هي آية كريمة في القرآن، وبها سميت سورة كاملة بسورة الشورى، وهي الإعلان الرسمي لطبيعة الحكم المأمولة في الشريعة، وهو الحكم الشوروي الجماعي القائم على مطالب الشعب المناهض للظلم والاستبداد بكل أشكاله.
كان من المفروض أن يتطور وعينا بهذه الآية الكريمة لنحقق أحدث نظم الإدارة الجماعية في العالم وبناء ثقافة الديمقراطية الحديثة، وتقديم النموذج الأكثر رقياً ونبلاً وتشاركية وعدالة في الأرض.
ولكن هذا الإعلان القرآني الواضح لبناء حياة شوروية وديمقراطية متطورة تم الالتفاف عليه تاريخياً حتى أنتج واقعنا البائس الذي تعاني فيه الشعوب الإسلامية من أنظمة استبداد ماحقة، تحصي على الناس أنفاسهم، وتمنع الناس من الخوض في الشان السياسي، ويصرح فيها الزعيم: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
ولكن لماذا وصلنا إلى هذه الهاوية في تغول الاستبداد وانطفاء الحريات وانكفاء المشاركة، حتى صارت البرلمانات مجالس تأييد للسلطة، تقرأ بذكاء غرائز الحاكم وتنتج له التشريعات الشهية!
فكيف إذن نفسر آية الشورى؟
من المؤسف اننا نمارس التفسير عن طريق اجترار كلام الأقدمين، والبحث في عجائب الألفاظ
لا يتم تفسير آية الشورى باللجوء إلى سيبويه ونفطويه وأبو على الفارسي والكسائي وابن منظور وسرد الكلمة في أشعار العرب وآدابها، ومواردها في المعلقات، واشتقاق لفظها وتركيبه واستعمالاته، فعلاً ومصدراً واشتقاقاً….
ولا يتم تفسير آية الشورى عبر فقهاء الرواية الذين يسوقون الروايات ويعرفون صحيحها من ضعيفها من ساقطها من منكرها من هالكها، ثم يخلصون إليك بسلسلة الذهب لرواة أتقياء أوادم يجيدون نقل المعلومة، ولكنهم لا يخرجون عن سياق المستبد، حيث مفتي السلطان يدرّس الشورى وبيده السيف المصقول ويقول: الخليفة هذا فإن مات فهذا، فمن أبى فهذا!!!
المفسرون الذين عاشوا في ظل الاستبداد وسياقه أنتجوا لنا تراثاً مقموعاً مخنوقاً يلزمك الخضوع للمتغلب صاحب الشوكة، وهؤلاء انتهى بهم الاجتهاد أن الشورى مُعْلمة وغير مُلْزمة، بمعنى أن الفقهاء والمفتين ورجال القانون والمستشارين جميعاً لا يملكون أكثر من إعلام صاحب السلطة المتغلب برأيهم، وهو غير ملزم بشيء مما يرفعونه إليه، وحين يأمرونه بالعدالة والمساواة والحقوق فإنه يعمل بقاعدة شاوروهن وخالفوهن!! دون أدنى وخزة ضمير!
قبل أسابيع أطل عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق على قناة نور الشام يتحدث في فقه هذه الآية وقد أوصلنا إلى فقه ذليل خانع، اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي، وأن لهم عليكم حق الطاعة، ولو أكلوا أموالكم وضربوا أبشاركم وجلدوا ظهوركم!! أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم!!
و(ضرب الأبشار) يعني بالضبط أن يسلخك عنصر المخابرات بالكف الأحمر على صفحة وجهك ويقول لك بازدراء: نحن الدولة ولاااا
ثم راح يستفيض في البيان وأوضح أن كل ما نعانيه من الظلمة وسجونهم وبراميلهم ومظالمهم وزنزاناتهم هو بسبب ذنوبنا وأن الخلاص يكون بمزيد من الخضوع والرضا والدعاء للسلطان!!.
