الحصار الروسي ينكسر بالوحدة والإيمان…
لا أعتقد ان أي سوري مهما كان موقعه في المعارضة أو النظام إلا خالطه الشعور بالخزي والمرارة حين أطل وزير الدفاع الروسي ليقول مباشرة لقد أنجزنا حصار حلب وعلى المسلحين تسليم انفسهم، وعلى الناس أن يرحلوا، وقد حددنا ممرات آمنة لعبور الناس من حلب إلى حيث يريدون من الأرض.
حتى أولئك المفاخرون بانتسابهم إلى النظام فإنهم شعروا بالقهر والقرف، فقد كانوا يتوقعون أن يقوم بتقديم إعلان كهذا وزير الدفاع السوري أو قائد عسكري سوري، حتى يشعروا بقدر من الاحترام لأنفسهم وذواتهم، ولكن القادة الروس لم يجدوا مبرراً لهذا الدلع، وتولوا بأنسهم إصدار بلاغ رقم واحد وبلاغ رقم 2 وجعلوا السيادة الوطنية ممسحة من الذل والهوان يخجل منها أنصار النظام أنفسهم من الراتعين في بؤس الوهم الأسود.
أحكم النظام الحصار من الكاستيلو، وبدا الحديث عن توقف الوهم في انتصار الثورة وبدا أن الرهان على الحسم العسكري هو الاتجاه الأكثر واقعية وأنه لا مكان للمعارضة على طاولة التفاوض من أجل مستقبل سوريا، وأن الموقف العقلاني هو رفع الراية البيضاء والاستسلام لإرادة الاستبداد للحفاظ على ماتبقى من السوريين.
الروس دولة عظمى بكل المقاييس وقاعدتها العسكرية في حميميم تتصرف بمنطق انا ربكم الأعلى، وقد جاءت بجيوشها وجحافلها من أجل أن تنتصر وليس من أجل الهزيمة والعار، ولديها نبع لا ينضب من مخزون السلاح والرجال وليست في وارد تغيير مواقفها المتغطرسة لأي سبب، وحلفها مع إيران يزداد تماسكاً ومتانة وقد أصبح المشهد واضحاً في بناء حلف عريض يقف في وجه أمريكا ويرث مكانها في الشرق الأوسط، خاصة أن الروسي حقق في العامين الأحيرين ارتباطاً عضوياً عميقاً مع إسرائيل وقدم نفسه حليفاً موثوقاً للإسرائيليين وأعلن جهارا نهارا أنه ينسق مع الاسرائيليين في كل شان سوري، ونفذ مناورات مشتركة مع الاسرائيليين في المتوسط، وبنى علاقاته هذه المرة مع المشروع العميق للتعاون الروسي الاسرائيلي مذكراً بالمليون يهودي روسي الذين هاجروا لإسرائيل مطلع القرن الجديد.
وفي ظل إدارة أمريكية منكفئة نحو الداخل كارهة لدور شرطي العالم بدا الأفق مفتوحاً أمام الروس ليقدموا نمط القيصرية الروسية العائدة من القرون الوسطى والتي تحكم وتقصف وتولي وتعزل وتستولي وتسبدل نيابة عن الحكام والشعوب جميعاً.
كل شيء كان يبدو مناهضاً لأحلام السوريين في الكرامة والحرية، وارتفعت من جديد رائحة حضن الوطن التي يسمسر عليها خبراء محترفون لا يختلفون عن أمراء الحرب في القدرة على جمع أكبر الثروات من المال الحرام.
كان المشهد محنة في العقيدة فالمسلم يوقن بأن الله لا يرضى في مملكته الظلم وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى وقوم فرعون من قبل إنهم كان هم أظلم وأطغى، وأنه ما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
كان الإحباط على أشده، والمؤشرات كلها تدل على موجة انهيار هائلة لكل آمال الخلاص والتحرر…
ولكن ما جرى كان أمراً يستعصي على الفهم ولا تفسير له في العلم العسكري التقليدي، وفي ساعات سريعة تساقطت مراكز عسكرية ضارية طالما كانت تقذف الناس بحمم الموت وتحكم خناق الحصار على أبناء المدينة المحاصرة، ونجح الثوار في فك الحصار الأليم عن حلب، ولا تزال لحظات الهول على أشدها وهي تحتمل كل المفاجآت.
المشاهد التي أكتبها الساعة من تخوم حلب طافخة بالأمل، من دخل داره فهو آمن ومن دخل مسجداً فهو آمن ومن دخل كنيسة فهو آمن، إنه تطبيق رائع للسنة النبوية على مستوى الشعار، وهو يرفع القلق المرعب الذي أفرزته تصريحات طائشة قبل أيام مبشرة بحمام دم طائفي، ويحق لنا أن نقول الآن إن من أطلقوها كانوا يسيئون إلى الثوار وإلى الشعب المحاصر في حلب، وعلينا أن نراقب ونتابع نجاح الثوار في التزام هذه القيم التي هي قيم هذا الشعب الثائر الموصول بتاريخه ودينه وعقيدته.
لم أومن يوماً بالعنف حلاَ لأي مشكلة، ولكن العنف في رد الظلم ليس كالعنف في صناعة المظالم، وحين بمضي الناس إلى العنف فإن المسؤول هو أولئك الذن أدلوا السوريين واحتقروا آمالهم في الحرية والكرامة، وزجوا بهم في عنابر السحون المظلمة حتى الموت، وأعلنوا أنهم يخوضون حرباً مشروعة ضد ملايين من السوريين الإرهابيين!!
بيان الثوار طافح بالوحدة الوطنية وقيم العدالة والكرامة، وسيصيح جزءاً عزيزاً من تاريخ سوريا، ولكنه يطرح بالمقابل تساؤلات عريضة ومباشرة، حول الغايات الطائفية السوداء لنشر الأشرطة المرعبة قبل أيام للمحيسني المبشر بالحوريات الاثنين والسبعين، وكذلك المطالبات الثأرية الطائفية التي أضرت للغاية بسمعة الثورة والثواروحولتهم إلى انتقاميين هائجين لا أرب لهم في الأوطان ولا في الإنسان.
الروس هم المتضرر الأكبر مما جرى وسينظرون إلى فك الحصار كواحد من أكبر هزائمهم في سوريا، خاصة أن الحصار كان مناسبة لتكريس احتلالهم القميء لسوريا، وتحويل سوريا من وطن ذي سيادة إلى متصرفية فاشلة تنفذ أوامر القيصر وتوبيخاته، ولذلك فإن المتوقع هو حملة إجرامية لطائرات الروس تثخن في المدنيين، وتضرب في صميم نجاح هذه الثورة وهو مظهر الوحدة الوطنية التي قدمها الثوار بإعلانهم عن حماية الإيمان في المدينة العظيمة.
المخاوف تزداد من أفعال إجرامية يمكن أن يرتكبها المهزومون سواء في النظام المنكسر وحلفائه أو في النوايا الشريرة للطائفيين الحاقدين ضد المعابد سواء منها المسجد أو الكنيسة، ولكل من الطرفين برنامجه وأهدافه، وهذا يفرض على الثوار مزيداً من الحذر والوعي لحماية المعابد بروح مختلفة، وتعزيز موقفهم المعلن من حماية الإيمان أياً كانت تفاصيل هذا الإيمان، لأنها في النهاية كرامة للإنسان وحماية للأوطان.