مقالات

د. محمد الحبش- الأوقاف….. من أجل وزارة للإيمان والتنوير والتنمية 14/12/2007

لست أدري إن كانت رئاسة التحرير في الثورة ستسمح بنشر هذا المقال, خاصة أنني أظن أنهم لم يكابدوا ما كابدناه ولم يعانوا ما عانيناه في السنوات العجاف التي طبعت سلوك وزارة الأوقاف.‏
وليس الهدف من هذا المقال أن يُسهم في جوقة الاتهامات التي يتم تبادلها على المواقع الالكترونية حول ملفات عالقة هنا وهناك بشأن الأوقاف, فهذا أمر يجب أن يحترم فيه الاختصاص والبرهان, (ولا تقفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً), ولكنها محاولة لقراءة الملف جيداً لئلا نقع في المطب نفسه مرة أخرى.‏
قد يكون مفهوماً أن تَلزم الأوقاف الحياد بين المحافظين والإصلاحيين فمكانها في الحقيقة هو أن تكون على مسافة واحدة من الجميع, ولكن ليس لها بحال من الأحوال أن تكون مع طرف على آخر, أو أن تغري بين تيارات الأمة بالعداوة والبغضاء, وهذا بالضبط ما انحرفت إليه للأسف مؤسسة الوقف التي تحولت إلى صادم صارم بحق كل من تسول له نفسه التجديد أو التنوير, وبحق كل من يحاول أن يقدم الخطاب الجديد.‏
والشعار الذي كانت الوزارة تطارد به كل خطاب تنويري هو الحفاظ على الثوابت, فما هي هذه الثوابت التي لا يجوز الخروج عنها?‏
الثوابت هي كليات الإسلام الكبرى وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, وهذا قدر مشترك فيما أعلم بين سائر تيارات الأمة.‏
ولكن هذه الثوابت تحولت بقدرة قادر إلى وجوب إغلاق العقل عن كل اجتهاد ووجوب اتباع الآخر للأول, كأنما أضاء الله العالم لحظة ثم طمس ضياء العقول إلى آخر الدهر, وتعين أن كل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف, ودخلت في الثوابت مسائل من المباحات والمستحبات وأرغم الناس على قبولها أو تركها مع أن محلها الاختيار, ولكن أسوأ ما تعرضت له مسألة الثوابت والمتغيرات أن رأي فقيه السلطان أصبح هو الثابت الذي لا تجوز مخالفته أياً كان الحقل الذي يختاره من باب الواجب أو المباح أو المستحب على السواء.‏
لمصلحة من تنصب المنابر وتوزع البيانات لتتلى ضد كل صوت تنويري, وتتالى القرارات الوزارية في معاقبة تيار التجديد, ويصدر عن الوزارة نفسها الدليل تلو الدليل أن باب الاجتهاد مغلق بضراوة وأن محاكم التفتيش لا تزال جاهزة للبطش بكل جديد, مع أن دائرة الثوابت في الإسلام تحكمها قاعدة قرآنية صريحة: (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً), وتحكمها دائرة النص القرآني الكريم: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم), وتشرحها روح القرآن المتكررة: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين), وقوله : (ولكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج), وبهدي من ذلك احتضنت دمشق ابن عربي وابن تيمية وما بينهما وآوتهما في ملة ذات قرار ومعين.‏
من يصدق أن دمشق عاصمة التسامح والمحبة وقبول الآخر تمنح أختام الدولة لإصدار بيانات مشؤومة برقم وتاريخ ضد التجديد لمجرد أنه قدم أفكاراً تخالف المألوف الذي وجدنا عليه آباءنا على الرغم من قيام الدليل والبرهان عليها? ولمصلحة من تكتب الأوقاف إلى مجلس الشعب أن معهد تأهيل الأئمة والخطباء أمر لا داعي له ولا ضرورة له وتقوم بإلغائه على الرغم من أنه أحد أهم الفروض الشرعية التي تنتظر من مؤسسة الوقف الإسلامي في النهوض بالخطاب الديني رافعة حقيقية للإخاء والعمل الصالح.‏
