الدبلوماسية بدل الحرب
دراسة في حياة صانعي السلام في التاريخ الإسلامي
د.محمد حبش
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة
ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله
ويسعون في الأرض فساداً
والله لا يحب المفسدين
باب إفشاء السلام من الإسلام
ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان:
الإنصاف من نفسك
والإنفاق من الإقتار
وبذل السلام للعالم
صحيح البخاري
كان رسول الله يكره الحرب
وقال: لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاثبتوا
صحيح البخاري
وكان أكره الأسماء إليه حرب ومُرَّة
رواه أبو داود
عباقرة الدبلوماسية في الإسلام
- محمد رسول الله
- عمر بن الخطاب
- الحسن بن علي
- عمر بن عبد العزيز
- المستنصر الحكم الاموي في الأندلس
- الناصر لدين الله العباسي
تمهيد
ظهرت دراسات كثيرة في التعريف ببطولات الغزاة والفاتحين خلال التاريخ الإسلامي، والتعريف بالجيوش والقادة والمعارك التي خاضها المسلمون مع الأمم الأخرى.
ولكن لم تقم جهود علمية وافية بشرح الدور الدبلوماسي الذي حققه قادة مسلمون لوقف الحروب، والنتائج الهائلة التي حققتها الدبلوماسية لجهة بناء السلام ونشر الإسلام، وهو ما يعزز حقيقة أن الحرب ظرف طارئ يراد به مواجهة الشر وليس هدفاً عنيفاً يراد به نشر الخير.
وتأتي هذه الدراسة بهدف تعزيز ثقافة الدبلوماسية السلمية، وتأكيد دورها في الحضارة الإسلامية، في بناء علاقات دولية ناجحة ومزدهرة.
وتهدف الدراسة إلى مواجهة الفكر المتطرف القائم على تقسيم العالم إلى فسطاطين متعاديين، على أساس دار إسلام ودار حرب، وتأكيد البديل الإسلامي الحضاري في بناء العلاقات الدولية الناجحة، العابرة للاحتلاف الديني والمذهبي والعرقي والثقافي.
وتتخير الدراسة عدداً من البرامج الناجحة في الدبلوماسية التي كرسها قادة الحضارةالإسلامية بدءاً برسول الله ثلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدين وأهم القادة التاريخيين في العصر الإسلامي الذهبي.
وتهدف الدراسة إلى تغيير الصورة النمطية السائدة عن العلاقات المتوترة بين الإسلام وبين الشعوب الأخرى، وتعزز بدلاً من ذلك نظرية تحالف الحضارات وتشاركها في بناء الحضارة الإنسانية الواحدة.
وتأتي هذه الدراسة على خلاف الصورة النمطية في تدوين التاريخ حيث تروج ثقافة أن التاريخ هو تدوين حياة المحاربين والمعارك الفاصلة، ويقوم كثير من المؤرخين بتدوين التاريخ على أساس أنه سلسلة من الحروب والمعارك، وأن الحرب لا السلم هي التي ترسم صورة التاريخ، وأن الذين يكتبون التاريخ هم أولئك الذين يملكون قرار الحرب ويندفعون بشجاعة للتغيير وينجحون في ذلك، وان التاريخ هو سجل ما جرى فيه من حروب وكوارث.
ولم يكن المؤرخ الاسلامي استثناء من هذه القاعدة فقد دون التاريخ دوماً بسرد الحروب والمعارك، وحتى في السيرة النبوية فقد استهوى ذلك المؤرخين فسطروا سيرة النبي الكريم من خلال المعارك والغزوات والحروب، واشتهرت كتب السيرة نفسها بانها كتب المغازي، مغازي أبان بن عثمان، ومغازي موسى بن عقبة، والسير والمغازي لابن اسحاق، وإنارة الدجى في مغازي خير الورى للشنقيطي المالكي، ومغازي الواقدي، والدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر، والاكتفاء بمغازي رسول الله، ومن يقرا السيرة النبوية في كثير من أعمال المتقدمين يصاب بالإحباط حيث يبدو النبي الكريم محارباً لا يضع سيفه عن عاتقه ولا يغمد سيفه ولا ينزل عن حصانه.
ولكن الواقع خلاف ذلك، فقد كانت سيرته العظيمة سيرة سلم وحوار واحترام ومحبة، ومن أصل ثمانية وعشرين غزوة فرضت عليه تمكن أن يتجنب الحرب في ثلاثة وعشرين منها، وتمكن بقدرات دبلوماسية فائقة أن يحول كثيراُ من هذه الحروب إلى معاهدات ومفاوضات وصلح وسلام.
إن قيم العدالة والرحمة والمحبة والسلم هي القيم السائدة في تاريخ النبوة، وان الحرب استثناء من ذلك، وكتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وأن الرسول الكريم لم يشعل حرباً قط، وإنما اجتهد في إطفاء ما أوقدوه من حروب، واختار رسالته الدائمة في السلم والرحمة، وفق ما أمر به القرآن الكريم: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم. (الأنفال 61)
الكفاح السلمي في حياة رسول الله
الدبلوماسية بدل الحرب
لا تخطئ العين في كل متابعة للسيرة النبوية موقف النبي الكريم الكاره للحرب، وحرصه المستمر على تجنب الحرب وأسبابها، فقد أمضى أكثر من نصف عمر الرسالة يواجه أشد أشكال الصدود والأذى من خصومه في قريش ولكنه اختار أن يتعامل معهم بسلام ودبلوماسية، ويلتزم ما رسمه له القرآن الكريم من مبدأ الموادعة والسلام: فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون (الزخرف 89) وهو ما نقرؤه أيضاً في قول الله تعالى: قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله (الجاثية 14)
وتطور الصدود إلى أعمال عدائية مباشرة اشتملت على تعذيب عدد من الصحابة وقتل بعضهم وخاصة العبيد والأرقاء، كما جرى مع سمية بنت خياط وياسر بن مالك وزنيرة وخباب بن الأرت وبلال بن رباح.
ونتيجة الاضطهاد أجبرت عشرات الأسر المؤمنة على مغادرة الأرض والرحيل صوب الحبشة وما يعنيه هذا الرحيل من ركوب البحار والانتقال إلى بلاد بعيدة غير معتادة، تختلف في اللغة والعرق والدين، ويعكس ذلك حجم الأذى الذي تعرضوا له حتى فروا إلى قارة أخرى، وواجهوا نمطاُ من الحياة يختلف اختلافا كليا عما تعودوه، وكان ذلك يشكل رهقا كبيرا مضنياً، ولكن النبي الكريم أصر على الخيار السلمي في مواجهة قريش على الرغم مما فرضه ذلك على الاصحاب من هجرة وشتات.
كما تطور الاضطهاد من جانب آخر إلى حصار مرير طال النبي نفسه ومن ناصره من بني هاشم وبني المطلب في شعب أبي طالب بمكة، وقد كتب المشركون وثيقة الحصار في جوف الكعبة، ليقطعوا كل طريق للتعاطف مع الرسول الكريم أو مع أصحابه، واستمر الحصار ثمانية وعشرين شهراً منعت فيه قريش كل أشكال التواصل والعون مع المحاصرين بما في ذلك الطعام والشراب، وقد أدى الحصار إلى وهن خديجة وأبي طالب، وبعد فك الحصار باسابيع ماتت خديحة ومات أبو طالب من الأذى الذي خلفه الحصار الخانق.
وعلى الرغم من ذلك كله فلم يرد في أي رواية أن الرسول الكريم لجأ إلى أي من اساليب العنف ليفرض مشروعه على الناس، ولم تظهر على الإطلاق أي خيارات عنيفة في ردود افعال الرسول، ولم يحصل أبداً ان تم اغتيال أحد من أشرار قريش أو خطف أحد من أولاده أو ارتكاب أي عمل عنيف ضدهم على الرغم من خطورة ما أقدموا عليه من العمل العنيف الظالم.
واختار النبي الكريم بدلاً من ذلك الهجرة، على الرغم من أن رسالته مرتبطة تماما بالكعبة المشرفة، وعلى الرغم أنه ابن مكة وأن أهم أصحابه هم أبناء مكة المكرمة، ورسالته تقتضي أن ينجح في مكة تحديداً، ولكنه اختار مع ذلك طريق الدبلوماسية بدل الحرب، وحاول أن يوفر أرض هجرة يأوي إليها برسالته متجنباً المواجهة الدامية مع قريش.
كان خياره الأول في الهجرة هو الحبشة ولأجل ذلك أوفد جعفر بن أبي طالب على الرغم من أن جعفر لم يكن من المستضعفين وكان إرساله على رأس الوفد حكمة عظيمة، فقد أراد النبي الكريم رفع التمثيل بين النجاشي والصحابة من درجة الاحسان والصدقة الى درجة التحالف السياسي، وهذا لم يكن ليحصل ابداً لو لم يكن جعفر بن أبي طالب هو الناطق الرسمي باسم المهاجرين.
كانت الحبشة أرضاً إثيوبية، وكانت أكسوم هي مقر ملك النجاشي وهي مدينة تقع اليوم على الحدود الارتيرية الأثيوبية،وتبعد عن مكة 800 كم بين بر وبحر، ومن العسير تماما أن تغدو محطة انطلاق رئيسة للاسلام، ولكن الرسول مع ذلك حاول، وكان يتابع أخبار أصحابه في الحبشة ولكن التقارير كانت تؤكد له أن الحبشة يمكن أن تقوم بدور إغاثي لمساعدة المستضعفين ولكنها لن تستطيع القيام بدور أكبر من هذا، فهي بلاد غير عربية ولا يروج فيها لسان العرب، وفي الحبشة دين مستقر وكهنة وبطارك ورهبان، ويمكن الاستفادة منهم دبلوماسياً دون أنيكون للحبش دور مباشر فياحتضان الرسالة.
ومع ذلك فقد اختار النبي الكريم أن تبقى الحبشة حضناً للمهاجرين لأربعة عشر عاما من عمر الرسالة، ومع أن النبي الكريم هاجر الى المدينة وأعلن قيام دولة الاسلام ولكنه لم يأمرهم بالعودة، وظل جعفر بن أبي طالب سبع سنوات أخرى في الحبشة، يمارس فيها دوراً دبلوماسياً رائداً.
وفي موقف مهم تمكنت الدبلوماسية التي قادها جعفر بن أبيطالب في الحبشة من الإسهام في كسر حصار قريش في مكة، وذلك خلال السنوات الأولى لهجرة الحبشة، فقد كانت الحبشة معنية بالبيت الحرام، وقد سبق للحبشة أن أرسلت جيش الفيل لاحتلال الكعبة، وكان ذلك كله في ذاكرة قريش، وحين أحكمت قريش الحصار على النبي الكريم في شعب أبي طالب قام جعفر بن أبي طالب بجهد دبلوماسي دقيق وأقنع النجاشي بإرسال وفد من الحبشة إلى مكة للقاء النبي الكريموتفهم معاناته في الحصار، وكان ذلك خبراً مزعجاً لقريش، وقد استطاع الوفد الحبشي أن يسهم في كسر الحصار، وتسامع العرب أن قريشاً خرجت عن صوابها وهي على وشك أن تقتل أبناءها جوعاً لمجرد أنهم آمنوا بالرسالة الجديدة، وأن الأمم البعيدة باتت تحس معاناتهم ومظالمهم، وكان لحضور الحبشة تأثير مباشر في وصول هذه الرسالة.
وحين وصل وفد الحبشة وكانوا اثني عشر رجلاً التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكة، واستمعوا إلى القرآن الكريم، وشاهدوا عناء الحصار وأثره، وفاضت أعينهم بالدمع مما عرفوا من الحق، وكانت قريش تتابع هذا المشهد بحزر وترقب، وحبن انصرف الوفد تبعهم أبو جهل وقال: ما رأينا ركباً أحمق منكم، أرسلكم قومكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تظهر مجالستكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه!.. وكان جواب الوفد أن قالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لكم ما أنتم عليه ولنا ما نحن عليه، وفيهم نزل قول الله تعالى: وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. (سورة القصص 55)
ونقل القرطبي أن جعفرا قاد هذا الوفد بنفسه وكان يضم سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، فيهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام،[1]ولا شك أن الوفد بهذه الصيغة يعكس في لغة الدبلوماسية شكلا واضحاً من التضامن الدولي مع معاناة المحاصرين والعمل على كسر الحصار.
كما تمكنت الدبلوماسية الحيوية بين الرسول الكريم والنجاشي من توفير أول اعتراف دولي بالدولة الوليدة، ونزل القرآن الكريم مراراً بالثناء على موقف النجاشي وأصحابه، وحين جاء وفد آخر من الحبشة لزيارة الرسول الكريم في المدينة قام يخدمهم بنفسه وحين قال له الأصحاب نكفيك خدمتهم يا رسول الله… قال كلا.. إنهم كانوا لاصحابي مكرمين.[2]
وكان لهذه الجهود الدبلوماسية أثر كبير على موازين القوى في مكة، خاصة أن قريشاً كانت تعتمد في قوتها بشكل كبير على الأحابيش وهم قوم من الحبشة يتألهون أي يتشددون في عبادة الله وقد تركوا الحبشة وجاؤوا إلى مكة يجاورون الحرم ويعبدون الله، وكان لهم تأثير كبير في حياة قريش، وفي يوم أحد والخندق تمكنت قريش من إخراج ثلاثة آلاف مقاتل معها من الأحابيش للمشاركة في حرب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أقنعتهم أن محمداً يدعو لدين جديد لا يعظم فيه البيت الحرام ولا الشهرالحرام.
ومن الإشارات بالغة الأهمية في العلاقة الدبلوماسية المتطورة بين النبي الكريم وبين النجاشي:
- نجاح جعفر بن أبي طالب والوفد المرافق معه بإقناع النجاشي بصدق نبوة الرسول الكريم وبالتالي فغنه رفض الاستجابة لقريش في رد المهاجرين وتسليمهم.
- نجاح جعفر والصحابة المشاركين معه في شرح حقائق الإسلام وتقديم صورة مشرقة عن موقف الإسلام من السيد المسيح وأمه العذراء بخلاف ما وشى به وفد قريش .
- نجاح الدبلوماسية المتبادلة في تأمين ملاذ آمن للمهاجرين يتضمن حمايتهم وكرامتهم.
- نجاح الدبلوماسية التي قادها جعفر في تحقيق تضامن دولي حقيقي مع معاناة المحاصرين في شعب أبي طالب وبالتالي في كسر الحصار الظالم.
- نجاح جعفر في بناء علاقات عميقة في البلاط الملكي مع النجاشي، وقد اختار النجاشي اسم ابن جعفر لمولوده الذي رزقه فسماه عبد الله بن النجاشي وهو اسم غير مألوف في الحبشة ولكنه احتاره تيمناً بعبد الله بن جعفر
- وقوف الصحابة صفاً واحداً مع النجاشي حين عرض له اعتداء من بعض خصومه، وقد كان الزبير بن العوام يبيت على صفة النيل ثم يعوم في الليل فيوافيه بأنباء ما يبيتون وقد كان لذلك تأثير حاسم في انتصارالنجاشي.
- بقاء وفد الصحابة في الحبشة سبع سنوات أخرى بعد قيام دولة المدينة وذلك للإعداد لما يمكن أن يكون امتداداً للدولة الإسلامية التي قامت في المدينة.
الغزوات والدبلوماسية:
تعرض النبي الكريم لمواجهة مع أعدائه ثمانية وعشرين مرة خلال حياته الكريمة، ويدرس كتاب السيرة هذه المواجهات تحت عنوان الغزوات، وقد استقر العرف على دراسة السيرة النبوية تحت عنوان المغازي، وهو ما أعطى انطباعاً عاماً بأن الحرب هي طابع علاقات النبي الكريم بالناس من حوله، ولكن هذه النظرة الحادة لا تفسر سائر وقائع السيرة، وبالدراسة الموضوعية لأحداث السيرة سنرى أن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن من منع وقوع الحرب في معظمها، أما المرات التي جرى فيها التحام حقيقي بين الرسول وأعدائه فهي خمسة ايام فيما تمكن الرسول الكريم بدبلوماسية عالية وحكمة فريدة ان يوقف ثلاثة وعشرين حرباً كانت وشيكة الوقوع.[3]
وكان إذا جائته كتائب قريش للحرب يقول: يا ويح قريش… لقد حمشتهم الحرب، وماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن أصابوني كان الذي يريدون وإن أصبت منهم قاتلوا وبهم قوة، والله لا يدعونني إلى خطة رشد يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها!
وهكذا فقد كانت الغزوات تنتهي عادة بالتصالح أو التحالف والتعاقد، ولم يقع الالتحام الحربي بينه وبين أعدائه إلا خمس مرات وهي تحديداً أيام بدر وأحد وخيبر وحنين، وما جرى يوم قريظة والمصطلق.
ومن المؤكد أن هذه الأيام الخمسة فرضت على النبي الكريم فرضاً ولم يكن يسعى إلى الحرب وفق ما قاله للصحابة بوضوح: لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا،[4] وهو ما يفسر المعنى الدقيق لقوله تعالى: كتب عليكم القتال وهو كره لكم. (سورة البقرة 216)
وفي إشارة سريعة لأيامه الستة، فقد وقعت معركة بدر عند ماء بدر في أراضي منطقة المدينة قريبا من البحر فيما سار جيش قريش بالف محارب مسافة 258 كم لمحاربة النبي الكريم، ولم يكن امام الرسول الكريم إلا المواجهة وقد كتب له الله تعالى النصر المبين.
أما معركة أحد فقد وقعت في جبل أحد على مسافة 6 كم من وسط المدينة فيما سارت قريش بثلاثة آلاف محارب مسافة 430 كم ولم يكن أمام الرسول الكريم إلا الدفاع عن المدينة، وقد دقع سبعون شهيداً من الصحابة الكرام حياتهم ثمناً لدفاعهم عن دينهم وأرضهم.
وفي يوم الخندق وصلت قريش بعشرة آلاف مقاتل لاجتياح المدينة وقد قام الرسول الكريم بحفر الخندق حول المدينة إصراراً على تجنب الحرب، وهو عنوان واضح على إرادته الجامحة نحو السلم ورفضه للحرب.
وقد اثار هذا المشهد حمية المشركين الذين أخذوا يستفزون المسلمين بالدعوة إلى الحرب وتعييرهم بالجبن والخوف، وألقى شعراؤهم قصائد التحدي والاستفزاز ليشعلوا الحرب، ولكن رسول الله ظل كارهاً للحرب وأمر الصحابة أن لا يردوا بشيء على استفزازات قريش، وظل صامتاً خلف خندقه ينتظر نهاية الحرب.
أما يوما المصطلق وخيبر فقد كانا مواجهة استباقية لكيد يدبره الكائدون لغزو المدينة، وقد انتهى يوم المصطلق بدون قتال على الأصح بعد فرار الرجال، أما يوم خيبر فقد كان حصاراً واقتحاما لحصون منيعة انتهت بخسائر قليلة في الأرواح، وتم تأمين حدود المدينة الشرقية يوم المصطلق، والشمالية يوم خيبر.
أما يوم حنين فقد أغارت ثقيف وحلفاؤها باربعين الف مقاتل لاجتياح مكة بعد أن دخلها رسول الله بأيام قليلة ولم يكن امام الرسول الكريم إلا الدفاع عن أرض مكة حرسها الله.
وأما يوم قريظة في أعقاب الخندق فلم يكن يوم حرب بل كان يوم قصاص، وقد عاقب رسول الله عدداً من المتآمرين على الدولة والناكثين للعهد، ولولا لطف الله لنجح مشروعهم الغادر في تأمين منفذ لقريش لاقتحام المدينة بعد أن عجزت عن اقتحام الخندق.
هذه هي الأيام التي وقع فيها التحام بين رسول الله وبين أخصامه، ولا يزيد الضحايا فيها جميعاً عن مائتين وسبعين من الفريقين، وفق أكثر الارقام مقبولية وواقعية.
أما المعارك التي يذكرها المؤرخون وهي غزوات: ودان والأبواء والعشيرة وبدر الأولى وبواط وسليم وقينقاع والسويق وذي أمر وبحران وحمراء الأسد والنضير وذات الرقاع وبدر الآخرة ودومة الجندل والخندق ولحيان وذي قرد والحديبية وغزوة القضاء وفتح مكة وثقيف وتبوك، فجميعها لم يحصل فيها التحام حربي مباشر، ونجح الرسول الكريم في تحويلها لمعاهدات دبلوماسية أو مصالحات أو اتفاقيات عدم اعتداء، على الرغم من أن بعضها كان على وشك أن يصبح حرباً طاحنة كما في الخندق وتبوك والطائف.
وقد وقعت في هذه الأحداث بعض الأحداث الفردية، كما في المصطلق والخندق وفتح مكة وحصار الطائف، وهي لا تغير الحقيقة التي نشير إليها وهي أن الرسول الكريم نجح في تجنب الحرب بمعناها الشامل ثلاثة وعشرين مرة، وحوَّل هذه المواجهات القاسية إلى برنامج هداية وسلام.
جهاد رسول الله في إنهاءالاسترقاق والسبي:
وأجد من الضروري هنا أن أستطرد قليلاً لاشرح موقفه صلى الله عليه وسلم وهديه في منع الاسترقاق والسبي، وهو ما ينسجم مع سيرته الشريفة في تحرير الرقاب منذ بداية الدعوة، عبر ما أنفقته خديجة وأبو بكر من أموال في إعتاق الرقاب وما قرره القرآن الكريم في باب الزكاة من إعتاق الرقاب، وهو منهج الإسلام في تحقيق الحرية والمساواة.
وإنما توجب هذا الاستطراد للرد على ممارسات الحركات المتطرفة في السبي والاسترقاق في السنوات الأخيرة والادعاء بأن السبي والسترقاق هو سنة النبي الكريم، وهو كلام يشترك فيه أعداء الإسلام مع الغلاة من المسلمين في الحركات التكفيرية التي شوهت صورة الإسلام الجميلة بممارساتها وفهمها المنكوس للإسلام.
ومن المؤكد ان الرسول الكريم تعامل مع مشكلة الرق تعاملاً واقعياً، ولم يقم بإلغائها في يوم واحد نظراً لما سيشكله قرار كهذا من فوضى اجتماعية لا تعرف عواقبها، واختار بدلاً من ذلك التدرج والتمهل، وتضييق المدخل وتوسيع المخرج، وهو ما أدى في النهاية إلى إنهاء الرق.
وأما السبي الذي كانت العرب تعرفه في غزوها فقد تمكن الرسول الكريم من إلغاء هذا العرف الذي كان شائعاً بين العرب وهو استرقاق المغلوب، فلم يسترق أحداً ولم يقسم الأرض المفتوحة بين الغانمين في كل معاركه وبشكل خاص يوم فتح مكة ويوم فتح الطائف وهي المدن الرئيسية التي فتحها الرسول الكريم حرباً.
ولكن لا بد من تفصيل القول في أربعة أيام في حياة الرسول الكريم وقعت فيها محاولات الاسترقاق وتمكن النبي الكريم من تجاوز ذلك بحكمة وبصيرة وهي يوم المصطلق وحنين وقريظة وخيبر:
يوم المصطلق: في السنة الخامسة أو السابعة من الهجرة.
كانت المصطلق فرعاً من خزاعة، التي كانت متحالفة مع رسول الله، وكانت تعرف كل أسرار الدولة الإسلامية بحكم قربها من المسلمين، وتأكد النبي الكريم أن الحارث بن أبي ضرار ومن معه في المصطلق وهم فرع من خزاعة، يتواصلون مع قريش لدفعها لغزو المدينة، ومن المعلوم أن مكر العدو القريب خطير وكبير، ولا يحتمل التأجيل، فمضى رسول الله إليهم على غرة وصبَّحهم وهم غافلون على أنعامهم، وهرب الحارث ومن معه، وأصاب النبي من أموالهم عقابا لهم على ما مكروه.
ويقول الامام ابن القيم إنه لم يكن قتال يوم المصطلق إنما هو وهم، وإن النبي أغار على أموالهم وأنعامهم عقاباً لهم على ما مكروه من غدر.
فيما ذكر رواة آخرون أنه قتل عدة أفراد، ولكن لم يذكر اسم أحد قتل يوم المصطلق الا الصحابي اوس بن صبابة الذي قتل عن طريق الخطأ في حادت فردي يومذاك.
وبعد ساعات كان كثير من الصحابة قد سبوا نساء من المصطلق وبدا النبي الكريم كارهاً لهذا السبي، خاصة أنه وقع في العرب، وقد صح عنه مراراً أنه نهى في السبي من ولد اسماعيل.
واختار النبي الكريم أن يعتق السبايا بطريقة بالغة الحكمة إذ أعلن أنه سيتزوج جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وتقول السيدة عائشة: ما كانت امرأة أحسن نفعاً لقومها من جويرية، لما أعتقها رسول الله وتزوجها قال الناس أحسنوا في أحماء النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تمض إلا أيام يسيرة حتى عادت كل بنات المصطلق إلى الحرية، وحضر الحارث بن أبي ضرار معتذراً ودخل في الإسلام وزار ابنته زوجة كريمة في بيت النبي، ولا نعرف بعد هذا سبية واحدة من بني المصطلق.
يوم ثقيف: في السنة الثامنة للهجرة
بعد أن أنجز النبي الكريم في رمضان من السنة الثامنة فتح مكة المكرمة سلماً، بلغه أن حشوداً كبيرة من هوازن وثقيف برئاسة مالك بن عوف تحشد عند وادي حنين، وأن مالكاً وكان فتى مغامراً أمرهم بإحضار النساء والأطفال والاموال معهم لتكون لهم إرادة أكبر على القتال،
وشكل هذا التحدي تهديداً كبيراً على مكة، وعلى الدولة الناشئة فخرج النبي الكريم بأحد عشر ألفاً من الصحابة ليواجه الجيش في حنين، وبعد جولات من الكر والفر مالت الغلبة لجيش النبي الكريم وفر رجال هوازن وثقيف تاركين نساءهم وأطفالهم في وادي حنين.
كان من الطبيعي أن يقع الأطفال والنساء والأموال في الأسر، ولكن النبي الكريم لم يأذن أن يوزع منها شيء رجاء أن يعقد من الصلح والمهادنة مع ثقيف ما يحول دون استمرار الحرب، وبدأ النبي الكريم حصار معاقلهم في ثقيف، واستمر الحصار قريباً من شهرين، والنساء والأولاد أسرى لم يأذن الرسول بقسمتهم كغنائم حرب، على الرغم من أن عدداً من القبائل التي شاركت معه في القتال كانت تصر على هذه القسمة، وفي تفسير سورة الفتح كثير من الكلام عن مطالب الطلقاء والأعراب وغيرهم من القبائل التي لحقت بالنبي يوم حنين بتوزيع السبايا، وكذلك في السيرة النبوية في أخبار عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي وغيرهم من الذين شاركوا فيغزوة حنين ولم يكونوا من الراسخين في الإيمان، وكانوا يرون أن قتالهم يرتب لهم حقاً طبيعيا في الأسارى والسبي، واشتهر اعتراضهم وسوء أدبهم مع النبي صلىالله عليه وسلم وإصرارهم المتتالي على قسمة الغنائم والسبايا ، ولكن الرسول ظل يرفض ذلك كله.
وبعد شهرين من الحصار والمتابعة نجحت دبلوماسية النبي الكريم في إقناع وجهاء ثقيف بالسعي للمصالحة وإنهاء الحرب، وحين وصلوا إلى الرسول الكريم في الجعرانة، كانوا قد أنهكوا نتيجة مغامرات عوف بن مالك الطائشة وكان النبي الكريم أيضا قد أضناه مطلب الأعراب والمؤلفة قلوبهم في وجوب قسمة الغنائم، وننقل تفاصيل الخبر من زاد المعاد لابن القيم:
وقدم وفد هوازن على رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، وهم أربعة عشر رجلاً، فسألوه أن يَمُنَّ عليهم بالسّبي والأموال، فقال: إنّ معي مَن ترون، وإن أحبّ الحديث إليَّ أصدقه، فأبناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم، أم أموالكم؟ فقالو: ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال: إذا صليتُ الغداة فقوموا، فقولوا: إنّا نستشفع برسول الله على المؤمنين، وبالمؤمنين على رسول الله أن يردّ إلينا سَبْينا.
