كان التحدي الأكبر أمام مؤتمر قطر للوحدة الإسلامية يتمثل في أن الذين يمارسون القتل في العراق, ويرقصون على دماء القتلى وأشلائهم,
لا يحضرون هذه المؤتمرات وليس لديهم وقت يضيعونه في الخطابة والنقاشات الباردة, ولا يسيل لعابهم لركوب السيارات الفارهة التي وفرتها حكومة قطر, بل ربما كان توقهم لتفخيخها أكثر من شوقهم لركوبها, وربما يغريهم العمل في صاج هذه السيارات أكثر من إغرائهم بالتمتع بوسائل الرفاهية فيها, وهم يفضلون أن يذكروا في النشرات الرئيسية مفخخين أو مفخخين على مركب الموت كخبر أول أكثر من أن يذكروا في النشرة الثقافية كمحاضرين على المنصات الوقورة, وأي رجاء تأمله ممن جعلوا رسالتهم إبادة الآخر وإحراق الوطن (في سبيل الله)!! في لون من الحقد يتجاوز ما رأيناه في قبائل التوتسي والهاوسا أو في راوندي وبورندا?
والسؤال الآن: كيف سنتمكن من تجنب هذا الحريق المجنون الذي يصنع الموت ويسحق الحياة?
التوجيه النبوي في هذه المرحلة يتجاوز الزعامات التقليدية ويتوجه مباشرة إلى الناس, حيث يحمل كل أحد مسؤوليته أمام الله والتاريخ.
وتجنب امتداد هذه المصيبة الكارثة يقتضي الصرامة في مواجهة كل خطاب تكفيري أو إلغائي مهما كان مزيناً بديباجة الغيرة على الإسلام والدفاع عن الثوابت والعقيدة, وتأجيل ذلك كله والتزام الخطاب القرآني العظيم: }قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون {.
إن الأمر بالقعود في الفتن لا يقل شدة وصعوبة عن الأمر بالإقدام في ساحة الجهاد, فعندما تغلي الرؤوس بالدم من الغضب وتوق الثأر فإن المسألة هنا تتطلب مبادرة من نوع آخر لا تتوقف عند مسؤولية الزعماء بل تتجاوز القائد الديني الذي يخشى أن يخف غضبه فيخسر جمهوره فهو دائم الرغبة بإثارة الغضب إلى الناس, ولبس الأكفان, واستيراد كلمات الثأر والنزق والتوق للموت,
في الأيام القليلة الماضية وصلتني عدة بلوتوثات على الماسنجر وفيها شيوخ غاضبون يتحدثون بنزق ومقت عن كفر الآخر المختلف مذهبياً ووجوب قتله, من هذه البلوتوثات واحد لشيخ سعودي مشهور, وآخر لشيخ عراقي معروف يتحدث كل منهما أمام مئات الناس وهو يلبس كفنه عن وجوب قتل الآخر المختلف مذهبياً, إلى حد قوله: ومن شك في وجوب قتلهم فإنه يقتل!!! في خطبة مؤثرة يتعالى فيها صوت البكاء والنحيب وسؤال الله المغفرة والرحمة والغفران!!
لا يجوز شرعاً أن نتلقى خطاباً كهذا إمعة بلهاء, أقماعاً للقول, بل يتعين أن ينهض المؤمن برسالته في مواجهة الشر أنى كان هذا الشر, وسواء جاء من أمريكا أو من إسرائيل أو من الشيخ الآمر بالقتل من الناس, وهنا فإن المستمع أيضاً إذ يشارك في مهرجان الموت فإنه سيلقى الله بإثم القاتل سواء كان آمراً أو متلقياً, ففي الحديث: }من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله{.
حين وقف عمر بن الخطاب وهو أكثر الخلفاء صرامة وحزماً ليعلن للأمة إصلاحات تشريعية ضرورية حول تحديد سقف المهور وقفت في وجهه امرأة عجوز وردت عليه غاضبة: ليس لك هذا يا ابن الخطاب!! ومع أنها قطعت خطبة الجمعة على الأمة, وأطاحت بوقار الجمعة وهيبتها, ولكنها حين جاءت برأيها وحجتها وقف عمر بكل احترام ليقول للناس أصابت امرأة وأخطأ عمر!!
وفي موقف آخر وقف عمر يقول للناس اسمعوا وأطيعوا ولكن سلمان الفارسي قال: لا سمع ولا طاعة حتى تخبرنا خبر ثوبك هذا من أين اكتسبته? وذلك في دعوة للمواجهة مع شائعة فساد راجت في المدينة, تتصل بوجبة أثواب وصلت إلى المدينة من اليمن, وطالب سلمان أن يتم بوضوح تبيان وجه إنفاقها في الناس أصولا, وبالفعل توقف عمر عن خطابه وجعل يبين للناس أمر ما استجوبوه فيه!!
