مقالات

الديانة الإبراهيميَّة

الحرب ضدَّ طواحين الهواء

ويسألونك عن الديانة الإبراهيمية…

التحليلات بعدد المؤامرات التي تعوَّد العربي أن يلقيها على عجائب الدهر، وفي جولة واحدة على الفيس بوك وغيرها من وسائل الطوشة الاجتماعية، ستجد لهذه الديانة الإبراهيمية أنبياء ومرسلين وقديسين ومؤامرات وبروتوكولات وعواصم كزخ المطر، وستجد من يقول إنها مشروع الأمم المتحدة ومجلس الأمن والصهيونية العالمية والماسونية والروتاري والليونز والبهائية والاستعمار، ولكن لو سألتهم عن كاهن واحد في العالم يمارس هذا الوهم فلن تجد إلا الظنون…

الانتماء إلى إبراهيم شأن الرسالات السماوية جميعاً، وفي الإسلام خصوصاً نصلي ونبارك على محمد كما صلينا وباركنا على إبراهيم وآل إبراهيم، ونقوم في البيت الحرام عند مصلى إبراهيم، ونرمي جمرات إبراهيم وننحر نحر إبراهيم، ونختتن سنة إبراهيم، وخصال الفطرة هي كلمات إبراهيم، وفي القرآن الكريم: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾، [النحل: 123].

وفي آية أخرى: ﴿ِإنَّ إِبْرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْركِينَ﴾، [النحل: 120]

والديانات الإبراهيمية اسم قديم يجمع اليهودية والصابئة والمسيحية والإسلام، وقد كتب فيه الفقهاء في الماضي، ويكتبون اليوم ولم يكن هذا السياق يثير أي إشكالية؛ بل يفهم تماماً على أنه المقصود بالكلمة السواء لأهل الكتاب.

ولكن أصدقاءنا الذين يتحدثون اليوم غاضبين عن مؤامرة الديانة الإبراهيمية الجديدة لا يعيشون هذا الواقع؛ بل يعيشون أوهام المؤامرة العالمية السرية، ويتحدثون عن قرارات خطرةٍ اتخذها مجمع النورانيين الذي يحكم العالم ببروتوكولات حكماء صهيون، ويديرها أحجاراً على رقعة الشطرنج، وهم يستخرجون بين الحين والآخر وثائق من عوالم ويكيليكسية غامضة تشير إلى نسخ جديدة من القرآن الكريم تحذف منها آيات وسور، ونسخ مخصصة تتلاقى معه من العهد القديم والجديد، وأن الكتاب المقدس القادم هو شوربة من هذه الكتب، وسيتم إقراره في تل أبيب ككتاب مقدس لأتباع هذه الديانة الإبراهيمية الجديدة، وستعلنه الأمم المتحدة ديناً جديداً للعالم.

أما كهنة الديانة الجديدة فيتم إعدادهم في محافل الماسونية العالمية، ولهم تمائم ورقى وتعاويذ لا يتقنها إلا الراسخون من السحرة والعجائبيين، وأنها تتسلل إلينا كل يوم، ومن السهل جداً أن تكون عاصفة كتاب الديانة في الصف الأول الابتدائي في شمال حلب جزءاً من هذه المؤامرة لولا أن أسقطتها مظاهرات حاشدة وخطب نارية وكشفت خيوط المؤامرة العالمية التي تستهدف ديننا وأمتنا وتاريخنا وحضارتنا!

وأترك لك المجال لتتابع الاسترسال إلى النهاية في وصف ما يحيط بهذه الديانة الخيالية العجيبة من طقوس وطروس، وما يتصل بها من جنون وفنون، فقد قدمت لك ما جادت به القريحة؛ إذ لا مصدر لهذه الأوهام إلا الخيالات الخصبة الموتورة بالوهم والمرعوبة من النور والمضبوعة من حركة الحياة.

ومع أن هذه الأوهام ليست إلا خيالا سوريالياً لا وجود لها في واقع؛ ولكنَّ هيئات عدَّة معتبرة في العالم الإسلامي اجتمعت وأصدرت بيانات في تحريم الديانة الإبراهيمية وتكفير أتباعها، مع أن هؤلاء الأتباع لا وجود لهم في أي مكان في العالم إلا في وهم أصحاب نظرية المؤامرة.

