وقد جرت العادة أن يكون عنوان كهذا من وضع العلمانيين، ولكنها في الواقع لغة الفقه الإسلامي العميق، وعباراته الدقيقة التي كان يمارسها الفقهاء في العصر الإسلامي الذهبي، إنها نصوص صحيحة السند مروية بالتواتر في القرآن أو في السنة الكريمة، ولكنها لا تحمل معنى الخلود وحتمية التطبيق في كل زمان ومكان.
لقد قدمت سبعة وثلاثين نصاً وأستكملها اليوم إلى خمسين، وعند كل نص بيان موقف الفقهاء التاريخيين من وجوب تقييد النصوص بالزمان والمكان وعدم السماح بعموم إطلاقه على الزمان والمكان.
إن عبارات مثل: تصلح لكل زمان ومكان، ولكل بشر وحجر، ناسخ لكل الأديان، مبطل لكل الشرائع، ومثل ذلك هي عبارات خطابية إنشائية، وليست عبارات علمية موضوعية، ولا هي عبارات قرآنية أو نبوية.
يقابلها من العبارات النبوية والقرآنية: لتنذر أم القرى وما حولها، لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولكل وجهة هو موليها، إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، وإنه لذكر لك ولقومك، لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم، إنها لك وليست لأحد من بعدك.
والأمثلة كثيرة جداً أن النص محكوم بسبب نزوله وسبب وروده قرآناً وسنة، وأن الإفراط في إطلاق النص في الزمان والمكان لا يعتبر وفاء للنص بل يعتبر إساءة له ، وتحميله ما لا يحمل.
إن النص المقدس من القرآن والسنة الذي تناول من جغرافيا العالم منطقة الجزيرة العريبة والشام ومصر فقط، ولم يذكر كلمة واحدة عن أوربا والصين والهند وأمريكا واستراليا لا يمكن القول بانه كاف لتشريع ما يرسم العلاقات الدولية بين الشعوب والدول والأمم.
وتناول في الطعام والشراب هذه البيئة بعينها من النخيل والعنب والحب والزيتون والتين ولم يذكر شيئا عن الأرز والشاي والبندورة والبطاطا وآلاف الأنواع من المطاعم والمشارب التي ياكلها مليارات البشر لا يمكن القول أنه يحتوي على نصوص فقهية تكفي لتقرر الحلال والحرام في ثقافات العالم.
وتناول من أخبار الرجال أنباء هذه المنطقة الجغرافية تحديداً، نوح في تركيا وجبل الجودي وابراهيم في العراق وموسى في مصر وسائر الأنبياء في الشام وجزيرة العرب، ولم يذكر كلمة واحدة عن سقراط وأرسطو وأفلاطون وبوذا وكونفوشيوس وماني ومزدك وزرادشت وأفلوطين وجستنيان، وهي أعلام ثبت اليوم أنها كانت تملأ الدنيا والناس، لا يكفي للحكم على سائر هذه الثقافات والفلسفات، ويحدد ما أصابت فيه وما أخطأت، ليقو قائل هذا حكم الله في الحكمة اليوناينة أو الرومانية أو الهندية أو الصينية.
وفي القرآن الكريم بيان لبعض أحكام الأحوال الشخصية، وعقوبات بعض الجرائم السائدة في عصره، وليس فيه شيء لبيان عقوبات التزوير والتهرب الضريبي والمخدرات وآلاف الجرائم المستحدثة، وليس فيه بيان قانون للمرور وقانون للملاحة وقانون للاستيراد والتصدير وقانون لحماية البيئة وقانون للنظام الصحي وقانون للنشاط الفضائي وقانون للعلاقات الدولية، وهذا كله نشاط بشري ينبغي أن نشارك فيه كمسلمين أمة بين الأمم، وليس من حقنا أن نحتكر مخرجاته بأنها محسومة في الكتاب الحكيم.
وفي السياق نفسه فهذه طائفة أخرى من الآيات الكريمة والسنن النبوية الكريمة التي جاء نصها بصيغة العموم والإطلاق ولكن سرعان ما بادر الفقهاء إلى وضع القيود الشرورية وهي قيود مفهومة بالفطرة والبداهة، ولكنها اختلطت فيما بعد على الناس فظنوا أن المطلوب فرضها في كل زمان ومكان فبادر العلماء إلى وضع القيود الضابطة لها من تقييد إطلاقها وتحصيص عمومها وتأويل ظاهرها، وأدرك الناس أن العبرة فيها بخصوص السبب وليست بعموم اللفظ، ومنها:
37- قال تعالى: يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت علكم وأني فضلتكم على العالمين.
