ودع العالم الإسلامي يوم أمس العلامة المفكر وحيد الدين خان عن عمر يناهز المائة عام ملأ فيها العالم الإسلامي بفكره وعطائه، ويمكن القول إن وحيد الدين خان بات منذ مطلع هذا القرن أكبر فقهاء الإسلام في القارة الهندية التي يعيش فيها أكثر من ستمائة مليون مسلم، وهو دون شك أكثر مفكريها غزارة وإنتاجاً واطلاعاً وانتشاراً، وكانت إحاطته بالثقافة الإسلامية لا تقل عن إحاطته بالثقافة الغربية، وكان يكتب كتبه بالإنكليزية ثم تترجم إلى العربية والفرنسية والفارسية والتركية والملايو وغيرها.
ولكن ما هي فرادة هذا المفكر الكبير وما مكانه في سماء الفكر الإسلامي؟
لقد قاد وحيد الدين خان حركة إصلاحية دقيقة في الهند، خالف فيها منهج القيادات التقليدية للحركة الإسلامية التي يمثلها المودودي والندوي وقاضي حسين، الذين كانوا يطالبون بحاكمية الشريعة ويشتبكون باستمرار مع الدولة الوطنية لإرغامها على تطبيق الحدود والجهاد وفق رؤية السلف الأول دون اعتبار لتطور الحياة ومرونة الشريعة وقواعد القانون الدولي.
وعلى الرغم من مكانته المعروفة في علوم الشريعة ولكنه تعرض لحملة قاسية من خصومه بعد أن أعلن موقفا مختلفاً في وعيه بالإسلام، وفي حين رفع أبو الأعلى المودودي شعار الإسلام دين ودولة، فإن وحيد الدين خان رفض ذلك كله ونادى بأن الإسلام دين ودعوة.
لقد أنجز وحيد الدين خان إصلاحاً كبيراً في الوعي الإسلامي وتحمل في سبيل ذلك كثيراً من العداوات، ولكنه تمسك بموقفه وأسس لمجتمع مسلم متسامح لا يسعى لفرض إرادته على الآخرين، ولا يؤمن بالجهاد سبيلاً لنشر الإسلام، بل يراه فعلاً دفاعياً للحفاظ على الامن والحياة، ويمكنني أن ألخص إصلاحه الديني في نقطتين أساسيتين:
الأولى: نادى وحيد الدين خان بنبذ العنف كله، واقترب كثيراً من منهج المهاتما غاندي في اللاعنف، ورفض وجود السلاح بيد الأفراد مهما كان علمهم وفقههم، ورفض كل تبرير لاستخدام العنف تحت عنوان إقامة حاكمية الله، ودعا إلى استلهام السيرة النبوية، فالرسول الكريم قام بخمس محاولات لبناء دولته في مكة والطائف والحبشة والحيرة والمدينة، وقد أخفق في أربع منها ونجح في الخامسة ولكن كل المؤرخين من مسلمين وغير مسلمين أكدوا أن الرسول لم يستخدم في كل محاولاته أي لون من السلاح ولا حتى سكين مطبخ، وظلت رسالته الكلمة والحكمة، على الرغم من أن أعداءه مارسوا ضده التوحش والعنف.
وفي مغازيه التي يفرح المؤرخون بسردها وتسميتها ويبلغون بها 28 غزوة و32 سرية فإن وحيد الدين خان يؤكد ان هذا الرقم مضلّل تماماً وأن الرسول لم يلتحم مع أعدائه إلا في ثلاثة أيام فقط، وكان مرغماً على القتال للدفاع عن نفسه وهي أيام بدر وأحد وحنين، ولم يزد القتال عن اثنتي عشرة ساعة في كل مرة ويجزم بان طول المعارك التي خاضها الرسول لم يتجاوز 36 ساعة تحديداً فيما كانت كل أيامه الأخرى سلاماً ومحبة. ولا أدري لم لم يذكر يوم خيبر وعلى كل حال فالمعارك لم تزد عن أربعة والباقي كله تفاوض ومصالحات وحوارات.
ويأسف وحيد الدين خان للولع الذي مارسه كتاب السير في تسمية أيامه بالغزوات والسرايا وهي لم تكن على الإطلاق حروباً ولا غزوات ولا معارك.
ورفض وحيد الدين خان بشدة تربية الجهاد الذي تمارسه الحركات الإسلامية في باكستان والهند حيث يتم تبرير العنف ضد الأنظمة لفرض حاكمية الشريعة التي اعتبروها نقيضاً مطلقاً لحاكمية البرلمان، واعتبار الأسلوب البرلماني مناقضاً للشريعة، وهو الاتجاه الذي أسس به المودودي للإسلام السياسي في الهند ومنها انتقل إلى مصر والبلاد العربية وقد بات في عداء مستمر مع الحكومات الوطنية، يرفض أي تطوير للإسلام ويطالب بشدة بتطبيق الإسلام الحرفي وفق فهم السلف الأول.