فلمّا صلى رسول الله الغداة قاموا، فقالوا ذلك، فقال رسول الله: ((إنّ هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين. وقد استأنيت بسبيهم، وقد خيّرتهم، فلم يعدلوا بالأبناء والنّساء شيئاً، فَمَن كان عنده شيء فطابت نفسه بأن يردّه، فسبيل ذلك، ومَن أحب أن يستمسك بحقّه فليردَّه عليهم، وله بكلّ فريضة ست فرائض من أوّل ما يفئ الله علينا)). فقال النّاس: قد طبنا ذلك لرسول الله
فقال المهاجرون والأنصار: ما كان لنا فهو لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم، وقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة بن حِصْن: أمّا أنا وبنو فزارة فلا.
وقال العبّاس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ، فقال العبّاس: وَهَّنْتموني.[5]
ومن الواضح في النص ان الرسول الكريم كان راغباً في إنهاء ملف الأسرى بالفداء وليس بالسبي أو الاسترقاق وقد نجح في ذلك، وقد أشارت كتب التفسير والسير إلى امتناع بعض القبائل من التخلي عن حظها من السبي، كما قدمناه وكان من هؤلاء عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي، وقد نزلت في ذلك آيات كثيرة، كلها تشير إلى قبح القتال من أجل الغنيمة، “سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل”. (سورة الفتح 13)
كما نزلت الآيات في وجوب أن يكون القتال في سبيل الله والمستضعفين في الأرض، وأن يكون موجهاً فقط ضد أولئك الذين يقاتلوننا ويعتدون علينا: “وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين في الأرض من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً”. (سورة النساء 75)
وهكذا فإن السبي لم يحصل ابداً خلال الغزوات مع العرب، وإنما حصلت رغبة بالسبي مرتين في المصطلق وفي حنين وقد تمكن الرسول الكريم من ردها بدبلوماسية حكيمة، وكان ما جرى في يوم حنين أواخر السنة الثامنة هو آخر ما روي عن الرسول الكريم في شأن الأسرى، وهو ينطبق أيضاً على آخر آية نزلت في شأن الأسرى وهي تحصر خيار ولي الأمر بين أمرين اثنين: المن (وهو الإطلاق بدون عوض) أو الفداء (وهو الإطلاق بعوض) ونص الآية في سورية محمد: فشدوا الوثاق، فإما منّاً بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها (سورة محمد 4)
ويبقى الكلام في يومي بني قريظة وخيبر، وهي قبائل اليهود التي مارست نقض العهد عدة مرات متتالية فهاجمهم النبي الكريم لرد كيدهم.
أما يوم قريظة فقد وقع في السنة الخامسة في أعقاب غزوة الحندق ومن المعلوم أن غزوة الخندق كانت أشد كارثة هول واجهتها الدولة المسلمة فقد حضرت قبائل متحالفة مع قريش قوامها أكثر من عشرة آلاف مقاتل تريد استئصال الإسلام كله، وقد قام النبي الكريم بمواجهة ذلك بحكمة وبصيرة وحفر الحندق حول المدينة وواجه الحصار أربعين يوماً حتى صرف الله عنه المشركين الذي كانوا أكبر خطر حقيقي تهدد الدولة والناس في عصر الرسالة.
وتيقن النبي الكريم بالأدلة والشواهد والقرائن أن هذا الكيد كله تم بمكر من حيي بن أخطب وبعض أصحابه من قريظة، وكان حيي بن أخطب قد أغرى قريشاً بغزو المدينة ووعدهم بسبعمائة مقاتل منها يؤازرونهم في الغزو، وكان حيي واحداً من الذين عفا عنهم الرسول يوم النضير، ولكنهم أعادوا المكر والغدر يوم الخندق وأوشكوا أن يقضوا على الإسلام كله، ولأجل ذلك فإن النبي الكريم أمر الصحابة بالخروج من فورهم إلى بني قريظة بعد الخندق مباشرة وقال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وبالفعل أحاط بالغادرين من كل وجه ثم دعاهم للنزول على حكمه.
قام القرظيون برفض الوسطاء الذين أرسلهم النبي الكريم واختاروا وساطة سعد بن معاذ رغبة أن يرأف بهم لما كان بينه وبينهم من تجارة ومال.
في الواقع لم يجد سعد بن معاذ سبباً يدعوه للرأفة بهؤلاء المجرمين بعد أن غدروا للمرة الثالثة، وبعد أنأخذ العهد من الفريقين بقبول ما يحكم به، حكم بقتل المقاتلة من قريظة وسبي نسائهم.
وقد تعرضت قصة بني قريظة لمبالغات كثيرة في كتب الرواية وتحدث بعض الرواة عن مئات من القرظيين الذين أعدموا، ولكننا لا نجد في كتب الرجال والطبقات ذكراً لأكثر من خمسة رجال تم إعدامهم في يوم القصاص هذا، والذي يستقيم النظر فيه أن الإعدام قد تم بحق عدد من الذين تورطوا في المكر والغدر وعلى رأسهم حيي بن اخطب، وقد قتلوا يوم قريظة، فيما رحل الباقون إلى خيبر.
واختار ابن زنجويه في كتاب الأموال أنهم كانوا تسعة وثلاثين رجلاً من قريظة.
كما أن موسوعات المحارق اليهودية الشهيرة لم تذكر على الإطلاق شيئاً عن يوم بني قريظة على الرغم من أنها أوردت مقاتل أفراد وجماعات صغيرة ومن غير المعقول أنها لم ترد أبداً في تاريخ المحارق المدونة.
ومن المحتمل أن نساء المقتولين قد تحولوا إلى سبايا وفق نظام الحرب الذي كان سائداً آنذاك وهو نظام قاسٍ ومرير، قام الإسلام بتضييق مداخله وتوسيع مخارجه إلى الغاية.
أما يوم خيبر فقد كان يوم التحدي النهائي بين القبائل اليهودية وبين الإسلام، وكان آخر محاولات اليهود لتحطيم الدولة الإسلامية، وقد أنجز الرسول الكريم صلح الحديبية في ذي القعدة عام ستة للهجرة وانطلق من فوره إلى خيبر لمواجهة الكيد اليهودي الذي كان يدبر للأمة بالتحالف مع الروم في الشمال وقريش في الجنوب، وكان اليهود يعدون سلسلة من الحصون المنيعة للحرب المحتملة مع النبي، وفي حركة خاطفة صدم بها يهود خيبر فوجئوا بالنبي الكريم يحيط بحصونهم ويقول: الله أكبر .. إنا إذا نزلنا بقرية فساء صباح المنذرين، وبدأت الحرب مع أشد الناس عداوة للرسالة والرسول، وغالبهم من الذين مكروا في قينقاع ثم النضير ثم قريظة وها هم ينجزون المكر الرابع، وكان لا بد من المواجهة الحاسمة مع هؤلاء، صيانة لأمن الأمة والدولة الناشئة.
طالت الحرب وكان اليهود ينتقلون من حصن إلى حصن حتى تمكن الرسول من الانتصار وقتل زعماء يهود الذين حاولوا تنفيذ المشروع الماكر.
كان حكم الرسول في يهود خيبر هو نزع ملكية الأراضي منهم على أنه أبقاها بأيديهم يزرعونها على خراج معلوم.
أما النساء فقد وقع عدد منهن في السبي والأسر، وهو عرف سائد في الحروب آنذاك، ومرة أخرى لجأ النبي الكريم إلى أسلوبه يوم المصطلق حين تزوج منهن صفية بنت حيي بن أخطب، وألقى عليها عباءتها وأكرمها، ولم يكرهها على الإسلام، وطار الخبر في الناس أن رسول الله قد تزوج صفية فأحسنوا في آظآر رسول الله، وهكذا فقد تم إعتاق سائر السبايا قبل أن يصل الموكب إلى المدينة، ولا يعرف في كتب الطبقات والتراجم عبد أو أمة، رجل أو امرأة نسب إلى خيبر، الخيبري أو الخيبرية، مما يدل أن الجميع قد وجدوا طريقهم للعتق.
من الحديبية إلى فتح مكة
الدبلوماسية بدل الحرب
ومع أن حياته الكريمة صلى الله عليه وسلم طافحة برسائل بليغة في الدبلوماسية العالية، ولكنني سأختار منها يوم الحديبية وما تلاه إلى فتح مكة وندرس فيها قيم الدبلوماسية الرفيعة التي قدمها رسول الله.
ويعتبر يوم الحديبية أدق أيام الرسول الكريم في بناء الدبلوماسية الناجحة في مواجهة نزعة الحرب.
وقع يوم الحديبية في آخر السنة السادسة من مهاجره الكريم إلى المدينة، وبعد أكثر من سنة ونصف من يوم الخندق، وقد عجزت قريش خلال هذه الفترة عن إرسال جيش جديد ليهدد المدينة، بعد إخفاق حملتها الضارية يوم الخندق التي حشدت فيها نحو عشرة آلاف مقاتل وهو رقم لا يمكن المزيد عليه في ظروف الحرب آنذاك في الحجاز.
أعلن النبي الكريم أنه ذاهب إلى العمرة وأنه رأى في الرؤيا أن المسلمين يطوفون بالكعبة المشرفة وأن المسلمين فيها يؤدون مناسكهم محلقين ومقصرين وفي ذلك نزل قرآن حكيم: “لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون”. (سورة الفتح 27)
وصل الرسول الكريم إلى الحديبية على مشارف مكة ومعه ألف واربعمائة صحابي كريم، والحديبية موقع يقع على مسافة نحو 20 كم من مكة.
كانت الروح المعنوية للصحابة على أعلى مستوى في خوض منازلة ضارية مع المشركين والوصول إلى البيت الحرام، ولم يكن لديهم أدنى شك في ذلك، فقد كانت مكة المكرمة وعدهم الذي ينتظرونه وكانوا يوقنون أن رؤيا الأنبياء حق، ولم يكن في كلام رسول الله أي نبرة تردد حين بشرهم بدخول البيت الحرام.
كما أن روحهم المعنوية كانت على أحسن ما يرام، وقد كانوا 1400 صحابي كلهم من أهل الاستقامة والوفاء والتضحية، وكانوا قادرين على اقتحام سريع لمكة رغماً عن قريش.
ولكن الرسول الكريم أحب أن يمنح الدبلوماسية فرصتها، ولم يشا أن يسجل في تاريخ علاقته بارض قومه اي لون من رائحة الدم.
على الفور أرسل لقريش من يبلغهم أنه قادم للعمرة وأداء مناسك البيتالحرام كما تفعل سائر قبائل العرب.
ولكن مثل هذا المطلب لا يمكن أن يمر بسلام عند قريش التي لا ترى في الرسول الكريم أكثر من مارق منشق ينبغي لجم أطماعه بكل وسيلة ويجب أن يمنع من أن يكون له أي وجود اعتباري.
وبالمقابل لم تكن قريش تستيطع أن تدير وجهها لهذه الإرادة القعساء من ألف وأربعمائة صحابي كلهم مصر على دخول مكة ولا شك أن دخولهم إلى البيت الحرام بدون إذن قريش سيكون حدثاً غير سعيد لقريش وسيعكس وهناً كبيراُ في سمعة القبيلة التي تدافع عن زعامتها ومكانتها بين العرب.
أرسلت قريش عدة مفاوضين ولكنها كانت حريصة تماما أن لا ترسل مفاوضاُ من قريش، لقد كانت تعتبر أن إرسال مفاوض من قريش يعني دبلوماسياً الاعتراف بدولة النبي الكريم والجلوس معه على مائدة التفاوض، ولذلك فقد ارسلت على التوالي أربعة وسطاء غير قرشيين، وهم عروة بن مسعود الثقفي ومكرز بن محصن وبديل بن ورقاء الخزاعي والحليس بن علقمة سيد الأحابيش.
أما الأول فهو عروة بن مسعود من ثقيف وكان زعيم الطائف، وكان رجلاً شريفاً ومطاعاً، وهو الذي نزلت فيه الآية: “وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم” (سورة الزخرف 31) والمقصود بالقريتين مكة والطائف والمراد بالرجلين عروة بن مسعود من الظائف والوليد بن المغيرة من مكة.
كان هدي الرسول الكريم بالغ الحكمة في حواره مع الزعيم الثقفي، وقد اختار أن يكون معه في الوفد المفاوض الصحابي المغيرة بن شعبة، وهو أحد ألمع شباب ثقيف، وأحد دهاة العرب وقد صار فيما بعد حاكما على العراق في العهد الأموي.
قال عروة بن مصعود: يا محمد.. أجمَعْت أوشاب الناس وجئت بهم إلى قومك لتفض بيضتهم؟ وجعل يمد يده إلى لحية النبي الكريم، في إيماءة ذكية بلغة الجسد يريد ان يظهره بمظهر الولد العاق لقريش، وأن والده أو عمه يعاتبه ليعود إلى حضن قومه….
كان الجواب على الفور من المغيرة بن شعبة وهو أبرز فتيان قومه ثقيف وكان رسول الله قد اختاره ليشهد الحوار، وحين مد عروة يده الى لحية النبي الكريم قال المغيرة بقسوة وحزم: اسحب يدك قبل أن لا تعود إليك…. ويلك… أنحن أوشاب الناس؟؟؟ ويلك.. أنا ابن ثقيف.. إنهم قومي.. وقد بايعنا رسول الله…ويلك أنحن نفرُّ عنه وندعه؟!!
كانت رسالة دبلوماسية واضحة للمفاوض الثقفي … يجب أن تعلم أنك لم تعد سيد قومك… إن المستقبل الثقفي صار هنا… وكذلك كل مستقبل العرب… وأن محمداً لم يعد فتى قريش الآبق.. لقد صار سيد العرب!
وفي اللقاء بالزعيم الثقفي أظهر الصحابة حرصاً غير معتاد على تبجيل النبي وتعظيمه، ووردت مشاهدات مثيرة حول تبركهم بوضوء النبي وشعراته، وهي أمور لم ترد في مقام آخر، ومن الجلي ان الرسول كان يريد أن يترك هذا الانطباع عند مفاوضه الثقفي، وأن القوم الذين تجمعوا مع الرسول الكريم ليسوا أوشاباً من الناس، إنهم أبرز الشباب الواعد في ثقيف وقريش، وليسوا من النوع الذي يغزو ابتغاء المكاسب ثم يتولى، بل هم قوم يؤمنون تماماً بما يصنعون…
وبالفعل كان للغة التفاوض وهيئتها فعل السحر على هذا الزعيم الثقفي الكبير، وعاد إلى قريش وقال لهم:
يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه.. وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، والله ما إن توضا وضوءاً إلا وقع ماؤه في يد أصحابه يتبركون به! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبداً، فروا رأيكم…
كانت النتيجة صادمة لقريش فهذا هو تقرير أبرز حلفائهم وأشهرهم وأكثرهم خبرة بمجالسة الملوك وحواراتهم، وها هو يعود من تفاوضه دون أدنى أمل في تغيير وجهة محمد وأصحابه بل هو يدعوهم إلى القبول بالأمر الواقع بشجاعة.
عادت قريش لممارسة الأسلوب إياه وهو التفاوض بالوكالة وأرسلت من غدها بديل بن ورقاء الخزاعي، وهو زعيم قبيلة خزاعة التي كانت وثيقة الصلة ببني هاشم، وكان بديل يعيش في مكة، ويعتبر من أشرافها وزعمائها.
كان الحوار مع بديل الخزاعي دقيقاً وحكيماً، وقد انتهى دون تصريح معلن، وتم وداع الرجل بإكرام واحترام.
ولا ندري حنى اليوم تفصيل ما جرى في ذلك اللقاء، ولكن خلال أيام جاءت نتائجه الإيجابية الظاهرة، وحين نص صلح الحديبية على أن من شاء من العرب دخل في حلف محمد كانت قبيلة خزاعة أول الداخلين في حلف النبي الكريم على الرغم من أنها كانت على دين قريش.
كما كان لبديل بن ورقاء دور هام جداً في ترتيب فتح مكة وتأمين لقاء أبي سفيان زعيم قريش بالنبي الكريم على تخوم مكة قبل دخولها.
أما الثالث الذي أرسلته قريش فهو مكرز بن حفص بن الأخيف، وكان في الواقع رجلاً فاتكاً وقد أدانته قريش بجريمة قتل عامر بن الملوح، وكانت على وشك القصاص منه حين اندلعت معركة بدر فتشاغل عنه الناس، ويعتبر في الصعاليك، ولا شك أن إرسال قريش له يعكس مزيداً من الاستهتار بالنبي الكريم وتأكيداً على رفض الاعتراف بالرسالة والرسول.
لم يشا الرسول أن يولي أي اعتبار لمكرز بن حفص ولكن تم إبلاغه كلمات محددة أن النبي ماض في رسالة ربه وأنه قادم لمكة لأداء نسك العمرة بالبيت الحرام.
أما المفاوض الرابع الذي اختارته قريش فهو الحلَّيس بن علقمه زعيم الأحابيش، وهو أيضاً ليس من قريش، وكان إرساله في لغة الدبلوماسية أمراً بالغ الدقة والحساسية.
والأحابيش قوم شديدو التدين جاؤوا من الحبشة لمجاورة البيت الحرام وخدمة الحجاج والناسكين، وقد ازداد عددهم وبلغوا نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وكانت قريش قد مارست تشويهاً إعلامياً كبيراً ضد النبي وصحبه، وتمكنت من استغلال هذه العاطفة القوية لدى الأحابيش لمحاربة النبي الكريم على أساس أنه جاء ليهدم البيت الحرام، وتماثيل الأنبياء والملائكة التي تقرب إلى الله زلفى، وبذلك سقط الأحابيش في تضليل قريش واقتنعوا آنذاك بان محمداً وأصحابه أعداء للبيت الحرام، وكان للاحابيش في معركة أحد دور حاسم في تغيير المعركة لصالح قريش، وقد أظهروا ثباتاً وصلابة في حرب النبي، وذلك لما وقع في قناعاتهم من رغبة النبي الكريم في هدم البيت والأصنام.
وحين وصل الحليس بن علقمة إلى مشارف الحديبية أظهر النبي الكريم عبقرية دبلوماسية فريدة، فلم يلجأ إلى الدبلوماسية التي طبقها أمام عروة بن مسعود من تعظيم الرسول وإجلاله، ولا إلى الأسلوب الذي اتبعه مع مكرز بن حفص من تجاهله والتعالي عليه، ولم يخل به في لقاء تواصل ووداد كما فعل مع بديل بن ورقاء الخزاعي، بل لجأ لأسلوب آخر: لقد قال للصحابة حين رآه… إن هذا من قوم يتألهون، لقد جاء وقومه من الحبشة إلى مكة لهدف واحد وهو تعظيم البيتالحرام وخدمة الحجاج، فأظهروا تعظيمكم للبيت واحترامكم للنسك، وارفعوا أصواتكم بالتلبية، وأمر أن يدلف إلى الوادي الهدي الذي ساقه تعظيماً للبيت الحرام، وأن يجهر المسلمون بهتاف التلبية والتكبير وهم محرمون….
شاهد الحلَّيس بن علقمة وأصحابه مشهد ألف وأربعمائة حاج محرم بثيابهم البيضاء يسوقون الهدي ويلبون ويكبرون وكلهم شوق لدخول البيت الحرام والتلبية فيه، لم يكن على القوم أي آثار لمحارب فاتك بالبيت، لقد وصلت الصورة واضحة، إن القوم جاؤوا معظمين للبيت ومكبرين لله، فلماذا تريد قريش أن نقاتلهم؟ إنها خيبة الدهر وحبط العمل أن نترك بلادنا في الحبشة ونهاجر لخدمة البيت الحرام ثم نجد أنفسنا نحارب الحجاج والمعتمرين من أجل أبي سفيان!!!
لم يتم الحلَّيس طريقه إلى النبي لقد قرأ الرسالة الدبلوماسية كاملة، وقفل عائداً إلى قريش يعلو محياه الغضب، وقال لهم:
يا معشر قريش، والله ما على هذا حالفناكم!! أيصدّ عن بيت الله من جاءه معظّما له!! والذي نفس الحَّليس بيده لتخلنّ بين محمد وبين ما جاء له أو لأنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد!!……
كانت النتيجة صادمة لزعماء قريش الذي وقعوا في خطأ قاتل وهو أنهم منحوا الحلَّيس فرصة الاطلاع عن قرب على الرسول الكريم، وهي فرصة لم تسنح للأحابيش من قبل،وبذلك فقد ضيعوا كل ما بذلوه في نشر فوبيا الإسلام عند الأحابيش، وتسببوا بتحولهم جذرياً إلى الترحيب بدخول النبي الكريم والرغبة في خدمته وحمايته وحماية أصحابه المعتمرين.
واختار النبي الكريم للتفاوض من جانبه عثمان بن عفان، ومن يتابع سيرة عثمان بن عفان في السيرة النبوية يدرك فوراً أنه ليس رجل حرب ولا قتال، ولم يشارك في بدر ولا أحد، واشتهر بالحياء واللطف والرقة، ومن جانب آخر فقد كان من بني أمية وهمحكام مكة آنذاك، وكان في اختياره للتفاوض إشارة دبلوماسية ذكية، وهي أن الإسلام ليس قادماً ليفرض انتصار بنيهاشم على بني أمية، بل هو مجد للكل، وحظ بني أمية فيه لا يقل عن حظ غيرهم وهذا عثمانبن عفان من ذؤابة بني أمية، وقد جاءت الأيام بتأكيد هذه الحقيقة وأصبح الأمويون خلفاء الدولةالإسلامية الثانية بعد الدولة الراشدية.
ومن المناسب هنا أن نشير أن رسول الله حين حقق فتح مكة عام ثمانية للهجرة لم يشأ أن يستخلف فيها أبا بكر أوعلياً أو عمر أو جعفر أو الزبير أو طلحة من المقربين الكبار، وقد كان هذا هو المتوقع، فليس في العالم مدينة أولى بالاهتمام والتقدير من مكة وهي عاصمة الاسلام الروحية، ولكنه اختار فتى لا نكاد نسمع عنه في التاريخ شيئاً، وهو عتاب بن أسيد وهو شاب من بني أمية، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، ولم تعرف له مشاركة من قبل بحرب، وكان يرجو أن تصل الرسالة كاملة للناس، وأن الفتح لن يلغي الدور التاريخي لبني أمية وأراد أن يطمئنهم بأنهم جميعاً محل اعتبار وأن الفتح لن يجور على أحد.
كان اختيار عثمان يوم الحديبية رسالة قوية واضحة نحو السلم، وقراراً واضحاً بعدم الرغبة في الحرب، وتطميناً قوياً لقريش بأن الإسلام ليس رسالة قبلية أو عائلية وأن الجميع شركاء في مجده، وقد أربك هذا الاختيار كل حسابات قريش ولم تجد جواباً ترد فيه على الرسول الكريم فقررت احتجاز عثمان عدة أيام، وأشاعت أن عثمان قد قتل! في اختبار لإرادة النبي والصحابة.
حين تسامع النبي بمقتل عثمان دعا الصحابة إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة وكانت بيعة على الموت دفاعاً عن عثمان، وكانت رسالة قوية واضحة لقريش إن إرادة السلام لا يعني أن تكون ضعيفاً أو عاجزاً، وأن التفاوض يتطلب شروط القوة والبأس وليس فقط غناء المسامحة والسلام.
حين علمت قريش ببيعة الرضوان وعزم النبي الكريم على الدخول إلى مكة رداً على مقتل عثمان، أطلقت عثمان، ثم أرسلت أول مفاوض من قريش وهو سهيل بن عمرو، وهو أول مفاوض من أصل قرشي ترسله قريش.
وحين راى رسول الله سهيل بن عمرو قال: سهل أمركم، وقال: لعل الله يفتح بيننا وبين قومنا بالحق.
كان وصول سهيل بن عمرو القرشي العامري موفداً من قريش أول اعتراف من قريش بالدولة الاسلامية، وانتقل الحوار الى الافق الدبلوماسي بدل الحسم بالحرب والسيف.
سلك سهيل في التفاوض سلوكاً غاية في الاستفزاز والغطرسة، وكان بالإمكان أن يتحول التفاوض إلى مواجهة مباشرة لولا أن الرسول الكريم اصر أن يمضي فيالحوار إلى النهاية، واستجاب بحكمة وروية لمطالب قريش .
واشتهرت مفاوضات الحديبية بموقف النبي الكريم في الحكم والتعقل في مواجهة خطاب الغطرسة والاستعلاء الذي قاده النبي الكريم.
وبعد حوار مباشر بين الرسول وبين سهيل، أظهر فيه سهيل قدراً غير قليل من الاتهام والغضب والغرور ، تمكن الرسول الكريم أن يصل به إلى عدد من المحددات الاتفاقية، التي تم إعلانها باسم صلح الحديبية.
- نص اتفاق الحديبية على عودة النبي إلى المدينة دون أن يدخل مكة المكرمة.
- ونص أيضاً على وضع الحرب عشر سنين
- ونص على أن من جاء محمداً مهاجراً من غير إذن والديه فإن محمداً ملزم أن يخرجه من المدينة، في حين أن من عاد من المؤمنين إلى مكة لا يحق للرسول أن يمنعه.
- ونص أن من شاء ان يدخل في حلف محمد دخل فيه ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.
كان الاتفاق صادماً لكثير من المسلمين الذين راوا فيه دنية وهواناً غير مبرر، خاصة أنه تضمن بصراحة عدم السماح بدخول مكة، إنهم لم يصدقوا أن يحصل ذلك وهم قادرون على الدخول مراغمة ومغالبة، فلم هذا الهوان؟!
وصارح عمر بن الخطاب الرسول الكريم باعتراضه الشديد وقال: يا رسول الله أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!
قال له رسول الله: يا عمر أنا عبد الله ورسوله ولن يضيعني…
وعاد عمر يتساءل: يا رسول الله كيف نرد إليهم من جاءنا منهم ولا يردون إلينا من ارتد منا؟؟ أجاب الرسول الكريم بقوله: أما من ارتد منا فلا رده الله!! أما من جاء مهاجراً فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
وحين تم الاتفاق بالأحرف الأولى على عقد الصلح، عاد سهيل الى ممارسة الاستعلاء والاستفزاز إلى الغاية، وحين كتب رسول الله هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو من قريش، قال له : امحها…. لا أعرفك رسول الله!! لو عرفتك رسول الله لما قاتلتك، اكتب اسمك واسم أبيك!!
ومع أن موقفاً كهذا أثار غضب الصحابة إلى الغاية، وكان حرياً أن يعيد الحرب جذعة ملتهبة، ولكن الرسول مضى في إرادة السلم إلى الغاية وقبل على الفور مطلب سهيل وأمر بتعديل النص وفق رغبة قريش، فصار بصيغة: باسمك اللهم… هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله ومن معه من المسلمين سهيل بن عمرو ومن معه من قريش.
بالطبع لا نستطيع هنا أن نسرد كل تفاصيل السيرة النبوية، ولكن إصرار النبي الكريم على الحوار الحكيم مع كل من أرسلته قريش يعكس لك الرغبة العميقة في البحث عنالسلام ومنع اندلاع الحرب.
وحين عاد رسول الله من مكة قافلا الى المدينة، انصرف الاصحاب وهم في غاية الغم، فقد غادروا المدينة بوعد الرسول الكريم أن يطوفوا بالبيت الحرام ويزوروه، ولكنهم يعودون بغير رجاء، ممنوعين من دخول البيت الحرام، وأخذهم الغم والحزن حتى امتنع سائرهم عن الحلق والتحلل من ثياب الاحرام رغم أمر الرسول لهم، رجاء أن يغير رسول الله من رأيه، وفي الخبر أن الرسول الكريم دخل خيمته مغتماً وقال لام سلمة : هلك الناس… لقد أمرتهم فلم يمتثلوا! أمرتهم بالحلق والتحلل من الإحرام فلم يستجيبوا!! يسمعون كلامي وينظرون وجهي!!
قالت أم سلمة .. يا رسول الله .. لا تلمهم، فإنهم قد داخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح، ثم أشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً منهم وينحر بدنه ويحلق رأسه. ففعل كذلك.
وحينما حلق رسول الله بنفسه، قام الصحابة يحلق بعضهم لبعض حتى أوشكوا أن يقتل بعضهم بعضاً من شدة الغم وفق تعبير ابن هشام في السيرة النبوية.
وهكذا فقد كان يوم الحديبية أوضح أيام النبي الكريم في إرادة السلم، ورغم الأسباب الكثيرة التي كانت تدعو إلى الحرب، وفرص النصر المؤكدة ولكن الرسول الكريم لم يشأ أن تراق الدماء على أبواب مكة، ولم يشأ أن يكون في سجل عودته إلى مكة دماء أو قهر، واختار أن يؤجل الفتح سنين أخرى في رسالة واضحة للسلام.