فإذا كان هذا وجه اعتراضهم على مسائل بهذا المستوى من الهامشية فكيف تظن اعتراضهم لو كان الأمر يتعلق بدماء الناس وأعراض الناس??
نعم إنني أطالب المصلي في صلاة الجمعة أن لا يكون محض إمعة في القول, فحين يمضي الخطيب للحديث عن قيم الإسلام العظيمة ومكارم الأخلاق فالمسلم متبع مأجور, وإذا صعد الخطيب المنبر فلا صلاة ولا كلام, ولكن حين يمضي الخطيب أياً كان الخطيب إلى لغة تحريضية تفريقية تمزيقية تستبيح دم الناس فإن مسؤولية المصلي هنا لا تتحقق بقول آمين على قول الخطيب, ومن ثم أداء الصلاة بخشوع خلف الإمام, فالمطلوب هنا رجال حكماء يملكون الجرأة بالحق, ويأخذون على يد صاحب الفتنة مهما كان حجم عمامته وطول لحيته, ليس لك أن تفتي بكفر الناس وليس لك أن تحرض على قتل الناس فالقرآن نفسه الذي يتنزل بالشفاء والرحمة لا يزيد الظالمين إلا خساراً وترك الصلاة وإغلاق المسجد في هذه الحال اقرب إلى الله وأمثل!!
الإسلام يدعو إلى حرمة دم الإنسان, وليس فقط المسلم, بل الإنسان لمجرد كونه إنساناً فهو معصوم الدم, بل إن الحيوان أيضاً معصوم الدم في الأشهر الرحم وفي البلد الحرام, بل هو معصوم الدم إذا لم يكن في مقتله نفع ظاهر للناس, وفي الحديث أن عصفورا يقف بين يدي الله يوم القيامة فيقول: يا رب سل هذا لم قتلني من غير مأكلة!!
إن صيغة التكفير والتفسيق والزندقة التي يتولاها خطباء كثير تنتهي عادة إلى خطاب هدر الدم وهي نتيجة لازمة لهذا اللون من الخطاب, وهنا تتعزز من وجهة نظري مسؤولية الفرد المسلم للأخذ على يد الظالم أياً كان موقع هذا الظالم وتصنيفه الاجتماعي, وهو ما بينه رسول الله مثل القائم على حدود الله والراتع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين أصابوا أعلاها إذا مروا بمن فوقهم يقولون لو أننا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا فلو أنهم تركوهم وما أرادوا لهلكوا جميعاً ولو أنهم أخذوا على أيديهم لنجوا ونجوا جميعاً.
كان لقاؤهم في الدوحة عظيماً ولكن المطلوب من وجهة نظري توجيه رسالة مباشرة للأفراد تذكر الفرد بمسؤوليته أيضاً, فالساكت عن الحق شيطان أخرس, وإذا كان إمامنا يعيش في صفحات الماضي الصفراء ويستجر أحقاد التاريخ ليلقيها على الحاضر, فإن الجمهور هنا مسؤول أن يقف في وجه هذا اللون من الجنون, وإذا كان البعض يطلب بمرجعية ينتهي إليها الناس في شأنهم السياسي فأنا أعتقد أن الله منحنا هذه المرجعية عندما وهبنا العقل, وعندما تشترك العقول في انتخاب من تراه أصلح لها في دينها ودنياها فإن المرجعية المأمولة تأتي هنا على الشرط الديمقراطي يتبعها الناس لكنهم أيضاً يراقبونها ويحاسبونها, والمرجعية التي نتمناها هي برلمانات ديمقراطية حقيقية تنبثق من الواقع وتكتسب مشروعيتها من انتخاب الناس ووعيهم وليست شيئاً يفرضها على الناس إكليروس متغول يقيم نفسه مقام الرخ ويقيم الأمة مقام البيدق ثم ينطق باسم الرب فيمنح الجنان لمن يأتمر بأمره ويرسل أخصامه السياسيين إلى الجحيم.
نعم إنها مسؤولية الفرد هذه المرة, فهل سنسمع بالجمهور الذي يحاسب قيادته الدينية كما تحاسب الأمم المحترمة قادتها السياسيين?
الناس تملك جوابين اثنين لقادتها الدينيين, فحين يؤدي هؤلاء رسالتهم بشرف يجب أن نقول لهم: جزاك الله عنا خير ما جزى شيخاً عن مريديه, وحين يقوم بالاستهتار بأمر الله وتكفير الناس على المنابر والتحريض على قتلهم, فيجب أن يكون الناس قادرين على تغيير المنكر باليد واللسان, فالمنكر في شرب الخمر وهتك العورة ليس شيئاً أمام المنكر في قتل الناس بغير حق, وعلى الأمة أن تكون مستعدة لرفع الصوت في وجه هؤلاء وإسماع العالم أنهم دعاة على أبواب جهنم!!