وفي الواقع فأنا لا ألومه فهو يروي بالضبط وبدقة تامة فتوى الأشاعرة الذين يمثلون مدرسة الخضوع للظالم المستبد، وهي المدرسة التي سادت خلال عصور الاستبداد المختلفة حيث كان الحاكم ظل الله في الأرض، طاعته واجبه وذنبه مغفور.
فهل هؤلاء مؤهلون لتفسير آية الشورى؟
قناعتي أن من يجب ان يتصدى لتفسير الشورى هم عباقرة الديمقراطية في العالم، الذين صنعوا العقد الاجتماعي وحرروا مبادئ فصل السلطات ونجحوا في تأمين نظم حكم عادلة لا يملك فيها المستبد إلا راتبه وثيابه وعليه أن يغادر بهدوء حين يقول له الشعب ارحل، أو عندما ينتهي العقد الاحتماعي الذي خوله الحكم فترة رئاسية محددة السنة والشهر واليوم والساعة!
نحتاج في تفسير آية الشورى إلى فقيه مثل جان جاك روسو يقلم أظافر الاستبداد بقوة القانون، ويمنح ممثلي الشعب في مجلس الشورى حق مساءلة الحاكم وعزله وعقابه إذا هو خرج عن الصراط المستقيم.
نحتاج في تفسير آية الشورى إلى فقيه مثل مونتسيكو يكتب لنا روح القوانين ويجبر الحاكم مهما كان صلفاً ومغروراً أن يخضع لإرادة الشعب ويحتكم إلى شورى الناس ويدرك انه خادم للأمة وليس إلها ً أعلى.
نحتاج إلى مفسر لآية الشورى في فقه نانسي بيلوسي التي ملكت الشجاعة الكافية لتقول للمستبد قف مكانك، ومضت تقود فريقاً من رجال الشورى الاكفاء في المجلسين، وتحول المستبد الذي يقود جيوش أمريكا الجبارة وقدراتها النووية الهائلة وأساطيلها التي تملأ البحار إلى مجرد طائش هارب من العدالة يمضي نهاره في الصراخ وليله في الحوقلة، ويستغيث بالصغير والكبير والنبيل والوغد حتى يتجنب محاكم العدالة.
نحتاج إلى مفسر مثل أنجيلا ميركل تعيش في خدمة الناس، وتحكم أقوى اقتصاد في أوروبا دون أن تنتقل من شقتها المتواضعة وتتسوق حوائجها، ثم ترحل في ميعادها دون أن تترك من ورائها أسرة ميركلاوية حاكمة في مفاصل القرار الألماني.
إنني أستعير أمثلتي من الواقع الحضاري المعاصر، وأرجو أنني لا أجحد فقهاء الحضارة الإسلامية الذين كتبوا بهذه الروح ومارسوها، ووقفوا بصلابة ضد الاستبداد مثل عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز ومثل أبي حنيفة الذي دخل سجونهم المظلمة بنسختيها الأموية والعباسية، ومالك بن أنس الذي أعلن أنه: ليس على مستكره بيعة!! ودفع ثمنها سجناً وتعذيباً في سجون المنصور، والعز بن عبد السلام، وكذلك من المعاصرين الشرفاء مثل سوار الذهب ومهاتير محمد وشكري القوتلي فهؤلاء ايضاً فلاسفة في الحرية والعدالة والقانون وقد قاموا بأدوار مجيدة في عصورهم، ومن حقهم أن تكون أسماؤهم هناك، ولا اشك انهم لو كتبوا لنا فقه الشورى لأنتجو أفقاً لا يقل عن حضارة الكابيتول أو البوندستاغ، وحملوا الناس على وعي ديمقراطي عظيم ، يكون فيه السطان خادماً للأمة، يلتزم إرادة الناس ولا يملي عليهم إرادته، ويكون قدره وقدرهم وحقه وحقهم وأمره وأمرهم شورى بينهم.