وحين آبَ عائداً نزل عليه قول الله تعالى: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً …. وكان ذلك مثار عجب من كثير من الصحابة وقال عمر: يا رسول الله!! أو فتح هو؟؟؟ قال نعم، قال: كيف؟ وقد صددنا عن البيت ومنعنا من الحرم، ومنع من يسلم ان يهاجر إلينا ومنعنا أن نصد من يرتد عنا!!
كان جواب النبي الكريم يا عمر… أنا عبد الله ورسوله .. ولن يضيعني
أما من ارتد منا فلا رده الله! وأما من آمن فسيجعل الله له مخرجاً..
وفي سياق النتائج البعيدة كان صلح الحديبية أعظم أيام الخير في الإسلام وأكثر أيام النجاح على مستوى الرسالة والدعوة، وفي ذلك يقول الإمام الزهري: (فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر)!
وبالطبع لن يسعنا هنا أن نسرد أحداث السيرة كاملة، ولكن تطورات الأحداث كلها تعزز ما نشير إليه من رغبة الرسول الكريم الجامحة نحو السلم، وهو ما نراه في تفاصيل هاتين السنتين من حياته الكريمة.
وبعد عام من الحديبية، وصل الرسول الكريم في 1400 من الصحابة إلى مكة لأداء عمرة القضاء، وفق اتفاق الحديبية مع قريش، أن يعود المسلمون من قابل ويعتمروا في أيام ثلاثة،وهكذا كان، ووصل الصحابة مع الرسول الكريم، وقاموا باداء مناسك العمرة على عيون قريش، في أداء رائع التنظيم والانسجام، في ثلاثة أيام تماماً كما اشترطت قريش، وكانت هذه الأيام الثلاثة كافية لوقف جنون الكراهية الذي كانت قريش تعصف به في جيل الشباب من قريش، وقد رسمت النسك العظيمة التي أداها الرسول وأصحابه مشهد جمال وهيبة واحترام في قلوب شباب قريش مما أثار مخاوف قريش من تعلق الجيل الجديد بالرسالة، وعلى الفور قامت قريش بإيفاد حويطب بن عبد العزى أحد قساة القلوب من دهاقنتها الكبار مع عدد من الرجال يطلبون من الرسول المغادرة الفورية بعد الأيام الثلاثة وفق ما هو منصوص عليه في عقد الحديبية.
لم يشأ الرسول الكريم ان يخلَّ بأدنى شرط من شروط الحديبية ولكنه كان قد رتب مفاجأة غير متوقعة لخصومه، وقال لهم ببراءة وطهر: لقد أصهرت إليكم ميمونة بنت الحارث الهلالية، وغداً نعلن النكاح ونقيم الأفراح، وماذا عليكم لو منحتموني يوماً رابعاً وصنعت لكم طعاما ودعوتكم إليه؟
كانت ميمونة الهلالية أشد نساء قريش جمالاً، وكانت مفاجأة صادمة أن تغدو تلك الحسناء زوجة للرسول الكريم، ولم يطق حويطب بن عبد العزى أن يتحمل ذلك وقال بلؤم: لا حاجة لنا بك ولا بطعامك اخرج عنا!!!!
أثار هذا الموقف اللئيم غضب الصحابة، وقال له أسيد بن حضير كذبت يا عدو الله!! ليست بارضك ولا أرض أبيك، والله لا يخرج منها إلا طائعاً….
ولكن الرسول الكريم التفت إليه في ابتسامة وديعة وقال: لا يا أسيد… لا تؤذوا قوماً زارونا في رحالنا….
وبالفعل استجاب الرسول الكريم لشرط الحديبية وأمر الصحابة بالخروج من مكة، ولكنه أعد بعناية لحفل كبير في ضواحي مكة الجميلة عند وادي سرف، حيث كان مستراح أهل مكة ونزهتهم، وهناك بسطت الموائد الكريمة وأطلقت الأفراح الميمونة بزواج ميمونة، ونودي في شباب مكة إن محمداً يدعوكم لوليمة الأميرة الميمونة…. وتسلل الشباب لواذاً من مكة إلى سرف، على رغم حنق قساة القلوب من بني امية، وفي تلك الليلة الجميلة فرح الناس وغنوا وطربوا وضربوا بالدف، وهدمت مرة واحدة حواجز الكراهية التي جهدت قريش في بنائها وإحكامها خلال عشرين عاماً من البغي والحقد والجاهلية.
وفي هذا الحدث الفريد نزلت آيات كريمة في سورة الفتح: “ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيببكم منهم معرة بغير علم” (سورة الفتح 25)
وبعد أسابيع قليلة تسلل خيرة شباب مكة إلى الرسولالكريم في المدينة يبايعونه علىالإسلام وكان منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحجبي، ويومها قال الرسول الكريم: لقد رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها!!
وهكذا بدا أن شباب مكة لا يعولون في شيء على قيادتهم القبلية الحاقدة، وأصبحوا يدركون أن رياح التغيير قادمة من المدينة المنورة وأن عليهم أن يتخذوا أماكنهم في المركب الجديد، وبالفعل فقد أصبح هؤلاء الثلاثة أشهر شباب العرب، وكتب الله على أيديهم سلسلة انتصارات هائلة لا ينساها التاريخ.
بانتظار يوم الفتح الأعظم
خلال عامين بعد الحديبية تغير كل شيء، وحصل اختلال فظيع في مراكز القوى، وفيما كانت قريش تفقد أنصارها تدريجياً وخاصة من أبنائها الشباب كان مجتمع المدينة يزداد تلاحماً وتماسكاً حول الرسول الكريم وأصبحت المدينة تنتظر فرصة مناسبة لدخول مكة، ولم يكن يحول بينهم وبين ذلك إلا الشرط الأخلاقي الذي نصت عليه الحديبية وهو أن توضع الحرب بين الناس عشر سنين، وكان هذا الشرط دبلوماسيا وأخلاقياً ملزماً لرسول الله ولم يكن من شأنه نقض العهود.
وفي شعبان من السنة الثامنة حصل ما كان ينتظر، ونقضت قريش برعونتها صلح الحديبية وقتلت قوماً من حلفاء الرسول في خزاعة، وطار الخبر إلى المدينة على يد عمرو بن سالم، وحين قام يستغيث في المدينة قال له رسول الله كلمة واحدة: نصرت!! ولكن لم يفصح عن أي شيء آخر…
وبعد أسابيع قليلة سار الرسول الكريم بجيش فيه عشرة آلاف مقاتل في جهد حكيم ودقيق وانطلق في مطلع شهر رمضان من المدينة المنورة.
لم يخبر أحداً بجهة خروجه، وكانت قريش تتوقع عملاً عنيفاً من الرسول بعد نقضها لصلح الحديبية، وفي سياسة حكيمة أمر الرسول جيشه بالتحرك صوب الشام، وبالفعل طارت الأخبار إلى قريش بأن الجيش قد تحرك صوب الشام، مما يعني أن مكة آمنة لا بأس عليها، وبعد يوم أو بعض يوم أخبر الرسول أصحابه في الجيش بنيته دخول مكة وتحول قافلاً إلى الجنوب بعد مسيره إلى الشمال، وخلال أيام كان قد أحاط بمكة من شعبها الأربع فيما قريش غافلة غارّة، تحسب أنه يقاتل في الشام.
كان يريد أن يدخل مكة بدون دماء، وهذا كان هدفه الأول، ولأجل ذلك فقد عمَّى عنها الأخبار، وحين وصل إلى عسفان على مشارف مكة كان لا بد من دبلوماسية حكيمة لتجنب الحرب، وربما كانت تفاصيل فتح مكة أروع أيام الدبلوماسية النبوية في تجنب الحروب وبناء السلام.
لا بد من أبي سفيان! هكذا رسم رسول الله مشهد دخوله مكة، فأبو سفيان هو رأس قريش، وهو زعيم مكة بلا منازع، وهو الشخص الوحيد القادر أن يحقن الدماء في مكة لو أراد السلم، ولكن ذلك لا يتم بنقاش ديني أو حقوقي، بل إنه يتطلب دبلوماسية فريدة تجمع بين القوة والحكمة والمصلحة، وهكذا كان.
وقد تولى هذه المهمة العباس بن عبد المطلب عم الرسول الكريم الذي كان لا يزال يقيم في مكة ويحتفظ بصلاته مع أبي سفيان، وبالفعل تمكن من استدراج أبي سفيان دون أن يعلم عبر المفاوض الخزاعي بديل بن ورقاء الذي كان يكتم إيمانه أيضاً، وحين وصل أبو سفيان مع صديقه بديل إلى عسفان وجد نفسه مباشرة أمام العباس وأمام عينيه مشهد عشرة آلاف صحابي جاؤوا مع الرسول الكريم لفتح مكة…..
لم يستطع أبو سفيان أن يفهم ما حصل! وكيف جرى كل هذا، وكانت جواسيسه قد أخبرته إن محمداً يقاتل في الشام، وعلى الفور قال العباس ويحك يا أبا سفيان تعال أستأمن لك رسول الله قبل ان يدخل مكة بمن معه من قبائل العرب فيكون ذل قريش إلى آخر الدهر!!
لم يجد أبو سفيان وقتاً للتفكير حتى صار على بغلة العباس وهو يتواثب به إلى خيمة الرسول فيما بدأ عدد من الشباب المتحمس وعلى رأسهم عمر بن الخطاب يطارده بسيف القصاص ليثأر منه لشهداء بدر وأحد…
تم تنفيذ خطة العباس بنجاح، ووجد أبو سفيان نفسه أسيراً في خيمة الرسول، وقد أتيح للاصوات الغاضبة أن تهتف مطالبة براسه فيما كان العباس يرفع يديه بإعلان جواره لابي سفيان…
وعلى خطم الوادي أمرالرسول الكريم أن تجتاز الكتائب كلها أمام عينيه، وحين رأى العرض العسكري المهيب قال لأبي سفيان : لقد صار ملك ابن أخيك الغداة عظيما!! وما لأحد بقتال هؤلاء طاقة!! واجتاز أمامه سعد بن عبادة حاملا للواء، وصرخ في وجهه … ويلك يا أبا سفيان!! .. اليوم يوم الملحمة… اليوم يذل الله قريشاً….
وخلال ساعات تحول ذلك الزعيم المطاع إلى أسير مرتعد تطوف به الحتوف، ليس له نصير من حوله، ولا رجاء له في نصر ولا نجاة!..
ابا سفيان … لديك فرصة لإنقاذ روحك وحماية مدينتك… لماذا تصر بغباء على القتال بلا معنى, لقد تم كل شيء ولم تبق إلا ساعات قليلة وتنتهي إلى الأبد سيطرة الأصنام البلهاء على مكة، وسيذهب عبادها إلى الجحيم….
وبعد حوار طويل في خيمة رسول الله أعلن أبو سفيان أنه يفهم تماماً نهاية المشروع الجاهلي، وأن الأيام تتجه لبناء الدولة الحديثة على أساس من التوحيد، وأن عهد الأصنام قد ولى، وأن لو كانت الأوثان تملك من الأمر شيئاً إذن لأغنت عنه في محنته هذه، ونطق بالشهادتين، وأظهر رغبة بالتعاون في منع الحرب، وكف جماح المغامرين من قومه.
على الفور اتخذ النبي الكريم سلسلة إجراءات دبلوماسية لطمأنة أبي سفيان، وأمر بسحب اللواء من سعد بن عباده الذي توعد قريشاً بالملحمة، ودفع اللواء لابنه قيس بن سعد وقال: بل اليوم يوم المرحمة.. اليوم يعز الله قريشاً!! وقال لأبي سفيان اذهب إلى قومك يا أبا سفيان، وأعلن فيهم :من دخل داره وألق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!
وخلال ساعات صدم فيها القرشيون بالموقف الجديد لابي سفيان، فقد كان غاية ما أنجزه لهم أنقال: من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن!!
وانصرف الناس الى بيوتهم وإلى المسجد، وكانت حكمة عظيمة من رسول الله نزع فيها فتيل حرب كانت وشيكة، واستطاع بدلوماسية نادرة أن يطفئ نار الحرب، ووقف عزيزاًعلى أبواب الكعبة يقول لخصومه التاريخيين: اذهبوا فانتم الطلقاء!!
لقد مثلت الأحداث من الحديبية إلى الفتح أوضح معالم الهدي النبوي في إرادة السلم، واختيار الدبلوماسية بدل الحرب، وقد نجح في ذلك نجاحاً كبيراً وبالفعل فقد جاء السلم بأكثر مما تصوره الناس، وكان التطبيق العملي لقول الله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله.
ومن الملاحظ هنا أن غاية الحرب في هذه الآية كما حددها القرآن هي السلم، وليس الدخول في الإسلام، فقد كان الجنوح إلىالسلم كافياً لوقف الحرب، والدخول في مفاوضات العيش المشترك، ولم يعد ذلك الحكم الاستثنائي في قتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة، وهو حكم دلت له بعض الأحاديث، وهاهنا فإن القرآن والسنة هاديان إلى وجوب تقييد دلالة الحديث المذكور بأنه استثناء من الأصل وأن له ظروفاً خاصة وأن الحكم العام هو السعي إلى السلم والموادعة، وهو ما دلت له صراحة الآية القرآنية الكريمة: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (سورة البقرة 208)
ولا شك أن استعراض المواقف الدبلوماسية الحكيمة في حياة الرسول تحتاج كتاباً خاصاً، ولكننا تخيرنا منها بعض أحداث الحديبية والفتح، وفي كل يوم من أيامه صلى الله عليه وسلم روائز نور، ومعالم حكمة ودبلوماسية، نجحت في وقف الحرب ومهدت الارض لقيام السلام.
وبقي ان نشير أن سائر ما رويناه في السيرة النبوية فهو مقتبس من سيرة ابن هشام وسيرة ابن كثير، وهما أوثق ما كتبه العلماء في السيرة النبوية المباركة، وحيث اقتبسنا من سواهما لزمت الإشارة إليه.
عمر بن الخطاب
باني الدولة، ورائد السلم والدبلوماسية
44 ق.هـ – 23 هـ 579 – 644 م
عمر بن الخطاب اشهر خلفاء الإسلام وواحد من أبرز رموز العدالة والحكمة في العالم، وقد أنزله النبي الكريم منزلة خاصة، وورد فيه حديث رواه الترمذي وأحمد: لو كان بعدي نبي لكان عمر، ومنزلته كبيرة في الإسلام والفقه والعقيدة والشريعة.
ومع أن عمر اشتهر بالقوة والشجاعة والصلابة، ولكننا نادراً ما نروي مواقفه الجليلة أيضا في الحكمة والاصلاح والبناء والتشييد، وكذلك رسالته في الدبلوماسية وإصلاح الجهاد.
على الرغم من الصورة المشهورة لعمر بن الخطاب أنه كان رجلاً قاسياً صلباً، ولكن قراءة متعمقة لكفاح هذا الصحابي الجليل يدفعنا إلى فراءته من زوايا أخرى، فقد كان الفاروق رضي الله عته رجل الدبلوماسية الأول في الإسلام.
مع أنه كان على رأس الناطقين بكلمة الحق، وأن صوته في تحدي المشركين كان هو الصوت الأعلى، وحين هاجر المسلمون فرادى متخفين هاجر عمر جهاراً نهاراً وقال كلمته الواضحة: من أراد أن تثكله امه ويوتم ولده فليلقني وراء هذا الوادي فإنني مهاجر الآن!!
وعلى الرغم من عباراته الطافحة بالتحدي ولكنه كان في الواقع عنيف اللسان رحيم القلب، وفي حياته الطويلة شهد مع الرسول الكريم المغازي كلها وكان يقترح الثأر والقصاص وارتبط اسمه بالصلابة والثبات والشدة، وستتولى هذه الصفحات التعريف بعمر بن الخطاب حكيماً دبلوماسياً في غمار الصورة المشهورة له محارباً ضارياً.
وتجدر الإشارة أن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام لم يقتل بيده أحداً من المشركين، على الرغم من أنه كان دوما في الصف الأول في الملاحم، وفي الحديث أن المشرك الوحيد الذي ضربه النبي الكريم بالسيف هو أبي بن خلف في معركة أحد، وكان قد نادى أين محمد!! لا نجوت إن نجا، وأقبل على النبي الكريم قاتلا او مقتولا فضربه النبي الكريم ضربة بسيفه أصابت منه جراحة خفيفة، وقال له أصحابه لا بأس فجرحك صغير، ولكن شاء الله أن يتطور ذلك الجرح خلال أيام ويهلك به أبي بن خلف.
وفي السياق نفسه فإن عمر بن الخطاب أيضاً لم يعرف أنه قتل أحداً من المشركين إلا العاص بن هشام، وذلك في معركة بدر.
وعلى الرغم من شدته، وطلبه المتكرر من النبي أن يقتل أفراداً من المشركين، ولكن من المؤكد أن مطالباته بالقصاص كانت تنتهي دوماً بالموادعة والسلم، وكأنما كان يظهر التشدد ليضمن للناس الوسط والاعتدال، وربما كانت هذه الحقيقة هي جواب أبي بكر عندما اعترض عليه طلحة في استخلافه عمراً من بعده،وقال: ماذا تقول لربك إذا وليت علينا فظًا غليظًا؟ فقال: أبالله تخوفوني؟! أقول: وليت عليهم خير أهلك، إني أرى ما به من الشدة لما يراه بي من اللين، ولو قد ولي لكان للناس حلماً ورحمة.
وعقب موت النبي الكريم ظهر المرتدون وانقلبت قبائل كثيرة على الإسلام، واشتهر موقف أبي بكرالحازم في مواجهة الردة، كما سجل في التاريخموقف عمر بن الخطاب الذي دعا الى البحث عن خيار آخر غير الحرب.
وتحدث عمر بن الخطاب إلى أبي بكر معرباً عن وجهة نظره في البحث عن حلول أخرى غير الحرب، وقال للصديق كيف تقاتل قوماً شهدوا شهادة الإسلام، فكان موقف الصديق حازماً في قوله والله لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسولالله لقاتلتهم عليها.
كان رأي الفاروق مختلفاً عن رأي الصديق، وفي النهاية غلب رأي الصديق ورضي عمر خيار الناس وأثنى على موقف الصديق، فاجتماع الأمة أولى من شتاتها، وحفظ التاريخ رأي عمر بنالخطاب فيالبحث عن سبلأخرى غير الحرب.
ومع أن عمر بن الخطاب لم يخرج عن برنامج الأمة في مواجهة المرتدين، ولكنه رفض التمادي في هذه الحرب، وراى أن علينا أن ننهيها باقل الأضرار وأن نعتمد في الحرب أخلاق الإسلام، وأن لا نسمح للسيوف أن توغل في دماء المخالفين، واشتهر في التاريخ موقفه من خالد بنالوليد، فقد اعترض أشد الاعتراض على تجاوزات خالد في حق مالك بن نويره، ومع أن الصديق لم يعزل خالداً وقال: ما كنت لأعزل سيفاً سله الله على المشركين، ولكن عمر بن الخطاب لم يكتم أبداً موقفه الشديد ضد خالد، واعتبر أن خالد يجيد خيار الحرب ولا يجيد خيار السلم، وقال إن في سيف خالد لرهقاً.
ومع أنه التزم بقرار الخليفة، ولكن حين عهدت الخلافة إليه كان أول قرار اتخذه هو عزل خالد بن الوليد، ولم يكن عزله لسبب شخصي أو قبلي بل قال بوضوح إن في سيف خالد لرهقاً، وإني أخشى أن يصيب من المسلمين مثل ما أصاب بمالك بن نويره.
وتذهب كتب التاريخ إلى المبالغة في وصف هذا الخلاف بين عمر وخالد ولكنني أميل إلى أنه كان خلافاً محدوداً، يتصل برؤية عمر في أن الحرب ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، ولا ينبغي أن تكون الحرب هي خيار الأمة بل هي قدر ندفع به الشر عن الأمة، في حين كان خالد على درجة من الإقدام والشجاعة بحيث لا يهاب الحروب، وقد عاش حياته على ظهر جواده، وبكى على فراش الموت أنه يموت على فراشه وقال لا نامت أعين الجبناء.
وفي سياق آخر فقد قام عمر بن الخطاب أيضاً برد السبايا التي ساقها خالد وغيره من أمراء حروب الردة، وأمر برد هذه السبايا إلى أهاليها، وعوضهم بإنصاف عناء ما كابدوه، ودفع الفدية لأهاليهن، وهو موقف هام في رفض ظاهرة السباء كلها، أو قل هو اتباع حكيم لمنهج الرسول الكريم في رفض السبي كله كما قدمناه في يوم حنين. [6]
إن موقف عمر بن الخطاب من حروب الردة عموماً ومن خالد بن الوليد بشكل خاص يعزز الفكرة التي نبسط القول فيها وهي أن عمر كان من أنصار الدبلوماسية بدل الحرب، وأنه على الرغم من صوته الجهوري ونبرته المتحدية وشجاعته الظاهرة كان من دعاة السلم والحوار والمصالحة.
وسنختار من حياته الكريمة مواقف ثلاثة لتعزيز هذه الفكرة.
فتح المقدس ودبلوماسية حوار الأديان:
كانت كنيسة القدس شرقية تتبع لهرقل وقيصر، وذلك منذ أن انتقل قسطنطين الكبير إلى القسطنطينية مطلع القرن الرابع، وكانت بالطبع تسير في هوى ملوكها، وتجتهد في إحباط آمال المسملين بالتحرر من الروم وإعادة بلاد الشام إلى عروبتها بعد أن استعمرها اليونانيون ثلاثة قرون واستعمرها بعدهم الرومان والروم نحو ستمائة عام.
ومع أن مدينة دمشق سقطت بيد الفاتحين منذ عام 13 هجرية وانطلق الفاتحون في مدن كثيرة في الشام، ولكن عمر بن الخطاب أمر بان تبقى القدس خارج العمل الحربي، في تأكيد لحصانتها الدينية، وقد كانت وصاياه للمجاهدين دوماً تنص على حماية أصحاب الدير والصوامع، الذين أمرنا بتركهم وما يدينون.
وفي أعقاب معركة اليرموك عام 15 هجرية وفرار القوات الرومية من الجنوب السوري أصبحت القدس بحكم الساقطة عسكريا، ولم يكن دخولها يكلف المسلمين شيئاً بعد أن أصبحت مدينة بدون جيش، وكان بالإمكان الدخول إليها ببساطة وإخراج الكهنة والرهبان منها، خاصة أنها تعتبر في الأدبالإسلامي مدينة هامة حيث ارتبطت بمعراج الرسولالكريم وفي الحديث الصحيح: لا تشد الرحال إلى إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.
ولكن عمر بن الخطاب كان دقيقاً تماماً في دبلوماسية الحوار الديني، وأمر قواته المقاتلة بكل صرامة أن يتجنبوا أي لون من الصراع العسكري في القدس، وشعوراً منه بخطر هذه المهمة قام بالسفر شخصياً إلى القدس ليتم مراسيم دخول المدنية المقدسة سلماً لا حرباً، ضمن تفاصيل خاصة بها دون سائر المدائن.
وهكذا فإن عمر بن الخطاب افتتح لوناً من الدبلوماسية الجديدة وهي دبلوماسية الحوار الديني، فمن المعروف أن استلام مفاتيح المدينة ينبغي أن يكون بين قائد الجيش المنتصروبين حاكم القدس، ولكن عمر بن الخطاب تجاوز هذا العرف القريب إلى عرف أشد منه تأثيراً ووعياً حيث وقف بنفسه قبالة الأسقف المسيحي، واختار استلامها من رجال الدين، مع أن الحرب والسلم شأن رجال السياسة، ولكن عمر بن الخطاب أراد أنيبقي لهذه المدينة دوراً رائداً في الحياة الاجتماعية بعيداً عن الحرب، فقام بنفسه باستلام مفاتيح القدس في أجواء جديدة لا تشبه في شيء ما كانت تعرفه العرب من قبل.
وارتبطت حادثة استلام مفاتيح القدس بسلسلة روايات تؤسس لنوع خاص من دبلوماسية التعامل مع المدن الدينية.
روى الواقدي في فتوح البلدان أن عمر بن الخطاب تلقى في المدينة كتاب أبي عبيدة من الشام، يخبره ان القدس محاصرة وهي على وشك السقوط بعد أن فر جيش الروم، وأن أسقف بيت المقدس يطلب ان يستلم المدينة خليفة المسلمين شخصياً.
جمع عمر الصحابة فقرا عليهم الكتاب فاستبشروا به فقال: ما ترون رحمكم الله فيما كتب به أبو عبيدة؟ فكان أول من تكلم عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين أن الله قد أذل الروم وأخرجهم من الشام ونصر المسلمين عليهم، وقد حاصر أصحابنا مدينة إيلياء وضيقوا عليهم وهم في كل يوم يزدادون ذلا وضعفاً ورعباً، وأرى أن لا تسير إليهم، ليعلمواأنك بأمرهم مستخفٌّ ولقتالهم مستحقر، فلا يلبثون إلا اليسير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.
فلما سمع عمر ذلك من مقال عثمان جزاه خيرا وقال: هل عند أحد منكم رأي غير هذا؟ فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه نعم عندي غير هذا ….. إني أرى إنك أن سرت إليهم فتح الله هذه المدينة على يديك وكان في مسيرك الأجر العظيم في كل ظمأ ومخمصة، وفي قطع كل واد وصعود كل جبل، حتى تقدم إليهم فإذا أنت قدمت عليهم كان لك وللمسلمين الأمن والعافية والصلاح والفتح، ولست بآمن أن يياسوا منك ومن الصلح ويمسكوا حصنهم ويأتيهم المدد من بلادهم وطاغيتهم فيدخل، فلا يتخلفون عنه، والصواب أن تسير إليهم أن شاء الله تعالى.
ففرح عمر بن الخطاب بمشورة علي رضي الله عنه وقال: لقد أحسن عثمان النظر في المكيدة للعدو، وأحسن علي المشورة للمسلمين فجزاهما الله خيراً.
وهكذا فقد قرر الفاروق السفر إلى بيت المقدس لتسلم المدينة من البطريرك فيها، ويهمنا هنا تسليط الضوء على الجانب الدبلوماسي الذي أظهره عمر بن الخطاب لتحقيق الهدف الرئيس وهو بناء منطقة روحية آمنة خارج الحرب، وتحييد المدن الدينية عن الصراع، وإسباغها ما تستحقه من هيبة ووقار وجلال، وتأكيد الحرية الدينية فيها لتكون موئلاً وملاذاً آمناً لاهل الأديان سواء دخلوا في الإسلام أم لم يدخلوا فيه.
لقد كان بإمكانه أن يأخذ بكلام عثمان ويأمر الصحابة باقتحام القدس وإعلانها مدينة إسلامية بالكامل، وإخراج الكهنة والبطاريق منها، حيث لا يوجد من يدافع عنهم أو يحميهم بعد فرار الجيش الرومي، ولكنه اختار في الواقع رؤية بعيدة وحكيمة، في حماية التنوع الديني في القدس بلد إبراهيم ومهد المسيح ومعراج الإسلام.
واختار عمر بن الخطاب أن يدخل القدس بطريقة مختلفة لا تشبه ما تعارفه الملوك، ولم يختر أبهة القياصرة ولا الأكاسرة، ولا حتى وصايا التجمل والبهاء للملوك التي كان النبي الكريم يلتقي بها الوفود وإنما اختار مشهداً غاية في الزهد والتصوف…
ويصف الواقدي مشهد عمر عند وصوله إلى بيت المقدس ومعه غلامه أسلم بن برقان على بعير واحد، فيقول: بلغني ممن أثق به أنه كان يرتدي مرقعة من صوف، وعليه إزار وخفّان وعمامة، وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء، وقد خلع خفّيه، وجعلهما تحت إبطيه، قالوا: له يا أمير المؤمنين، الآن يلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذه الحالة! قال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العزّ بغيره.
ولا ينبغي أن ينظر إلى سلوك عمر بن الخطاب هنا على أنه مجرد زهد وترفع عن الدنيا، بل هو في الواقع قراءة دقيقة لبناء دبلوماسية الحوار الديني، وتأسيس مدينة الإيمان المشترك التي تتسع لكل أبناء الأديان، وقيام ذلك على أساس المساواة والتكامل والثقة وليس على أساس القهر والغلبة، وترسم سائر روايات فتح بيت المقدس الرغبة الأكيدة عند عمر بن الخطاب في عدم نزوح النصارى من القدس، وتوفير ظروف إقامتهم وحقوقهم على وجه مرض، ومنحهم الحرية الدينية المطلوبة لتعزيز التنوع الثقافي والوجود الديني في القدس والحيلولة دون نزوح هذه الديانة من المشرق.