الثانية: أما الإصلاح الجوهري الثاني فقد نادى وحيد الدين خان بصراحة بدور أكبر للعقل في تطوير الشريعة، ورفض تغول رجال الدين الذين اعتبروا كل مسألة من مسائل الحياة حكماً شرعياً، وبات لزاماً على المسلم أن ينتظر رأي رجل الدين في الصحة والاقتصاد والمعاملات والاستنساخ وكروية الأرض ودورانها، وفي هذا الجانب شن وحيد الدين خان حرباً ضارية على هذا المنطق الذي يمارسه رجال الدين، واعتبر أن الإسلام جاء أصلاً ليقضي على ثقافة الكهنوت التي تصر على عجز الإنسان وحاجته للوحي في كل شيء، وربط هذه الممارسة بالمنطق اليهودي التوراتي الذي كان ينتظر من الوحي بيان لون البقرة وطولها وعرضها ووصفها، حتى صار الإنسان بليداً خمولاً عاجزاً لا يستطيع ان يتحمل مسؤوليته في اختيار قرار حر مسؤول في معاملاته وحاجاته، وأكد أن هذا ما جاء الإسلام ليحاربه وليس ليكرسه عبر رجال الدين، وتأسّف وحيد الدين خان أن الفقهاء فتحوا باب الاجتهاد في العبادات وأغلقوا باب الاجتهاد في المعاملات وهذا عكس ما جاءت الشريعة تبشر به وتدعو إليه.
وفي توضيح ذلك قال في كتابه تجديد الدين: إن الإنسان الواعي المتحرر لو ألقى نظرة على مكتبتنا الإسلامية سيجد فرقاً شاسعاً بين “الدين المُنَزَّل” و”الدين المُدَوَّن” !
إنَّ الاتجاه الذي سار فيه تدوين الدين لم يكن صحيحاً، وإنَّ تحويلَ كل أمر في حياة المسلمين، سواء من قِبَلهم أو مِن قبل الفقهاء ودور الإفتاء، إلى “مسألة شرعية” ليس من الإسلام في شيء، وإنما هو اليهودية المُحَرَّفة الذي جاء خاتم النبيين للقضاء عليها!
إن المُفْتِين، غالباً، كلُّ أمرٍ عندهم هو “مسألة شرعية”، فيبحثون عن جزئية في كتب الفقه ليَرُدُّوا إليها “المسألة الشرعية الجديدة”، أو ليفهموها في ضوئها!
إن أمتنا اليومَ تَئِنُّ تحت “الإصر والأغلال”؛ حيث قد أضاف المشايخ إلى الإسلام ما يُشْبِه تلك الإضافات التي أضافها فقهاءُ اليهودِ والفَرِيسيون، والتي شوهت الشريعة الموسوية، وأول واجبٍ لتجديد الإسلام اليومَ هو تطهيره من كل هذه الإضافات، ودون القيام بهذا الواجب، لا يمكن لنا أن نخطو خطوةً واحدة إلى الإمام في سبيل “إحياء الإسلام” في عصرنا هذا.
إن هذا “الدين الفني/ التقني/ القانوني/ التفصيلي” جافٌّ؛ يسبب القسوةَ في القلوب، ويَحْرِمُ الإنسان من المشاعر اللطيفة النبيلة.
“الدين الإلهي” يوجه الإنسانَ نحو الحقائق والمعاني، بينما “الدين الفني” يَشْغلنا في الجزئيات.
والدين الإلهي يعلم الإنسانَ الفكرَ والتدبرَ، بينما رجال الدين يفتحون أبواب الجدال العقيم دون حدود”.
لقد رحل وحيد الدين خان، ولا تزال معظم كتبه بالانكليزية لم يترجم للعربية منها إلا نحو عشرة كتب، أبرزها كتابه تجديد الدين وهو رؤية تطويرية متقدمة تؤمن بان الدين كائن حي، ومن حقه أن يتطور ويستمر، وأن يغتني بتجارب الأمم، وليس ان يتحنط في تطبيق السلف الصالح، وأن السلف الصالح لو شهدوا عالمنا المتسارع لأنكروا علينا الموقف السلفي وطالبوا بفقه جديد يستنير بالقرآن ولكنه يعمل لمصالح الأمة.
رحيل وحيد الدين خان سيطرح هذه الأسئلة من جديد، فهل سيدرك مشايخنا أن المستقبل لصوت العقل والبرهان وليس لتقليد السلف، وأن السلفية مرحلة زمنية غابرة وليس من العقل أن تحكم عالمنا اليوم، ومن حقنا أن نقول إن الآية المباشرة التي نزلت في السلف الصالح هي قول الله: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.