ظاهر هذه الآية أن بني إسرائيل هم أعظم الشعوب في التاريخ قاطبة وأكثرها أهمية وقبولاً عند الله، وأنهم شعب الله المختار، وأن الله فضلهم بخصائص لم تؤت لغيرهم، منها أن إيمانهم معجزة وأن هجرتهم معجزة وشق البحر لهم معجزة ومن المعجزات التي أكرموا بها في طريق هجرتهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، وفي القرآن الكريم مما يؤيد تفوق اليهود وعلمهم وفضلهم قوله تعالى: فإن كنت في شك مما نزلنا فسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك، وكذلك قوله: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب، وكذلك قوله: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
ولكن الفقهاء والمفسرين رفضوا هذا المعنى الظاهر وكل ما تعلق به المؤيديون واعتبروه مبالغة غير مبررة، وقالوا بأن بني إسرائيل أمة من الأمم لهم ما للأمم وعليهم ما على الأمم، وليس لله شعب مختار، وهذا النص وارد فقط على جماعة من بني إسرائيل صبروا مع موسى في نضاله ضد الاستكبار والظلم، ففضلهم الله على عالم زمانهم، ولا شك ان هذا التأويل مخالف لظاهر النص، ولكن الأمة تكاد تكون متفقة عليه وهو خلاف الظاهر، وذلك التزاماً بمقاصد الشريعة الحكيمة.
وباستثناء الثعلبي الذي أصر على أن بني إسرائبيل أفضل الأمم، فإن كل المفسرين لم يقبلوا عموم الآية الواضح في فضل بني إسرائيل على العالمين، ولم يقولوا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولم يقولوا إنه حكم الله في كل زمان ومكان، ولم يقولوا إنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولم يقولوا أأنتم أعلم أم الله، ولم يقولوا أتعلمون الله بدينكم، ولم يقولوا ومن أصدق من الله حديثاً، ولم يقولوا الله يصطفي من يشاء، وإنما واجهوا كل هذه النصوص العاطفية الإنسائية بخطاب العقل والمنطق والمقاصد، وقالوا: الناس سواسية، وليس لله شعب مختار، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وكل نفس بما كسبت رهينة.
38 – يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين
ظاهر هذه الآية وجوب مقاتلة جيراننا من غير المسلمين، وقد جرى ذلك بالفعل عدة قرون من تاريخ الإسلام حيث كان العالم قائماً على شرعية المتغلب، وتحت هذا دونت سائر أعمال الفتوح في التاريخ الاسلامي، ولكن ذلك تغير في الظروف الدولية الجديدة، وقد بدأ الخلفاء منذ العصر العباسي بإقامة العلاقات الدبلوماسية مع غير المسلمين من الكفار وفق شروط قائمة على تبادل المنافع والمصالح.
واليوم فهناك إجماع في البلدان الإسلامية ال57 على بناء علاقات حسن جوار مع الأمم الأخرى مهما كانت دياناتها ومذاهبها، وأن هذا النص جاء مطلقاً، ولكن طرأ عليه القيد من خلال دخول الأمة الإسلامية في عقود ومصالح ومنافع دبلوماسية محددة ولم يعد لتنفيذ ظاهره وجه على الإطلاق، بل وجب تنفيذ ما أبرمه المسلمون من عقود مع الأمم الأخرى تنفيذا لظاهر قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود.
39- قوله صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال لا تراءى ناراهما…. رواه أبو داود والترمذي والطبراني والنسائي
يختار الظاهرية القول بتحريم الإقامة بين ظهراني المشركين، وتحريم تحصيل الجنسية الأجنبية، وهذا بالفعل هو ظاهر الآية والحديث وفق دلالات اللغة العرببة.
