البابا في العراق
الأسئلة الغائبة
من المفترض أن تقرأ هذه السطور في الوقت الذي يكون فيه البابا الحبر الأعظم قد أنجز في العراق زيارة مهمة، تهدف إلى حماية الوجود المسيحي في العراق بعد عقود دامية مخيفة غادر فيها أكثر من سبعين بالمائة من المسيحيين العراقيين إلى بلاد الاغتراب.
وتعتبر هذه الزيارة السادسة التي يقوم بها البابا لبلد إسلامي بعد سلسلة زيارات مهمة بدأها بالأردن وفلسطين ومصر والمغرب والإمارات
وبعيداً عن البعد السياسي لهذه الزيارات، هل حان الوقت للقول باننا مسلمين ومسيحيين مطالبون بمراجعة عميقة لعقائدنا السائدة، نعم أقصد مراجعة العقائد، وبناء وعي جديد بإيمان الآخر، على أساس من احترام المرجعية الربانية للإيمان واحترام صورها الاعتقادية على أنها طرق متعددة للحقيقة، وان كل الطرق تؤدي إلى الله، ولا داعي أن ننفق الجهد والمال لتغيير أديان الناس؟
قبل سنوات كتبت لي زيارة للفاتيكان عبر سفيرة الحبر الأعظم في لندن في سياق نشاطاتنا المتكررة في ولتون بارك أعرق المؤسسات البحثية البريطانية، وكانت ورقتي في روما قبل لقائنا بالبابا تتلخص في واجب اعتراف الإيمان بالإيمان، وتجاوز مرحلة البوتوكولات التي بتنا نتقنها ببراعة حين نتصور على المنصات ونوزع الابتسامات ونحن نرتدي ثياب شيوخ وكهنة وعمائم وتيجان وأئمة ومطارنة، وحين تنتهي هذه المراسم البادرة ننصرف إلى كوادرنا من جديد ونقول لهم إن ما نقوم به هو ضرورة من ضرورات الدعوة لإنقاذ الضالين والأخذ بيدهم إلى الصراط المستقيم وتخليصهم من أديانهم الزائفة.
إننا نمارس ذلك بسذاجة وتسيب دون أن ندرك المكان التالي التي تأخذنا إليه هذه الفتاوى البائسة، فحين توقن بأنك الوحيد على الدين الصحيح، وأن الآخرين سيذهبون إلى السعير، فمن الطبيعي أن تمارس الكراهية، فإذا كان الخالق نفسه لا يرى في الآخر إلا حطب جهنم فما معنى احترامه أو تبجيله؟ وإذا كان التراث المقدس صريحاً في سبه وشتمه فبأي شكل ستذهب إلى احترام إيمانه؟
ثقافة الكراهية التي نشأت لاسباب كثيرة أهمها عقيدة احتكار الخلاص، هي عقيدة حذر منها الإنجيل والقرآن: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، ووقع فيها المسلمون أيضاً فقالوا لن يدخل غيرنا الجنة، حتى رد الله عليهم في صريح القرآن: ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً.
من المؤسف أننا اليوم في بداية الطريق الدموي الذي خاضته أوروبا قبل ثلاثة قرون، إنه ليس سحراً ولا كهانة ولا نبوءة استرادوميسية بل هي قراءة بسيطة في التاريخ فهذه الفكرة كانت في جوهر الحروب الصليبية الماحقة التي استمرت أربعمائة عام ابتداء من حملات البابا أوربان الثاني وبطرس الناسك 1099 وكذلك ضد الوثنيين البولابيان والليتوانيين 1316م في الشمال الأوربي إلى آخر المجازر التي ارتكبتها الكنيسة ضد اليهود في الأندلس 1492، ثم محاكم التفتيش التي بطشت بكل توحش بالهراطقة النصارى وبمن تبقى في الأندلس من المسلمين.
وحين رفع كهنة متنورون الصوت في وجه الممارسات الاحتكارية لله والجنة تم طردهم بضراوة من الكنيسة وبلغت حمامات الدم ذروتها في مذبحة بارتليمي 1572م في باريس عاصمة الأنوار وقتل فيها أكثر من خمسة آلاف بروتستانتي وقد كان فرح الكهنة الكاثوليك كبيرا بهذه النعمة التي نصر الله فيها أهل الجنة على أهل الجحيم، ولم يكن ذلك آخر المطاف فبعد نصف قرن من المناوشات تمكن هؤلاء من توفير بعض القوة ونتيجة ذلك وقعت الحروب الدينية الماحقة التي شملت اوربا كلها لتستمر ثلاثين عاماً، حصدت خلالها أرواح الملايين وانتهت بمعاهدة ويستفاليا 1648 وإعلان قيام الدولة الحديثة.
