مقالات

د.محمد حبش- ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج؟ 20/1/2006

كارثة رمي الجمرات
قراءة في حصيب منى
ما هذا الذي يجري في منى كل عام؟ ومن المسؤول عن مقتل ثلاثمائة وثلاثة وستين حاجاً في منى خلال التدافع، وهو مشهد أصبحنا نتوقعه في كل موسم حج، يفسد البسمة التي ننتظرها على شفاه حجاج البيت الحرام، وتجعل النسك المقدس موكباً جنائزياً ترتسم فيه صورة الفظائع دون أن نفهم شيئاً من منافع منى ومناسكها.
كنت واحداً من مئات الملايين من البشر الذين تابعوا مشاهد الموت التي نقلتها شاشات العالم الكبرى الس إن إن والبي بي سي بلغات العالم كله حيث تتمدد الجثث بالمئات في أرض منى، ويضنى مراسلو هذه المحطات الكبرى في البحث عن محلل يفسر مشهد الموت هذا، ولا يستطيع أحد أن يفسر للعالم لماذا يموت هؤلاء؟؟؟؟ وما هي رسالة الحج في حصاد هذه الأرواح دون أي معنى أو غاية؟
الكارثة تدفع سنوياً باتجاه طرح السؤال التقليدي من المسؤول عن ذلك؟؟ أهو طواقم الحجيج؟ أم السلطات السعودية؟ أم مواكب الأمراء التي تزاحم الناس؟ وكلام كثير تسمعه في الشارع السوري وغيره.
هل يكفي القول إنه والحمد لله لا يوجد حجاج سوريون بين الوفيات( بالمناسبة يوجد ستة سوريين على الأقل بين المتوفين) وهل يسوغ القول أنه لا يوجد أي سبب للقلق باعتبار أنه لا يوجد سوريون؟ وماذا تعلمنا من الحج إذن؟ وثقافة الحج إنما وجدت لتؤكد حقيقة أن المسلم أخو المسلم، وأنه مثل المؤمنين في توادهم تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى؟؟
إن المشكلة يا سيدي ليست هنا ولا هناك إنها مباشرة تحملنا إلى محنة العقل المسلم الذي لا يزال يرفض الاجتهاد والتجديد ويصر على التعامل مع الشريعة على أنها نصوص جامدة لا روح فيها، وانه يتعين على المسلم السمع والطاعة، (من غير ليه) فهذه أمور تعبدية، يتبع فيها الأول ولا يصح فيها النقاش ولا الاعتراض، بل يجب أن يتوجه الكافة إلى السمع والطاعة.
إن الإسلام يختص خطابه لأولئك الموصوفين في القرآن الكريم بأولي الألباب، لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، ولا أظن أن في تكاليفه شيئاً يتعلق بأولئك الذين لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، والقاعدة الشرعية إذا اخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.
رمي الجمرات محض نسك رمزي يهدف إلى التذكير بصراع الإنسان مع الشيطان، الصراع بين الخير والشر، وهو لا يتطلب تفسيراً مادياً، ولذلك ينهى العلماء عن الرمي بالشحاطات والحجارة الكبيرة، فالشيطان ليس هناك والجمرات لا تجرحه، ولو قد كان هناك لكان من الواجب أن نرميه بالرصاص أو بالآربي جي مرة واحدة ونريح من ذلك العباد والبلاد.

