مع أن العيد من الناحية العملية قد استوفى أيامه, واكتملت رسالته ولكنني أعتقد بأن من الحكمة أن نفتح هذا الملف من جديد, ربما نتأمل في أطلاله ما نحيي به رسالته عندما يهل علينا ذات يوم هلاله الجديد
.
تجري صلاة العيد اليوم على مشهد في غاية الوقار والجلال حيث يتنادى المؤمنون إلى المساجد ليشاركوا في التكبير والتهليل من فجر يوم العيد إلى طلوع شمسه وبالتالي ليبدؤوا الصلاة خلف إمامهم في العيد وتالياً للاستماع إلى الخطبة الشريفة التي يلقيها الإمام الكريم لصلاة الجمعة.
ويتم أداء هذه المناسك في غاية الوقار, وينصرف الناس من المساجد وقد خشعت جوارحهم لروعة العبادة, وتتم الرسالة الروحية لصلاة العيد, ولكن يجب الاعتراف أن الرسالة الاجتماعية للعيد لا تحظى بما تحظى به أختها من اهتمام ورعاية, وينصرف الناس من الخطبة ربما قبل أن يصافح بعضهم بعضاً أو يتفقد بعضهم بعضاً في زحام مشاغل العيد والتزاماته.
ولكن نظرة واحدة على برنامج الرسول الأكرم في يوم العيد يمكنها أن تساعدنا على فهم تقصيرنا في أداء رسالة العيد في الجانب الاجتماعي والتكافلي الذي جعله الرسول الكريم أوضح مظاهر العيد.
أمضى النبي الأكرم أياماً قبل العيد يحدثهم عن رسالة العيد في الموعظة والبناء والمحبة ويذكرهم بظلال العيد الروحية والاجتماعية, وحين وصل إلى عوالي المدينة كان أهل المدينة جميعاً قد احتشدوا في ذلك المهرجان الكبير رجالاً ونساء وأطفالاً واعتذرت بعض النسوة عن الحضور بالمعاذير ولكنه لم يقبل اعتذاراً وأمرهن بالحضور حتى وإن كانت المرأة في العذر الشرعي, وحين قالت له بعض النسوة إنها لا تملك جلباباً أمرها أن تستعير جلباباً فالمناسبة لا تحتمل التأجيل وعلى الكل أن يشارك فيها إنها يوم العيد, يوم الجائزة.
حين وصل إلى عوالي المدينة كانت وصاياه قد سبقت الناس أن يوسعوا على العيال في العيد وأن يغنوا الفقراء عن المسألة, وكان ما دعا إليه من صدقة الفطر قد وفر لهم الطعام والزاد والشراب الذي يأمله الجميع.
في ذلك الجو الروحاني أدى الرسول الكريم صلاة العيد ووراءه عشرات الآلاف من أبناء المدينة يهللون ويكبرون, ثم قام يخطب فيهم, لم تكن خطبته يومذاك كما تعوده الناس قطعة عصماء صارمة كأنه منذر جيش صبحكم ومساكم, لقد كانت كلمة صغيرة مختصرة طافحة بالبشرى ثم تحول من محرابه إلى أصحابه, إلى نسائهم ورجالهم وأطفالهم, إلى حلقات الأنصار وحلقات المهاجرين وأهل الصفة وأهل البوادي, فكان يطوف بين حلقاتهم يعظهم ويذكرهم ويمازحهم ويلاطفهم, وكان إذا تحدثوا في الدنيا حدثهم في الدنيا وإن تحدثوا في الآخرة حدثهم في الآخرة وإن تحدثوا في الزرع حدثهم في الزرع, وهو معنى ما نقرؤه في التنزيل العزيز: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك.
وفي ركن من المشهد الكبير كانت فتيات من الأنصار يغنين ويدففن بالدفوف, كان مدهشاً أن يتم هذا الفرح بين يدي النبي الكريم, حتى إن أبا بكر نفسه وهو المشهور بالرقة واللين لم يقبل أن يتم أداء هذا البرنامج بحضرة الرسول الكريم, وصرخ فيهن: ويحكنَّ… أمزمارة الشيطان في حضرة رسول الله, وفي رواية في بيت رسول الله?? ولكن الرسول الكريم لم يختر الحياد في هذه المسألة وقال بصراحة لأبي بكر دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد.
يمكنك إذن أن ترسم المشهد المهرجاني للعيد كما كان رسول الله يريده يومذاك, الفرح يعم المشهد من كل وجه, والرسول الكريم يشاركهم الفرح والسرور وقرة العين.
