لا شيء جديد في مسألة الهلال!! ستصوم بلاد وتفطر بلاد، ويثبت الهلال عند قوم ويجحده آخرون، وتستمر المعاناة ويتحول أهم مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية إلى ظاهرة شتات!!
المعاناة مع الهلال وثبوته كانت أمراً مفهوماً قبل أربعة عشر قرناً من الزمان ولكن لا يوجد اليوم سبب لتبرير هذا العناء بعد أن حسمت المعرفة الحديثة هذه المسألة بيقين لا يحتمل الشك، وبعيداً عن الجدل الفقهي، دعونا نتحدث من أفق آخر، قبل أعوام تحركت جهود عربية مخلصة في الأمم المتحدة بغرض إقرار يوم الفطر عطلة رسمية في الأمم المتحدة، وأذكر هنا العزيز جورج جبور الذي توصل بمتابعته وعناده إلى تحقيق هذا الإنجاز حين قدم الأدلة الوافية على ضرورة احترام مشاعر المسلمين الذين يمثلون خمس سكان الأرض، وبعد أن تقرر تعطيل الأمم المتحدة في يوم الفطر توجه السؤال ببراءة: متى يكون بالضبط ذلك اليوم ؟ … وكان الجواب بالطبع: إن الله وحده يعلم، وعلينا الانتظار إلى غروب شمس التاسع والعشرين من رمضان، ورصد ما يصدر عن الفقهاء العرب، والاستعانة بالبصارة وقارئة الفنجان لاختيار ما يمكن اختياره من قرارات الحكومات العربية !
والسؤال هنا: هل نحن ملزمون حقاً بمواصلة هذه الحيرة (غير المبررة) إلى الأبد ؟
إن الحديث الشريف الذي يتخذ أصلاً للوقوف عند حدود الرؤية البصرية واضح ومعلل، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين فإذا رأيتم الهلال فصوموا فإن غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً. .. ومن الواضح هنا أن الحديث معلل بالواقع الثقافي والمعرفي آنئذ – إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب – ومقتضى ذلك أن يتغير الحكم إذا صرنا نكتب ونحسب.
لم يعد من المقبول عقلا ً أن يصدق أحد أن الهلال قد أهل في مصر والجزائر ولم يهل في تونس وليبيا، أو أنه أهل في قطر ولم يهل في البحرين، وفكرة اختلاف مطالع الأهلة لا مكان لها اليوم إلا في متحف التراث، وعلينا أن نعترف أن حظ القائلين بها من الشافعية هو حظهم نفسه من الفتيا بالحمل أربع سنين، وهكذا فإن القابلة التي قررت فكرة استدامة الحمل أربع سنين والمنجم الذي قرر اختلاف مطالع الأهلة كلاهما ليس مؤهلاً أن يصدر عنه حكم شرعي تتبعه البلاد والعباد.
إن تقرير الحساب الفلكي معياراً لثبوت الأهلة أصبح اليوم يقينا ًلا يتجاوز هامش الخطأ فيه واحد إلى مليون، وقد رأينا تجربة شعبية فريدة في ذلك عندما أقدم الحساب الفلكي جداوله للكسوف بتحديد الدقيقة والثانية في كل مدينة من مدن سوريا، وشاهدنا جميعاً إلى أي مدى كانت تنطبق قراءة الحساب الفلكي على وقوعات الكسوف المتلاحقة في كل مدينة وقرية، في حين أن الاتفاق على الرؤية البصرية لا يتجاوز عادة الستين أو السبعين بالمائة، وهو ما يمكن رصده كل عام.
إن من العجيب أن الحساب الفلكي معتمد بدون أي نكير في شعائر الصلاة والأذان والصوم فالمؤذن لا يرقب زوال الشمس أو غروبها أو غياب الشفق ليؤذن، بل يرقب ما هو مطبوع في الروزنامة وهو في الواقع حساب فلكي بامتياز، وحين يؤذن فإن نسك الصوم والصلاة يصبح لازما حتما، يعتمده الجميع بدون نكير، وهو بكل تأكيد خلاف ما كان سائداً في عصر النبوة والقرون التي تلته، ولكنه إنجاز حضاري فرض نفسه وتقبله الناس بدون حرج.
فما الذي يلجؤنا إلى هذه الحيرة غير المبررة في مسائل ثبوت الصوم والفطر؟؟
ومع أن جريدة بلدنا ليست المكان المناسب للحوار الفقهي والجدل في المسائل التشريعية، ولكنني هنا أثني على الموقف الجريء للعلامة محمد حسين فضل الله الذي تجاوز ذلك كله وأصبح أول من يبادر بإثبات الهلال عن طريق الحساب. وفتواه التي تسبق الإهلال بأيام يصدرها منذ سنين، وحتى الآن فهي موفقة لما يثبت لاحقاً في معظم البلاد الإسلامية.
previous post
next post