وفي ذلك يروي الواقدي أنهم فتحوا الباب وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية، فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله وخر ساجدا على قتب بعيره، ثم نزل إليهم وقال ارجعوا إلى بلدكم ولكم الذمة والعهد،
قال فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع عمر إلى عسكره.[7]
ويعتبر بعض الباحثين ان هذهالروايات مبالغ فيها، وانها وضعت لإظهار تواضع عمر وزهده، وفي الواقع فإن هذه الروايات هيما قدمه الواقدي والبلاذري وابن سعد وابن عساكر وابن منظور، والروايات متقاربة، وأعتقد ان رسالة عمر بن الخطاب بالغة الوضوح في دعم دبلوماسية الحوار الديني، والتقدم إلى القوم بمنظومة القيم التي يحترمونها، ويتعارفون عليها، فقد أراد ان ينقل الأمر من كونه حواراً بروتوكولياً دبلوماسياً إلى سلوك حواري ديني تهيمن فيه قيم الفضيلة والسمو الروحي على قيم النصر والمصالح والتبادل الدبلوماسي.
وبعد مشاورات وتناصح أنجز عمر بن الخطاب كتابة العهد بينه وبين البطريرك ورجال الدين النصارى، وهذا الميثاق سيصبح اسمه خلال التاريخ العهدة العمرية وسيعلقه النصارى في كنائسهم في كل مكان، وهو ما اعتبر أكثر عقد اجتماعي تنوراً وتسامحاً في تلك المرحلة من العصور الوسطى.
و”العهدة العمرية” كما رواها شيخ المؤرخين والمحدثين الطبري في تاريخ الأمم والملوك تنص على التالي:
“هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بِيَعهم وصلبهم حتى يبلغوا أمنهم. فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم”.[8]
وفي الواقع فإن الحرية الدينية التي تضمنها هذا النص كانت بالفعل غير متوقعة ولا متصورة في عصر كان يغلب فيه على الناس منطق: الناس على دين ملوكهم، ولم يكن البطارقة أنفسهم يتوقعون أن ينالوا حداً من التسامح يحفظ كنائسهم ومؤسساتهم الدينية بهذه الطريقة، فيأمنون على بيعهم وصلبانهم، وتكون لكنائسهم حصانة دينية تشتمل على امتيازات الحصانات الدبلوماسية، وتتيح لهم الحفاظ على نسيجهم الديني حراً طليقاً بدون قيود، وفق منطق القرآن الكريم لا إكراه في الدين.
كما اشتمل العهد منح النصارى حق التواصل مع بلاد الروم فمن شاءسار ومن شاء بقي، ولا يمكننا هنا أن نتجاهل هدف هذا الدرب الآمن الذي وفرته الاتفاقية للتواصل بين الكنائس في فلسطين وبين النصارى في بلاد الروم، وقناعتي أن هذا الدرب يهدف بشكل أساسي إلى حماية التبادل التجاري والاجتماعي بين الشام وبلاد الروم، والإسهام في بناء علاقات متوازنة في المستقبل بعيداً عن صوت المعارك.
وتجب الإشارة هنا إلى أن هذا النص الذي رواه الطبري شيخ المؤرخين قد تعرض لتشويه كبير خلال التاريخ، وتناقل الرواة صيغة أخرى للعهدة العمرية، رواها البيهقي وهو نص يختلف اختلافاً جذرياً عن النص المشهور، وتغلب عليه صيغة الاستعلاء والاستكبار والإذلال، ومما ورد فيه على لسان النصارى المعاهدين: “ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة، ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم، وأن نوقر المسلمين، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم، في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتني بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقاديم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وألا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نخرج شعانين ولا باعوثا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا”.[9]
ومن المؤكد أن هذا النص بالصيغة المذكورة عقد إذعان وإذلال ولا يشبه في شيء العهدة العمرية التي رواها الطبري والتي يعلقها النصارى اليوم في كنائسهم، وليس له علاقة من قريب ولا من بعيد بالعصر الذي كتب فيه فلم يكن في عصر الصحابة شعانين ولا باعوثاً، ولم يعرف النصارى بشد الزنار على أوساطهم إلا في عصر الحروب الصليبية، ولكنه على الرغم من ذلك حظي برواية جمع كبير من المؤرخين والمحدثين وخاصة الحنابلة منهم، وقد رفع البيهقي هذه الرواية بالإسناد إلى عبد الرحمن بن غنم، وعنه نقل ابن كثير في التفسير، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وعنهما نقل ابن زبر الربعي في شروط النصارى، والبهوتي في كشاف القناع، وابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم، واعتمدها الحنابلة عموماً.
ومن المعلوم أن الطبري المتوفى 310 هجري أسبق من البيهقي المتوفى 458 بنحو مائة وخمسين عاماً، وكذلك هو أسبق من ابن كثير المتوفى عام 774 وابن عساكر المتوفى عام 571، وكان من المنطقي أن يأخذ اللاحق عن السابق، ولا يعرف تاريخ عمر بن الخطاب أنه شهد فتح مدينة مسيحية إلا القدس، ولا يعرف في تاريخه أنه كتب عهداً للنصارى إلا في القدس، وهو ما تدل له الروايتان.
وبالعودة إلى دبلوماسية الحوارالديني، فقد اراد عمر أن يكتب تاريخاً للقدس يختلف تماماً عن تاريخ فتح المدائن، وأراد أن يبقي على دور أساسي ومحوري للدين في حماية السلام في المنطقة، ولأجل ذلك كتب بعناية العهدة العمرية التي تضمن وجودهم وحقوقهم ودورهم في التماسك الاجتماعي بين سكان المدينة والمقدسة ومن لجا إليها من الشعوبالأخرى.
ومن طريف ما أورده ابن خلدون في المقدمة أن عمر دخل بيت المقدس وجاء كنيسة القمامة فجلس في صحنها، وحان وقت الصلاة فقال للبطرك أريد الصلاة، فقال له: صلّ موضعك، فامتنع وصلّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا، فلمّا قضى صلاته قال للبطرك لو صليتُ داخل الكنيسة لأخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر….
ثم قال للبطرك أرني موضعا أبني فيه مسجداً فقال له البطرك: على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ووجد عليها دماً كثيراً فشرع في إزالته وتناوله بيده يرفعه في ثوبه، واقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه، وأمر ببناء المسجد.[10]
وهكذا فإنه في غمار حرب طاحنة بين العرب والروم أو بين المسلمين والروم ومن والاهم من أهل الشام تمكن عمر بن الخطاب من الاحتفاظ بقسم جوهري من الأرض على أعلى درجة من الأهمية خارج الحرب وخارج الدماء، وأعلن حماية الحقوق الدينية للمسيحيين بشكل غير معتاد في ذلك التاريخ، واستمرت القدس في دورها الروحي منارة لأتباع المسيح، واستجاب لطلبهم الرئيسي في منع اليهود من الدخول إليها بعد أن تسببوا في خرابها مرتين.
موقف عمر بن الخطاب من إصلاح فقه الجهاد:
واشتهر في التاريخ موقف عمر بن الخطاب في إصلاح ثقافة الجهاد، فقد تلقى الصحابة الكرام ثقافة الجهاد من خلال الحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ضد أعداء الإسلام في قريش وخيبر وغطفان، ومن المعلوم أن الآيات الأشد هي آخر ما نزل، فقد كانت الأمة في طور بناء وحدتها، وكانت تواجه تحديات هائلة من الروم والفرس، والقبائل التيتعمل لحسابهما، والتي ظهرت في حروب الردة، وكان على الجيش الإسلامي أن يتصرف بصرامة وحسم، فلا مجاملة ولا مداراة قبل إنجاز وحدة الأرض واستقرار الدولة، وكان ذلك يرتبط سياسياً بوحدة جزيرة العرب، والخلاص من المحتل الرومي فيالشام والفارسي في العراق.
وهكذا فقد مضى عمل الصحابة على الأشد مما نزل في الكتاب العزيز في أمر الجهاد، وشاعت فيهم قاعدة: العمل على ما مات عليه الرسول… وبذلك فإنهم عملوا بعموم النصوص في الجهاد: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة (التوبة 37) وكذلك: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (التوية 5) واشتهر بين المفسرين كلام السلف بأن آية السيف نسخت سبعين آية، ومقتضى هذه العبارة أن كلآيات السلم والموادعة والصفح والسلم قد نسخت بآية السيف.
ولكن المحققين من العلماء والأصوليين نبهوا أن هذه العبارة وردت على غير المصطلح الذياستقر أخيراً لكلمة النسخ وهو رفع الحكم اللاحق بحكم سابق، وإنما قصد السلف بها التخصيص والتقييد والتأويل.
ولكن هذا الواقع الذي شهدته الرسالة بعد موت الرسول وارتداد العرب تغير بشكل جوهري بعد انتهاء حروب الردة، واكتمل المشهد بعد يومين فاصلين هما اليرموك في الشام والقادسية في العراق، حيث بدأ عمر بن الخطاب سياسة جديدة في وقف الحرب والتحول إلى الدبلوماسية والحوار.
موقف عمر بن الخطاب من التوغل في فارس:
وعلى الرغم من أن عصر عمر بن الخطاب كان عصر فتوح، وفي أيامه تقريباً تم تحرير العراق من الفرس والشام من الروم، ولكن عمر كان حريصاً أن لا يمتد الصراع إلى بلاد فارس وبحر الروم.
وللمؤرخين تحليلات مختلفة في سبب كراهية عمر للحرب في فارس وفي بحر الروم، ويتم ربط ذلك عادة بقدرات الجيش الإسلامي الذي لا يحتمل توسيع الجبهات، ورغبة عمر في تأجيل الصراع إلى أمد آخر.
ولكن دراسة متأنية لموقف عمر بن الخطاب يجعلنا على يقين أنه كان بالفعل مؤمناً بأن الدبلوماسية والحكمة هي السبيل الصحيح لنشر الإسلام وحفظ الدولة، وأن من رسالة المسلم تحنب الحرب وتوفير بدائل من السلم والاستقرار للأمة،وأن الدبلوماسية هي البديل الواقعي والعملي عن الحرب.
لقد ورث عمر بن الخطاب مشروع النبي الكريم في الدعوة إلى الله وبناء الأمة، وكان من المنطقي أن يتحقق بناء الدولة الإسلامية على أرض العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، قرآناً عربياً لقوم يعلمون، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون، وكان النبي الكريم يوضح ذلك مراراً، وقال: يا ويح قريش لو خلوا بيني وبين العرب، فإن أصابونيكان لهم ما يريدون وإن أصبت منهم قاتلوا وبهم قوة!…
كان المطلوب إذن بناء الدولة النموذج، ثم دعوة العالمين إلى الدخول في الإسلام على أساس النموذج الرائع الذي قدمه الإسلام لأمة كانت عاثرة في الشقاق والخصام والاستعمار والتخلف، وهذا بالطبع ما سعى إليه الإسلام بوضوح وكان الهدف المرحلي باختصار هو تحرير أرض العرب سلماً أو حرباً، ثم الدخول في حوار مع العالم.
ولأجل ذلك فإنه لم يكن هناك أدنى تهاون في تحقيق وحدة الجزيرة العربية وطرد الروم من الشام والفرس من العراق، فقد كانت الشام والعراق أرضاً عربية، وكان كل شيء فيها عربي: أسماء الناس وطباعهم ولسانهم وأنسابهم وخيولهم وعاداتهم، كل شيء في العراق والشام كان عربياً إلا الحاكم فقد كان رومياً هنا وفارسياً هناك، وكان من مقتضى رسالةالعدل والخير أن تساعد هذه الشعوب علىالتحرر والخلاص ومن ثم اختيارالدين الذي يرغبون، تحت شعار لا إكراه في الدين.
وهكذا فقد تفهمت الشعوب العربية في الشام والعراق نبل الرسالة الإِسلامية ووجد السوريون أنفسهم مع الفاتحين ضد المحتل الرومي،ووجد العراقيون أنفسهم أيضاً مع الفاتحين ضد المحتل الفارسي، وهذا ما سهل أمر الفتح وحقق خروج المحتلين خلال سنوات قليلة.
ومن هنا جاء موقف عمر بن الخطاب في النهي عن التوغل في بلاد فارس والنهي عن التوغل في بلاد الروم.
وبالفعل فإنه أوقف بكل صرامة تطور الحروب جهة الشرق وقال: وددت لو ان بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم،[11]وقال لأهل العراق: حسبنا لأهل البصرة سوادهم والأهواز أهوازهم.[12]
وفي عبارة أوضح قال: حسبنا من الريف السواد، وإني أوثر سلامة المسلمين على الأنفال.[13]
وحين كتب المثنى يستأذنه في التوغل في أراضي الفرس لمطاردة الهرمزان كتب إليه عمر: أما بعد… فاحرجوا من بين ظهراني الأعاجم، وتفرقوا في المياه التي تلي أرض الأعاجم على حدود أرضكم وأرضهم.
وكذلك فقد وقف عمر بن الخطاب موقفاً مماثلاً من القتال مع الروم، وأمر أن تتوقف المواجهات مع الروم وقال: والله لوددت أن الدرب جمرة بيننا وبينهم، لنا ما دونه وللروم ما وراءه.[14]
وفي رواية: وددت لو ان بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم.
ولكن تطور الحروب لا يستقيم دوماً مع الأماني الطيبة،ولم يكن سهلاً أن يقتنع الفرس بأنهم كانوا قوة احتلال في العراق وأن عليهم أن يرحلوا، وخلال سنوات وجد الصحابة أنفسهم في العراق مدعوين للرد على هجمات فارسية متكررة كان أشهدها حملات الهرمزان التي حشدت قوات فارس في مدينة تستر، على تخوم الأهواز في بلاد فارس.
قال ابن جرير: إن يزدجرد كان يحرض أهل فارس في كل وقت ويؤنبهم بملك العرب بلادهم وقصدهم إياهم في حصونهم، فكتب إلى أهل الأهواز وأهل فارس فتحركوا وتعاهدوا وتعاقدوا على حرب المسلمين، وأن يقصدوا البصرة، وبلغ الخبر إلى عمر؛ فكتب إلى سعد وهو بالكوفة: أن ابعث جندا كثيفا إلى تلك الجنود من البحرين إلى فارس ….
وفي التفاصيل فإن الصحابة توغلوا في الأهواز نحو خمسين ميلاًفي حملة شهيرة شارك فيها أنس بن مالك والأحنف بن قيس والمغيرة بن شعبه واشتبكوا مع الفرس وحاصروا مدينة تستر، وتمكنوا من الهرمزان وأسروه وأوثقوه، وحملوه أسيراً إلى عمر بن الخطاب عام 20 هجرية.
لم يأذن عمر بقتل الهرمزان، وأمر بنقله إلى المدينة، وكان الهدف بوضوح فتح حوار مع الفرس، يقوم على تحقيق الاستقرار على حدود العرب الشرقية مع الفرس، على قاعدة وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله.
وفي تقاصيل الحوار بين عمر وبين الهرمزان فإنه يمكننا أن نتلمس جانباً فريداً من الدبلوماسية بدل الحرب، التي برع فيها عمر بن الخطابرضيالله عنه.
وصل الهرمزان إلى المدينة على أتم صورة من البهاء والخيلاء والملك، وعومل كما يعامل أي ملك، على الرغم من انه جاء مكسورا مهزوماً، وفي لقائه بعمر كانت المفاجأة فلم يكن لعمر شيء من بهارج الملك وزخارفه، وصدم الهرمزان بما رآه من حال عمر في البساطة والزهد والتقشف، وكان لا بد من صدمة كهذه حتى يتم بناء الحوار على أسس مختلفة، لا تمر عبر تقاليد الأكاسرة من التبهرج بالحلي والمظاهر.
ويروي ابن الأثير في الكامل فيالتاريخ خبر وصول الهرمزان مع مجموعة من كبار الصحابة فيهم أنس بن مالك والأحنف ابن قيس، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة، فوجدوه في المسجد متوسداً برنسه، وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده ونام، فجلسوا دونه وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبياً. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.
وهذا اللقاء هو ما خلده حافظ إبراهيم بقوله:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً | بين الرعية عطلاً وهو راعيها | |
وعهده بملوك الفرس أن لها | جيشاً من الجند والأحراس يحميها | |
رآه مستغرقا في نومه فرأى | فيه الجلالة في أسمى معانيها | |
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا | ببردة كاد طول العهد يبليها | |
فهان في عينه ما كان يكبره | من الأكاسر والدنيا بأيديها | |
و قال قولة حق أصبحت مثلا | وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها | |
أمنت لما أقمت العدل بينهم | فنمت نوم قرير العين هانيها |
وهناك روايات متعددة حول الحوارات التي وقعت بين عمر والهرمزان، وتغلب على كثير منها الصنعة والتكلف، ولكن من المؤكد أن عمر أبقى الهرمزان قريباً منه، وكان دائم الاهتمام به، وقد روى عدد من الرواة أنه اصطحبه معه في رحلة الحج، مما يدل أنه ظل قريباً من عمر، وأنه أسلم، ومن الواضح أن عمر كان يدخره لحوار عميق وطويل مع قومه من الفرس..[15]
ويشير ابن الأثير إلى حوار هام بين عمر والوفد المرافق للهرمزان يتساءل فيه عمر عن سبب نقض الفرس للعهد بعد العهد مع المسلمين، ويحاول الفاروق ان يتأكد من سبب ذلك، وهل يتحمل المسلمون سبب هذا النقض المتكرر؟ فقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟
كان عمر حريصاً على فهم الأسباب الجوهرية التيتحول دون نجاح الدبلوماسية في وقف الحرب، ولعل المسلمين كانوا يمارسون الجور أو الظلم ضد الفرس مما يدفع الفرس لنقض العهد.[16]
فلم يشفه أحد منهم، إلا أن الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد وإن ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس.
وبعد سنوات اضطر المسلمون بالفعل أنيتوغلوا في العمق الفارسي نحو مائة ميل آخر ليواجهوا كيد يزدجرد في نهاوند، وقد استطاعوا بقيادة النعمان بن مقرن المزني أن يحبطوا المحاولة الأخيرة لفارس لاستعادة العراق من الحكم العربي الاسلامي، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين وفر يزدجرد إلى الصين.
وبقيت فارس في تلك المرحلة تحت حكام محليين غير موحدين إلى أن أستؤنفت الفتوح أيام عثمان بن عفان.
موقف عمر بن الخطاب من التوغل في مصر:
وعلى الجانب الشرقي من دولة الخلافة أمر عمر بن الخطاب الجيوش ان تتوقف عن الانسياح في البلاد وأمرهم بتعزيز الامن والدعوة في بلاد الشام، وتأمين الاستقرار والعدالة فيها.
وحينما كتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب وكان واليه على فلسطين يستأذنه في غزو قبرص، كان جوابه الرفض القطعي.[17]
وفي روايات متعددة يظهر أن سبب الرفض كان في خوف عمر من ركوب البحر، وتشير الروايات أن عمر طلب إلى عمرو بن العاص أن يصف له البحر فكتب إليه: هو خلق كبير يركبه خلق صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد أقلق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، الداخل فيه مولود والعائد منه مولود، وراكبه دود على عود، إن مال غرق، وإن نجا فرق، فكتب عمر إلى معاوية والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبداً.
وبغض النظر عن الجانب الأدبي الإبداعي في هذه الرواية في وصف البحر، ولكن من المستبعد أن عمر بن الخطاب يخاف من البحر بهذه الطريقة الطريفة، وقد كان عمر بن الخطاب أبصر الناس بتأويل القرآن الكريم وما ذكره الله فيه من نعمة الركوب في البحر، ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام، وهو الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بامره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.
ولا بد ان يكون هناك أسباب أخرى منعت الخليفة العادل عمر بن الخطاب من التوغل في الفتح شرقاً وغرباً بعد فتح بلاد الشام والعراق، وفي تقديرنا أنه كان مختلفاً في فهمه للحرب، ولم يكن ليقبلها مطية لتوسع الملك، بل ضرورة استثنائية لحماية الأوطان وكرامة الإنسان، وكان يؤمن بالدعوة والحكمة، ويريد ان ينجز مشروعه الإسلامي الناجح على أرض العرب ومن ثم يستأنف الحوار مع الأمم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ويروي ابن الأثير رواية ذات دلالة في هدف وقف الحرب مع الروم، وفيها أن عمر قال في حزم وصرامة لعمرو بن العاص في النهي عن غزو الروم وقال: والله لمسلم أحب إلي مما حوت الروم. وإياك أن تعرض إلي، فقد علمت ما لقي العلاء مني.
وأطلق عمر بن الخطاب جهوداً دبلوماسية بالغة الأهمية بدل الحرب، وتولت ذلك زوجة عمر أم كلثوم غتواصلت مع ملك الروم بالكتابة والهدايا، وفي ذلك يقول ابن الأثير: وترك ملك الروم الغزو، وكاتب عمر وقاربه، وبعثت أم كلثوم، بنت علي بن أبي طالب، زوج عمر بن الخطاب، إلى امرأة ملك الروم بطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد، فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدية، منها عقد فاخر.[18]
وبالفعل فإن المعارك البحرية توقفت بالكامل أيام عمر بن الخطاب، واستؤنفت ايام عثمان، في غزوة ذات السواري.
وفي السياق إياه فقد توقف غزو مصر عدة سنوات أيضاً بناء على توجيه عمر الصارم الرافض للتوجه نحو مصر براً وبحراً، إلى أن نجحت جهود عمرو بن العاص في إقناعه بغزو مصر وإمكانية فتحها سلماً بدون إراقة دماء.
واستخدم عمرو بن العاص وسائل متعددة لإقناع الخليفة بغزو مصر، ومنها وفود من أهل مصر كانت تشرح للخليفة عناء أهل مصر من المحتل الرومي، وأنهم ينتظرون الخلاص على يد المسلمين، وكذلك حشد الروم القوات مجدداً في العريش لاستعادة القدس مما فرض الأسباب مجدداً لاستئناف الحرب وانطلاق الفتوح الإسلامية على الشريط الساحلي.
وحين حصل عمرو بن العاص على تفويض مشروط بالتحرك صوب العريش في مصر لمواجهة حشود رومية كانت تخطط لغزو المسلمين في بيت المقدس، تحرك من فوره، ويقال إن عمر بن الخطاب أدرك طموح عمرو وأنه لن يتوقف عند حدود حماية الدولة في سيناء والعريش وان من الممكن أن يتوسع الأمر إلى حرب شاملة في أرض مصر كتب إلى عمرو بن العاص يأمره بالتوقف فوراً عن غزو مصر، ويقال إن عمراً أدرك مضمون الكتاب ولكنه لم يفتحه حتى اجتاز العريش في مصر وأصبح داخل الأرض المصرية.[19]
وكما يثور الجدل اليوم حول الوجود العربي قبل الإسلام في مصر فقد كانت الصورة آنذاك كذلك، ومن المحتمل أن عمر بن الخطاب كان في وارد الجدل إياه، وبعد تردد في خوض السجال بمصر رأى أن الضرورة تحتم عليه إنهاء الوجود الرومي في مصر، ولأجل ذلك فقد دعم توجهات عمرو بن العاص أخيراً وأرسل له جيشاً من أربعة آلاف مقاتل تمكنوا بالفعل من إخراج الرومي من أرض مصر وبسط النفوذ الإسلامي فيها، حيث اتخذ عمرو بن العاص من مدينة الفسطاط حاضرة له في مصر، وهي البلدة التي ستصبح فيما بعد مدينة القاهرة.
ولا شك ان المتابع لفتح مصر سيجد أن المواجهة كانت دوماً مع الحامية الرومية في مصر وليس مع المصريين، وأن رغبة المصريين وبشكل خاص المقوقس بقدوم المسلمين كانت كبيرة وحقيقية للخلاص من الاستبداد الرومي.
إن ما يمكن قوله هنا هو أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب أنجز إصلاحات كثيرة في ثقافة الجهاد، وفتح أفقاً كبيراً للدبلوماسية بدلاً من الحرب، وخاصة دبلوماسية حوار الأديان في القدس، وكان يخطط لاستقرار طويل في الأرض العربية، وفتح حوار دبلوماسي مع دول الجوار للدعوة إلى الله بعيداً عن طبول الحرب.
إصلاحات عمر بن الخطاب في الجهاد والدبلوماسية:
لا شك ان عمر بن الخطاب واحد من أعظم المجتهدين في تاريخ الإسلام، وقد اشتهرت موافقاته الكثيرة التي كان الوحي يأتي فيها على نسق اقتراحه، وهي حكمة عظيمة من الله تعالى لتأكيد مصالح العباد في التنزيل الحكيم.
وتبلغ الموافقات التي رواها المحدثون لعمر بن الخطاب نحو عشرين موقفاً في حياة الرسول ومنها دعوته للقصاص من أسرى بدر، ودعوته لاتخاذ مقام ابراهيم مصلى، ومنها دعوته لاحتجاب نساء النبي، ومنها اقتراحه تحريم الخمر، ومنع الصلاة على المنافقين وغيرها، وهي اجتهادات عظيمة صنفت تحت باب موافقات عمر، وقد جمعها حامد العمادي في كتاب الدر المستطاب في موافقات عمر بن الخطاب.
ولا شك أن اجتهاداته التي رافقت نزةل الوحي لم تتوقف بانتهاء الوحي ووفاة رسول الله، وخاصة حين عهدت إليه أمانة الخلافة، حيث قدم مواقف احتهادية رائدة في جوانب كثيرة، وأدخل إصلاحات جوهرية في فهم الجهاد، وعزز رسالته النبيلة في حماية البلاد والعباد، وواجه بشجاعة تجارة الحروب وربط الجهاد بالغنائم والمكاسب، وقدم محاولات كثيرة لوقف الحرب في الشرق والغرب، وتحقيق أهدافالدعوة إلى الله عبر السلم والدبلوماسية، وتمكن من بناء دولة قوية مستقرة، جعلها نموذجاً للدعوة والحكمة والموعظة الحسنة.
في الجزية:
وفي الواقع فإن عمر بن الخطاب في وعيه بالنص القرآني لم يكن يذهب إلى نسخ بعضه ببعض في كل حال، بل يذهب إلى إعمال كل نص بمناطه وسياقه وسباقه ما أمكن ولا يلجأ للقول بالنسخ إلا عند التعارض التام بين النصوص وهو ما استقر عليه عمل الأصوليين، فاختار عدم قتال المرتدين، ثم دخل في خيار الجماعة ولكنه ظل يختار الاحتياط والتحفظ في قتالهم، والتزم متابعة المجاهدين من الصحابة ومنعهم من الرهق بحق الناس، ثم اختار أن يفتح القدس صلحاً ويحافظ على الوجود المسيحي فيها، وأخذ منهم الجزية دون أن يكونوا صاغرين، بل منحهم العهدة العمرية التي تكرمهم وتحميهم وتحول دون أي اعتداء عليهم.
وفي أخذ الجزية من أهل الكتاب المسالمين دون إهانة أو صَغار كتب الإمام الفقيه ابن رشد: الجزيةعلى ثلاثة أنواع:
- جزية عنوية: وهي هذه التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم.
- وجزية صلحية: وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم، وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح ………
- وأما الجزية الثالثة فهي العشرية: وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم.[20]
ويعتبر اجتهاد عمر بن الخطاب في أخذ الجزية من أهل القدس بدون يد وبدون صغار منهجاً تأصيلياً لما انتهى إليه الفقه الإسلامي عند ابن رشد، حيث كتب عمرعقد الجزية مع نصارى إيلياء في غاية الاحترام والود، ولم يكن في كل ما رويناه في أمر الصلح أي هوان أو صغار او مذلة.
في قسمة الأرض والغنائم:
ولكن إصلاحه الأهم في ثقافة الجهاد هو مواجهته للمهاجرين من الصحابة الذين ذهبوا لفتح العراق والشام وظنوا أن الفتح يمنحهم السيطرة على البلاد المغلوبة، وأن على الخليفة أن يقسم الأرض بين الفاتحين، كما فعل النبي الكريم يوم فتح خيبر حيث قسم الأرض على الفاتحين.