في رواية أخرى أن عمر بن الخطاب سمع صوت الغناء فمشى مغضباً حتى بلغ مكان المشهد ومع أن النبي نفسه كان يستمع لغنائهن ولكن النسوة حين أحسسن بقدوم عمر قطعن ما كن فيه من الغناء, وتحولن إلى التسبيح والتهليل, ووضعت إحداهن الدف تحتها وصارت تتظاهر بترتيل القرآن والذكر!! وأدرك عمر ما كان منهن فقال مغضباً : يا عدوات أنفسكن!! تهبنني ولا تهبن من رسول الله?? كان سؤالاً مباشراً يعترض فيه عمر على سلوكهن, ولكن النسوة لم يعدمن واحدة جريئة قالت له بوضوح: نعم نهابك ولا نهاب رسول الله, أنت أفظ وأغلظ!!
وصل الدم إلى رأس عمر ولكن النبي الكريم استوعب الموقف بابتسامة دافئة حميمة وقال: دعهن يا عمر إن لكل قوم عيداً وإن هذا عيد الأنصار.
وفي إشارة ذكية لترضية عمر قال الرسول الكريم: يا عمر إن الشيطان ليفرق منك يا عمر, وقال: لو سلك عمر وادياً لسلك الشيطان وادياً آخر, ولكنه مع ذلك لم ينه النساء عن الفرح المشروع, بل مضى في السماع لهن, حتى إذا وقعت المغنية في الغلو وقالت في غنائها مادحة للرسول الكريم: وفينا نبي يعلم ما في غد!!, قال لها النبي الكريم: لا… دعي هذا, وقولي ما كنت تقولين.
في مشهد آخر ترويه السيدة عائشة أن النبي الكريم كان يقف معها في حجرته الشريفة , يراقب عرضاً قتالياً يقدمه أهل الحبشة, وكانت عائشة ترقب ذلك معه, وخدها على خده كما وصفت بنفسها, وكان في هذا المشهد الحميم الدافئ يشجع فريقاً من المتبارزين ويقول: دونكم يا بني أرفدة.. ارموا فإن أباكم كان رامياً.
ومن حول مشهده الكريم كان أصحابه الذين اشتهروا بخفة الظل وحسن المرح يلازمونه أيام العيد, نعيمان بن عمرو وزاهر البادية وأخبار مزاحهم مع الرسول كثيرة ومشهورة, وكان يقابلهم بالابتسامة كلما رأى مقالبهم, يكرس بذلك ثقافة روحوا القلوب ساعة فساعة فإن القلوب إذا كلت عميت.
بل إنه قام بنفسه بابتكار مواقف طريفة رسم بها البسمة على وجوه أصحابه في يوم الفرح, وأمسك برأس زاهر وجعل يقول أمام الناس من يشتري هذا العبد مني والناس يضحكون, وكان نعيمان لا تأتي المدينة طرفة من البوادي إلا أهدى منها للرسول الكريم ولكن بشرط أن يدفع الرسول ثمنها!!, يقول له أحبك!! وأشتهي أن تأكل من هذا ولكن عليك أن تدفع الثمن فأنا لا أملك شيئاً!! وحين سألته امرأة عجوز أن يدعو لها بالجنة قال لها لن تدخلي الجنة عجوز, وحين همت بالصياح قال لها ضاحكاً لن تدخلي الجنة وأنت عجوز!! بل يعيدك الله شابة فتية: إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً.
مشهد العيد كما كان يرسمه الرسول في عوالي المدينة كان أكثر من نسك وصلاة, حلقات الصحابة الكرام كانت تملأ ذلك الأفق الكريم بالبسمة والمحبة والخير.
إنه النبي الكريم نفسه الذي كان يقول لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله.
لقد كان واعياً تماماً لرسالة الحياة وما فيها من ملح وسكر, وحزن وفرح, ودمعة وابتسامة.
هو نفسه النبي الذي كان يحمل هموم العالم على عاتقيه, وهو نفسه النبي الذي يقول أصحابه كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق وجحظت الأعناق كنا نتقي برسول الله فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه!!
هو نفسه النبي الذي كان في خده خطان أسودان من طول البكاء من خشية الله!!
يوم العيد إذن يوم للتكافل والتواصل والتراحم وهو أكثر من رسالة روحية, ووقاره الجليل لا ينبغي أن يحول دون رسالته في اللطف والمودة والتراحم والتواصل.
العيد مشوار في الفرح يملؤك بالحياة من جديد, ثم تنطوي ساعاته لتبدأ من جديد مشوارك في الحياة بالعمل والجد والعطاء.
previous post