مقالات

د. محمد الحبش- صناعة الجهاد .. في سبيل الله والمستضعفين في الأرض…18/8/2006

لم تخف كونداليزا رايس شماتتها بالشعب اللبناني المذبوح وأعلنت على ركام الضحايا والشهداء إتمام المرحلة الأولى من بناء الشرق الأوسط الجديد, وأن المرحلة التالية ستكون مباشرة بعد أن أتمت إسرائيل (تدمير) البنية التحتية للمقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله.
كانت الخطوة التالية كما ترسمها بصارة البيت الأبيض هي جيل جديد في الشرق الأوسط يفهم أن المقاومة مغامرة طائشة, وأنها ستؤدي إلى خراب البلد وأن السيد الأمريكي لا تتوفر لديه أية رغبة بوقف حمامات الدم دون تحقيق الأهداف النبيلة لهذه الحرب!! وأن العقل والحكمة يقتضيان إباحة الأرض والعرض للسيد الإسرائيلي والإشادة بمنجزاته التي تأتي عادة على ركام من الدماء والمآسي وأن هذه الألوف من الضحايا وعشرات الألوف من المنازل المدمرة والألوف من المعاقين والملايين من النازحين هي أشياء ضرورية لقيام الاستقرار في الشرق الأوسط الجديد!!.‏
هذه باختصار رؤية الإدارة الأمريكية الحالية لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وقيام نظم عربية غير مشاغبة يمكن معها تحقيق الاستقرار, وهي رغبة حظيت هذه المرة بتفاعل هائل من عدد غير قليل من حكام العرب, الذين صرحوا هذه المرة بأن المقاومة عمل طائش فلتان لن يحقق إي هدف إيجابي للوطن!!‏
فإلى أي مدى تمكن الأمريكيون من تحقيق ذلك?‏
عملياً فإن حزب الله أطلق من صواريخه في آخر أيام المواجهة ضعف ما أطلق في أول أيام المواجهة!!, وهو كما يبدو قادر أن يقدم مزيداً من المفاجآت في أجواء الحرب التي يطلقها الإسرائيليون.‏
ولكن الأهم من ذلك هو أين أصبحت مشاعر الناس في مقاومة المحتل بعد المأساة التي عصفت بلبنان?‏
وإلى أي مدى تمكنت هذه الحرب من إقناع الناس في الشرق الأوسط أن المقاومة خيار مغامر ينتج الجعجعة ولا يقدم الطحين?‏
لا يبدو أن الأحلام الأمريكية قد أنجزت شيئاً إلا المزيد من الغضب ضد سياساتها والمزيد من الشباب الراغبين بالانضمام إلى أعمال المقاومة.‏
قبل أيام اتصلت بي أختي عائشة من حماه وهي تروي معاناة أسرة حموية تبحث عن اثنين من أبنائها قالوا إنهم ذاهبون إلى الشاطىء مع أصدقائهم في نزهة تستغرق أياماً قليلة, وقد وافق الوالدان على الفكرة لتخفيف الضغط الذي أصاب الاولاد من خلال متابعة مشاهد الحرب على الفضائيات, وهم بالضرورة يحتاجون إلى بعض أيام من الاستجمام والراحة!!‏
هكذا كانت صورة المشوار كما تصورها آباء الفتيان الخمسة, وقالت الأم: الله معك يا ولدي ويحميك, وإن شاء الله ترجعوا وتكون الحرب وقفت, قالتها الأم وكان كل شيء في حماه يبدو عادياً, ولكن مع غروب الشمس اتصل بهم شخص من بعيد وقال: يوجد رسالة تركها سعيد ورضوان تحت الوسادة!‏
في الرسالة: ماما .. بابا.. إخواتي الأعزاء, نود أن نقول لكم وداعاً, لا أظن أن اللقاء ممكن في القريب العاجل, وربما لن يكون اللقاء إلا في السماء, لقد التحقنا بالمقاومة ونسأل الله أن يكتب لنا الشهادة!!!‏
لم يكن سعيد ورضوان معروفين بالأصولية أو التشدد, ولم تكن لهما لحى طويلة ولم يكن على رأسيهما البريئين أي عمامة أو مشاهد أصولية, إنهما يرتديان الجنز ويشربان الكولا ويحبان الماكدونالد ولهما نجمهما المفضل في الفن, وقد تابعا كل مباريات المونديال بدون تفريط!!‏
كان برنامج رضوان طافحاً بالآمال وكان ينتظر فرصة السفر إلى دبي بعد التخرج مباشرة حيث وفر له خاله فرصة عمل في تلك الورشة الهائلة التي تستخدم اليوم ثلث الرافعات الشوكية في العالم لبناء مدينة معجزة اسمها دبي يمكن أن تقرأ فيها كل أحلام الشرق الأوسط الجديد.‏
فما الذي جعل منهما إذن مشروع شهادة طافح, يتخلى عن كل آماله الوردية من أجل المقاومة??‏