ولكن جمهور الفقهاء لا يأخذون بهذا، ولا زال المسلمون منذ فجر الإسلام يقيمون بين ظهراني المشركين منذ إقامتهم بالحبشة سبع سنين بعد هجرة النبي إلى المدينة، وصولاً إلى زماننا الذين يقيم فيه 350 مليون مسلم في بلاد غير إسلامية، وفيهم فقهاء وعلماء وباحثون إسلاميون وجامعات إسلامية وكليات شرعية…. فهل كل هؤلاء واقع بالإثم بسبب وجود نص؟ وهل من العقل مطالبة هؤلاء بالرحيل من البلاد التي يعيشون فيها؟ والانتقال إلى العالم الإسلامي المأزوم.
40 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله…
ووفق ظاهر هذا النص فإنه يجب قتال الناس حتى يدخلوا في الإسلام، وهذا هو ما عبر عنه البغدادي في خطابه بقوله: إن الله بعث محمداً بالسيف وليس بالحوار ولا بالسلم، فمن أسلم فقد عصم دمه، وإلا فالسيف هو الحكم بيننا وبينه.
ولكن جمهور الفقهاء عبر التاريخ، لا يقولون بهذا ويعتبرون هذا الحديث مخصوصاً بمن قاتلنا وحاربنا من الأعداء، وليس في كل مشرك.
وكلمة (الناس) عموم أريد به الخصوص كما في سورة آل عمران: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فالناس في صدر الآية هو شخص واحد اسمه بشر بن سفيان الكعبي، وكلمة (الناس) الثانية عام أريد به الخصوص وهو أبو سفيان بن حرب ومن معه من كفار قريش، وفي آية واحدة دلت اللفظة على معنيين مختلفين ، لا يتصلان بالعموم الذي ورد في الآية.
والناس هنا في الحديث هم المحاربون المقاتلون الذين اختاروا مقاتلة المسلمين، ولا يجوز أبداً إطلاق هذا النص واعتباره صالحاً في كل زمان ومكان، وهذا على الأقل هو موقف الفقهاء المعاصرين في المذاهب الأربعة.
41 يقول الله تعالى: ومن لم يحكم بنما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
42 ويقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون
43 ويقول: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون
ولا شك أن هذه النصوص الثلاثة هي مدخل الظاهرية لتكفير العالم الإسلامي كله بوصفه لا يحكم بما أنزل الله، والحقيقة أن المسلمين اليوم لا يحكمون بالقطع والجلد والرجم وهو مما أنزله الله في كتابه، ولا شك أن جمهور الأمة لم يقبلوا أبداً إعمال ظاهر هذه الآية واختاروا تأويلها، وقبلوا إسلام الشعوب الإسلامية المتفرقة في العالم ولو لم تكن برلماناتها تحكم بظاهر القرآن الكريم، وقد صرحت معظم دساتير العالم الإسلامي بأن الشعب هو مصدر السلطات، وأن الفقه الإسلامي مصدر من مصادرالتشريع.
ومع ذلك فإن الفقهاء في العالم الإسلامي يعدون بالألوف في الأزهر وكليات الشريعة في العالم الإسلامي، وكلهم يتأولون ظاهر الآية ويتركون إعمال ظاهر هذه الآية ولا يرون الحكم بكفر القوانين التي تتبع أحكاماً مدنية واقتصادية أوعقوبات جنائية مختلفة عما في القرآن الكريم.
وأجمعوا على أن النصوص متناهية والأحداث غير متناهية وأن ما يتناهى لا يضبط ما لا بتناهى، وهو حكم عقلي وشرعي لا ينكره أحد.
ولا شك أن استعراض الأدلة وتفاصيلها ليس من شأن هذه المقالات الشعبية العامة، وأنما هو من شأن أهل الاختصاص، ولكن من المؤكد أن ما نقدمه هنا هو رأي جمهور كبير من الفقهاء وليس راي فرد منهم أو عدة أفراد.
44- وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
وفي الآية تحذير شديد من الاعتداء على يوم السبت، ووجوب التزام الراحة فيه، وهو في الواقع مذهب المتشددين اليهود إلى اليوم فلا يصطادون ولا يعملون ولا يطبخون ولا يغسلون، وهذا كله في الواقع نسخ بإجماع الفقهاء والعقلاء، ولكن لا زالت طائفة من أهل الكتاب تتمسك به تمسكاً شديداً وترفض أي تعديل فيه لأنه كلام الله وأمره، ولا يبطل إلا بكلام جديد.
