أتوقع من البداية ان يكتب الرافضون لهذه المقالة أننا ساذجون ودراويش حين نصدق الآخرين في خطابهم الإيجابي، وأن علينا دوماً أن نتحلى بالحذر والفطنة فالأصل في الدول القوية الكذب والدجل، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر.
في خطابه أول رمضان تحدث الرئيس بايدن بلغة حميمة دافئة للمسلمين في أمريكا
والمسلمين في العالم، واعتذر بحرارة للمسلمين في أمريكا من البلطجة التي مارسها
سلفه ترامب، وأشار بواضح العبارة إلى العالم الإسلامي الذي يمتلئ تاريخاً وحضارة
وأعلاماً من نور اقتدى بهم العالم، ويتحدث بزهو وإعجاب عن المسلمين في أمريكا
كشركاء حقيقيين في بناء حضارتها وابتكار معجزاتها، في جهد صحيح لرسم لوحة العالم
من الشاطئ الغربي على الوجه الذي يليق بالإسلام، ثم يمضي إلى الحديث بأسى وحزن أن
المسلمين لا زالوا في بعض تفاصيل المجتمع الأمريكي يتعرضون للتنمر والإهانة وأن
مسؤولية الدولة الحديثة أن تقوم بواجبها لوقف هذا التمييز المناقض بالمطلق لحقوق
الإنسان وقيم الاتحاد الأمريكي وإعلان الاستقلال.
أما جوستن ترودو فقد أصبح ضيفا دائماً على موائد الإفطار الإسلامي في كندا وفي السنوات الأخيرة كان أيضاً ضيفاً على المائدة وشريكاً في المطبخ وكان يشارك بزهو وسرور في طقوس الخير الرمضاني يقدم الدليل تلو الدليل أن الإنسانية أسرة واحدة وأن علينا اكتشاف الخير في أعماقنا وأعماق من يعيش بيننا من أمم الأرض
بوريس جونسون إمانويل ماكرون انجيلا ميركل الجميع شاركوا في المهرجان الرمضاني والجميع تحسروا بأسى على ظروف كوفيد19 التي تحول بينهم وبين المشاركة الحقيقية في مهرجانات رمضان في أوربا وأمريكا.
أما الرئيس باراك أوباما فقد قرر أن يخصص منصته الإعلامية التي يتابعها مليار مستمع لبث برنامج رمضاني خاص بعنوان: (أرضية أعلى.. أخبريهم من أكون) في سلسلة برامج لتعزيز المحبة ومقاومة العنصريات تعزز فكرة الإخاء الإسلامي الأمريكي وتواجه بشجاعة ظاهرة الإسلاموفوبيا والتنمر الذي يتعرض له المسلمون!
لا أستطيع أن أحصي في تقريري هذا ممارسات الدول الديمقراطية في العالم في الاحتفاء برمضان وبكل تأكيد فهناك في اليابان والسويد والنرويج وفنلندا والنمسا وغيرها من الدول الديمقراطية جهود كبيرة وممارسات مباشرة تتجه إلى احترام الإسلام والمسلمين والتأكيد على روعة النسك الرمضاني وأثره في المجتمع والحياة.
وليست المسالة مرتبطة بحاكم محبوب أو رئيس حكيم، بل هو منطق الدولة الديمقراطية حين يكون في رعاياها مسلمون، والمجد هنا ليس للأشخاص وإنما للقيم الديمقراطية التي تلزم الحاكم بقيم المساواة والمواطنة بين أفراد الشعب، والكف عن أي خطاب عنصري او إقصائي مهما كان مجللاً بالوطنية والسيادة والمقاومة.
وبكل ألم فإنني أقول إن الخطاب الغربي هذا العام بالذات كان أكثر وعياً وحميمية من خطاب الحكام العرب، فقد نسي كثير من الحكام العرب بالفعل هذا الطقس الرمضاني الجميل فيما تولى الآخرون جعل الحدث مناسبة للحديث عن إنجازهم وصمودهم وضرورتهم التاريخية وفاتهم أن يتحدثوا عن إشراقات رمضان ورسالته في التسامح والغفران.
ويقول قائل إنك مبهور بالغرب!!! وجوابي أنا مبهوربالطبع، أنا مفتون بالقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى الغاية، وهل تريدني أن أفتن بالوجوه البائسة لحكامنا الذين دمروا بلادهم بالبراميل، واستأجروا جيوش العالم لمواجهة شعوبهم، وباعوا أوطانهم بالجملة والمفرق، ودمروا اقتصاد بلادهم تدميراً ماحقاً لم يترك بها حجراً على حجر!
