مع أن هذه الصفحة مخصصة للحديث عن الواقع والتحديات، ومحاولة الخروج من الفشل الذي هبطنا إليه في العقود الأخيرة، ولكن لا بأس أن نقارب بعض قضايا الفكر التي نعتبرها سبباً غير مباشر لروح الإحباط والقطيعة والتدابر والتي تسببت في القطيعة بين العلم والدين، وبالتالي بين المجتمع المتدين والمجتمع المطالب بمزيد من الحريات.
لعل أكثر أسئلة الاعتقاد قلقاً وقهراً هو سؤال الجحيم، حيث يواجه المؤمن أكثر الأسئلة صعوبة وحيرة وصخباً، فمن جهة هو مأمور أن يؤمن بعدالة الله ورحمته وإحسانه وغفرانه، ولكنه مأمور أن يؤمن أيضاً بأن لله أيضاً جحيمه ناره وسعيره وسقره وغساقه وحميمه، وفي النار أنكال وسلاسل وسياط ولهب، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب! وهذا العذاب لا ينتهي بأيام معدودة بل هم خالدين فيها أبداً ما دامت السموات والأرض!!
لا مكان للغفران ولا للرحمة في عالم السعير هذا، وهو عالم صاخب الأهوال وإن الله أمر بجهنم فأوقدت ألف عام حتى احمرت ثم أمر بها ألفاً أخرى حتى ابيضت ثم أمر بها ألفاً ثالثة حتى اسودت فلهبها لا يضيء، وزبانيتها لا يرحمون وحين يزداد صراخ الناس فيها اربعين عاماً ربنا أخرجنا منها نعمل غير الذي كنا نعمل.. يأيتهم جواب مقتضب: اخسئؤوا فيها ولا تكلمون!!
والجحيم الأسود هذا مصير 999 من كل ألف إنسان مخلوق، وهو جحيم يبدا من أولئك الذين لا يسبغون أعقابكم بالوضوء ويل للأعقاب من النار! إلى أولئك الذين لا يحسنون التنزه من البول فتشتعل عليهم قبورهم ناراً، إلى النساء الخاطئات اللاتي يعلقن من أثدائهن في النار بلا رحمة، وهذه محض لمحة من مصائر الفظائع التي رواها المحدثون في كتب التراث وبات ينتظرها المؤمن والكافر في دار الأهوال الآتية وهي أهوال فظيعة يبدو أمامها كل عذابات السجون والكي بالنار والصعق بالكهرباء والإبادة بالكيماوي محض مزاح.
ويصر الواعطون أن علينا أن نجد في هذه المشاهد المرعبة صورة لعدالة الله ورحمته وإحسانه!! ودليلاً على كمال ذلك العالم المنتظر الموعود.
لا ألوم مسلماً فقد إيمانه بسبب هذه المواجهة، فنحن من نتحمل المسؤولية في المقام الأول، ويجب أن نلوم عجزنا عن تقديم الإجابات المقنعة التي تعالج هذا التناقض الصارخ بين العقل وبين النقل.
ولا نذيع سراً إذا قلنا إن هذا السؤال بالضبط هو أشد ما واجهته الكنيسة في العصور الوسطى، وهو ما أطلق حركات الإصلاح الديني الرافضة للتفسير الحرفي للنصوص المقدسة، وبالطبع فإن الكنيسة أجابتهم بصرامة كجواب مشايخنا: أأنتم أعدل أن الله.؟؟؟ أتعلّمون الله بدينكم؟؟؟ وزادت الكنيسة أن من أنكر جحيم الآخرة فسيتم إحراقه علناً في الدنيا توطئة لعذاب السعير!!
وليس في الطبع في جواب كهنة أوربا ولا المفسرين والمحدثين في الإسلام ما يرد للحائر إيمانه، ويأخذه إلى المحراب بيقين وقرة قلب.
ولكن الإصلاح الديني نهض في مواجهة هذا السؤال ببصيرة، وتقدم من نادي الحائرين وكتب عن الله ما يطمئن القلب، وهو ما نقرؤه في أعمال ابن عربي وجلال الدين الرومي وشمس تبريز وسبينوزا ونيتشة وإمانويل كانت، ولكن هذه الإجابات ظلت تعتبر عند رجال الدين هرطقة وانحرافاً.
في كتابي الأخير عن محمد إقبال رأيت لهذا الفيلسوف الإسلامي الكبير أشد الإجابات جرأة وبصيرة وحكمة، وهو المجدد الذي عصف بالأيقونات جميعاً ولكنه ظل يغني ويبتهل من أجل إسلام حضاري مجيد.
لقد قدم رؤيته الشجاعة في كتابه تجديد التفكير الديني في الإسلام، وقمت بنظم أفكار الكتاب شعراً، وهي بين يديك:
الآخرة عالم جميل، هكذا ينطلق إقبال في إيمانه بالآخرة، وكل عدالة أخفقت في الأرض فإن موعدها السماء، وكل الآمال العظيمة والأحلام الجميلة التي فشلت الأرض في تحقيقها فإن موعدها السماء، وحيثما ضاقت صدور الأنبياء والفلاسفة والصديقيين بالمظالم في هذا العالم فإن الموعد الله.