وظاهر هذه الآية تأكيد الحكم لا إلغاؤه، وهي عند الحنفية والمالكية من باب شرع من قبلنا وعليه العمل ما لم يأت ما يلغيه في شرعنا، وها هنا فقد جاء ما يعضده وليس ما يلغيه، وهو بيان غضب الله على الناكثين المعتدين في السبت، ولم يرد في شرعنا ما يلغي هذا، ومع ذلك كله فقد ذهب الفقهاء بمن فيهم من ايتدل بشرع من قبلنا إلى القول بأن النص صحيح وليس عليه العمل.
45- بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هم فِيهَا خَالِدُونَ
ظاهر الآية أن مرتكب الكبيرة خالد في النار، فمن كسب سيئة ولم يتب منها وأحاطت به الخطيئة فهو خالد في النار بدون نهاية، كما دلت هذه الآية وآيات كثيرة منها آية النساء أيضاً ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه.
لقد ذهبت الإباضية وهي مذهب إسلامي كريم إلى التزام ظاهر النص وقالوا بأن من يرتكب الكبيرة فهو خالد في النار لا يخرج منها إلى أبد الآبدين كلما نضجت جلوهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.
ولكن جمهور الفقهاء والعلماء رفضوا هذا الإطلاق ولو دل له ظاهر الكتاب العزيز، ونص الفقهاء على أن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار استدلالاً بآيات أخرى منها الاستثناء في سورة هود في قوله تعالى: إلا ما شاء ربك، وحديث البخاري وفيه: أخرجوا من النار من قال لا إله إلا الله، وقول النبي الكريم: من قال لا إله إلا الله دخل الجنة.
واستقر الأمر عند أهل السنة والجماعة بأن مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار، وأن الله يخرجه منها على الرغم من صريح الظاهر الذي أخذت به الإباضية وهو أن العصارة خالدون في نار جهنم، وظل فقهاء المذاهب الأربعة يقولون النص صحيح وليس عليه العمل.
46- إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّف بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ
ظاهر الآية أن الصفا والمروة من الشعائر التي يجوز الطواف بها، كما يحوز ترك الطواف بها، ولا إثم ولا حرج على الحجاج أن يتركوها، وهذا الظاهر هو ما فهمه صحابة كثير، حتى إن فقيها كبيرا من التابعين هو عروة بن الزبير سأل في ذلك عائشة حيث تقتضي البداهة أن لا حرج على من لم يطف بالصفا والمرة وأنه ليس ركناً ولا واجباً، فأجابت عائشة: بِئْسَ مَا قُلْت يَا ابْنَ أُخْتِي ، إنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى مَا تَأَوَّلْتَهَا لَكَانَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَلَّا يَطَّوَّفَ بِهِمَا، إنَّمَا كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ لِمَنَاةَ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: { الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ } ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا }، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا.
وهكذا فظاهر الآية ليس فيه إيجاب السعي بين الصفا والمروة ولكن الفقهاء متفقون أنه واجب، لا يتم الحج إلا به، أو بكفارة عنه، وهذا كله خلاف ظاهر الآية، وتبين كما تقول عائشة أن النص نزل بهذه الصيغة التخييرية بسبب الظروف المحيطة حيث كان هذا النسك مرتبطا بشعائر الجاهلية.
وهكذا فقد تقرر جلياً هنا أن العبرة هنا بخصوص السبب وليس بعموم اللفظ، فاللفظ بعمومه لا يشير أبداً إلى وجوب السعي، ولكن سبب النزول هو ما أخرجه عن ظاهره.
47- يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد والعبد والأنثى بالأنثى
ظاهر هذه الآية أن القصاص المطلوب إنما يكون في تماثل الجنس الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وواضح أنه لا قصاص للحر قتل عبداً ولا للرجل قتل امرأة ولا للأنثى قتلت رجلاً.
ولكن هذا الظاهر لا يستقيم مع قيم العدالة، ولا مع قيم الإسلام الذي قرر أن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وأن المرأة والرجل كلهما روح إنسانية كاملة، ولا فرق بين قتل الرجل وقتل المرأة، وأن الحر والعبد بشر يسستوون أمام الله، وأن بلال بن رباح العبد أقرب إلى الله من ذؤابة بني هاشم إذا لم يلتزموا أمر الله ونهيه.
