من حق كل أحد أن يتصور أنه في مركز العالم فالأرض كروية وكل نقطة فيها تصلح أن تكون مركزاً للعالم, ولكن ذلك يصلح في الجغرافيا والفلك فقط.
ولا يصلح في الاقتصاد ولا في الديموغرافيا ولا في الثقافة.
هنا في سورية لسنا في مركز العالم التكنولوجي كما هو الحال في اليابان وكوريا, ولسنا في مركز العالم المالي كما هو الحال في سويسرا ونيويورك, ولسنا في مركز العالم التجاري كما هو الحال في هونغ كونغ ولندن, ولسنا في مركز العالم الترفيهي كما هي ماربيا ولاس فيغاس, ولسنا في مركز العالم النفطي كما هي الظهران وكاراكاس, من الغرور أن نتصور أننا وزن عالمي في هذه القضايا, وعلينا الاعتراف أننا جزء صغير من العالم في هذه الحقائق ولانشكل رقماً مرعباً في أي منها.
ولكن ما يمكن أن نقوله بثقة وفخر أننا في مركز العالم الروحي , نعم الشام الشريف هي مركز العالم الروحي أو هي أكثر بقعة في العالم وزناًُ وثقلاً في الحياة الروحية, فالشام بلد الأنبياء ومنها انطلقت رسالات ابراهيم وموسى وعيسى وفيها أول قبلة للإسلام وأول عاصمة للحضارة الإسلامية, بالطبع نحن نتكلم هنا عن سورية الكبرى أو الشام الشريف التي تضم تاريخياً الأرض الممتدة من جبال طوروس إلى عريش مصر.
لا يوجد أدنى مبالغة في القول إن ثلاثة أرباع سكان الكوكب يشربون الروح من ينابيع سورية فالديانات الصابئة واليهودية والمسيحية والإسلام ترتوي من الينبوع السوري, ولكل ديانة منها تاريخ طويل وأعلام كبار عاشوا على الأرض السورية خلال التاريخ ولا زالوا إلى اليوم ضميراً ملهماً لثلاثة أرباع سكان الكوكب في القارات الخمس, فلا يصلي الأرجنتيني ولا الكندي إلا وفي قلبه ذكرى فتى الناصرة وبشارة بولس وضريح يوحنا المعمدان, ومن أندنوسيا إلى نيجيريا فإن تاريخ الإسلام الحاضر في ضمير كل مسلم يشتاق إلى الشام على أنها أرض الشام الشريف وفسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى, ودمشق بالذات هي الأرض التي تستقبل المسيح في معاده حين يرجع إلى العالم على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وهي عقيدة كل مسلم يؤمن بما ورد في صحيح مسلم حول عودة المسيح في دمشق.
وبعيداً عن السياسة فإن ثلاثة أرباع سكان الكوكب يعرفون هذه الأرض من خلال اسم مقدس هو الشام الشريف أو سورية المقدسة.
ولا شك أنني سأجد من ينكر علي هذا الخطاب (النرجسي) أو يستغربه على أساس أن الأرض كلها لله , وأن لله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله, وهي حقيقة نناضل من أجل إثباتها, خاصة وفق التيار التنويري الذي نزعم الانتماء إليه, ولكن هذه هي خريطة الواقع وهي ما ندعو إلى استثماره في خير الناس, أما الحوار الموضوعي فلنا فيه ساحة أخرى.
ولكن هذا الخطاب ( النرجسي) ليس نهاية المطاف بل نقول بملئ الفم إن العالم كله دون استثناء يستخدم التقويم السوري دون سواه, التأريخ بميلاد السيد المسيح, وهو تقويم سوري وإن اكتسب اسماً لاتينياً غريغورياً, فالبطل الذي يخلده تقويم العالم كله, والبطل الذي قسم التاريخ كله إلى قسمين واضحين هو بطل سوري, لم يولد في شيكاغو ولم يتخرج من هارفارد ولم يأت من لندن ولا باريس, إنه فتى من حوران الجنوبية من الناصرة وطريق آلامه تمر من دمشق وحين كاد له اليهود آواه الله مع أمه في ربوة ذات قرار ومعين وهي ربوة دمشق كما يقول ابن عباس وسعيد بن جبير.
إنه باختصار عيسى ابن مريم صاحب الذكرى والميلاد.
يحتفل العالم بأسره بليلة رأس السنة وهو احتفال هائل لا يغيب عن أي بلد في الأرض من نيوزيلاندا إلى جزر الهونولولو وما بينهما, وحين يسأل أي طفل في العالم عن مغزى هذا الاحتفال وكيف تمكن الإنسان أن يحصي الزمن فالجواب واحد في كل مكان في الأرض وهو أن هذا حدث سوري وأن سورية هي التي أطلقت الرجل المعجزة الذي تكلم في مهده وبشر برسالته وتلقاه العالم بالحب والنور.