الجدل نفسه اليوم في شرقنا الإسلامي التعيس ففتاوى الجنة والنار والخلود والجحيم تملأ فضاء النت ولشيوخ التكفير متابعون بالملايين لا يترددون في الحكم بكفر البشر واستحقاقهم للنار، ومن المؤسف أنه عندما تلوح لائحة القوة والسطوة فإن هذه الفتاوى تتحول بسرعة إلى سيف ونطع، وكانت داعش تقول في تبريرها لما تقوم به من جرائم القتل الجماعي: إن كانوا صالحين فقد عجلنا بهم إلى الجنة وإن كانوا غير ذلك فمستريح ومستراح منه وقد عجلنا بهم إلى النار.
في لقائنا شرحت للبابا جهودي التي أبذلها للإخاء بين الأديان وقدمت له كتابي محمد رسول السلام، ودعوته لإطلاق نداء واضح يعتمد المساواة بين الأديان، دين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان ونبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم.
وجدت رسالتي في مسامع البابا أذناً طيبة وأخبرني بان الفاتيكان أقدم على خطوة مهمة في مجمع 1965 وهو يعتبرها استجابة أولية لهذا النداء، وكان سعيداً عندما علم أنني من دمشق وهي أرض الطريق المستقيم ورؤيا بولس ومهد يوحنا المعمدان وغيرها من معالم المسيحية التاريخية.
بعد أيام تلقيت رسالة من البابا يؤكد اهتمامه بما طرحته في كتابي في إطار إخاء الأديان، وانه يتطلع إلى مزيد من العمل في سياق بناء الأخوة بين الديانتين الأعظم الإسلام والمسيحية، وأعادت الرسالة التذكير بخطوة الفاتيكان التي يمكن البناء عليها للقاء إسلامي مسيحي مستنير.
ومن الضروري ان نقرا بعناية القرار الفاتيكاني الذي صدر بعد مجمع كبير في أكتوبر من العام 1965 بموافقة 1763 واعتراض 242 من رجال الدين، ونص على الآتي:
(إن تدبير الخلاص يشمل أولئك الذين يؤمنون بالخالق أيضا، وأوّلهم المسلمون الذين يعلنون أنهم على إيمان إبراهيم، وتنظر الكنيسة بتقدير إلى صدق عبادتهم لله الواحد، الحيّ القيّوم، الرّحمن القدير بارئ السّماء والأرض، ومكلّم النّاس. ويسعون بقصارى ما أوتوا لمراعاة أحكام الله، وإن خفيت مقاصده، كما سلّم له إبراهيم الذي يفخر الدّين الإسلامي بالانتساب إليه. وإن كانوا لا يقرّون بيسوع إلهاً فإنهم يجلّونه نبيّاً، ويكرمون أمّه العذراء مريم، مبتهلين إليها أحيانا بإيمان. فضلا عن ترقّبهم يوم الدّين، الذي يجازي فيه الله جميع النّاس حين يبعثون. من أجل هذا يقدرون الحياة الأبدية، ويعبدون الله بأداء الصّلاة والصّدقة والصّوم. ولئن نشبت عبر الزّمن كثير من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين، فإن المجْمَع يحرّضهم سويا على التغاضي عن ذلك، والعمل بإخلاص وصدق لغرض التّفاهم، وأن يحموا ويعزّزوا معا العدالة الاجتماعية، والقيم الرّوحية، والسّلام والحرّية، من أجل جميع النّاس).
وفي اعتقادي أن لهذا البيان قيمة كبرى لانه اعتراف صريح وواضح بربانية التنزيل في الإسلام، وهو كافٍ لوقف كل أعمال التبشير التي تقوم بها كنائس كثيرة في مجتمعات إسلامية، ويؤلمني أن أقول إن كثيراً منا لا يعرف أن للفاتيكان موقفاً بهذا الوضوح يتطلب موقفاً أخلاقياً مماثلاً وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، بل إن معظم الكنائس المسيحية لم تسمع به، ولا تزال تعمل في سياق كنيسة العصور الوسطى دون أن تدرك أننا قد أصبحنا في عالم آخر.