وهنا أجمع الفقهاء على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل والعبد بالحر والحر بالعبد ونقل القاضي ابن العربي الإجماع على ذلك في الرجل والمرأة، والخلاف في أمر الحر والعبد، وذلك لدرء الحد بالشبهة.
وفضل سائر الفقهاء ان يأخذوا بعموم آية المائدة الواردة في أهل الكتاب من شرع من قبلنا: وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس، على ظاهر آية البقرة هذه في التفريق بين الذكر والأنثى في القصاص.
ومع ذلك ظل فقهاء كثير يلتزمون ظاهر النص دون مضمونه: ونقل الشنقيطي في أضواء البيان هذا الرأي في رواية الشعبي عن جماعة منهم علي والحسن وعثمان البتي وأحمد في رواية عنه أنه لا يقتل بها.
ولا شك ان بقاء هذا التمييز في القصاص بين الرجل والمرأة أو الحر والعبد فضيحة لا يجوز السكوت عليها، وقد سبق القرطبي إلى إنكار ذلك ونفى لقاء الشعبي بعلي ونفى بالتالي هذه الرواية.
48- كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين متاعا بالمعروف حقا على المتقين
في الآية بيان واضح وصريح بأن الوصية تكون للوالدين والأقربين، حيث يصح لصاحب المال أن يوصي لأبويه أو أن يخص ولداً من أولاده بالوصية أو من قرابته.
ولكن هذا يؤدي إلى تعطيل نظام الإرث كله، وهذا يتناقض مع أهداف الشرع الحكيم في توزيع عادل لأنصباء الميراث، وبالتالي يخلق حزازات وعداوات لا تنتهي بين الأولاد، ومن جانب آخر قد يحمل كثيرا من الأولاد على التغرير بآباءهم ليكتبوا لهم الوصايا التي تحتكر لهم ميراث إخوتهم وأخواتهم في غياب الوارثين.
كل هذه الحقائق كانت وراء إلغاء حكم هذه الآية، وقد اعتبرها الفقهاء منسوخة بحديث النبي الكريم: لا وصية لوارث، وهنا لا يحل للرجل أن يوصي لوالديه أو قرابته الوارثين خلافاً لما نص عليه ظاهر الآية الكريمة.
جزم الفقهاء جميعاً بأن الآية لا يجوز العمل بظاهرها، وأنها منسوخة وذهب الجمهور إلى أن النسخ جرى بالحديث الشريف لا وصية لوارث، فيما قال الشافعي بل النسخ جرى بآية المواريث التي أعطت كل ذي حق حقه.
49- وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين
واضخ من هذه الآية أن الصوم اختياري فمن شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً ولم يصم.
وهذا الفهم هو الظاهر المطابق للآية وهو ما فهمه جماعة من الصحابة والتابعين، ومنهم عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري وعكرمة كما نقله عنهم الجصاص في قوله وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين قال: كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى وأطعم كل يوم مسكينا.
ولكن جمهور الفقهاء فيما بعد ذهبوا إلى أن الآية منسوخة لا يصح العمل بها، وأن الناسخ هو قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، فاعتبرت الآية منسوخة ولا يحل العمل بظاهرها مع أننا نقرؤها ونرتلها كل يوم.
ولا يزال بعض الكاتبين بين الحين والآخر يطالبون بالعمل بظاهر الآية ويشيرون إلى ما روي عن ابن عباس ويعتبرون الصوم اختيارياً أخذا بظاهر القرآن، وهو موقف يرفضه فقهاء المذاهب الأربعة إجماعاً.
50- وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر
ظاهر الآية أن ضابط الإمساك هو تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وقد قيل إنها نزلت أولاً بدون كلمة الفجر، ووقعت مواقف مضحكة لبعض الناس، قَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَمَدْت إلَى عِقَالَيْنِ لِي أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ، فَجَعَلْتُهُمَا تَحْتَ وِسَادَتِي، وَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي اللَّيْلِ إلَيْهِمَا فَلَا يَسْتَبِينُ لِي، فضحك النبي الكريم من ذلك وقال لعدي: إنك لعريض القفا، ونزلت: من الفجر.