كانت السنة واضحة أمام عمر بن الخطاب، وهي أن النبي لم يلتزم أمراً واحداً في شأن قسمة الأرض على الفاتحين، فقد قسم يوم خيبر ولم يقسم يوم المصطلق ولا يوم فتح مكة ولا يوم تبوك ولا يوم ثقيف، فقد ترك الأرض لأهلها وأصحابها، وإنما كان يقسم ما أجلب عليه الأعداء من خيل وركاب، وهو السلاح والعتاد العسكري الذي استخدمه الأعداء في محاربة الجيش الإسلامي.
وإنما قسم مال خيبر وحدها دون سائر المال لأن اليهود كانوا في سبيل إعلان كانتون ديني منفصل عن الدولة الموحدة التي قامت في الجزيرة العربية، ولم يكن من العقل أن يترك هؤلاء الذين رفضوا الاندماج بالمجتمع المتوحد وأصروا على النزعات الانفصالية المؤسسة على انتمائهم الديني والطائفي، وهنا فقد كان من العقل تماماً ان يتم إحباط هذه المحاولة ومنع قيامها مجدداً، خاصة أن القبائل اليهودية التي تجمعت في فدك وخيبر ومن قبل في المدينة كانت تمارس الربا بابشع صوره، وتحمل فكرة الشعب المختار وكانت تتوعد الأوس والخزرج وقبائل العرب بالنبي الآتي الذي سيقتلونهم معه قتل عاد وإرم.
وهكذا فقد رأى النبي الكريم ان قسمة أرض خيبر هي مصلحة اجتماعية ووطنية تقررها الأمة بمؤسساتها الدستورية، ولذلك فقد أبقاهم عليها واشترط عليهم انهم أجراء وأن الدولة الإسلامية تملك حق إخلائهم متى جدت ظروف تتحقق فيها العدالة، وهذا ما منح عمر بن الخطاب الحق في إجلائهم فيما بعد.
ومع أن النبي الكريم لم ينزع الأرض من اليهود وإنما أبقاها بأيديهم بصفة مزارعين وأجراء، ولكنه قطع بذلك أحلامهم في الانفصال بكانتون طائفي وديني داخل الدولة الإسلامية الموحدة.
وهذا التمهيد ضروري لندرك الدور الإصلاحي الفريد الذي قام به عمر بن الخطاب في أعقاب ما تحقق من فتح العراق والشام خلال خلافة عمر بن الخطاب.
فقد قام عدد من الصحابة الذين شاركوا في فتح العراق خاصة وفيهم الزبير بن العوام وبلال بن رباح بمطالبة عمر بقسمة الأراضي المفتوحة على الغانمين، قياساً على سنة النبي يوم فتح خيبر، ورأوا أن من حقهم كمحاربين أن تقسم لهم الأراضي التي فتحت، وأن يكون لهم سبايا من بنات الشام والعراق كما هو العرف المتبع في الحروب آنذاك.
وهكذا فقد كان الفاتحون يعيشون أعرافهم وعاداتهم الأولى، التي كانت قائمة على تمجيد المحارب وحقه في استلاب المغلوبين، واسترقاق نسائهم، وبدا لهم أن الإسلام نفسه قد فعل ذلك يوم خيبر.
وقد قدمنا تفصيلاً لهذه الحادثة في باب دبلوماسية الرسول الكريم.
ولكن عمر بن الخطاب واجه هذه الفهم السطحي لروح الشريعة بنظر عميق في المقاصد، وفي الرواية:
كتب الفاتحون من العراق إلى عمر بن الخطاب ليقسم بينهم الأرض المفتوحة كما صنع رسول الله يوم خيبر والنضير، فاستشار عمر الصحابة، فرأى علي ومعاذ بن جبل أن لا تقسم الأرض في الفاتحين، وقال معاذ بن جبل: والله إذن ليكونن ما تكره, إنك إن قسمتها صار الربع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون, فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة, ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا وهم لا يجدون شيئًا , فانظر أمراً يسعُ أولهم وآخرهم.
وأخذ عمر بقول معاذ وكتب إليهم أن الأرض أرض الله والمال مال الله، وأنها بلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، وأن المحارب لا ينبغي أن يكون هدفه الغنائم، وإلا فهو قتال الحاهلية.
وعاد الفاتحون إلى المدينة يراجعون عمر بن الخطاب في ذلك، ويطالبونه بقسمة الأرض والغنائم في الفاتحين، وكان على رأسهم الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وبلال بن رباح.
وكان أشدهم عليه بلال، وكان يرى المال مال الأكاسرة وأن المجاهدين أولى به، حتى قال عمر: اللهم اكفني بلالاً وأصحابه، وكان لا يزال يراجعه في ذلك ويشتد عليه، حتى غضب عمر وفتل شاربيه وكان إذا غضب فتل شاربيه ثم قال:
قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء، ولئن بقيتُ ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء، ودمه في وجهه.
وقال أيضاً: أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلتزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام، كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر، لا بد لها من أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون والعلوج؟[21]
وسجلت في كتب التاريخ مساجلات وحوارات طويلة بين عمر وبين الفاتحين، ولكن عمر تمسك بموقفه العادل، وبين لهم أن خيبر كانت حالة خاصة على غير مثال لها ظروفها، وأنه ينبغي أن ينصرف ذهن المجاهد إلى أهداف الجهاد العظيمة من رد العدوان والدفاع عن المستضعفين في الأرض وإنصافهم وتحريرهم وليس إلى جمع المكاسب والغنائم.
وأسوق هنا هذا النص الفريد لعمر بن الخطاب وهو من رواية البخاري ومالك في حكم الحمى، والحمى هي بعض الأراضي التي تخصصها الدولة للاستثمار أو للأغراض العسكرية، ويشتمل النص على بيان حقوق أصحاب الأراضي المفتوحة وكف المحاربين عن امتلاك الأرض غنائم أو فيئاً، كما يشتمل أيضاً على تحذير شديد من سلوك بعض المجاهدين في اكتناز الثروات من الحرب، واستغلال الجهاد والفتح للسيطرة على أموال الناس وأرزاقهم:
عن زيد بن اسلم عن ابيه ان عمر استعمل مولى له يدعى هنياً على الحمى، فقال يا هنيّ.. اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة[22]، واياك ونعم بن عفان وابن عوف فإنهما ان تهلك ماشيتهما يرجعان الى زرع ونخل….. وان رب الصريمة ورب الغنيمة ان تهلك ماشيته يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين…. أفتاركهم انا؟؟ لا ابالك!! فالماء والكلأ أيسر على من الذهب والورق…..[23]
ثم تحدث عن حقهم في أرضهم ورزقهم فقال: انهم ليرون اني قد ظلمتهم…. انها لبلادهم قاتلوا عليها فى الجاهلية وأسلموا عليها فى الاسلام، والذى نفسى بيده لولا المال الذى أحمل عليه فى سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً.
وهكذا فقد قام عمر بن الخطاب بإصلاح جوهري في فقه الجهاد، وقطع تقاليد الحرب التي كانت سائدة في تلك الفترة من الزمن، وألغى مبدأ سيادة المنتصر على المهزوم، وراقب بدقة توجهات أمراء الحرب، ودعا إلى ان تكون الحروب في أضيق نطاق، وان تتوقف كل الأطماع التي تحرك المحاربين للقتال، من الغنيمة والفيء والمكاسب، وبذلك تحدد الجهاد في هدفه الرئيس وهو رد الاعتداء: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وهذه المعاني متصلة تماماً بهدي القرآن الكريم حيث عاب القرآن الكريم أشد العيب على أولئك الذين يخرجون إلى الجهاد من أجل الغنائم وينازعون فيها: سيقول المخلفون من الأعراب إذا انظلقتم إلى مغانم كثيرة ذرونا نتبعكم قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا (سورة الفتح 15).
وهي تتصل مباشرة بنهي القرآن الكريم عن اكتناز الثروات بالحروب، ووجوب أن توزع المغانم في تحقيق العدالة الاجتماعية، ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم. (سورة الحشر 7)
ويعتبر هذا الإصلاح أهم إصلاح جوهري في رسالة الجهاد، وفيه كف أيدي المحاربين عن قسمة الأموال والإدارة الاقتصادية، وأعاد الاعتبار إلى الدور المركزي للدولة في إدارة الاقتصاد، والاحتفاظ بقرار الحرب بيد الدولة، والتأكيد على دور المحاربين في حماية البلاد والدفاع عن الناس ومنع تحولهم إلى أمراء حروب.
لا يرتوي القلم من روائع فقه عمر بن الخطاب واجتهاده في بناء الحياة والعدالة، بعد أن صارت إصلاحاته مدرسة مضيئة في الفقه الإسلامي ، وأصبحت معلم إبداع ونور في الفقه الحقوقي العالمي.
الإمام الجليل الحسن بن علي
عميد الوحدة الإسلامية
الدبلوماسية بدلأ من الحرب
3- 50 هـ 625 – 670 م
يعتبر الإمام الحسن أبرز قائد إسلامي نجح في تجنب الحرب الأهلية، وقد تمكن من إنهاء حرب طاحنة استمرت ستة أعوام ووفر سلماً اجتماعياً نبيلاً استمر عشرين سنة تالية، وظل رمزاً للإخاء والاستقرار في المجتمع الإسلامي.
والحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله من ابنته فاطمة، وفي تكريم الإمام الحسن قال النبي الكريم : “إن ولدي هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”
وسندرس في هذه الفقرة دور الإمام الحسن بن علي عليه السلام في اعتماد الدبلوماسية بدلاً من الحرب وبالتالي رسالته في إنهاء حرب مريرة استمرت ست سنوات وكلفت المسلمين آلاف القتلى في معارك الجمل وصفين وما كان بين يديها من حروب ومنازعة.
وكان من المنطقي أن نشير هنا إلى دور معاوية بن أبي سفيان في إنجاز هذه المصالحة التاريخية، ونجاحه الدبلوماسي في قيادة مفاوضات وقف الحرب، ولكن الموقف الأخلاقي يقتضي أن يكون تحقيق هذا النجاح للإمام الحسن الذي امتلك المبادرة بشجاعة وقاد التحول نحو الدبلوماسية والحوار بدل الانخراط في الحرب والمناكفة.
على أنه لا ينكر الدور الدبلوماسي الحكيم لمعاوية بن أبي سفيان، وقيامه بتجنيب الخلافة عدة معارك، وتأمين استقرار بلاد الشام عشرين عاماً في أمارته وعشرين عاماً في خلافته، ولكن سنقتصر في الحديث عن الإمام الحسن، بهدف التركيز على دوره الإيجابي في بناء السلم على منهج النبوة.
ولي الإمام الحسن بن علي الخلافة بعد أن تمكن الخوارج من قتل الإمام علي في محراب العيد، في شوال عام 40 للهجرة في مدينة الكوفة، وقد جاء ذلك في أعقاب حربين طاحنتين بين علي وخصومه يوم الجمل ويوم صفين وراح فيهما على أقل تقدير آلاف الضحايا.
وفي أجواء بالغة الانفعال والثورة أقبل الناس يبايعون الإمام الحسن على الخلافة بعد أبيه، وقد تلقى حشداً كبيرا من المبايعات في الكوفة والمدينة واليمن، وبايعه ثلاثة وأربعون ألفاً كفلاء على من وراءهم من قومهم، وكانت بيعة شديدة مباشرة، يبايعونه الدم الدم والهدم الهدم…. وكانت غاية المبايعة دون شك قتال الخوارج وقتال معاوية ومن معه في الشام، وقد تمت مواعدة الثائرين بعد ستة أشهر في الكوفة لإنجاز الحسم ضد معاوية وجيشه.
ولكن الحسن بن علي كان في الواقع رجل دبلوماسية وعقل، وتسامح وصلح، وهكذا وصفه الرسول الكريم: لعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين.[24]
بدأ الحسن حراكه الدبلوماسي من الأسابيع الأولى، ومع أن كتائب الموت كانت تعقد له البيعة على حرب معاوية، ولكنه كان ينظر في أفق آخر، وأدرك أن الثار كماء البحر لا يزيد شاربه إلا عطشاً، وأن الثار يستجلب الثأر، والموت لا يجلب الحياة، وراى ان معاوية قد نجح خلال عشرين عاماً من حكمه في الشام أن يثبت أركان الدولة، وأن منازعة الملك يعني لا محالة الدخول في حرب أهلية لا يعلم نهايتها إلا الله.
مضت على بيعته شهور، ونظر حال الأمة حينئذ، ورأى ما يتقلب الناس فيه من الفرقة والضياع، وأيقن أن الخلافة ستكون مضرجة بالدم، وأن الوصول إلى الخلافة لن يتم دون حرب طاحنة، تراق فيها الدماء والأرواح.
وبدأ الحسن بالفعل مشروعه للتواصل مع معاوية، وفي شجاعة نادرة اختار الحسن برنامجاً حكيماً يفضي إلى وقف الحرب وبناء المصالحة.
كانت المفاجأة كبيرة على معاوية حين علم ان الحسن يرغب في الصلح، ويبحث عن حل دبلوماسي، وحين تحقق من ذلك أرسل إليه صفحة بيضاء وقد وقع في أسفلها وطلب إليه أن يشترط ما يشاء، وبالفعل بعد عدة جولات من المراجعات اشترط الحسن شروطاً محددة، وتم الاتفاق بين الرجلين على تخلي الحسن عن الخلافة حقناً للدماء وإيثاراً لمصلحة الأمة.[25]
كان الصلح بين علي ومعاوية يتم في مفاوضات سرية، أو قل إنها غير معلنة، فيما كان الناس في العراق يستعدون ليوم الفصل لحرب معاوية وانتزاع الخلافة منه، وعلى هذا بايعوه، وواعدهم ستة أشهر.
وآثر جانب الله على هوى أصحابه، وجعل يتصل بخصومه يدعوهم إلى مشروع رشد وجماعة، وواعد الناس بمسجد الكوفة آخر ربيع الآخر، واجتمعت في مسجد الكوفة الألوف المؤلفة غاضبة ثائرة، مشرعة السيوف، على جباههم عصائب الدم، وقد ادّهنت بالقطران، حتى إذا صارت جماجم العرب بين يديه يحاربون من حارب ويسالمون من سالم، فوجئ الناس حينئذ بإمامهم وزعيمهم عميد أهل البيت يدخل المسجد يداً بيد مع خصمه معاوية، ومشى حتى قام على المنبر، وألقى كلمته الخالدة التي ينبغي أن تكون دستور الوحدة الإسلامية الباقية، وها أنا أجمع أطرافها من روايات ابن عساكر والطبري.
قال في كلمته على منبر الكوفة: (يا أيها الناس.. إنما نحن أمراؤكم ضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً..) فكررها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يخن بكاء.
ثم قال: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. ويحقن دماءكم بآخرنا.. وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور….
لم يكن كثير من الناس يعلم ما أنجزه الإمام الحسن من شأن الصلح، وكانوا يحسبون أنهم ذاهبون إلى جهاد طاحن، فيما كان الإمام الحسن قد انجز الصلح مع معاوية ولم يبق إلا إعلانه في الناس.
وبعيون طافحة بالعزيمة واليقين قال الامام الحسن بصوت حاسم:
أيها الناس: إن هذا الأمر الذي اختلفت فيه مع معاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أدفعه إليه، أو حقاً لي فأنا أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم!
وضج الناس بما يسمعون ولم يكن غالبهم عارفاً بما تم من أمر المصالحة، ولكن الامام الحسن كان موقناً بما يصنع، والتفت إلى معاوية بنظرة قاسية وقال:
إن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين.
ثم استغفر الله ونزل……[26]
كان مشهداً عجباً، وكان معاوية عند المنبر حين نزل الإمام الحسن، وصعد بعده المنبر وقال كلمات لم يحفظها أحد من الرواة، فقد كانت كلمات الحسن قد اخذت عليهم كل مأخذ، ولم يعد في هم الناس إلا أن يعرفوا سبب إعراض الحسن عن الخلافة والمجد على الرغم من بيعة الآلاف له على الموت.
وخلال مهرجان الصلح والسلم جاء شقي من الأشقياء وهمس في أذن الحسن: يا مذل المسلمين!!
فالتفت إليه عميد أهل البيت، وقال له كلمته الخالدة: العار ولا النار!!…
وسلم الحسن بن علي الكوفة لمعاوية ثم خرج صوب المدينة، وخرج في ركبه أصحابه وإخوانه وأهل بيته في مشهد من الغم شديد، فقد ترك الرجل الخلافة، وبدا معاوبة منتصراً بما جرى، فيما بدا الحسن بسيطاً مغبوناً في نظر أصحابه، وحين عاتبوه في ذلك قال لهم الإمام الحسن:
كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد إلا غلب، ليس أحد منهم يوافق آخر في رأي ولا هوى، مختلفين لا نية لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أمورا عظاما، فليت شعري، لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خرابا.
وكان يقول بعد ذلك: (قد كانت جماجم العرب في يدي، يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه؟
ثم قال: والله ما أحب أن تكون لي خلافة محمد وأن يراق من المسلمين محجمة دم.
ولا بد أن نشير هنا إلى الدور الدبلوماسي الأخير في هذه المصالحة العظيمة الذي قام به معاوية، ذلك ان جند الحسن بن علي وكانوا نحو أربعين ألفاً بقيادة قيس بن سعد بن عبادة، كانوا لا يزالون في تمنعهم من أمر الصلح، حيث لم يصدق كثير منهم أن الصلح قد تم بهذه السهولة، وكان هتافهم ونداؤهم رفض المصالحة والدفاع عن أهل البيت في وجه بني أمية.
أما معاوبة فقد رأى فيهم خطراً داهماً، وراى أن بيعة الحسن لمعاوية لن تنهي الخصام، وكان عليه أن يواجه التمرد، ومع أن انتصاره عليهم كان شبه مؤكد بعد أن بايعه إمامهم الحسن، ولكن معاوية اختار الدبلوماسية بدل الحرب.
وأرسل معاوية إلى قيس بن سعد يذكره الله ويقول: على طاعة من تقاتل؟ وقد بايعني الذى أعطيته طاعتك؟!
فأبى قيس أن يلين له، وعلى الرغم من انفراط عقد الحيش وانصراف كثير منه بعد سماعهم بالصلح بين الحسن ومعاوية، ولكن معاوية لم يشأ أن يحسم الأمر بالحرب، وقال له بعض مستشاريه أرسل فيهم جندك فقد ولى صاحبهم، ولن يلبثوا إلا يوماً أو بعض يوم حتى تكون مصائرهم بيديك!
ولكن معاوية نظر بعين أخرى وقال له: على رسلك… فانا لا نخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتلوا أعدادهم من أهل الشأم، فما خير العيش بعد ذلك وإنى والله لا أقاتله أبدا حتى لا أجد من قتاله بداً.
وبدلاً من الحرب أرسل معاوية إلى قيس بن سعد سجلاُ أبيض قد ختم في أسفله وقال أرسل إليه معاوية بسجل قد ختم عليه في أسفله فقا:ل اكتب في هذا السجل ما شئت فهو لك !!
وبعد تردد، قنع قيس بالعرض الأموي، واشترط قيس لنفسه وأصحابه ما أراد، وخلال أيام انصرف ذلك الجيش المحارب، بعد أن توفرت لهم حياة كريمة عبر شروط قيس، وتمكن معاوية أن يعبر بهم إلى بناء جيش موحد من أهل الشام وأهل العراق، وانتهت فتنة طاحنة كادت تودي بارواح عشرات الألوف من الناس.[27]
وقد عرف المسلمون فضل ذلك اليوم، وسموا ذلك العام كله عام الجماعة، وعرفوا فضل الإمام الحسن، الذي لا بد أنه أقدم على ما أقدم عليه من غير جبن ولا خور، ولا شك، ولا وهن، وقد علمت سائر الأمة أن الحسن خير عند الله من طلاع الأرض من أخصامه، ولكنها رسالة الصلح التي بشره بها النبي الكريم، وها هو ينجز بالدبلوماسية الحكيمة ما عجزت عنه الحروب الدامية، ويتمكن من توفير عشرين عاماً من الأمن والسلام في العراق وبلاد الشام وجزيرة العرب.
عمر بن عبد العزيز
خامس الخلفاء الراشدين – أمير السلام والدبلوماسية
99-101 هـ 710-712 م
حظي الخليفة الراشدي عمر بن عبد العزيز باحترام المسلمين كافة، ومع أن فترة حكمه لم تتجاوز سنتين ونصف ولكنه أنجز إصلاحات كثيرة وتمكن من فرض قيم جديدة للسلم خلال فترة حكمه التي امتدت بين عامي 99 و101 هجرية (710-712) ميلادية، وحققت من الازدهار والعدالة ما لا مزيد عليه، حتى أطبق المؤرخون على تسميته خامس الخلفاء الراشدين.
جاء عمر بن عبد العزيز في ايام مجد الدولة الأموية حيث أنجز الأمويون فتح الساحل الافريقي كله ودخلوا الأندلس عام 92 وأصبحوا يمثلون وجوداً مؤثراً في القارةالأوروبية، كما أنهم كانوا يحاصرون القسطنطينية، أما في الشرق فقد توغلوا على تخوم الصين، ووصلوا كاشغر بقيادة قتيبة بنمسلم الباهلي.
كانت الانتصارات المتتالية في الفتوح قد عززت ثقافة القوة والتغلب، وأصبحت الحرب للحرب، أما رصد الجهود الدبلوماسية والحوارية فيمكن القول إنها كانت تعيش ظروف الدبلوماسية في خدمة الحرب وليس الدبلوماسية بدل الحرب.
كان عمر بن عبد العزيز من أشد الناس كراهية للحرب، وكان على خصومة شبه دائمة مع الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان أشهر قادة بني أمية وأشدهم بطشاً وفتكاً، وكان لا يكتم موقفه المطالب بعزله ومحاسبته، وقد صرح بذك مراراً للخلفاء الوليد وسليمان، وفي مجالس مختلفة، حتى قال لهم يا معشر بني أمية والله لوجاءت كل أمة بذنوبها وجئتم بالحجاج بن يوسف الثقفي لغلبتم سائر الأمم.
وكان يمثل داخل البيت الأموي الجناح المناصر لحقوق الناس والمدافع عن كرامتهم، وكان يجتهد في وقف المظالم، وقد ولي المدينة ست سنوات، واشتهر فيها بالعدل والرحمة.
وكان في حياته موقف لا ينساه وهو جلده لخبيب بن عبد الله بن الزبير، فقد نفذ فيه امر الوليد بن عبد الوليد بن عبد الملك في جلده وصب الماء البارد عليه، وقد ادى ذلك إلى وفاته فيما بعد، وقد ندم عمر ندماً شديداً للذي صنعه بخبيب ولما بلغه خبر وفاته استقال من منصبه في حكم المدينة على الفور، ودفع ديته لأهله، وكان إذا ذكر له خبيب يكاد يصرع من شدة الجزع، وكان إذا خاطبه الناس بثناء أو حمد يقول حزيناً: فكيف بخبيب؟؟ يريد موقفه من خبيب وطاعته للوليد في ضربه وتعذيبه.
كانت إصلاحات عمر بن عبد العزيز كثيرة ولكن ما يعنينا هنا هو موقفه من الحرب، وتعزيزه للدور البدلوماسي وقد ظهر موقفه هذا في الواقع بعد أنتولى الخلافة عام 99 هجرية.
فقد أعلن من البداية أن الإسلام رسالة حكمة وموعظة وليس رسالة حروب وغزو، وأطلق سفراءه إلى الدول المجاورة يحمل مبادرات متعددة للحوار والدبلوماسية.
وفي رصد هام من الجانب الأوربي لعصر عمر بن عبد العزيز كتب ول ديورانت في قصة الحضارة: قرَّب عمر بن عبد العزيز إليه أتقى العلماء في الدولة، وأتخذهم له أعواناً ومستشارين، وعقد الصلح مع الدول الأجنبية، وأمر برفع الحصار عن القسطنطينية وعودة الجيش الذي كان يحاصرها، واستدعى الحاميات التي كانت قائمة في المدن الإسلامية المعادية لحكم الأمويين[28]
وخلال الشهور الأولى من خلافته يمكن رصد تطور الأمور عبر الجبهات الثلاثة:
وقف الحرب في القسطنطينية:
ففي الشمال كان المسلمون يحاصرون القسطنطينية، وكان هذا الحصاريستهلك خزينة الدولة حيث يشارك به كبار أمراء بني أمية، وعلى رأسهم مسلمة بن عبد الملك وهو شقيق الخلفاء الأربعة، وكان الحصار يتم على الجانب الآسيوي من القسطنطينية، حيث أدى الحصار الطويل إلى ترهل كبير في الأداء ونفقات هائلة في العطاء.
كما كان هناك جيش آخر يحاصر القسطنطينية من جهة البحر بقيادة هبيرة بن عمر، ولا شك ان نفقات هائلة كانت تلزم الدولة الانفاق على الجيشين في حصارهما المرير للقسطنطينية.
ومن المعلوم أن حصار القسطنطينية بدأ مبكراً حيث ذهبت أول حملة لفتح القسطنطينية أيام عثمان بن عفان وشارك فيها أبو أيوب الأنصاري، فهي مستمرة إذن منذ نحو سبعين عاماً، وهي ترتبط عادة ببشارة النبي الكريم لفاتح القسطنطينية وهي بشارة كان يتمناها كل واحد من قادة الفتح: لتفتحن لكم القسطنطينية فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش.
وقد كان الوجود العسكري في الشاطئ الشرقي للقسطنطينية مع غياب المشروع الحواري سبباً في تكتل الدول الأوروبية ضد الوجود الإسلامي، وقد أسس ذلك لتعاون بين الممالك المتعادية في أوروبا الشرقية من بلغار وبلقان ويونان للتعاون في صد المسلمين، وكان ذلك يشكل من وجهة نظر عمر بن عبد العزيز انتكاسة حقيقية لجهود المسلمين في نشر الدعوة والسلم في الأرض.
وأدرك عمر بن عبد العزيز أن الحصار ليس السبيل المناسب لفتح القسطنطينية، وأن ظروف الفتح العسكري غير متوفرة، وأن الفتح يمكن أن يتحقق من خلال الدبلوماسية والحوار والحكمة والموعظة الحسنة، وقرر وقف الحرب على القسطنطينية.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة بن عبد الملك يامره بالقفول وكان يحاصرها من جهة البر، كما كتب لهبيرة بن عمر وكان يقود حصاراً بحرياً على القسطنطينية وكان معه مقاتلون من مصر وليبيا، وأمره بالانسحاب على الفور والحضور لدمشق.
وكان فتح القسطنطينية يتم بدوافع انفعالية غير واقعية، ولم تكن هناك مصلحة حقيقية للمسلمين بالاستمرار في حصار القسطنطينية ولا توجد مؤشرات حقيقية على قدرة المسلمين على دخولها أو بسط السلم فيها،وكان سليمان بن عبد الملك قد أمر بغزو القسطنطينية وحشد لها قوات كثيرة وأنفذ أخاه مسلمة لفتحها، وظلت قوات مسلمة تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها، واستنزفت بذلك أرواحاً وأموالاً طائلة دون جدوى.
وكان سليمان بن عبد الملك مصراً على فتح القسطنطينية ولكن ذلك لم يكن واقعياً على الإطلاق وقد اشتد الضنى على المحاصرين، واشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع.
ولجّ سليمان في أمر الفتح، لا يرضى أفولهم حتى يفتح عليهم، فكان ذلك يغمُّ عمر، الذي صرح بوضوح إن الحصار غير واقعي، وهو إيراد للنفوس في المهالك، وإنفاق للمال في المسالك، ولا يزيد الناس عن الإسلام إلا بعداً.
فلما ولي رأى أنه لا يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين.[29]
وبالفعل فقد رفع المسلمون حصارالقسطنطينية وعادت الجيوش إلى الشام ، وبدأ عمر برنامجاً دبلوماسياً لبناء علاقات حسن جوار مع الروم في بلاد الأناضول وعلى تخوم القسطنطينية.
وجاءت الايام بصدق ما فعل عمر بن عبد العزيز، إذ لم تكن أية ظروف واقعية متوافرة لهكذا لون من الفتح، وكان علينا أن ننتظر سبعمائة سنة أخرى حتى تتوفر الظروف لمحمد الفاتح في استئناف فتح القسطنطينية من جديد.