تاريخياً أصاب الحج في الماضي ما يعانيه اليوم، وتكرس تطبيق حرفي لروح النص أفسد بالمطلق جوهره وروحه، على سبيل المثال كان من نسك إبراهيم أنه يخلع ملابسه ويرتدي ثياب الإحرام البيضاء في إشارة إلى أن الحج استئناف لحياة جديدة وتخل عن الماضي بما فيه من وزر وسقوط، ومضى النسك على ذلك ولكن قريش أضافت على ذلك أنه لا يصح الحج إلا بثياب أحمسية أي يتم شراؤها من الحمس أي من قريش، وأغلى تجار قريش في سعر ثياب الإحرام حتى عجز الناس عن شرائها، وأصبحوا يطوفون بالبيت عراة على أساس أن من شعائر الدين التخلي عن الثوب الأول!!
في مشهد آخر فإن إبراهيم كما هو معلوم ضحى بالكبش طاعة لربه واتباعاً لوصيته، بعد أن هم بذبح ولده لرؤيا منام رآه، ولكن العرب مضت على الإفراط في هذا الجانب من التعبد واختارت أن تضحي بأبنائها، وعرف تاريخ العرب ظاهرة التقرب إلى الله بذبح الأبناء، ولعل أقربها إلى الذكرى هم عبد المطلب بذبح ولده عبد الله تقرباً وزلفى إلى الله، حتى نزل القرآن الكريم ينعى عليهم ذلك بقوله: قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.
ومن ذلك أن إبراهيم امتنع عن دخول باب الدار أيام الحج حتى يتفرغ للعبادة، وحين أرادت قريش أن تتبعه دون النظر في مقاصده، صارت لا تدخل من الأبواب اتباعاً لإبراهيم ولكنها تدخل من الشبابيك!! حتى نزل القرآن: وليس الحج بان تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها.
إنه الوهم ذاته الذي يقرأ النصوص في ظواهرها وتغيب عنه مقاصدها وغاياتها، ويتقرب إلى الله بالتشدد والتعصب وهو يحسب أنه يحسن صنعاً.
نسك منى هو سبعون حصاة يلقيها الحاج خلال الأيام الأربعة للعيد حيث يرمي في كل جمرة سبع حصيات طاعة للرحمن وإرغاماً للشيطان، رماها النبي الكريم في أوقات محددة في اليوم الأول جمرة واحدة، وفي بقية الأيام ثلاث جمرات، فيكون المجموع سبعين حصاة، يكتمل بها نسك الرمي في أيام منى.
وحصل أن النبي الكريم رمى الحصيات بعد الزوال، ولكن ذلك لم يكن خياراً وحيداً للفقه الإسلامي، فقد اجتهد الفقهاء الكرام في التوسع في وقت الرمي وشرطه وظرفه، فوسعوا في الوقت حتى أوعبوا الأيام الأربعة جميعاً، وأجازوا التوكيل في الرمي، وأجازوا جمع الرمي كله في ساعة واحدة، وأجازوا الهدي (نحر الشاة) بدل الرمي، ولم يكن النبي الكريم أكثر تسامحاً منه في شيء من نسك الحج فقد سئل من رجل انه رمى قبل أن ينحر وآخر نحر قبل أن يرمي وثالث طاف قبل أن يرمي، فقال في ذلك كله لا حرج، وما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال افعل ولا حرج.
ومع ذلك كله فإن ما أقره النبي الكريم وما اختاره الفقهاء الكرام ليس نهاية العالم بل يملك العقل الفقهي الإسلامي أن يجتهد كما اجتهدوا، وأن يقرر الأحكام الشرعية كما يناسب الناس، وكما يتناسب مع كل زمان ومكان.
إن الذين يتشددون في تحريم ما احل الله يبوؤون بإثم لا يقل عن إثم من يتساهل في تحليل ما حرم الله بل إنه قد يكون أشد إثماً، ذلك أن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، والقرآن طافح بالغضب الإلهي على أولئك الذين يحرمون ما أحل الله سفهاً بغير علم، وإنما جاءت الأنبياء لترفع عن الناس تسط الكهنة الذين كانوا يستمدون سلطاتهم على العباد من تابو التحريم، وفي القرآن آيات كثيرة لتوضيح هذه الحقيقة (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل غلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كتم صادقين) (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث وضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وبالإمكان هنا أن تقرأ سورة الأنعام التي خصصت للحديث عن غضب الله على الكهنة ورجال الدين الذين حرموا على الناس بعض ما خلق الله لهم من طيبات تعصباً وتشدداً.
قبل يوم واحد من المأساة نشرت جريدة الرياض السعودية فتاوى متشددة تنص أنه لا يصح الرجم إلا بعد الزوال، غير آبهة بما يمكن أن تتسبب به هذه الفتوى من احتمال الموت والهلاك، ضاربة عرض الحائط بكل ما في منجم الفقه الإسلامي من فتاوى التسامح والاعتدال والعقل.
فإذا لم يكن في سماء الفقه الإسلامي كله ما يتحدث عن توسع في وقت الرمي أفلا يكون مشهد الموت هذا الذي نراه كافياً إنتاج فقه جديد؟ أفلا يكون هذا الموت العبثي مبرراً لرفع المشقة عن العباد وتقوى الله في الفتيا والتخفيف على العباد؟
وأين هي إذن قواعد الشريعة الغراء: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر؟ وقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج؟ المشقة تجلب التيسير، إذا ضاق الأمر اتسع، والضرورات تبيح المحظورات، فمن اضطر غر باغ ولا عاد فلا إثم عليه، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ولماذا تفقد كل هذه الأدلة المتضافرة معناها إذا جابهها التعصب برواية في البخاري عن أبي هريرة توجب الرمي وقت الزوال، وهل يتعين علينا أن نقول ما قاله الشيخ الغزالي رحمه الله لمعارضيه من الظاهرية أهل اللجاج: أورد شيخ الإسلام ابن تيمية عن البخاري أنه قال: ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج؟؟؟ حتى يصدق الناس أن في ديننا سعة!!

Related posts

البيت الأبيض – موعظة الخير والشر

drmohammad

د.محمد حبش- شهداء.. في ليلة القدر 17/10/2008

drmohammad

د. محمد حبش- ابن تيمية وابن عربي… حكاية من دمشق 12/1/2007

drmohammad

Leave a Comment