والحقيقة أن العالم الإسلامي كله لا يضبط ميقات الفجر بالخيط الأبيض والأسود، بل يعتمد طلوع الفجر الصادق، وبناء عليه فقط تكتب مواقيت الصلاة، وتعتمدها سائر الدول، وذلك لأن الاستدلال بالخيطين غير منضبط، وليس في القرآن بيان شرطه وضبطه، وإنما هو طريقة لمساعدة الناس قبل أن يكون لديهم هذه الأزياج والمراصد والتقنيات.
وبعد…… فهذه الأمثلة المتتابعة التي استقر عليها عمل الفقهاء المسلمين في سائر بلدان العالم الإسلامي، وهي حتى الآن خمسون نصاً من أصل سبعمائة سنأتي على تفصيلها واحداً واحداً، وهي تؤكد لنا أن النص الديني نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأنه على عظيم مكانه ومتنزله وقدسيته هو نص عربي قد يطرأ عليه النسخ والتبديل والتحصيص والتقييد والتأويل عن الظاهر والتشابه الموجب لوقف العمل بما نص عليه.
إنها تجارب من نور نقرؤها ونرتلها ونعلم أنها كلام الله، ولكننا نتبع هدي الفقهاء الراسخين في العلم الذين رأوا بوضوح أن النص فيها مصروف عن ظاهره، أو بتعبيرهم عام مخصوص، أو أنه تم صرفه عن ظاهره في سياق تطور الحياة وهو ما يعبر عنه الأصوليون بعبارة: عام طرأ عليه الخصوص، والأمر نفسه في المطلق الذي أريد به التقييد أو المطلق الذي طرأ عليه التقييد، وقد فصل السيوطي في الاتقان والزركشي في البيان والزرقاني في مناهل العرفان هذه القاعدة النفيسة فليرجع إليها من أراد التوسع، وفي كل الأحوال فالمآل في هذا إلى ما قرره الإمام الطوفي الحنبلي بوضوح وهو أن مصالح الأمة المعتبرة أولى بالاعتبار من ظاهر النص.
لن تغير هذه الحقائق شيئاً في كتاب الله ولا في سنة رسوله، وسيبقى مكان القرآن في الترتيل والتعبد واستحلاص العبر والحكم، والاهتداء بالتجربة مستمراً إلى قيام الساعة، ولكن المطلوب هو الانتقال من العبارة الإنشائية الخطابية إلى عبارات أهل الفقه والعلم والبصيرة: العمل بالتأويل، والحكم بخلاف الظاهر، وطاهر النص غير مراد، عام مخصوص، عام أريد به الخصوص، ظاهره مؤول، مطلق طرأ عليه القيد، والنص صحيح وليس عليه العمل، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، وحيث كانت مصلحة الأمة فثم شرع الله، ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً.
إن الأمثلة التي قدمناها لا يمكن لعاقل أن ينازع فيها، وعلينا ان نختار بين عبادة النص والإصرار على التمسك بكل معنى فيه والكفر بالزمان والمكان والظروف والأحوال التي جاء فيها.
وبالتالي فإنه يجب عقلاً أن نختار واحداً من منهجين اثنين:
الأول: ما تطالبنا به حركات الإسلام الثوري الأصولي وعلى رأسها الخلافة في الموصل والنصرة في الشام وهي تدعو إلى إعمال ظاهر اللفظ، ورفض كل تأويل يخرج النص عن ظاهره، واعتبار الأمة الإسلامية متآمرة على الإسلام وملحدة بآيات الله البينات حتى تقوم بظاهر النص ولا تأخذها فيه لومة لائم..
الثاني: اختيار منهج الفهاء الراسخين خلال التاريخ من مختلف المذاهب والفرق وخاصة الحنفية والمالكية الذين قرروا الاستحسان والاستصلاح، ومثلهم عدد من فقهاء الشافعية والحنابلة أيضا الذين تأولوا الظاهر بالنسخ والتقييد والتحصيص وجزموا بان النص نور يهدي وليس قيداً يأسر، وأن علينا أن نهتدي بنور القرآن ومقاصده الكبرى، وأن هذه المقاصد هي ما يحقق مصالح الأمة الحقيقية المتبدلة المتغيرة بين بلد وآخر وعصر وآخر، وهو بالنتيجة فحوى كلمة الإمام ابن القيم: حيثما كانت مصلحة الأمة فثم شرع الله.