أعتقد ان روح رمضان تفرض علينا وعياً آخر بالعالم من حولنا، فقد انتهى العصر الكولونيالي منذ زمن بعيد، وباتت الدول اليوم تقيم علاقاتها على أساس المصالح المحكومة بالقانون الدولي والقيم الإنسانية، وباتت الشعوب تراقب حكوماتها بدقة، وهي تتحمل مسؤولياتها تجاه الشعوب المستضعفة المغلوبة على أمرها.
لا أكتب لتلميع أحد، ومن الهوان أن تضطر للدفاع عن نفسك كلما كتبت ما يرفضه الجمهور، على أني لا أجد في مآسينا مأساة أسوأ من ظاهرة استعداء العالم وتبادل الريب والظنون وتحويل شعوبنا إلى شعوب مضبوعة أياديها، مرتجفة وسيقانها، متقصفة ركبها، ترتقب الشر والمكر والغدر من الآخر، ولا تصدق أن هذا الآخر قد وصل بعد كفاح طويل إلى إعلان حقوق الإنسان وبات رؤساؤه وزعماؤه يحاكمون ويعزلون لأنهم عينوا موظفاً بلا كفاءة أو لانه ملأ سيارته الخاصة يوماً ببنزين حكومي أو أنه تقبل هدية خاصة وهو في منصبه، وأمثال ذلك من الانحرافات (الخطيرة) في حين أن حكامنا لا زالوا يحكمون بمنطق أنت ومالك للزعيم، والعبد وما ملكت يداه لسيد الحزب ومولاه، وأن الشعب كله في اقتصاده وموارده مرصود بالكامل للصمود والمقاومة.
وسيقول لك على الفور أليست هذه الأمم المتقدمة هي من أحرق بلادنا وعين حكامنا وأنشأ دواعشنا وسرق خيراتنا؟ وهنا أجد نفسي مختلفاً بالمطلق مع التصور المؤامراتي، وقناعتي ان مصائبنا وكوارثنا صنع أيدينا وأن الدور الدولي محدود وغير ذي أثر لولا الوهن والشتات والصراع الذي نعيشه فيما بيينا، وقد قال الأول: لا يستطيع أحد أن يركب على ظهرك إلا إذا وجده محنياً.
لا يزال المواطن في الدولة الفاشلة يعتقد أن العالم هو هولاكو وغورو وشارون وهتلر، ولا يزال الفكر الشائع في بلادنا أن بروتوكولات حكماء صهيون تحكم العالم وأن الماسونية تدير مجلساً خفياً لحكم الأرض وان الحكام والمحكومين باتوا أحجاراً على رقعة الشطرنج، وأننا جزء من هذا العالم المسلوب، وعلينا أن نكون ذئاباً فاجرين لنأكل خبزنا ونزرع أرضنا.
وحدها الدول الفاشلة من يصور لشعوبها هذا الواقع البائس، ويقدم فكر المؤامرة عبر كل وسائله الإعلامية، ويدعو الشعب إلى كفاح انتحاري ضد العالم قائم على منطق: يلعن كل شي، وأننا نتعرض باستمرار لمؤامرات كونية لا تنتهي، ولم تعد كلمة مؤامرة عالمية كافية لتصوير ما يريدون مع أنها تشمل الإنس والجن، ولكنهم باتوا يتحدثون عن مؤامرة كونية يتآمر علينا فيها المريخ وزحل ونبتون وأورانوس ويخلق ما لا تعلمون.
إنني أعتقد أن كل جهد نبذله لأنسنة الوعي الشعبي تجاه العالم، وهدم الحواجز والأسلاك التي رسمها الوهم على تخوم العالم، هو واجب ديني ووطني، وأن علينا أن نتحول بشعوبنا من مقام المفعول به المنصوب الذي وقع عليه فعل الفاعل إلى مقام الفاعل المرفوع، الشريك الإيجابي في صناعة الحياة.
قديماً قال نيوتن: إن الإنسان قد صنع كثيراً من الجدران وقليلاً من الجسور.
وهي الحقيقة التي أكد عليها النبي بقوله: المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
لقد آن الأوان للتخلي عن الفكرة النرجسية التي استقرت في وعينا الجمعي بأننا شعب الله المختار الذي يتآمر عليه العالم، وأننا خير امة أخرجت للناس ولكن شعوب الأرض تجحد مزايانا العظيمة، لقد آن الأوان للتحول بهذه الآيات الكريمة إلى سياقها التاريخي في الزمان والمكان، وآن لنا أن نتعامل بواقعية ورشد مع أمم الأرض، فالناس ليس عدواً لله، بل عيال لله، وأننا في الواقع أمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم ولا تحت الأمم.