إصلاح واقع الأندلس:
أما في الأندلس فقد كان موقفه أشد عجباً، فقد فتحت الأندلس أيام الوليد بن عبد الملك قبل خلافة عمر بنحو سبع سنين، على يد طارق بن زياد وموسى بن نصير، حيث استفاد موسى بن نصير من خلاف الكونت يوليان مع رودريك ملك القوط ودخل بناء على دعوة يوليان إلى الأندلس وحارب ببسالة الجيش القوطي، وتمكن من تأسيس موطئ قدم للمسلمين في الأندلس.
واعتبر ذلك الفتح أعظم انتصارات بني أمية، وأول دخول للإسلام إلى القارة الأوروبية، وبالتالي اعتبر أهم حدث عالمي في القرن الثامن الميلادي..
ولكن الفتح لم يكلل أبداً باستقرار مقنع في الأندلس، وتصرف الفاتحون كمحاربين قساة، ولم ينجحوا في بناء الجسور مع الشعوب الأصلية، وتصرفوا مع الاندلس كتابعة للشمال الأفريقي، حيث كان موسى بن نصير يحكم المغرب الأوسط والأقصى، وهو ما زاد من مخاوف السكان وزاد من نفورهم تالياً من الإسلام وقيمه، وأصبح اللقاء المتاح بين الحضارة الاسلامية والشعوب المحلية هو في ظلال السيوف والحتوف، ومن المؤكد أن هذا الواقع لن يقود إلى تحول الأندلسيين إلى الإسلام، بل إلى زيادة مشاعرهم العدائية ضد الفاتحين وضد الدين الذي جاؤوا به.
وكان للنزاع الذي نشب بين موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد وتالياً عبد العزيز بن موسى بن نصير أثر سلبي في صورة الفتح الإسلامي للأندلس، وقد انتقل الخصام الى دار الخلافة وتلطخ بدسائس البلاط أيام الخليفة سليمان، وانعكس بمزيد من القرارات الثأرية المتعجلة في المغرب والأندلس، ودخلت البلاد في فوضى لا تبشر بخير.
وهكذا بدا دخول الأندلس بالنسبة لعمربن العزيز مغامرة غير محمودة العواقب، وبدا له ان العلاقة مع القارة الأوربية يجب أن تخضع لقواعد أخرى، واننا لن نستطيع أن نقدم هداية للأندلسيين عبر جيوش محاربة.
كان قرار عمر بن عبد العزيز الخروج من الأندلس، ولا شك أن قراراً كهذا كان يمثل استراتيجية ثورية في سياق الأحداث وتطوراتها، ولم يكن من السهل اقتناع الناس بمبدأ عمر بن عبد العزيز في وقف الحروب وفتح الحوارات وخطوط الدبلوماسية، ولكنه مضى في موقفه هذا وأرسل والياً جديداً على الأندلس وهو السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه بإخلاء الأندلس من المسلمين إشفاقاً عليهم، إذ خشي تغلّب العدو عليهم لانقطاعهم من وراء البحر عن المسلمين.
وبعد أن تسلم السمح مقاليد الأندلس، ووقف على الواقع عن قرب، بدا له أن الانسحاب من الأندلس ستكون له عواقب سلبية جداً، ولن يؤسس لبرنامج هدابة وإصلاح كما يأمله عمر، كما أنه سيكون محفوفاً بالمخاطر وسيكون له عواقب كارثية للذين وقفوا مع الفتح من الأندلسيين، فكتب إلى الخليفة يقول: “إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، وان أهل الأندلس يزدادون إسلاماً” [30] وأكد له أن الزمن كفيل ببناء علاقات إيجابية مع الناس فيها.
ومع أن عمر لم يتمكن من سحب الجيوش من الأندلس لأسباب موضوعبة ولوجستية ظاهرة، ولكنه أدخل إصلاحاً جوهرياً فيها حين رفع عنها تبعية الشمال الأفريقي، وقرر أن أمراءها يرسلون من الخلافة مباشرة، ووطأ لقيامها دولة مستقلة، وهذا بالفعل ما حصل بعد 36 عاماً حين وصل إليها عبد الرحمن الداخل وأسس لدولة إسلامية أندلسية مستقلة تعنى بشؤون أوروبية بحتة وتسهم في بناء القارة الأوربية على أساس من قيم الإسلام.
وقف الحرب وإطلاق الدبلوماسية في الصين:
أما في الجانب الشرقي فقد كانت حملات قتيبة بن مسلم الباهلي قد بلغت تخوم الصين وفي عام 94 هجرية 714 ميلادية اشتهرت غزوات قتيبة في سمرقند وبخارى، مستأنفاً فتوحات الأحنف بن قيس وحذيفة بن النعمان في إيران، وقد اندفع قتيبة شرقاًحتى وصل إلى كاشغر داخل الصين الحالية اليوم، ولكنه لم يقاتل أهلها، واكتفى بمراسلة ملك الصين عبر وفد يرأسه هبيرة بن المشمرج، ولسنا ندري تماماً من هو ملك الصين المقصود أهو الامبراطور XuanZong كزان زونغ الذي كان بالفعل حاكما للصين آنذاك من أسرة تانغ وعاصمتها تشيان، أم كان حاكما محلياً في تركستان الشرقية[31] (سينكيانغ) وفي القصة أن المفاوضة انتهت بشكل ودي بين هبيرة والملك الصيني، وزوده بهدايا نفيسة لقتيبة، كما أرسل له بعض تراب الصين ليبرَّ قسمه الذي أقسمه أن يطأ أرض الصين، وانتهى الأمر عند هذا الحد.
وكان أول اتصال رسمي بين الصين والخلافة قد بدأ عندما أرسل الخليفة عثمان بن عفان مبعوثين إلى الصين لمقابلة إمبراطور أسرة تانغ، الإمبراطور قاو تسونغ في تشانغآن (شيآن حاليا) في أغسطس عام 651 ميلادية، فكان ذلك بداية الحوار الحضاري بين الأمتين الصينية والعربية، هذه المقابلة سُجلت رسميا في المجلد الرابع من كتاب أسرة تانغ القديم.[32]
وقد أشار المقدسي في البدء والتاريخ إلى أن عثمان بن عفان أرسل عبد الله بن عامر ومجاشع بن مسعود في طلب يزدجرد ملك فارس المهزوم فتعقباه في اصطخر ثم في كرمان ومرو الشاهجان وسجستان ويبدو أنهما توغلا في الأراضي الأفغانية، وذكر ابن المقفع أنهما حملا إلى صاحب الصين الهدايا النفيسة وأغلب الظن أن هذا المسير هو ما أشارت إليه المراجع الصينية في كتاب أسرة تانغ القديم.
ومن المعروف أن يزدجرد ملك فارس لجأ إلى ملك الصين يستنصره لإرسال جيش لقتال العرب، ولكن ملك الصين اختار موقفاً واقعياً حين اعتذر إليه لبعد بلاده عن فارس وأنه بدلاً من ذلك سيرسل رسلاً إلى الخليفة عثمان ليقف على حقيقة الأمر ويوفر لأسرة كسرى عودة كريمة لديارهم، فيما يعتبر واحدة من الوساطات الدولية المبكرة.
وقد انتبه عثمان بن عفان لأهمية هذا المبعوث الصيني فأرسل في إثره وفداً خاصاً إلى ملك الصين يشرح له أهداف الرسالة وطبيعتها، وقد أحسن الملك الصيني وفادة الرسل العرب، كما أن الرسل العرب أحسنوا الوفادة على ملك الصين، وتم تبادل الهدايا بين الحاكمين على أساس دبلوماسي بحت دون إشارة كافية للدعوة إلى الإسلام.
ولا شك أن نجاح التواصل بين الخلافة الراشدية أيام عثمان وبين الصين يعتبر نجاحاً دبلوماسياً كبيراً، ولعله كان أهم الأسباب في استقرار الإسلام في بلاد فارس حيث كرس هذا التواصل وضع نجل الامبراطور الفارسي فيروز بن يزدجرد كلاجئ سياسي مع أسرته في مناطق نفوذ الصين في تركستان ، وبدلاً من أن يكون ملوك الصين كفلاء ثورته الدامية أصبحوا وكلاء إقامته الدائمة في الصين، وانتهت بذلك طموحاته في شن حروب مقاومة مدعومة من الصين لاسترداد بلاد فارس من العرب.
وقد استمر هذا الموقف من التبادل الدبلوماسي والسلم نحو خمسين عاماً بين الصين والخلافة الأموية حتى وصل قتيبة إلى تخوم الصين، وتوغل إلى كاشغر ودخل تركستان الصينية، وأرسل سفيره هبيرة بن المشمرج إلى ملك الصين في عمل طافح بالتحدي كما بيناه قبل قليل.
ولكن هذه الانتصارات لم تبد ذات بال في رأي عمر بن عبد العزيز وهي انتصارات يتلقاها الناس عادة بالابتهاح والتمجيد على أنها مظهر قوة الأمة وشموخها، وانها تحقق انقياد الملوك الى سطوتها وجبروتها، ولكن عمر بن عبد العزيز كان يراها في سياق آخر، وكان يرى هذا اللون من التحدي لا يخدم رسالة الهدى إلى الإسلام، وكان يراه مقدمة لإشعال الحروب، وأي فائدة للمسلمين أن يدخلوا في حرب مع أمة الصين العظيمة قد لا تنتهي بقرون طويلة.
ولم يكن عمر بن عبد العزيز قانعاً بحروب قتيبة، ولم يكن يكتم موقفه من هذه الفتوح، خاصة أن قتيبة كان من رجال الحجاج المقربين، وكان عمر بن عبد العزيز يتوعد الحجاج في مناسبات كثيرة، ويعتبره طاغية غاشماً، وكان عمر يرى أن كثيراً من هذا القتال ليس مبرراً وكان يرى أن الحكمة والموعظة الحسنة تكفي في كثير من المواطن ولا حاجة للحرب.
وخلال شهور قليلة من حكمه جمع عمر بن عبد العزيز اعتراضات السكان المحليين في آسيا الوسطى على طبيعة الفتوح التي حققها قتيبة بن مسلم الباهلي، ولم يكن يشارك الناس فرحهم بهذه الفتوح، فقد كان يرى أنها تتم على حساب مبادئ الإسلام في العدالة والحرية والإنصاف، واستقبل وفداً من رجال سمرقند الذين اعترضوا أشد الاعتراض على فتح قتيبة لبلادهم بالحرب والقوة دون إتاحة الفرصة للدبلوماسية والحلول الممكنة لتجنب الحرب.
وعلى الفور شكل عمر بن عبد العزيز لجنة قضائية عليا لدراسة الفتوح التي وقعت في المشرق الإسلامي أيام قتيبة بن مسلم، وكان يعتقد ان هذه الفتوح لم تتم وفق مبادئ الإسلام السمحة، وكان شكه ذلك بسبب دور الحجاج فيها خاصة أن قتيبة كان من رجال الحجاج المقربين، وأن الحجاج هو الذي قدمه لهذه المواقع، وأنه كان يسير في البلاد المفتوحة بسيرة الحجاج.
وبالفعل شكل عمر بن عبد العزيز أعجب لجنة قضائية في ذلك العصر برئاسة القاضي المعروف جميع بن حاضر، وانطلقت اللجنة القضائية إلى سمرقند لتستمع شكوى الناس وشهادات الشهود، وبعد عدة شهور استمعت فيها اللجنة لأطراف القضية من الأطراف كافة صدر قرار مبرم من الهيئة القضائية بأن الفتح الذي قام به قتيبة بن مسلم لم يلتزم معايير الإسلام وأنه تم عبر مباغتة وخديعة لا تلتزم أحكام الإسلام في السلم والحوار، وبنتيجة ذلك فإن الهيئة أمرت بسحب جيش قتيبة بن مسلم من سمرقند وما حولها بشكل خاص.
كان فتح سمرقند قم تم قبل ذلك عام 92 هجرية والأرجح أن قتيبة قد مات عام 96 هجرية فيما ولي عمر بن عبد العزيز عام 99 ومع ذلك فإن مرور سبع سنوات على الفتح، وموت قتيبة لم يؤخر عمر بن عبد العزيز على القيام بواجبه في تحقيق العدالة.
ومن المؤسف أن الرواة الذين يوردون هذا الموقف الشهير في خروج الجيش من سمرقند يوردونه في سياق حالة فردية، أو يربطونه بما سبق من كراهية عمر بن عبد العزيز للحجاج ورجاله، ولا يضعون الحدث في سياقه الطبيعي وهو المراجعة الشاملة التي قام بها عمر بن عبد العزيز لأحكام الجهاد، ووجوب فتح خيارات الدبلوماسية بدل الحرب ووضع حد لمغامرات الجيوش في الغزو والفتح التي كان يتم تبريرها عادة بعنوان الجهاد، دون أن يناقش ما يدور في سياقها من مظالم ومخالفات وتجاوزات.
وكان أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز لواليه على سمرقند سليمان بن أبي السرى بالانسحاب الفوري من سمرقند مدهشاً للناس، وربما كان أول انسحاب لجيش ظافر من أرض مفتوحة لسبب أخلاقي بحت.
وهكذا فإن المراجعات الحقوقية لعمر بن عبد العزيز بشان سمرقند كانت السبب الأهم وراء وقف الحرب بين العرب والصين، وكان لسياسات عمر بن عبد العزيز الشجاعة في التحقيق في أمر الفتوح الإسلامية على تخوم الصين وسحب الجيش الإسلامي من سمرقند وما حولها أثر كبير في بناء العلاقات الودية والدبلوماسية الحكيمة، وتم إعادة إطلاق طريق الحرير وما يرتبط به من نشاط دبلوماسي وتجاري واحتماعي.
وقد طبعت هذه العلاقات الودية بطابعها السلمي والأهلي أطيب العلاقات بين العالم الإسلامي وبين بلاد التركستان، ومن حسن التقدير أن تركستان الشرقية اختارت الإسلام محبة وكرامة، ونشأت علاقة ودية بين بلاد التركستان الإسلامية والحكام الهان الصينيين آنذاك.
وبعد انسحاب جيش قتيبة من سمرقند ووادي فرغانة وكاشغر، دخل كثير من الناس في الإسلام، ومع ذلك وخلال أكثر من مائتي عام ظل الخانات المحليون على تخوم الصين يحكمون هذه البلاد بعقائدهم وشرائعهم الأولى ونشأت بينهم وبين المسلمين في آسيا الوسطى الذين كانوا تحت حكم الدولة السامانية أيام العباسيين علاقات ودية وحسن جوار ومحبة للإسلام توجت في النهاية بقرار تاريخي اتخذه الخاقان ستوق باغرا خان الذي اختار الدخول في الإسلام عن محبة ورضا، تجاوباً مع التحول الشعبي للإسلام آنذاك، وتم إعلان التركستان الشرقية بلداً إسلامياً طيباً عام 964 ميلادية، وتم التواصل بين هذه البلاد الطيبة وبين بلاد العرب عبر قوافل الحج والتجارة، على طريق الحرير.
وفي استطراد سريع نشير إلى أن المرة الوحيدة بعد عمر بن عبد العزيز التي وقع فيها قتال بين العرب والصين فقد كانت عام 751 ميلادية، أي في السنة الثانية من حكم العباسيين، وقد جاء في كتاب أسرة تانغ الجديد (Xin Tang Shu) الجزء الخامس سيرة الإمبراطور شوان زونغXuan Zong 712 – 756 على العرش ما مفاده أنه في يوليو سنة 751 ميلادية اقتتل جيش القائد الصيني قاو شيان تشي (Gao Xian Zhi) وجيش العرب في تالاس، وهزم جيش القائد قاو، وكان عدد كبير من جنود الصين أسروا في المعركة، و تعد معركة تالاس (طلخ) التصادم العسكري الوحيد في العلاقات الصينية العربية عبر التاريخ.[33]
وفي المصادر العربية وردت الإشارة إلى هذه المعركة باسم معركة طلخ، وفيها أن صاحب الصين أنجد ملوك الصغد (وهي اليوم في أرض طاجكستان) بجيش عظيم فيه مائة ألف مقاتل، فتصدى له زياد بن صالح وخالد بن ابراهيم وكلاهما من رجال أبي مسلم الخولاني، عند وادي الشاش بين مرو وسمرقند، وتتفق المصادر العربية والصينية أن المعركة انجلت عن نصر حاسم للمسلمين وقد تم فيها أسر عشرين ألف جندي صيني، وذكر ابن الأثير أن الأسرى كانوا مائة ألف.
ولا تعرف مواجهة حربية بين العرب والصين إلا في يوم طلخ ومع أن النتائج كانت كارثة على الجيش الصيني، ولكن النهاية لم تكن بهذا اللون من الكارثية، حيث تمت معاملة الأسرى معاملة حسنة، وقام أبو مسلم بتأسيس معمل للورق في سمرقند وتمكن من توفير فرص عمل لألوف الأسرى الذين اعتقلوا بعد معركة تالاس، وسرعان ما تطورت هذه الصناعة ووانتشرت في العالم الإسلامي، وتحول الأسرى إلى جسر ثقافي ومعرفي بين العرب والصين.
ونتيجة لهذا السلوك الإيجابي في الإحسان إلى الأسرى والإفادة منهم فقد عادت العلاقات العربية الصينية إلى سابق عهدها، وتنامى بناء العلاقات الدبلوماسية بين الخلافة وملوك الصين وكذلك الحكام المحليين، وبعد أقل من خمس سنوات (756م)، لبى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور طلب حكومة أسرة تانغ الإمبراطورية الصينية وأرسل جيشا لمساعدتها في إخماد الانقلاب العسكري الذي قاده آن لو شان وشي سي مينغ، فكان ذلك إسهاما حاسما لإعادة الصداقة بين الدولتين.
واستمرت العلاقات الودية بين الصين وبين الخلفاء العباسيين نحو مائتي عام، لم تشهد فيها الحدود أي اشتباكات عسكرية ذات أهمية، وكان ذلك يعكس نجاح الدبلوماسية التي اعتمدها عثمان بن عفان والتزمها عمر بن عبد العزيز في برنامجه لوقف الحرب مع الصين وفتح الحوار.
واشتهرت بعد ذلك الصلات المتبادلة بين الخليفة المنصور وملك الصين آنذاك شوان زوينغ، ونحن نحتاج بالفعل لدراسة الموقف الشرعي والسياسي في إرسال جنود مسلمين للقتال إلى جانب شوان زوينغ لاستقرار ملكه في الصين، وما أثمره هذا الموقف من علاقات متينة وقوية بين البلدين العملاقين، على الرغم من أن معنى الجهاد والقتال في سبيل الله ليس واضحاً على الإطلاق في هكذا تحالف.
إنها إذن أكثر من ألف عام من التواصل بين جزيرة العرب وبين الصين بدأت بالجهود الدبلوماسية الحكيمة لعثمان بن عفان، ثم عادت نزعة الحرب مع الحجاج وقتيبة، ولكن عمر بن عبد العزيز أوقف الحرب وأوقد جذوة السلم والدبلوماسية التي حسنت صورة الإسلام في أذهان تلك الشعوب، وانتهت تدريجياً إلى دخول تلك الشعوب في الإسلام، وأضاف أبناؤهم إلى الحضارة الإسلامية كثيراً من الفكر والفن والمعرفة،
وما زالت هذه العلاقات الأخوية تتواصل حتى اشتهر عند العرب المثل الشائع: اطلبوا العلم ولو في الصين، وقد دخل هذا المثل الذاكرة الشعبية للناس حتى ظنه الناس نصاً من الحديث النبوي في إشارة لما كان الناس يرتجونه من التواصل المعرفي مع أهلهم وإخوانهم في بلاد الصين.
الآثار البعيدة لسياسات عمر بن عبد العزيز في الدبلوماسية بدلاً من الحرب:
ولم يتوقف عمر بن عبد العزيز عند سحب الجيش من سمرقند، بل اتخذ ذلك سنة مطردة في خلافته، وأعاد دراسة كل ملفات الفتوح، رجاء أن يبقى الجهاد ملتزماً معايير الإسلام المنضبطة في الدفاع عن الأمة ونصرة المستضعفين، ومنع كل جوانب البغي والعلو والغلو في تفسير الجهاد.
وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره بإقفال مَن وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: لا تسعنا مرو، قاعدة خراسان، فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم.[34]
وفي بلاد السند أعلن عمرموقفه بوضوح وهو الدبلوماسية والدعوة بدل الحرب، وسحب الجيوش المحاربة، وأرسل إلى الملوك وفوداً دبلوماسية حكيمة، يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يُملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغت سيرته ومذهبه مسامع الملوك، فبدؤوا يدخلون في دين الله أفواجاً، وتسموا بأسماء العرب.
وكان لسياسات عمر بن عبد العزيز في وقف الحروب أثر كبير في محبة الناس للإسلام، واجتاحت موجة عارمة من الدخول في الإسلام في تلك الشعوب التي ظهرت فيها عدالة الإسلام وسموه، وبالفعل فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً في سائر أرجاء دولة الخلافة.
وفي موقف ذي دلالة كتب والي مصر حيان بن شريح لعمر بن عبد العزيز إن الناس تتابعوا في الدخول في الإسلام وإن هذا سيفقر خزينة الدولة لأننا لن نجد ما يفرض عليهم من ضريبة الجزية، وسيؤدي ذلك إلى رهق كبير في بيت المال، وحين كتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك قال له عمر غاضباً ويحك… إن الله أرسل محمداً هادياً ولم يرسله جابياً.[35]
ويبدو أن هذا الأمر كان موقفاً متفقاً عليه لدى الأمويين حيث تستمر الضرائب على الناس ولو أسلموا، وكانت الجزية تشكل مورداً أساسيا للدولة، وفي الوقت نفسه كتب له عامله على البصرة عدي بن أرطأة وكذلك عامله على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن الأمر نفسه، ويبدو أن الأمر كان بالفعل يشكل خطراً حقيقياً على خزينة الدولة، ولكنه من وجهة نظر عمر كان يشكل خطراً أكبر على مبادئ الدولة وقيم الإسلام فكتب إلى حيان بن شريح والي مصر:
فقد بلغني كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي يضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع الجزية عن من أسلم، قبح الله رأيك، فإن الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا[36]
ولما أراد بعض مستشاريه أن يوقفوا حركة الدخول في الإسلام بأن حتموا الختان على معتنقيه أمرهم عمر بالاستغناء عن الختان
وتمام الخبر كما رواه الطبري وابن كثير، أنه لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولاته: انظروا من صلى إلى القبلة فضعوا عنه الجزية، فسارع الناس إلى الإسلام، فكتب الجراح بن عبد الله الحكمي وكان والي الأمويين على فارس: إن الناس قد سارعوا إلى الإسلام نفوراً من الجزية فامتحنهم بالختان!! فكتب عمر إليه: إن الله بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم ، داعياً ولم يبعثه خاتناً[37] وحين تردد الجراح في تنفيذ ذلك عزله عمر على الفور وولى مكانه عبد الرحمن بن نعيم القشيري.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى هذا النص الفريد لعمر بن عبد العزيز وفيه ألغى سلسلة رسوم مرهقة فرضها الحكام المحليون على الناس وأبرزها رسم الأعياد ورسم النكاح ورسم الفتوح التي كانت تجنيها الدولة من الفاتحين، وهو ما كان يشكل مغنماً للمحارب وللدولة على حساب الشعوب المغلوبة:
كتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن واليه على الكوفة: أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسُنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء، وإن قِوام الدين والعدل والاحسان فلا يكون شيء أهم إليك من نفسك فلا تحملها قليلًا من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر وخذ منه ما أطاق واصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذن من العامر الا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن أجور الضرابين، ولا هدية النوروز والمهرجان ولا ثمن الصحف ولا أجور الفتوح ولا أجور البيوت، ولا درهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض، فاتبع في ذلك أمري فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تتعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه.[38]
وقد أدت هذه السياسات إلى تقييد تجارة الحرب وفتح أفق الدبلوماسية والعلاقات السلمية، كما أسقط عمر سلسلة كثيرة من الضرائب المبتكرة، وفيه جانب حقوقي بالغ الأهمية في وهو أنه أوقف العمل بالحدود إلا في إطار موافقة أمير المؤمنين نفسه، واعتبر أن القضاء في الدماء والصلب ليس من اختصاص القضاة المحليين وأنه يتوقف على تصديق الخليفة نفسه، ولا شك أن ذلك زاد في هيبة الدولة وقلل من وقوعات الحدود.
وفي الواقع فإن حياة عمر بن عبد العزيز تعتبر مصدراً ثراً لانتصار الفضيلة والقيم العليا على أساليب السياسة، ولا يزال في حياته الكريمة فصول كثيرة ملهمة في جهوده لوقف الحرب وإطلاق الدبلوماسية والعلاقات الدولية المتوازنة.
الحكم الأموي – المستنصر بالله
302- 366 هـ 915-976 م
هو المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن تاسع أمراء الدولة الأموية في الأندلس وثاني خلفاء الأندلس بعد أبيه عبد الرحمن الناصر لدين الله الذي حكم الأندلس خمسين عاماً، وأعلن خلالها الخلافة في الأندلس عام 316 هـ.
كان عصره امتدادًا لفترة نهضة الدولة الأموية في الأندلس الذي بدأ في عهد أبيه، وقد اشتهر الحكم بعشقه للعلم واقتناء الكتب، حتى عجت مكتبته بنحو أربعمائة ألف مجلد، بذل جهدًا في جمعها من مختلف الأقطار.
وهكذا فقد كان عهد المستنصر الأموي، الحكم بن عبد الرحمن الناصر أكثر عهود الخلافة في الأندلس ازدهاراً واستقراراُ، فقد ورث من أبيه الناصر دولة قوية مستقرة مرهوبة الجانب، وحين ولي الحكم كان في الثامنة والأربعين، وكان قد ولي لأبيه عدداً من المسؤوليات الكبيرة من قبل، وقد تمت البيعة له في اليوم التالي لرحيل أبيه.
كان الحكم لا يخفي ميله الشديد للعلم والمعرفة والدبلوماسية، ولم يكن من هواة الحرب، ولعل هذه الرغبة كانت وراء استعانته بأحد صقور الحرب وهو الحاجب المنصور الذي استدعاه وولاه صلاحيات واسعة كانت في معظمها مهام حربية لتثبيت أمن الدولة فيما انصرف الحكم بالكلية للعمل الثقافي والدبلوماسي.
يمكن القول إن العصر الأكثر ازدهاراً للإسلام في الأندلس كان في عهد الخليفة الناصر 300-350 هجرية، وفي السنوات الست عشرة التي حكم فيها ابنه الحكم المستنصر، فقد اتصل بالعلماء في كل مكان وجلب لقرطبة أهم المراجع العلمية والفكرية من اللغات المترجمة، وتواصل شخصيأُ مع كبار العلماء والأدباء في المشرق الإسلامي كما قام بتوسعة مسجد قرطبة.
كان أمام الحكم عدة آفاق من التحدي فأمامه أولا الشمال الأفريقي الذي اعتبر منذ عهد أبيه حالة تابعة للأندلس، وكان يشهد ظهور الدولة الفاطمية في تونس وبالتالي أفول دولة الأدراسة والأغالبة، وشكلت هذه التحولات منعطفاً خطيراً يؤذن بفوضى شاملة، وكان عليه أن يعزز مكانة الأندلس في هذا التحول التاريخي الأمر الذي دفعه لتقوية الأسطول الحربي ليكون أقوى أسطول في البحر المتوسط، وكان مهتماً بشكل خاص بتوحيد الأندلس فقهياً على مذهب الإمام مالك بن أنس.
ومع أنه بنى استراتيجيته على تجنب الحرب الشاملة مع الفاطميين، ولكنه عزز من وجود الأندلس على الشمال الأفريقي وعقد صلحاً مع الحسن بن كنون صاحب سبتة وطنجة، ولكن الحسن بن كنون قام بنقض العهد عام 361 ومع ذلك فإن استراتيجية الحكم لم تكن في قتاله واستئصاله، وإنما في إعادة بناء علاقة دبلوماسية ناضجة بين المغرب والأندلس، ومع أن قائده الناصري فقد حياته في هذه المواجهات ولكن الحكم ظل مصراً على إنهاء الحرب بالدبلوماسية وبعد مقتل قائده أبي القاسم أرسل غالب الناصري ثم يحيى بن محمد التجيبي، وما زالت الجيوش الثلاثة تضيق على ابن كنون، وبالفعل فقد تمكن بعد ذلك من إقناع ابن كنون بالقدوم على قرطبة عام 364، وإنهاء الحرب بشروط ملائمة للطرفين، ونجحت خطة الحكم في بناء تحالف دبلوماسي جديد مع ابن كنون يجنب الحرب بين شاطئي المتوسط .
