أحد مخطوطة واحدة لصصري ولا ابنه ولا أماليه، وهناك روايات كثيرة تلعن الموسيقا والغناء والفنون، مثل روايات ابن صصري وقد تكفل إمام عظيم بالرد عليها تفصيلاً وهو الإمام ابن حزم في كتابه المحلى الذي يعتبر عند الجميع من أوثق كتب الفقه الإسلامي وأشدها دقة وتحرياً.
وهكذا يستنفر الفقه الغاضب لنفي كل معاني الفرح في جيل الصحابة والإصرار على وصفهم بالرهبان الزاهدين، مع أن الرسول نفسه حرم الرهبانية، وأنكر على من أراد الرهبنة من الصحابة، وفي موقف غاضب كتب أحدهم: إن وصف الصحابيات بالغناء هو ردة عن الإسلام وخروج عن الملة! حيث اعتبر الغناء والفن شتيمة نقذف بها الصحابيات! بدلاً من كونه موهبة مقدرة جميلة، مع التأكيد أن هذا الوصف تحديداً موجود في البخاري ومسلم وكتب السلف كافة، قبل ان ينتشر التصحر الوهابي الذي حرم كل صيغة للفن الجميل.