إن سورية وفية مع سائر أطياف العطاء, وحاجتها للتجديد لا تلغي حاجتها للمحافظة, فرسالة المحافظين ورسالة التجديديين يكمل بعضها الآخر, فالمحافظون مسؤولون عن حماية الفضيلة والعفاف والربط بالتراث, والتجديديون مسؤولون عن تقديم خطاب حداثي يتمم رسالة الثوابت ويعززها, ويقوم بالإجابة على أسئلة الجيل الجديد, فإذا غاب التنوير فإن رسالة المحافظين ستصاب بالجمود, وإذا غاب المحافظون فقد ينطلق التنوير في فضاء مفتوح فيغرد خارج سرب الأمة, ويتجاوز رسالتها.‏
يجب أن يكون واضحاً أنه ما كل قديم ينبذ ولا كل جديد يؤخذ.‏
يحتاج التجديديون أن يقال لهم من ليس له كبير ليس له تدبير, ومن ليس له ماضِ فليس له حاضر ولا مستقبل.‏
ويحتاج المحافظون أن يدركوا أنه إذا أردنا أن يبقى الإسلام حياً فعلينا أن نأخذ من تراث الآباء الجذوة ولا الرماد.‏
ليس المطلوب بالطبع أن تكون الأوقاف طرفاً في هذا الجدل, ولكن المطلوب أن ندرك أن الوطن يتسع بكل أبناء الإرادة الطيبة من الأمة, وأن حاجتنا لمن يحيي رسالة العقل ليست أكبر من حاجتنا لمن يحمي ثوابت الأمة.‏
حين تضع الوزارة الأيديولوجيا أحادية الوجهة في أس مواقفها وأحكامها فإنها ستفتح جبهات لا تنتهي من الخصام مع المدارس الإسلامية بكافة أطيافها واشكالها وسوف تتحول الوزارة التي يفترض أن تمنح الحصانة لعلماء الشريعة إلى محكمة متجولة تمارس دور محاكم التفتيش ضد كل صوت صادق يؤمن بالوطن وإخاء أبناء الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وآرائهم المتعددة.‏
ظلت الأوقاف خلال التاريخ مظهر تكافل اجتماعي متميز, وكانت في الحقيقة تعكس الروح المتوثبة التي تتجه إليها الآمال والتي كانت تبدع كل يوم فناً جديداً من فنون التنمية, فمن وقف المساجد والمدارس إلى وقف البيمارستانات (المشافي) إلى وقف الظلال إلى وقف سبيل الماء إلى وقف النساء الغواضب الذي كان يؤوي النساء المعنفات إلى وقف الأيتام إلى وقف المكسرات وصنوف الحلوى على طلبة العلم إلى وقف الزبادي الذي كان مخصصاً للتعويض على من ينكسر بيده إناء إلى وقف المصطبة لسداد ديون الموتى إلى مئات الأشكال من الأوقاف التي تعكس الحكمة والإرادة والعمل الصالح, ولكن ذلك كله تحطم عند الإرادة القعساء في إنشاء هرم خوفو الجديد (مجمع يلبغا) الذي بدأ البناء فيه منذ نحو أربعين عاما ًولا يزال إلى اليوم يشكو إلى الله عجز المؤسسة الوقفية عن استثماره ولو بقرش واحد, ولولا أن يسر الله محسناً كريماً لإكساء المسجد إذن لكان حاله كحال سائر المبنى في الإهمال والضياع.‏
وزارة الأوقاف تأسست عام 1962 بإرادة عاقلة كانت تهدف إلى حماية المال العام الذي يقدمه المحسنون الكرام في سبيل الخير المستمر, وتهدف إلى استثماره بما يحقق أهدافه ورسالته ويعود على المجتمع بالفائدة العامة, ولكن هذه الرغبة الصادقة تهدمت وتهشمت وتحطمت على صخرة البيروقراطية التي حولت مال الوقف إلى ما يشبه الأيتام على مأدبة اللئام, وجعلت من الوقف نفسه عالة وكلاً على الناس والدولة معاً أينما توجهه لا يأت بخير, وبحسبة بسيطة يكتشف المرء أن الأوقاف بقضها وقضيضها أعجز من أن تسد حاجات موظفيها أو تعود بأدنى فائدة على الأهداف التي تأسست من أجلها.‏
الجميع يقولون الأوقاف أغنى الوزارات, والجميع هنا تشمل المشايخ والوزراء والنواب والحرفيين والفريق الاقتصادي والضباط والمليارديرية والشحادين وصغار الكسبة ويخلق ما لا تعلمون, ولكل منهم أمثلته وأدلته وأرقام عقارات رهيبة تمتلكها الأوقاف, فلماذا لم تتمكن الأوقاف حتى اليوم من جعل رواتب موظفيها في مستوى رواتب الدولة, أو في مستوى نصف رواتب الموظفين في الدولة ولماذا ظلت حياتهم إلى اليوم دون مستوى العيش الكريم?‏
أسئلة كثيرة أتمنى أنها ستجد طريقها للإجابة خلال أيام الوزترة الجديدة.‏

Related posts

د.محمد حبش- عيد الحب …15/2/2008

drmohammad

ردة ولا أبو بكر لها

drmohammad

داعش… أفول الفكرة لا يعني أفول التنظيم

drmohammad

Leave a Comment