مقالات

الإعدام… أوقفوا ثقافة الموت

فيما يمضي العالم لمناهضة حكم الإعدام، صدم العالم كله الأسبوع الماضي بمشاهد الجثث المتدلية على المشانق الإيرانية، في عصر تجاوز فيه العالم فكرة التشفي والانتقام في العقاب إلى مبدأ العدالة والإنصاف.

والتوجه العالمي واضح لإيقاف مارسات القضاء السياسي بقطع الرقاب تحت أي ذريعة، وقد وقعت حتى الآن 104 دول على إلغاء عقوبة الإعدام رسمياً فيما ذهبت 30 دولة لوقف تنفيذ الإعدام من دون أن تلغيه رسمياً.

ولكن مع ذلك تصر بلادنا البائسة ان تستمر في ممارسات ضد التاريخ، ولا تزال تبسط المشانق والسيف والرصاص بيد القاضي المحكوم بالسياسة في عقوبات صارت تصنف متوحشة في العالم كله، وفي تفوق لا نحسد عليه عام 2019 بلغ عدد حالات الإعدام في ثلاثة بلاد إسلامية فقط وهي إيران والسعودية والعراق 80% من نسبة تنفيذ هذا الحكم في العالم كله (باستثناء الصين التي لا تقدم أرقاماً)

من المؤسف ان هذا الجدل القانوني يطرح في المجتمع الإسلامي على أنه نزاع بين الإسلام وبين الكفر، وأن الغرب يتآمر علينا ليعطل أحكام الله، وينشر العولمة والديمقراطية والفوضى…

ولكنني أعتقد أنه ما من عمل أرجو فيه رضوان الله أقرب للصواب من مناهضة حكم الإعدام، خاصة أنه صار في بلادنا أكثر وسائل الاستبداد للبطش بالمعارضين، فما أسهل أن يطلق عليهم التهم بالخيانة والردة والإفساد في الأرض ثم يقتلهم بدم بارد!

ولعلك تستغرب طرحاً كهذا، فقد ظل مشايخنا دوماً يدافعون عن عقوبة الإعدام كما يدافعون عن فريضة الصلاة، ولكن قراءة متأنية لروح الشريعة ستجعلك تغير من رأيك.

في ورقتي التي قدمتها للمنظمة الدولية للإصلاح الجنائي وطبعتها باللغات الإنكليزية والفرنسية والإسبانية أوضحت أربعة عشر أسلوباً قدمتها الشريعة لمناهضة حكم الإعدام، يمكن ببساطة سردها كالآتي:

أولا: عن كلمة الإعدام كلمة غير واردة في القرآن ولا في السنة ولا حتى في الفقه الإسلامي على الإطلاق وإن الكلمة الواردة هي القصاص وليس الإعدام.

ولكن هل هناك فرق بين كلمة الإعدام وكلمة القصاص؟ طبعاً كثير، فالإعدام هو إنهاء حياة الإنسان عمداً، أما القصاص فهو في اللغة والواقع اتباع العدالة، فمن تتبع أثر الشيء فهو يتقصاه، والقصاص اقتفاء آثار العدالة، وقد يتم ذلك بالعفو وقد يتم بالدية وقد يتم بالقتل.

ثانياً: إن كلمة الإعدام كلمة ممنوعة شرعاً، فالكلمتان المتقابلتان الإيجاد والإعدام هما شأن الله تعالى وحده، ولا يصح في التوحيد ان تنسب الخلق لبشر ولا أن تنسب الإعدام لبشر، وما تدري نفس باي أرض تموت ولا تدري نفس بأي ارض تموت.

ثالثاً: إن الله لم يذكر القصاص إلا أعقبه بذكر العفو، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، وأن تعفو أقرب للتقوى.

رابعاً: إن الشريعة حثت على العفو، ودعت إليه ونظمت في سبيل تحقيق العفو تشريعاً كاملاً أسمه الدية، وهو تعويض مالي كبير ومجز، حثت أولياء الدم على قبوله، وفصلت أحكامه في القرآن الكريم زيادة في الحث والتشجيع عليه.