تخصص فرنسا موازنة هائلة من أجل التواصل مع كل بلد ارتبط بالفرانكوفونية يوماً ما, وتنفق المليارات على رعاية نشاطات تعزز الروح الفرانكوفونية في العالم, وهي دول لن تنسى لفرنسا ماضيها الاستعماري ولكنها على كل حال تستخدم لغتها, وتستحق رعايتها والأمر نفسه تقوم به لندن على مستوى الكومنولث, وأسبانيا على مستوى الدول الناطقة بالأسبانية, وروسيا على مستوى رابطة الدول المستقلة أو الدول الناطقة بالروسية مع أنهم لا يجهلون أن هذه الدول انتفضت بالدم والموت على التراث الروسي أو الأسباني أو البريطاني, ولكنهم مع ذلك يخصصون جزءاً كبيراً من موازناتهم للقيام بما يلزم للحفاظ على هذه الروابط.
سورية العاصمة المكللة بالإيمان, والمزينة بتيجان الأنبياء, والتي يلتقط العالم كله أنفاسه كلما تذكر وليدها عيسى ابن مريم مدعوة أن تدرك هذا الرصيد الروحي الهائل لعاصمة الروح في الأرض.
ربما نكتشف الصورة بوضوح من خلال الأيقونة التي نشاهدها للسيد المسيح, إنهم يرسمونه أبيض البشرة أزرق العينين منسدل الشعر على الكتفين دقيق الأنف أنيق الثياب كأنما جاء للتو من استوكهولم أو من أوسلو أو هلسنكي!! ولم يبق إلا أن يحمل بين يديه شطيرة الهامبرغر أو وجبة الكنتاكي!!
ليس هذا عيسى ابن مريم الذي يرسمه لنا الكتاب على هيئة مناضل فلسطيني, يواجه كيد اليهود, ويقلب موائد الفريسيين والكتبة, وطرد الصيارفة وباعة الحمام وقال لهم: الويل لكم يا أبناء الأفاعي, إن أبي جعل بيته دار محبة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.
لقد قامت بعض كنائس الشرق بإنصاف أيقونة المسيح وأعادت رسمه بوجهه العربي وزنده الأسمر وعينه الداكنة ابن هذه الأرض وابن هذا التراب, كم أمنى أن أرى أيقونته بكظاظته الفلسطينية, إنه الرجل الذي كان يأكل المليحي ويخبز من التنور ويشرب بكفيه من ماء الجدول.
ما هو هذا المسيح? لقد شهد العالم أحداثاً كبرى عصفت بالأرض وقلبت موازينها, ففي العلم تم اكتشاف النار والكتابة وثورة المواصلات والاتصالات والنور والكمبيوتر, وفي السياسة قامت حروب غيرت وجه التاريخ, وقامت الحرب العالمية الأولى والثانية , ثم سقط جدار برلين وتحطمت الامبراطورية السوفيتية, وظهر رجال حفروا اسمهم في التاريخ خيراً وشراً من الاسكندر إلى يوليوس قيصر إلى أغسطس إلى قورش إلى هارون إلى نابليون ولينين وهتلر وغاندي وكينيدي ومانديلا, ولكن أحداً لم يستطع أن يحمل العالم على التأريخ بأي من أيامه, مع أنهم جميعأً حاولوا ذلك, ولكن ظل فتى المغارة هو أبو العالم, عند مولده ينتهي التاريخ القديم, وبه وحده يبدأ التاريخ الجديد, الطفل في المغارة وأمه مريم, اثنان يبكيان.
الطفل الذي كانت أمه تصرخ يا ليتني مت قبل هذا وكن نسياً منسياً سيقول لها العالم لولا تضحيتك أيتها العذراء لكان العالم كله نسياً منسياً.
العالم كله يستخدم توقيت المسيح, ويقدر عدد مدنه بعشرين ألف مدينة وعدد قراه بثلاثمائة ألف قرية, ولكن قريتين اثنتين فقط في العالم لا تزالان تتحدثان بلغة المسيح الآرامية كما نطق بها وهما معلولا وجبعدين, وهناك ملايين البشر يتوقون اليوم لزيارة قرى القلمون للحديث مع أهلها بلغة المسيح.
لا مبالغة على الإطلاق في أي موازنة ترصد في سورية من أجل إحياء تاريخ الأنبياء, واستثمار عطائهم ونجاحاتهم في العالم.
الأنبياء مروا من هنا..
إنها أرض المسيح وذكرى ميلاده, نقرؤها في نصوص القرآن الكريم, والسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً.
وكل عام وأنتم بخير.