وكيف تتم اليوم صناعة المقاومين, في الشرق الإسلامي?‏
وهل يدرك أولئك الذين دفعوا الجيش الإسرائيلي إلى ارتكاب المجازر في كل مكان من لبنان أنهم بذلك يؤسسون لجيل آخر من جيل المقاومة?‏
كان واضحاً أن الجيل الذي عاش أيام عبد الناصر وأحمد الشقيري وكان يطالب باستمرار برمي إسرائيل في البحر, والخلاص من الغدة السرطانية المسماة إسرائيل قد ولت أيامه, وسيأتي جيل منطقي وعاقل ويطالب فقط بالأراضي التي احتلتها إسرائيل عام سبعة وستين, مع منح إسرائيل ما تشاء من ضمانات لحماية أمنها.‏
ولكن ما يجب قوله أن الذي حصل هو العكس, وأن جيل الغضب هذا يولد من جديد وأن الزمان قد استدار كهيئته الأولى بعد النكبة وبعد النكسة يريد الانتقام والثأر.‏
شخصياً لم أجد في كلام السيد الرئيس أي شيء مختلف عن خطاب الشارع العربي, هذه الصيحات هي أشياء يسمعها الناس على مدى طول الشارع العربي وعرضه, من المحيط المطعون إلى الخليج المرهون – على حد تعبير صابر فلحوط- ولكن قد يكون صدوره من رجل دولة هو الأمر الذي يستهجنه كثير من الحكام العرب الذين تعودوا أن تكون خطاباتهم كلاماً بروتوكولياً يقارب الهم ولا يلامسه.‏
في حواري مع قناة العربية سألت منتهى الرمحي: لماذا يبدو الرئيس الأسد متشدداً? وما الذي يدفعه لخيارات أصبحت تبدو في عكس حركة التاريخ??‏
قلت لها: أنا أشاركك التساؤل والحيرة!! ما الذي يجعل شاباً كبشار الأسد, وهو الذي تعلم في بريطانيا ويعرف جيداً الحضارة الغربية, وهو ليس قادماً من تورا بورا, وليس له وجه فيدل كاسترو ولا تشرد تشي غيفارا ولا عمامة الخميني, ما الذي يجعله يتحول إلى خيار المقاومة ويتحدى هذا العصر الأمريكي الطاغي??‏
ذات يوم سأل السيد جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الرئيس حافظ الأسد: لماذا تتعزز الأصولية هنا? وما هو السبب في عودة الناس إلى المساجد وإقبالهم على العمل الجهادي بدوافع دينية? وما هو السر الذي يفسر مشهد الصحوة الإسلامية?‏
قال الأسد في الجواب: سيد بيكر!! إذا لم تغير أمريكا سياستها الظالمة فربما تأتي إلينا مرة أخرى وتجد لحيتي مثل لحاهم وعمائمهم, وستجدني واحداً منهم في الكفاح من أجل الأرض والحقوق.‏
إنها سياستكم سيد بيكر, إنها المظالم التي تمارسونها في الشرق ودعمكم الأعمى لإسرائيل يدفع بالشباب إلى خيار المقاومة والشهادة بعد أن أيقنوا أنه ليس لديكم ما تقدمونه لهم على مائدة السلام!!‏
خلال العدوان الأخير على لبنان ألقى الإسرائيليون ما يقارب أربعة ملايين كغ من المتفجرات على الشعب اللبناني بمعدل كغ لكل مواطن!! إن قنبلة واحدة تلقيها إسرائيل على الأبرياء في لبنان تصنع مجاهدين أكثر من مائة خطبة عن الجهاد!!‏
هل تدرك أمريكا أن صناعة الجهاد أو ما تسميه هي صناعة الإرهاب هو نتيجة طبيعة للمظالم التي تواجهها من السياسة الأمريكية والصهيونية?‏
هل تتصور أمريكا أن الأطفال العائدين إلى منازلهم وقراهم المهدمة وذكريات أمهاتهم وأخواتهم الذين دفنوا تحت الأنقاض ولم يستطع حتى الصليب الأحمر الوصول إليهم, هل تظن أمريكا أن جيل الغضب هذا سينسى همومه ويتسكع في خمارات شارع الحمرا وكازينو لبنان?? من سيقنع هذه القسمات الغاضبة بالمزامير الأمريكية التي ترتل نشيد نهاية التاريخ وتبشر بالعدالة الأمريكية القادمة?‏
شرح شوقي كل ذلك في رثاء عمر المختار:‏
ركزوا رفاتك في التراب لواء يستنهض الوادي صباح مساء‏
يا ويلهم ركزوا رفاتاً من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء‏
جرح يصيح على المدى وضحية تتلمس الحرية الحمراء‏

Related posts

وحيد الدين خان – التنوير في مواجهة الكهنوت

drmohammad

د.محمد حبش- من أجل شام شريف 27/1/2006

drmohammad

المرأة وقضايا النساء 18/7/2007

drmohammad

Leave a Comment