خامساً: وبخلاف سائر الأحكام الشرعية القائمة على قاعدة ولا تزر وازرة وزر أخرى فإن دية القتل تفرض على العاقلة وهي الأسرة الكبيرة والقبيلة، وليس على القاتل وحده، وذلك حتى يكون العوض مجزياً وكافياً، وحتى يتحقق لأولياء الدم كفاية وغناء.

سادساً: إن القصاص بخلاف الحدود حق من حقوق الناس وليس حقاً من حقوق الله، بمعنى أن أولياء الدم يملكون إسقاطه لأي سبب، ولا يشترط قبول القاضي ولا الحاكم بل هو حق مطلق لأولياء الدم.

سابعاً: درء الحدود بالشبهات، إن الشريعة أمرت القاضي ان يدرأ الحد بالشبهة، والشبهة هي العذر السطحي، فلو تعلل الجاني بأي عذر له وجه، كان على القاضي أن يقبل تعلله، ولكن ليس بالضرورة أن يسقط القصاص ولكن ينقله من عقوبة القتل إلى أي عقوبة أخرى رادعة.

والشبهات باب كبير ويمكن أن يندرج فيه ألف عذر، ومن الأعذار المؤكدة أن اختلاف الأمة في فرض عقوبة القصاص في بلد إسلامي يجعل إيقاعه في البلاد الأخرى محل شبهة يلزم القاضي بالعدول عن حكم القصاص إلى سواه.

ثامناً: الغارمون، إن الشريعة فرضت نصيباً من الزكاة على أولئك الذين يسعون في جمع الديات والإصلاح بين القبائل التي وقع بينها دماء، فاعتبر الغارمين المناهضين لعقوبة الإعدام والساعين في جمع الدية مستحقين للدعم من بيت مال المسلمين، يأخذونه من حصص الزكاة المفروضة شرعاً.

تاسعاً: لا تحل الشفاعة في الحدود ولكن تحل في القصاص، فيكون الشفيع في أمر القصاص مشكوراً مأجوراً، وهو حكم يختص بالقصاص دون الحدود.

عاشراً: عدم جواز تجزؤ القصاص، فلو كان أولياء الدم عشرة وعفا أحدهم سقط القصاص فوراً، ووجب على القاضي التحول إلى الدية ولم يجز له أبداً أن يحكم بالقصاص.

حادي عشر: إن القصاص يتطلب رشد سائر أولياء الدم، فلو كان أحد أولياء الدم طفلاً عمره سنة لم يجز أن يحكم القاضي بالإعدام أبداً حتى يبلغ القاصر الرشد، وهذا يمنح الناس فترة طويلة تبرد فيها المشاعر وتتغير الأحوال وعادة ما يختارون الدية خلالئذ.

ثاني عشر: إن القصاص لا يجوز أن يصدر إلا بإجماع هيئة القضاة فلو كانوا عشرة واعترض أحدهم وجب الذهاب إلى الدية وتعين تحريم القتل.

ثالث عشر: لا يصح الشروع في دعوى القصاص إلا بخصومة من ذي مصلحة، فلا يحق للدولة أن تبدأ بمحاكمة إنسان دون دعوى صحيحة من أولياء الدم.

رابع عشر: تحريم الثأر وتجريمه، وقد اعتبرت الشريعة الثأر جريمة جديدة، وافتئاتاً على ولي الأمر ولو كانت من قاتل ظاهر، فالقصاص واجب الدولة وحدها وليس للأفراد أن يقيموا قصاصاً ولا حدوداً.

إن وسائل الشريعة لمناهضة عقوبة الإعدام ليست تبريراً للقتل ولكنها سد لذريعة القتل بغير حق، وهي ليست لإبراء القاتل والتطبيب على ظهره بل إن عقوبة السجن والأشغال قد تكون أقسى وأزجر، ولكن المطلوب هو وقف استخدام هذه العقوبة المتوحشة في أغراض الديكتاتوريات، وازدراء الإنسان.

Related posts

المونديال… قراءة صوفية

drmohammad

الإعدام – عدالة أم توحش

drmohammad

د.محمد حبش- سوريا نموذجا…….. في بلاد الشرق البعيد 1/8/2008

drmohammad