وهكذا استقرت استراتيجية الحكم المستنصر مع شمال المغرب بالتحالف من ابن كنون، الرجل القوي في بلاد المغرب، وبناء دبلوماسية متينة، وظل مصراً على تجنب الحرب الشاملة مع الفاطميين.
أما العلافات مع أوروبا فقد شهدت توتراً شديداً في بداية حكمه حيث رأى الأوربيون غياب أبيه الناصر الخليفة القوي فرصة للوثوب على دولة ابنه الحكم المستنصر وانتزاع بعض الأرض منه، وفي الواقع فإن الحكم أظهر بسالة في مواجهة الأطماع الأوربية ولكنه كان حريصا على الانتقال الى الدبلوماسية بدل الحرب، وكانت رسائله واضحة للحكام المحليين في الشمال الإسباني وهي بناء دبلوماسيات متطورة مع الدول الكبرى في أوربا وبالتالي منح الدوقيات والأمارات والمشيخيات القائمة بعض المزايا الدبلوماسية مقابل الطاعة أو المسالمة.
وكان استراتيجية الحكم المستنصر هي الوصول إلى الحلول الدبلوماسية، على الرغم من أنه اضطر لركوب الحرب مراراً، وخاض مواجهة ضارية مع الجلالقة الفرنسيين (الغال)، ولكنه سرعان ما وفر الظروف المناسبة للدبلوماسية والتفاوض، وعلى الرغم من موقفهم العدائي فإنه المستنصر نجح في تحقيق اتصال مزدوج مع الرجلين القويين في الجلالقة أردون وشانجة، ثم نجح في ترتيب هدنة وفد على إثرها أردون بن إذفونش الأحدب، من ملوك الجلالقة، المنازع لابن عمه شانجه بن ردمير فبالغ في إكرامه في خبر طويل.[39]
وبعد قليل وصل قرطبة أيضاً شانجة بن ردمير، منازع أردون ابن عمه ملك الجلالقة، ومعهم عبد الرحمن بن جحاف قاضي بلنسية.
وفي هذه المرحلة قام الحكم باستقدام المنصور بن أبي عامر، وكلفه بالحجابة وهو ما يشبه ديوان الرئاسة، ومنحه صلاحيات حربية استثنائية غير معهودة، وكان ذلك بمثابة استقالة طوعية له من العمل العسكري المباشر، والتحول إلى الدبلوماسية.
وبالفعل فان الحاجب المنصور الذي يعتبر من أكبر العبقريات الأمنية والعسكرية في العصور الوسطى وفَّر الظروف المناسبة للخليفة الحكم المستنصر ليتمكن من الانصراف إلى بناء دبلوماسية ناجحة بدل الحرب، على الرغم من بقاء خيار الحرب ضرورة قد يلجأ إليها لوقف الأطماع التي تستهدف دولة الأمويين.
وأطلق الحكم سلسلة مبادرات دبلوماسية كانت فريدة في تلك المرحلة من التاريخ، فقد أنجز اتفاقية هامة مع سانشو الثالث ملك نافارا (شمال اسبانيا) وسانشو غارسيا كونت قشتالة (عاصمتها طليطلة) عام 355 حقق بها استقراراً لافتاً بين جنوب الأندلس وبين قشتالة، وكانت اختراقاً حقيقياً للتحالف بين قشتالة وممكة ليون في فرنسا، واعتبرها الفرنسيون ضربة موجعة لأن الحكم المستنصر تمكن من شق تحالف الدولتين المعاديتين للمسلمين في الأندلس.
كما نجح الحكم المستنصر في فتح مسار جديد للدبلوماسية عبر علاقات متميزة مع الكونت بورل الثاني كونت برشلونة (البرتغال) في شعبان 360 هـ، التي قدمت ومعها 30 من أسرى المسلمين لديهم كبادرة للتصالح.
إضافة إلى سفارات أخرى من كونت قشتالة، وقد تعززت العلاقات بين قشتالة وقرطبة حتى توجت بزواج ملكي شهير بين محمد بن أبي عامر المنصور الحاجب قائد جيوش المستنصر وبين أونيكا غارسيا عام 995
وقد استمرت العلاقات الدبلوماسية بين قشتالة وبين الخلافة في الأندلس إلى وفاة المستنصر، ولم يستطع ابنه هشام أن يحافظ على المسار الدبلوماسي، وغلب عليه حماسه وشبابه وبالفعل فقد انتهت العلاقات الدبلوماسية مع قشتالة وسرعان ما عاد التحالف القديم بين قشتالة وليون، وانتهى الأمر إلى معركة قلعة النسور التي وقعت 1002 وكانت نكسة قاسية على مستقبل الخلافة الأموية وفيها قضى المنصور نفسه متأثراً بجراحه.
وفي صعيد العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا نجح الحكم المستنصر في بناء دبلوماسية ممتازة مع الفرنسيين وفي ذي الحجة 360 هـ، وفدت على بلاط الحكم إلبيرا راميريز عمة الملك راميرو الثالث ملك ليون والوصية على عرشه بعد وفاة أبيه سانشو البدين طلبًا للصلح.
وكان رد الحكم المستنصر هو الترحيب وإظهار الفخامة والأبهة، ودعوة الفرنسيين إلى بناء علاقات واعية مع الخلافة الأموية في الأندلس.
كما وفد على المستنصر بالله أردون بن إذفونش الأحدب، من ملوك الجلالقة، المنازع لابن عمه شانجه بن ردمير فبالغ في إكرامه في خبر طويل.[40]
وفيها، وصل قرطبة إرسال شانجة بن ردمير، منازع الطاغية أردون ابن عمه ملك الجلالقة، ومعهم عبد الرحمن بن جحاف قاضي بلنسية.
وهكذا فقد صار المستنصر مرجع الملوك من الجوار في خصامهم ووفاقهم، وعزز بذلك فرص الدبلوماسية التصالحية إلى حد كبير.
كما وردت عليه سفارة مودة من قبل يوحنا تزيميسكيس الامبراطور البيزنطي في القسطنطينية الذي خلف نقفور في جمادى الأولى 361 هـ، ومع أن قرطبة لا تتصل بسبب ببيزنطة، وبينهما دول وأمارات وممالك، ولكن الحكم المستنصر اهتم بهذه السفارة وطورها وبنى عليها سلسلة تبادل دبلوماسي مع الامبراطورية ازدهرت أيام خلفه رومانوس الرابع الذيأرسل إليه كمية نفيسة من الفسيفساء قام الحكم المستنصر بتزيين مسجد قرطبة بها، ولا تزال من أجمل ملامح المسجد التاريخي في قرطبة.[41]
ولا شك أن تجميل المسجد بهدايا الامبراطور الروماني المسيحي رومانوس كان يحمل دلالات كثيرة لا يخطئ فهمها من يدرس الدبلوماسية الواعية، وكان ذلك تأسيساً لحال فريد من العلاقات الدينية بين الدولتين، ونذكر بأن رومانوس اشتبك في صراع ضار مع السلاجقة في تركيا وانتهى به الأمر إلى الأسر في معركة ملاذ كرد التاريخية التي قادها ألب أرسلان السلجوقي ولكنه حصل بعد ذلك على عفو وعاد إلى القسطنطينية.
كما نجح الحكم المستنصر في بناء دبلوماسية فريدة مع البابا بندكت السادس وحقق بذلك ما يمكن اعتباره معجزة دبلوماسية إذ كانت قاعدة العلاقات الدبلوماسية في العصور الوسطى لا تحتمل على الإطلاق الجمع بين البابا والامبراطور سواء بنسخته الشرقية أو الغربية حيث كان البابا يتصرف كوكيل للملوك الزمنيين، وأحياناً كساخط عليهم يحمل في وجوههم سيف الحرم والإبعاد.
وبذلك فإن الحكم حقق نجاحاً هائلاً للدبلوماسية الأندلسية وربما كان المكان الوحيد الذي تحط فيه الوفود الدبلوماسية من القوى الرئيسيية الثلاثة في أوربا الامبراطور الروماني الشرقي والامبراطور الجرماني الغربي والبابا، ولا شك أن ذلك يعكس هيبة الخلافة الأندلسية ومكانتها ودورها في صناعة الدبلوماسية.
التواصل الاستراتجي مع البابا سلفستر الثاني
ولكن النجاح الدبلوماسي الأهم في حياة الحكم إنما تجلى في رعايته لشاب واعد بالغ الأهمية اسمه جربرت أورياك، الذي سيصبح فيما بعد البابا سلفستر الثاني، الذي يمكن القول بحق إنه كان تلميذاًنجيباً لدى الخليفة الحكم، فقد وفد عليه يافعاً وكان اسمه جربرت أورياك، وكان آنئذ مجرد طالب طموح جاء به المطران أوتو بتكليف من الكونت أوريل الثاني كونت برشلونة، في إطار الاستجابة لمبادرات الخليفة الحكم في الدبلوماسية بعد سلسلة حروب بين برشلونة والدولة الأموية.
وعندما قابلوا الخليفة الحكم الثاني (915-976م) في قرطبة، تم استقبالهم استقبالا في غاية الاحترام وقد دهش الوفد دهشة عظيمة مما شاهده من جمال القصور والتطور العمراني في قرطبة، وعاد وهو يحمل كل مشاعر الإعجاب بالعرب والحضارة العربية آنذاك.
لقد أعجب جربرت غاية الإعجاب بالمنهج الدبلوماسي للخليفة الحكم بدل الحرب، وسمع من المطران أوتو تاريخ الصراع الطويل بين برشلونة وبين المسلمين في قرطبة، وهو صراع مرشح أن يستمر لقرون ولكن الخليفة الحكم أطلق مبادرات سلام متعددة، في إطارالدبلوماسية بدل الحرب، وكانت هذه واحدة منها.
وأقام جربرت في الأندلس وأصبحت قرطبة هوى قلبه، وكان يتردد عليها وتعلم العربية وأتقنها، وكان شغوفاً بأخبار الأمراء العرب فقد سمع عنهم أنهم مهتمون بالعلوم والآداب أكثر من اهتمامهم بالحروب.
لقد فُتن جربرت بالحكايات الساحرة التي سمعها من المطارنة والقضاة المسيحيين الاسبانيين عن العرب المسلمين، وقد كان هؤلاء المطارنة والقضاة يرتدون ألبسة العرب، ويتكلمون لغة العرب، ويعرفون الرياضيات والعلوم الطبيعية مثل العلماء العرب تماما وقد تعلموها في المؤسسات التعليمية العربية في الأندلس آنذاك والتي كانت تسمى “المدارس”. لقد أثار هذا إعجاب جربرت بالعرب وازداد احترامه لهم، وازداد تشوقه لمعرفة الرياضيات والفلك الذي يعرفونه.[42]
وحسب الإنسيكلوبيديا الكاثوليكية فقد تعلم جربرت في برشلونة على يد علماء عرب في مدينة قرطبة واشبيلية، وكذلك سافر إلى جامعة القيروان حيث مكث فيها فترة من الوقت واكتسب فيها أيضا معرفة واسعة من العلوم التي أحرز فيها تقدما عظيما لاحقا.[43]
وتماماً كما توقع الحكم الأموي فقد ترقى جربرت في مناصب متعددة وصار أستاذاً مربياً للملك أوتو الثالث، الذي دفعه بدوره إلى الفاتيكان ليكون كبير الأساقفة ثم ليصبح بالتلي بابا الفاتيكان واتخذ اسم البابا سلفستر الثاني والذي تربع على البابويه 999-1003م
ويعتبر كثير من المؤرخين أن البابا سلفستر الثاني هو أول المستشرقين الأوربيين، وأنه قام بدور أساسي في ترجمة العلوم العربية إلى اللغات الأوربية، وتبنى الحضارة الإسلامية رافعة علمية ومعرفية لأوربا الغارقة في ظلمات العصور الوسطى، وكان أول بابا يتكلم اللغة العربية، ويرحع له الفضل في إدخال الأرقام العربية إلى أوربا، وكذلك إدخال الاسطرلاب العربي إلى أوربا، وكان حصاداً مباشراً للدبلوماسية الرائدة التي انتهجها الخليفة الحكم الأموي.
ويمكن القول إن البابا سلفستر بعلاقاته المتميزة مع الحضارة الإسلامية وتواصله المستمر مع الأندلس قد أخَّر الحروب الصليبية لعقود طويلة، وربما لو تأخر مجيئه ثمانية عقود لمنع قيام الحروب الصليبية.
كما أن الدبلوماسية الفريدة للحكم الأموي نجحت في بناء علاقة غير عادية مع الامبراطور الجرماني أوتو الأول العظيم الذي يعتبر المؤسس الثاني للامبراطورية الجرمانية المقدسة، وذلك من خلال البابا القادم سلفستر الثاني الذي قدم من مدارس قرطبة والقيروان طالباً ثم تم اختياره ليكون معلماً لاوتو الثاني ابن الامبراطور الجرماني، والذي صار بدوره امبراطوراً بعد رحيل أبيه، فيما تسلم سلفستر منصب البابا.
ولا شك ان دور سلفستر في العلاقات العربية الجرمانية كان هاماً ولا ندري هل كان له دور في ترتيب الزيارات الدبلوماسية التي تمت بين الامبراطور اوتو الأول وبين الخليفة الحكم الأموي، وخاصة تلك السفارة التي تمت عام 363 هجرية.
وباختصار يمكن القول إن الخليفة الحكم الثاني بن عبد الرحمن الناصر كان أبرز رجال الدبلوماسية والتبادل الحضاري في تاريخ الأندلس، وقد كانت نزعته السلمية واضحة تماماً في إنهاء الحروب بالدبلوماسية والبناء عليها بدل الحرب، ومع أن عصره لم يخل من صراعات عسكرية مع خصومه، ولكنه تمكن من فصل الدبلوماسية عن النشاط الحربي، وعهد إلى الحاجب المنصور بن أبي عامر للتصرف في الحروب في سياق يلتزم أقل الخسائر، وينتهي بها إلى معاهدات سلام وجوار، ويبعد وجه الخلافة الجميل عن غبار الحروب، وفي الوقت نفسه عزز الفرص الدبلوماسية المتواصلة، في بناء علاقات دولية، وقد نجح في ذلك غاية النجاح.
وقد يكون الحكَم الأموي هو الحاكم الوحيد في أوروبا الذي استطاع أن ينبي أوثق العلاقات مع الامبراطوريتين الرومانيتين في بيزنطة وآخن، ومع البابا في روما في وقت واحد، وكذلك مع ملوك فرنسا ولشبونة وليون وقشتالة وطنجة.
ومن المؤسف القول إن الصراعات اندلعت بعد رحيل الخليفة الحكم، حيث سيطر على مجرى الأمور من بعده الحاجب المنصور الذي نصب نفسه وصياً على هشام ابن الحكم الذي كان في العاشرة من عمره عند موت أبيه، وأثار ذلك عدة موجات من التمرد والشقاق، ومن المؤلم ان معظم الحروب التي اندلعت كانت بين المسلمين أنفسهم، وكذلك مع دول الجوار، ولم يستطع خلفاء الحكم المحافظة على روح الدبلوماسية العالية التي تمتع بها الحكم الأموي والتي جاءته بملوك أوربا وزعمائها راغبين طائعين.
.
الخليفة العباسي الناصر لدين الله
أطول فترة استقرار في تاريخ الخلافة
575-622 هـ – 1180-1225 م
كان الخليفة العباسي الناصر لدين الله أطول الخلفاء العباسيين حكماً، وقد استمر حكمه 47 عاماً، وقد جاء بعد سلسلة من الخلفاء العباسييين الذين كانوا لا يملكون من أمرهم شيئاً حيث دخلت الخلافة العباسية منذ أيام المستكفي قرناً ونيف تحت وصاية البويهيين 333-447 ثم السلاجقة فترة مماثلة، 447-552
وكان الخلفاء خلالئذ ملهاة للعسكر يعينونهم ويعزلونهم ويهينونهم، واشتهرت قصص العسكر البويهي ثم السلجوقيفي عزلهم الخلفاء وتعيين من يشاؤون مكانهم، وقد استمر هذا الحال نحو مائتي عام وبلغ أوجه حين قام العسكر السلجوقي بقتل خليفتين متتاليين وهما المسترشد 529 والراشد 532 هجرية، وتعيين المقتفي، وحين آل الأمر لابنه المستنجد بدأ حملة لتعزيز استقلال الخلافة عن السلطنة السلجوقية وقد أكمل ذلك ابنه المستضيء الذي ولي الخلافة بين عامي 566-577 وعمل على تعزيز هيبة الخلافة وحاول وضع حد لتدخل العسكر في الحياة العامة، ولكن لم يمهله الزمن وتوفي عام 577 وآل الأمر لابنه الناصر وكان قرار الناصر هو إكمال ما بدأه أبوه المستضيء في إنهاء تسلط العساكر وإعادة هيبة الخلافة وتعزيز مكانتها.
ورث الناصر دولة ممتدة الأطراف، تنهشها الأطماع من كل جانب، وأيقن أن الحرب لن تجني له المجد الذي يريد فانصرف عن الحرب إلى الدبلوماسية واستطاع أن يحقق خلال خلافته الطويلة مجداً كبيرا للخلافة وأمداً طويلاً من الاستقرار.
وربما يصعب إعطاء حكم مستقل على الناصر بعد أن تناوله الاتهام الطائفي، وشاع أنه اختار الانتقال من مذهب أهل السنة إلى مذهب التشيع، مما أفسح المجال لكثير من المؤرخين ان يتناولوه بسهام النقد والاتهام، فيما تولاه آخرون بالمديح والثناء، والواقع أن الناصر كان رجلاً حكيماً وقد اختار أن يحترم شعبه في العراق وخراسان حيث كان للشيعة نفوذ كبير، وكان الناصر يظهر مع قومه في مناسباتهم وأعيادهم، ويتألف السنة والشيعة، وقد تمكن من تحقيق قدر كبير من الانسجام بين الطائفتين ولم يسجل في حياته أي صدام طائفي.
وتمكن الناصر ببراعة فائقة أن يحقق التوازن الطائفي، ويقضي على الأسلوب الإقصائي الذي استخدمه البويهيون الشيعة والسلاجقة السنة في تعاملهم مع الناس، وأظهر احتراماً كبيراً للصحابة الكرام ولأهل البيت الأطهار.
وفي خطوة غير معتادة أقدم الناصر على تجديدمرقد الحسين في كربلاء، كما بنى سرداب الغيبة في سامراء وجعل عليه شباكاً من الأبنوس الفاخر والساج وكتب عليه: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.
وأمر وزيره المقدادي ان يجدد مرقد الامام موسى الكاظم ومنح عتباته حصانة دبلوماسية وحقوقية، بحيث اعتبره ملاذاً آمناً للائذين به، فكان من لجا إليه يعتبر معصوماً حتى ينظر في أمره الخليفة الناصر نفسه.[44]
وقد أسهم موقفه هذا في هداة الصراع الطائفي في بغداد وطمأنة أهلها، ولكنه بالمقابل خلق له خصوماً من الحنابلة الذين اعتبروا هذا الموقف انقلاباً إلى مذهب التشيع.
كما قام الناصر بإصلاحات في الحرم الشريف بمكة وكانت الكعبة تكسى بالحرير فكساها بالديباج.[45]
ومن المؤكد أن التشيع والتسنن لم يكن في وارد الخليفة الناصر، ولكنه كان يقوم بما ينبغي لإرضاءالناس وطمأنتهم، وقد كتب في ذلك الصفدي في الوافي بالوفيات: وظهر التشيع بسبب ابن الصاحب ثم انطفى بهلاكه وظهر التسنن المفرط ثم زال[46] ويعكس ذلك كله حاجة الناس للسياسة أكثر من حاجة الخليفة للمذهب.
ونسب اليه الصفدي ابياتاً من الشعر على نسق ما نسب للشافعي في محبة علي وأهل البيت والبراءة من أعدائهم:
زعموا أنني أحب عليناً …………. صدقوا كلهم لدي علي
كل من صاحب النبي ولو طر ….. فــة عين فحقه مرعي
فلقد قل عقل كل غبي …………… هو من شيعة النبي بري[47]
وقد أطبق المؤرخون على وصف القدرات الكبيرة للخليفة الناصر ونجاحاته المتتالية في الحكم والدبلوماسية وفي ذلك كتب ابن النجار:
اتسعت شهرة الناصر ودانت له السلاطين، ودخل في طاعته من كان من المخالفين وذلت له الطغاة حتى خطب له ببلاد الأندلس والصين وكان أشد بني العباس شديد الهيبة شجاعًا ذا حنكة سياسة كبيرة، وله حيل ومكائد وخدع لا يغطي إليها حتى أنه يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون ، وكان الناصر إذا أطعم أشبع وإذا ضرب أوجع وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر .[48]
وعلى الرغم من أن الفترة التي حكم فيها الناصر كانت من أشد فترات التاريخ الإسلامي اضطراباً، حيث كانت بوادر حربين عالميتين توشك ان تندلع، الأولى في غرب الدولة وهي الحروب الصليبية والثانية في شرق الدولة وهي حروب المغول والتتار، ولكن يسجل للخليفة الناصر أن تمكن من تجنيب الدولة العباسية خطر الانزلاق المباشر في هذه الحروب وقد اعتمد أساليب الدبلوماسية المباشرة، والمواجهة بالوكالة لتجنيب البلاد خطر الحرب.
ولا يعلم أحد إلا الله ماذا كانت العواقب لو قرر الناصر أن يخوض واحدة من هذه الحروب، ولو قدر للصليبيين أن يتحالفوا مع المغول لصار العالم الإسلامي كله أثراً بعد عين، ولكن الناصر مارس سياسة حكيمة وبعيدة النظر، ونجح فيجعل دولة الخلافة برزخ سلام بين حوضين ملتهبين بالحرب، ومنع أي تواصل بين التتار والصليبيين.
وعلى الرغم من أن الخلافة كانت قد تمكنت من استعادة السيطرة المباشرة على العراق والجزيرة العربية وطرف من الشام وفارس، ولكن الخطر المغولي القادم كان ماحقاً، ووصل إلى تخوم هذه الأمصار المغول في الشرق كما وصل الصليبيون إلى الغرب في بلاد الشام، ولكن الخليفة ظل يجنب الدولة هذه الحروب، وكان يراقب من بعيد الحروب الخوارزمية المغولية في المشرق وحرب صلاح الدين ضد الصليبيين في غرب دولة الخلافة، واجتهد أن تكون الخلافة في مأمن من هذه الحروب، الأمر الذي دفع بعض معاصريه ليقولوا إنه كان عميلاً للمغول والصليبيين، ولكن هذه الشائعة هي أهون ما يبذله خليفة هائل في تجنب الحرب عبر دبلوماسية حكيمة بالغة التأثير.
وفي الغرب السوري والمصري كان صلاح الدين الأيوبي قد خلف نور الدين زنكي في مواجهة الصليبيين، وخاض سلسلة حروب مريرة تمكن فيها من تحرير القدس من الصليبيين وتسجيل سلسلة انتصارات كبيرة غيرت مجرى هذه الحروب، ومع ذلك فلم يشأالخليفة الناصر أن يقحم أياً من جند الخلافة أو فتيانها أوكشافتها في هذه الحرب، وهناك روايات تشير إلى أنه رفض المشاركة في الحرب، وأن ذلك أغضب صلاح الدين الأيوبي، ولكن سياق الأحداث يدل على خلاف هذا، وقد أدرك صلاح الدين بعد نظر الخليفة، فقد كانت الحكمة أن تظل حاضرة الخلافة بعيدة عن الحرب المباشرة مغولية أو صليبية، وكان انخراط الخلافة في أي من الحربين سيغري الطرف الآخر باقتحام حاضرة الخلافة، وهو ما تجنبه الناصر بحكمة كبيرة، وهكذا فإنه لما تم لصلاح الدين النصر في بيت المقدس قام بإرسال مفاتيح القدس للخليفة الناصر ومعها درعه وفرسه [49]في إشارة إلى ولائه التام للناصر، كما قطع صلاح الدين الخطبة للفاطميين في مصر وأفريقيا وأعادها للخليفة الناصر، ومن الواضح تماماً أنه قدر للخليفة الناصر أسلوبه الدبلوماسي في تجنب الحرب، أو بعبارة أدق تجنيب دولة الخلافة الدخول في حرب دينية ماحقة، والاكتفاء بدور دبلوماسي حكيم.
وهناك كلام كثير للمؤرخين عن جفاء كان بين الرجلين بسبب أن صلاح الدين تسمى بالملك الناصر، ولكن سياق الأحداث وما ظهر من ود ووفاء بين الرجلين يرجح أن يكون اختيار صلاح الدين لاسم الناصر لوناً من التحبب للخليفة الناصر وليس تحدياً له، أو على الاقل فإن الخليفة الناصر لم ير في ذلك ما يستدعي الاحتجاج وتقبل جهاد صلاح الدين بقبول حسن، وقد رأينا دور صلاح الدين في قطع الخطبة بمصر عن الفاطميين وإعادتها للخليفة الناصر.
وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء: خطب للناصر بمعظم بلاد المغرب[50] وقد أعلن الموحدون قطع الخطبة الفاطمية عن بلاد المغرب وإعادة الخطبة للخليفة الناصر ببغداد.
أما في الشرق فقد كانت دبلوماسية الخليفة الناصر مدهشة، فقد شهد صعود جنكيز خان، وحربه الطاحنة ضد الدولة الخوارزمية، واحتلاله لبقاع شاسعة في الصين وآسيا الوسطى ومع ذلك فقد تمكن من تجنيب بلاده الحرب مع المغول، وتحركت جيوش جنكيز خان صوب آسيا الوسطى والعليا، شمال قزوين عبر طريق الحرير الشمالي وتجنبت طريق الحرير الجنوبي الذي كان يمر بحواضر الخلافة الإسلامية من سمرقند إلى بغداد ودمشق.
وقد اعتمد الناصر دبلوماسية مدهشة تمثلت في أمرين:
الأول: التواصل الدبلوماسي مع المغول، وإقناعهم بوجود مصالح مشتركة يمكن رعايتها دون قيام الحروب، وربما كان الثمن المرير لهذا اللون هو حياده في الحرب المغولية الخوارزمية، علىالرغم من الدور الإيجابي للخوارزميين في تثبيت الخلافة العباسية وإنهاء تسلط السلاجقة.
الثاني: نظام الاتصالات المدهش الذي اشتهر به الناصر عبر شبكة مذهلة من الجواسيس الذين كانوا يوافونه بكل التفاصيل، وكان الناصر يستغل هذه التفاصيل الدقيقة بذكاء نادر في الإيحاء بتوفر قدرات خارقة لديه وتواصل مع الجن والعالم السفلي الأمر الذي فرض على خصومه نوعاً من المهابة والرهبة لم تكن لسواه.
ويسجل المؤرخون أنه كان يلتقي سفراء جنكيز خان فيخبرهم بما في الرسائل قبل أن يستلمها، وينبئهم بما كتب فيها، وقد تمكن أن يغير خطط المغول في غزو أذربيجان بهذه الوسائل، وهو أمر يحتاج إلى تفاصيل كثيرة أحيل فيها إلى بحث الدكتور صالح مهدي الهاشم بعنوان الاتصالات في عهد الخليفة الناصر.[51]
ولا تزال شكوك كثيرة تحيط بعلاقات الخليفة الناصر بجنكيز خان، والتواصل الدبلوماسي الذي مارسه الحاكمان، واتفاقيات عدم الاعتداء التي تم تنفيذها بدقة بحيث لم تقم أي مواجهات عباسية مغولية طيلة هذه الفترة الملتهبة.