وإقبال لا يجهل أن هذه الأماني الطيبة لا يساعد عليها ظاهرالنص الديني، وستصطدم أول أمنية من هذه الأماني بالوعيد الصارم الذي يستغرق نصف القرآن إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً اليماً، يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد! فما عسى الفيلسوف أن يقدم في سياق الجمع بين هذه الآمال البيضاء وهذه الحقائق الصارمة!
ذهب إقبال إلى الإجابة على التساؤلات البريئة التي تراود خيال المؤمن البسيط حين يواجه سؤال عدالة الله، فما معنى العذاب الأبدي حين تكون الدنيا قد تودّع منها، وحين يدخل الناس عالم العدل المطلق، لا يمكن تفسير العدل الإلهي في سياق الإيمان بالعذاب الأبدي للعصاة أو المشركين، وفي موقف جد شجاع يصرح إقبال أن الجنة والنار حالتان لا مكانان!! وأن هدف الجحيم فقط هو تأهيل العصاة وإعدادهم ليدخلوا في الله، ثم يمضي في سؤال استنكاري: يقولون إن الغاية النار أو الغاية الجنة… إنها أوهام .. النهاية هي الله، كأننا لم نقرأ قول الله: وأن إلى ربك المنتهى….؟
نحن روح الله نسعى
نحوه ما لنار أو نعيم ننتهي | *** |
رغبا أو رهبا أو ولهاً بل إلى ربك فيه المنتهى |
طرح إقبال الانسان وصفه حالة خلود تمتد من عالم ألست بربكم إلى عالم ادخلي في عبادي وادخلي جنتي.
أما البعث فهو عند إقبال فهو حدة في البصر وقوة في المعرفة، وحين وصف القرآن الكريم الحجيم بأنها التي تطلع على الافئدة، فإنه أخبر أنها حالة اكتمال بالمعرفة، وحالة ألم لإخفاق الانسان أما الجنة فهي حالة حبور بالنصر على السقوط.
ليس في الاسلام لعنة أبدية، والأبد هو حقب من الزمان، ولا يمكن في جوار المطلق الحق أن تفهم الأشياء إلا بوهنها وتهالكها أمام كماله؟
والنار ليست هاوية حفرها إله منتقم ليتشفى من عباده بل هي تقويم وتطهير وتأهيل للحياة الحرة، والجنة ليست عطلة أو إجازة بل هي استمرار في عالم النعيم الروحي
النهاية ليست في حركة الأفلاك
وإنما في العالم الروحاني، وفي الذات الإلهية…
القيامة ليست آخر العالم إنها بداية السلوك في عالم السرمد.
إنه التعبير الذي عبر عنه الصوفية العارفون: وارزقنا البقاء بك بعد الفناء بك على قدم ساداتنا السالكين فيها…….
لا تطيق تلك الروح الحرة التي تمردت على الأصنام كلها أن تغدو أسيرة لصنم جديد، يتحلى في زخارف الجنة من حور ونور، أو أن يعيش رعاباً جديداً من حميم وزقوم، لقد بات يردد كلمات رابعة: إن قوماً عبدوك رجاء جنتك فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوك خوف نارك فتلك عبادة العبيد وإن قوماً عبدوك لأنك أنت ألله .. هؤلاء وحدهم من عرفوك…
أنا ما أرجوك ظلا زائلا ليس في البرزخ ما يدهشني | *** |
أنا أرجوك رحيقاً من جلال دهشتي حين احتفالي بالوصال |
لا يتردد إقبال في رسم ملامح الفردوس الذي يبتغيه، ولم يتردد وهو لا يجهل أنه روح الله وسره، عجنه بيديه وأسجد له ملائكته، وسخر الوجود بين يديه، إنه يتقدم مباشرة من الله تعالى ببيان ما يمتلكه من مجد وشرف، يتيه به على الدنيا، ويفخر به أمام الله:
إنه يتحدث عن الجنة والنار والنعيم والبرزخ والصراط والأهوال على أنها محض ومضات سريعة عابرة في ذلك العالم الأسمى، ويعتبر أن كل هذه مواعيد عابرة وأن الموعد الحق هو الله … ألم تصغ إلى قوله: وأن إلى ربك المنتهى؟
ألف حاشا أن يكون
المنتهى ناره ليست سوى مطهرة | *** |
في جحيم وسجون وسعير ثم من بعد إلى الله المصير |
وحبن يزاحم الواعظون عليه يخوفونه أهوال الآخرة، وسقرها وحميمها وغساقها وزقومها، ويلقنونه الكلمات المحصنة من عذابه، موصولة بالخضوع والضراعة رجاء النجاة ورغبة السلامة يرفع صوته بالجهر قائلاً:
يا ملاذي من ظنوني كلما سوف آتي حاسراً مستبشراً | *** |
خوفوني البطش في يوم الوعيد وجهك المأمول لا وجه العبيد |
لا يتوفر لدينا موقف متكامل من لوحة الآخرة كما يرسمها إقبال، فهو يتحدث عن ومضات من العدالة في تلك الدار الآخرة، ولا يتعسف في تأويل النصوص، أو ليّ اعناقها، ويهرب من ذلك كله إلى الاعتصام بتأويل واحد يعتقد أن فيه جواباً عن كل سؤال يخص الخواتيم، إنها النهاية، ليست في جنة ولا في نار، بل إنها في وجه الله!! وهو ما يكرره بعناية وثقة ويقين: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.