وكان نجاح الخليفة الناصر في تحنب الحرب مع المغول سبباً لنشر تساؤلات كثيرة حول معنى ذلك وجدواه، وقد تردد بين المؤرخين ان الخليفة الناصر كاتب جنكيز خان يغريه بغزو الدولة الخوارزمية التي كانت بين الصين وفارس، وقد أشار المؤرخ ابن الأثير إلى هذا الاحتمال بقوله: فإن كان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم [52]
وقد رد العلامة المؤرخ مصطفى جواد على آراء ابن الأثير إذ جاء في مقدمته لكتاب الفتوة لابن المعمار الحنبلي “ولم يوفق ابن الأثير للصواب في نقده هذا لان الناصر كان قد وحد الأمة الإسلامية بمساعيه ومنها الفتوة وأعاد إلى العرب عزتهم المسلوبة والى الإسلام قوته وبهجته، هذا وان نظر مربي الأمة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها يختلف بالبداهة عن نظر مؤرخ محدود الفكر متأثر بالحوادث الشخصية والحوادث السياسية، وانه – أي النـاصر كان قد أتم توحيد العالم العربي وتوحيد العالم الإسلامي وبلغ فيها درجة التقديس فقد دامت خلافته 47 سنة وهي أطول مدة خلافة لبني العباس وترك من المآثر والآثار ما لا يحصى وفرة ولولا نـزق سلطان خوارزم لنجا العالم الإسلامي من طوفان المغول وطغيانهم ومجازرهم البشرية وعدوانهم وعبثهم وإفسادهم إلا إن ذلك السلطان الأحمق جنى على خليفة المسلمين وعلى نفسه ومملكته والعالم الإسلامي.”[53]
كما ردها أيضا علي الصلابي: ” وهناك من يرجع سبب الغزو المغولي إلى تحريض الخليفة العباسي الناصر لدين الله جنكيز خان على غزو الدولة الخوارزمية، وقد جاء اتهام الناصر بذلك في ابن الأثير، … وقد تابع ابن الأثير في هذا الاتهام فريق من المؤرخين الأقدمين كابن الوردي وابن الفرات، كما جاء الاتهام في كتب بعض المستشرقين، ومن هؤلاء براون، فقد أورد هذا الاتهام في معرض حديثه على الناصر وعلاقته بخوارزمشاه بقوله: وأخذ يشجع المغول على مهاجمته، ومن بينهم هارولد لام وكارتن فقد ذكرا أن الخليفة عرض على جنكيز خان في رسالته أن يقوم هو بمهاجمة الدولة الخوارزمية من الشرق، ويتولى الناصر مهمة مهاجمتها من الغرب، وبذلك يطبقان عليها.
إن من يتأمل ما ذكره ابن الأثير يتضح له كراهيته للخليفة الناصر، لذا وصمه بهذا الاتهام تشهيراً به، ولما أحس الأمر قد ينكشف وتتضح براءة الناصر، نسب روايته إلى مصدر مطعون في صدقه، وهو العجم أي الخوارزميين، ومما يجدر ذكره أن هناك مؤرخين غير ابن الأثير عاصروا هذه الفترة، ولم يشيروا إلى اتصال الناصر بالمغول، من أمثال النسوي، وسبط ابن الجوزي، وابن شداد، وأبي شامة، ويليهم ابن واصل، واليونيني، وابن طباطبا، ولا نغفل أن المؤرخين الصينيين الذين رافقوا حملة جنكيز خان وأولاده وأرخوا لهم تاريخهم، لم تكن مدوناتهم مجهولة للمؤرخين المسلمين الذين خدموا المغول فيما بعد، ولذلك فإنا نرجح عدم صحة اتهام الناصر بتحريض المغول على غزو الدولة الخوارزمية، أو تسببه بأية صورة في وقوع ذلك”[54]
ولا بد من الإشارة هنا إلى خبر مثير يستدعي دراسة عميقة، وهو ضرب العملة المشتركة بين الناصر وبين جنكيز خان.
فقد كشفت دراسات حديثة عن عملات قديمة لا تزال تحير الباحثين وفيها يبدو اسم الخليفة الناصر لدين الله مع اسم جنكيز خان جنباً إلى جنب على العملة، أو في طرفيها، مما يدل على لون من التعاون الدبلوماسي يتجاوز علاقات الدول البعيدة إلى علاقات تعاون وتكامل.
كما تشتمل قطع أخرى من العملة على ذكر تعظيم الله ورسوله إلى جانب ذكر الخليفة الناصر والسلطان المغولي جنكيز خان.
وقد كتب الباحث أحمد رسمي دراسة ضافية عن العملة المسكوكة وعليها اسم الخليفة الناصر واسم جنكيز خان، وانتهى فيها إلى أن الخليفة الناصر هو جنكيز خان نفسه، ونحن بالطبع لا نوافقه هذه القراءة التي لم يسبق إلى افتراضها أي مؤرخ، ولكننا في الوقت نفسه لا نملك تفسيراً كافياً لذلك.[55]
ومع أن الدراسات لا تزال غير ناضجة فيتفسير ذلك، ولكن من المؤكد أن صدور عملة كهذه في غاية الاحترام للخليفة والملك المغولي تحمل إشارة واضحة عن جهود دبلوماسية عميقة قامت بين الدولتين ونجحت في تجنب الحرب.
وفي النهاية فقد نجح الناصر تماماً في تجنيب بلاده الحرب مع المغول على الرغم من طوفان الحرب المغولية التي أشعلت آسيا الوسطى وكازاحستان وجورجيا وبلغت جزيرة القرم.
ولا شك ان العباسيين لم يدخلوا أبداً إلى الصين ولم يكن لهم فيها موطئ قدم، ولكن انتشار هذه العملة يؤكد ما أورده الذهبي من نجاح دبلوماسية الخليفة الناصر في التحالف مع جنكيز خان الذي كان آنئذ يحتل أجزاء من الصين، وتجنيب البلاد ويلات الحرب المغولية المدمرة.
ولا نملك حتى الآن توكيداً للجغرافيا التي استخدمت فيها هذه العملة، في الصين او في العراق، ومن الواضح ان الخليفة العباسي الناصر قد أمر بها في سياق اتفاق ما مع جنكيز خان يدرء الحرب بين الخلافة وبين الطموح المغولي الهائج.
ومما يعزز هذه الفرضية ما نقله المؤرخون عن عرض مماثل طلبه هولاكو من الخليفة المستنصر آخر خلفاء بني العباس، يتضمن صك عملة باسمه وذكره على المنابر كشرط للكف عن غزو بغداد، وقد هم المستنصر بقبول ذلك ولكن أعوانه حذروه من الاستجابة لهذا، وكانت النتيجة انهيار آخر فرصة لتجنب الحرب في بغداد[56]
ربما لا يمكننا في هذه العجالة أن نحكم على صواب منهج الناصر في تجنب الحرب مع جنكيز خان واسترضائه بالوسائل الدبلوماسية، فقد هلك جنكيز خان وجاء أحفاده من بعده بقيادة هولاكو واجتاحوا بغداد بشكل وحشي مدمر ولم يالوا إلاً ولا ذمة في أحفاد الناصر وقتلوا حفيده المستعصم تحت سنابك الخيل واجتاحوا بغداد في أفظع كارثة إنسانية في العصور الوسطى.
وبالتأكيد فإن هناك تبريران للكارثة:
الأول هو افتقار خلفاء الناصر لدبلوماسيته وحكمته وسياسته في تجنب الحرب، واصطناع الخيارات البديلة.
الثاني: هو تحول خطط المغول وإصرارهم على دخول بغداد رغم المعاهدات الدبلوماسية المتينة التي عقدها الناصر مع المغول.
أميل بالطبع إلى الخيار الأول، وأعتقد انه كان يمكن تجنب الحرب بدبلوماسية مماثلة، ولم يكن وصول المغولإلى بغداد قدراً لازباً، بدليل أن المغول وإن اجتاحوا بغداد فإنهم لم يستطيعوا القرار فيها وسرعان ما خرجوا منها، والأمر الأكثر أهمية هو أنهم تحولوا بعد قليل إلى الإسلام مما يدل على صحة خطط الناصر التي كان قد بدأها خلال خلافته.
ويؤيد هذا الرأي المؤرخ صالح مهدي الهاشم:
فقد استثمر (الناصر) هذا الرعب مرة عندما حاول المغول مهاجمة اطراف الدولة عام 618هـ/1220م حين وصلت الاخبار بتقدم المغول من مراغة في اذربيجان، ولكنهم اسرعوا في الانسحاب ظناً منهم ان قوات الخليفة الناصر في اثره، وتلا ذلك فترة من الهدوء دامت نحواً من عشر سنوات[57] عندما عاود المغول الكرة وبعد وفاة الخليفة الناصر بزمن، ولم يل الخلافة بعده من يستثمر هذا الفن ويمضي به قدماً، فكان ما كان بعد موت هذا الخليفة المحنك.“[58]
وخلال جهوده الدبلوماسية تمكن من درء خطر الحرب عن دولة الخلافة نحو نصف قرن، على الرغم من الأطماع المؤكدة للتتار والصليبيين في دولة الخلافة، ولكنه اعتمد مبدا الدبلوماسية بدل الحرب، ويبدو أنه تواصل مع التتار عبر مسارات غير رسمية حتى اتهمه خصومه بالتواطئ مع الصليبيين تارة ومع المغول تارة، والحق أن الرجل كان حكيماً بأساليب الدبلوماسية البصيرة واستطاع أن يتجنب الحرب خلال تلك الفترة العصيبة القاسية من التاريخ.
وعلى صعيد الأمن الداخلي اعتمد الناصر استراتيجية هامة، يمكن تسميتها بمبدأ الفتوة أو الدفاع الشعبي، وذلك على أساس من نظم الفتوة والكشافة التي تعتمد على الشباب، وكانت جهوده في تنظيم الشباب بنظم الفتوة والكشافة تهدف إلى منح روح المغامرة والفروسية آفاقاً إيجابية، تقودها الدولة وتجعل منهم قوة ردع دون أو تورطهم في الحروب، ففرق الفتوة والكشافة تختلف اختلافاً جذرياً عن كتائب الحرب والقتال، وقد استطاع بهذه الأنشطة أن يضم كثيراً من الحركات العنيفة المنفلتة من العيارين واللصوص والشطار في إطار جهاز شرطي متين يعتبر رصيداً للامن الوطني للدولة دون أن يتحول هؤلاء إلى غزاة أو محاربين.
ونظراً لأهمية نظام الفتوة فقد ألزم الناصر لدين الله جميع حكام الولايات والمعتمدين والوكلاء والمسؤولين في العاصمة بغداد والأقاليم باتخاذ ذلك شعاراً ونسبة حيث ألزمهم بلبس سراويل الفتوة وملابس الكشافة، وتزيين صدورهم بالإشارات والنياشين الدالة عليها والموسومة بها وألزم هؤلاء أولادهم وحاشيتهم وكل القادرين على حمل السلاح من اتباعهم الانخراط في كتائب الفتوة وتنظيمات الكشافة.
ودخل فيه الأجلاء، ثم الملوك فألبسوا الملك العادل وأولاده سرارويل الفتوة وألبسوا شهاب الدين الغوري ملك غزنة والهند وصاحب كيش وأتابك سعد صاحب شيراز والملك الظاهر صاحب حلب[59]
وهكذا فقد كان برنامجه في تعزيز ثقافة الفتوة يهدف إلى جعل النظام الاجتماعي رادعاً للعابثين، ومانعاً للحرب وقد تحقق ذلك إلى قدر كبير خلال فترة حكمه، كما أنه خلق حالة من التوحد بين أقاليم دولة الخلافة على أساس من التقاليد والمثل المتطابقة التي يلزمها الشباب وتخلق نوعاً فريداً من الوحدة بين طبقات الشعب.
كما كان نظام الفتوة في الواقع بمثابة رباط دبلوماسي بين حواضر الخلافة المتباعدة، وحقق لوناًمن التوحد الوطني بين جيل الشباب في مختلف أطراف العالم الإسلامي آنذاك.
وكان من أبرز القادة الذين شاركوا الخليفة الناصر في نظام الفتوة الملك العادل الأيوبي الذي لبس هو وأولاده وحاشيته سراويل الفتوةوكذلك الملك الظاهر صاحب حلب وكلاهما كانا عيني الخليفة ومدده وإمداده في الحروب الصليبية التي توجت بفتح القدس وطرد الصليبيين منها عام 583 للهجرة، وكذلك صاحب غزنة في الهند شهاب الدين الغزنوي، وصاحب كيش والآتابك سعد صاحب شيراز، وهؤلاء عيونه ومدده وإمداداته ضد هجمات المغول وهذا ولا ريب غاية في الادارة والشجاعة عنوان كبير لتوحيد صفوف الامة وشهادة على ما يتميز به الخليفة الناصر من ولاء الولايات الإسلامية شرقها وغربها وإنه مركز هذا التنظيم ورمز الوحدة..
وقد تمكن الناصر من تحقيق انخراط ألوف الشباب والفتية في مهام شعبية واستخباراتية لصالح الدولة، كما أنه أبدى اهتماماً غير عادي بمظاهر التدريب المنتظمة واستخدم تأثيرها الكبير في نشر ردع كاف ضد اللصوص والفساق وضد من تسول له نفسه التطاول على هيبة الدولة.
وهكذا فقد كانت هذه التنظيمات بديلاً اجتماعياً عن التسلح العسكري، وحققت دبلوماسية اجتماعية بدل الحرب، مكنت من انتقاء الكفاءات الشابة وزجها في جهاز الاتصالات المتين وتنظيم المعلومات، الى درجة قيل فيها عن الخليفة الناصر أنه كان يشاهد جميع البلاد وما جاورها بعيون مفتوحة ودفعة واحدة.
وهكذا مكن هذا الجهاز المتطور الخليفة الناصر لدين الله من ان يكون مدداً صلاح الدين الايوبي في مواجهة الصليبيين، وسببا في انتصاراته، كما أن هذه المهارات نفسها الجأت التتار إلى الانزواء والانكفاء خوفا من التدمير.
فقد امتزجت وبجدارة مواهب الخليفة الناصر لدين الله وقدراته مع نشاطات القائمين على فن الاتصالات في زمانه فملأ القلوب هيبة وخيفة حتى كان يرهبه اهل الهند واهل مصر فاحيا هيبة الخلافة، ويقول الذهبي: كان الناس بمصر والشام في خلوات الملوك والأكابر اذا جرى ذكره خفضوا أصواتهم اجلالا له.
وينقل الذهبي ايضاً: دانت للناصر السلاطين ودخل تحت طاعته المخالفون وذلت له العتاة، وانقهر بسيفه البغاة، وملك ما لم يملكه غيره وخطب له بالاندلس وبالصين، وكان أسد بني العباس تتصدع لهيبته الجبال.
بقي أن نقول إننا في سياق إعجابنا بالأسلوب الدبلوماسي الذي تمكن فيه الخليفة الناصر من تجنب الحروب، لا نملك أن نصفه بالحماس ذاته في سياق حسمه للنزاعات الداخلية، التي مارسها بكل حسم وبطش،فقد قام بالتخلص من خصومه بدون رحمة، فقتل أولاً ابن العطار الذي أفسد ما بينه وبين أبيه المستضيء، وكاد أن يحول بينه وبين الخلافة،[60] كما قام بعدذلك بالتحالف مع السلطان الخوارزمي علاء الدين تكش للتخلص من السلطان السلجوقي أرطغرل، وتمكن من ذلك تماماً عام 590 وهدم القلعة السلجوقية في بغداد وقضى على ملك السلاجقة فيها، وقد تم ذلك في سنوات حكمه الأولى، ولم تشهد أيامه بعد ذلك عنفاً مثل هذا.
ويمكن القول إن الخليفة الناصر نجح فيتجنب الحرب المباشرة في مواجهته مع السلاجقة وخاض حرباً بالوكالة بين الخوارزميين والسلاجقة انتهت بتصفية خصومه السلاجقة الذين ظلوا يحكمون دولة الخلافة أكثر من مائة وأربعين عاماً.
ولكنه في النهاية ترك الخوارزميين يواجهون المغول منفردين، دون أن يكون له أي دور فعال في الدفاع عنهم، حتى تمكن المغول من تحطيم الدولة الخوارزمية بشكل نهائي، ولا نستطيع الجزم كيف كان الناصر يتابع أخبار انهيار الدولة الخوارزمية، بعد أن اختار موقفاً سلبياً كاملاً في التعامل مع الحدث الخطير.
وهكذا فقد تمكن الخليفة الناصر بنجاحاته الدبلوماسية الفريدة من بناء دولة قوية آمنة، وحقق ازدهاراً في عدد من الجوانب العلمية والمعرفية توجت ببناء الجامعة المستنصرية التي افتتحت في عهد حفيده المستنصر ولا زالت إلى اليوم أهم مراكز التعليم الأكاديمي في العراق.
وبعد……
فهذه قراءة في أسماء كبرى في تاريخ الحضارة الإسلامية عملت على إحياء السلام في العالم الإسلامي، وحققت نجاحات لافتة في حقل الدبلوماسية بدل الحرب.
وقد بدأت هذه الدراسات برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حقق أعظم نجاحات السلام واختصر القرآن الكريم رسالته في آية واحدة: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
كما تناولت الدراسة خمس شخصيات في التاريخ الإسلامي بالغة الأهمية والتأثير، كان لها أثر عظيم في صناعة السلام ، وتبنت بشكل منهجي منطق الدبلوماسية بدل الحرب وهم على التوالي:
- عمر بن الخطاب
- الحسن بن علي
- عمر بن عبد العزيز
- الحكم المستنصر الأموي
- الناصر لدين الله العباسي
إني آمل أن تأتي هذه الدراسة على نسق مقاصد الإسلام الكبرى من إحياء ثقافة السلام والدبلوماسية في مواجهة ثقافة الحرب، وانتصار العدالة والحكمة على نزعات القوة والبطش، وإحياء مبدأ الحوار الحضاري الذي نطالب به اليوم منهجاً علمياً في مواجهة نزعات التطرف والإقصاء والحرب التي تتزايد بفعل المظالم كل يوم.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
ثبت المصادر
اسم المؤلف | الكتاب | الدارالناشرة | تاريخ ومكان النشر |
القرآن الكريم | |||
القرطبي، محمد بن أحمد | الجامع لاحكام القرآن | مؤسسة الرسالة | بيروت 2006 |
ابن هشام، عبد الملك بن هشام | السيرة النبوية | تحقيق سقا وابياري وشلبي طبع دار المعارف | مصر 1998 |
ابن كثير، اسماعيل بن عمر | السيرة النبوية | تحقيق محمد علي مستو دارابن كثير | بيروت 1987 |
البخاري، محمد بن إسماعيل | الجامع الصحيح | دارابن كثير | بيروت 2002 |
ابن القيم، محمد بن أبي بكر | زاد المعاد | دارالرسالة | بيروت 1998 |
ابن الاثير، علي بن أبي الكرم | الكامل في التاريخ | تحقيق إحسان عباس طبع دار صادر | بيروت 2000 |
الواقدي، محمد بن عمر | فتوح الشام | دار الكتب العلمية | بيروت 1986 |
الطبري، محمد بن جرير | تاريخ الأمم والملوك | دار الكتب العلمية | بيروت 1987 |
البيهقي، أحمد بن الحسين | السنن الكبرى | تجقيق محمد عبد القادر دار الكتب العلمية | بيروت 2003 |
ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد | العبر وديوان المبتدأ والخبر | دار إحياء التراث العربي | بيروت 1998 |
اليعقوبي، أحممد بن جعفر | تاريخ اليعقوبي | دار ابن حزم | بيروت 1997 |
العظم، رفيق | أشهر مشاهير الاسلام | دارالرائد العربي | بيروت 1983 |
ابن رشد، أبو الوليد ، محمد بن احمد | بداية المجتهد ونهاية المقتصد | دار ابن حزم | بيروت 1999 |
ابن زنجويه، حميد بن مخلد | الأموال | دارالكتب العلمية | بيروت 1997 |
العسقلاني، أحمد بن حجر | فتح الباري بشرح صحيح البخاري | تحقيق عبد الباقي ومحب الدين الخطيب
دار الريان للتراث |
مصر 1986 |
ديورانت، ول | قصة الحضارة | مؤسسة الرسالة | بيروت 2002 |
ابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي | سيرة عمر بن بعد العزيز | عالم الكتب | بيروت 1984 |
الكرباسي، محمد صادق | تاريخ المراقد | المركز الحسيني للدراسات | لندن 2003 |
العصامي، عبد الملك بن حسين | سمط النجوم العوالي | دارالكتبالعلمية | بيروت 1999 |
الصفدي، صلاح الدين خليل بن أيبك | الوافي بالوفيات | دار احياء التراث العربي | بيروت 2000 |
الهمذاني، رشيد الدين | تاريخ المغول | دار إحياء الكتب العربية | مصر 1970 |
ابن عذارى المراكشي، محمد بن محمد | البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب | تحقيق بروفنسال دار الثقافة | بيروت 1953 |
السامرائي، خليل ابراهيم | تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس | دار الكتاب الجديد | بيروت 2000 |
المقالات المعتمدة
الكاتب | عنوان المقال | المجلة الناشرة | تاريخ ومكان النشر |
د. محمود مهدي هاشم | مقال: فن الاتصالات زمن الخليفة العباسي الناصر | مجلة تاريخ الحضارة العربية | بيروت 2011 |
أحمد رسمي | مقال: الخليفة الناصر حنكيز خان | مجلة مصر المدنية | القاهرة – ابريل – 2015 |
لي هوا بينغ
|
مقال بعنوان: الحوار الحضاري الصيني العربي | مجلة الصين اليوم، بكين، | توزيع المكتب الاقليمي بالقاهرة، عدد يناير 2007 |
د. نزيه قسيس | البابا سلفستر الثاني ودوره في نقل العلوم العربية إلى أوروبا | صحيفة الموقد اللبنانية | عدد تموز 2013 |
نحن نهدي الأرض زهراً ووئاماً …. وسوانا يوقد النار ضرامــــــاً
كل نمرود إذا أوقـــــــــــــــــــــــد ناراً …. عادت النيران بردا وسلاماً
[1] القرطبي ، محمد بن أحمد القرطبي الخزرجي، الجامع لأحكام القرآن ج 6 ص 256
[3] سائر ما نورده هنا من الأخبار في السيرة مقتبس من سيرة ابن هشام وسيرة ابن كثير، وحيث ننقل من سواهما فإننا نحيل إلى صاحب الرواية.
[4] البخاري، محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح، كتاب الجهاد والسير، الحديث برقم 1742
[5] ابن القيم، محمد بن أبي بكر، زاد المعاد، ج 2 ص 417
[6] ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم ، الكامل في التاريخ، ج18 ص 40
[7] الواقدي، محمد بن عمر بن واقد، فتوح الشام، ج 1 ص233
[8] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج2 ص 449
[9] البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى، ج 9 ص 339
[10] ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، العبر وديوان المبتدأ والخبر (تاريخ ابن خلدون) ج2 ص225
[11] الطبري ، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 2 ص 498
[12] المصدر نفسه والموضع نفسه
[13] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم ، الكامل في التاريخ ج 1 ص 441
[14] اليعقوبي، أحمد بن جعفر، تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 162
[15] الرواية المذكورة جمع بين نص ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك ونص الكامل في التاريخ لابن الأثير
[16] ومن الضروري ان نذكر ان قصة الهرمزان برمتها لا تزال غامضة تحتاج إلى مزيد من البحث، ولكن المؤكد ان عمر أراده منبراً للحوار مع الفرس ودعوتهم للإسلام، وأن مقامه الطويل بالمدينة كان لهذه الغاية، ولو أراد قتله لأمرهم بقتله في البصرة قبل أن يحملوه إليه.
كما يجب أن نشير أن اغتيال عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي غير كل شيء، ومباشرة وضع الهرمزان في قفص الاتهام حيث اتهم بالتواطئ معه في قتل عمر، وفي لحظات انفعالية قام عبيد الله بن عمر بقتل الهرمزان دون محاكمة ولا بينة ولا شهود.
وقد ترك الهرمزان في المدينة ولده الجارود، واشتهر حفيده علي بن الأزهر بن عبد ربه بن الجارود بن الهرمزان، ترجم له الذهبي في تاريخ الإسلام.
[17] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، المامل في التاريخ، ج 1 ص 486
[18] ابن الأثير، عز الدين علي بن ابي الكرم ، الكامل في التاريخ ج1 ص 686
[19] العظم، رفيق، أشهر مشاهير الاسلام في الحربوالسياسة، ج 2 ص 112
[20] ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ج1 ص 325
[21] ابن زنجويه، حميد بن مخلد، كتاب الاموال، ج 1 ص 194
[22] الصريمة تَصْغِير الصرمة: وهو القطيع من الْإِبِل نحو الثلاثين، والغنيمة: القطيع من عشرين شاة أو بعيراً، والمقصود أدخلهما في أرض الحمى ليرعيا فيها، لأن رزقهم قليل بخلاف ذوي الأملاك الكبيرة كابن عوف وابن عفان لان لديهم ما يستأجرون به من أرض الرعي ولا ينبغس إعطاؤهم من مال الدولة.
[23] البخاري، محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح ج 4 ص 71
[24] البخاري، محمد بن اسماعيل، الجامع الصحيح، ج 33 ص 186
[25] العصقلاني، ابن حجر، فتح الباري، ج 9 ص 109
[26] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك ج3 ص156
[27] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج 4 ص 125
[28] ول ديورانت، قصة الحضارة ج 22 ص 432
[29] ابن الأثير، عز الدين علي بن ابي الكرم، الكامل في التاريخ، ج 18 ص 40
[31] يرجح الباحث الصيني المتخصص بالعلاقات العربية الصينية لي هوا بينغ، أنه كان بالفعل الحاكم الصيني في تشيان العاصمة التاريخية للصين، وذلك في مقال له كتبه في مجلة الصين اليوم، بكين، توزيع المكتب الاقليمي بالقاهرة، عدد يناير 2007
[32] مقال للدكتور لي هوا بينغ، بعنوان الحوار الحضاري بين العرب والصين، مجلة الصين اليوم، بكين، توزيع المكتب الاقليمي بالقاهرة، عدد يناير 2007
[33] مقال للكاتب الصيني هونغ جون نيان، بعنوان الحوار الحضاري الصيني العربي، نشرته مجلة الصين اليوم، طبع المكتب الاقليمي في القاهرة عدد يناير 2007
[34] الطبري، محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج4 ص 64
[36] ابن الجوزي، سيرة عمر بن عبد العزيز ص 99 وعنه نقل ول ديورانت في قصة الحضارة، ج22 ص433
[37] ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريح ج2 ص 367 وروى الخبر نفسه ابن جرير في تاريخ الامم والملوك، وابن كثير في البداية والنهاية وآخرون
[38] ابن الأثير، عز الدين علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ ج 18 ص 51
[39] ابن عذارى المراكشي، محمد بن محمد، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ج 2 ص 245
[40] ابن عذارى المراكشي، محمد بن محمد، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب ج 2 ص 245
[41] السامرائي، خليل ابراهيم، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، ج 1 ص 190
[42] السامرائي، خليل ابراهيم، تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، ج 1 ص 476
[43] مقال الدكتور نزيه قسيس في صحيفة الموقد اللبنانية عدد تموز 2013
[44] تاريخ المراقد ج2 ص33 محمد صادق الكرباسي نشر المركز الحسنيني للدراسات – لندن 2003
[45] العصامي، سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي ج2 ص 246
[46] الصفدي، الوافي بالوفيات ج2 ص325
[47] المصدر نفسه
[48] السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، تاريخ الخلفاء، ج1 ص87
[49] السيوطي تاريخ الخلفاء ج1 ص 186
[50] السيوطي، تاريخ الخلفاء، ج1 ص 186
[51] مقال للدكتور محمود مهدي الهاشم، بعنوان: فن الاتصالات زمن الخليفة العباسي الناصر لدين الله.، مجلة تاريخ الحضارة العربية، 2002، بيروت
[52] ابن الأثير، عز الدين علي بن ابي الكرم، ج 10 ص 401
[53] مقال للدكتور محمود مهدي الهاشم، بعنوان: فن الاتصالات زمن الخليفة العباسي الناصر لدين الله.، مجلة تاريخ الحضارة العربية، 2011، بيروت
[54] المقال نفسه للدكتور محمود مهدي الهاشم
[55] مقال للباحث أحمد رسمي بعنوان : الخليفة الناصر لدين الله جنكيز خان، نشرها في مجلة حركة مصر المدنية، عدد أبريل 2015 ،وقد نشر فيه صور العملة، بعدة أشكال وانتهى من ذلك الى ان الخليفة الناصر هو نفسه جنكيز خان، وهو ما لا نؤيده.
[56] الهمداني، رشيد الدين، تاريخ المغول (الترجمة العربية) مجلد 2 ج1 ص 272 .
[57] بل 36 عاما حيث وصل المغول الى بغداد 656
[58] مقال للدكتور محمود مهدي الهاشم، بعنوان: فن الاتصالات زمن الخليفة العباسي الناصر لدين الله.، مجلة تاريخ الحضارة العربية، 2002، بيروت
[59]الوافي بالوفيات للصفدي ج2 ص 325
[60] ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ ج10 ص 98