وتتالت هذه التحذيرات والأوصاف المؤامراتية، ونشر الإعلام فتوى إثر فتوى تحذر من الدين الإبراهيمي الجديد ولم يستطع واحد منهم أن يشير إلى شخص واحد يتبع ديناً كهذا، أو كتابٍ واحدٍ يعتقده عشرة أشخاص يدعو إلى طبخ دين واحد من الأديان الإبراهيمية.

وقد تعاظم هذا الهجوم واستهدف شيخ الأزهر نفسه الذي يقود مبادرات الإخاء الديني حتى قام الأزهر نفسه بإصدار فتوى واضحة بأنه لا وجود لشيء اسمه الديانة الإبراهيمية، وأنه لا توجد نسخة جديدة من الإسلام ولا المسيحية ولا اليهودية، وأن الديانات قائمة على أصولها وبرامجها، ولكننا نقوم بدور اجتماعي محضٍّ لا علاقة له باللاهوت، وذلك لتأمين العيش المشترك بين الجميع على قاعدة لكم دينكم ولي دين.

نعم هناك جهود حقيقية لبناء تعاون وإخاء بين الأديان، وقد بدأت في سوريا ومصر والمغرب ولكنها اليوم تتخذ مساراً سعودياً سلفياً، وعراقياً شيعياً، وعمانياً إباضياً، وتشارك فيه دول إسلامية كثيرة، وقد أطلقت السعودية هذا المشروع من الحوار في فيينا تحت عنوان مركز الملك عبد الله لحوار أتباع الديانات والثقافات، وقد انخرط فيه كل من دعي إليه من أعلام الفقهاء ورؤساء الجامعات الإسلامية وفقهاء الشريعة الكبار.

وهناك دور عبادة تبنى متجاورة للأديان وهذا أمر لم يتوقف في الدول الإسلامية الناجحة خلال التاريخ، وأول مجمع للأديان الإبراهيمية كان في حي النوفرة بدمشق حيث تتصل الكنائس المسيحية بالكنيس اليهودي بباب الجامع الأموي، وفي أثناء قرون طويلة كان الجرس والبوق وجوقة المؤذنين صوتاً معتاداً في حي النوفرة وأحياء دمشق القديمة جميعها.

والأمر نفسه في القاهرة حيث مسجد عمرو بن العاص وإلى جواره الكنيسة المعلقة وكنيس ابن عزرا اليهودي؛ بل إن دير سانت كاترين في سيناء ضمَّ منذ عهد الحاكم الفاطمي ضمن سور واحد كنيسة وكنيساً ومسجداً، ولم يقل أحد إن ديناً جديداً طُبِخ ونضج على طبق سانت كاترين.

وتقيم قطر اليوم مجمع الديانات في حي مسيمير بالدوحة، وفيه مساجد وكنائس لطوائف متعددة، ومثله في جبل علي بالإمارات، ومثله في السعديات في أبو ظبي حيث يبنى مسجد وكنيسة وكنيس في منطقة متجاورة، وسيكون للمسجد إمامه، وللكنيسة مطرانها، وللكنيس حاخامه، وفي منطقة كاديكوي بإستانبول كنيس حمدة الأشكنازي، وكنيسة أرمنية، ومسجد إسلامي، وفي قلب برلين التاريخية مسجد وكنيسة وكنيس تحت سقف واحد، وكل هذه المعابد تقوم على مبدأ الجوار والتعايش والاحترام تحت قاعدة قرآنية لاريب في صحتها وهي قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، [الكافرون: 6].

العقائد الدينية الإبراهيمية في الواقع مختلفة والشعائر غير متطابقة، ولا يقول بجمع المتناقضات إلا مجنون، ولا يمكن لعاقل أن يتصور أداء صلاة مشتركة تسقط ما بين الديانات من فوارق، وسيكون ذلك أشدُّ تسطيح لرسالة إخاء الأديان حين نتصور تأليف صلاة جديدة، وقبلة جديدة، ونبي جديد، وكتاب مقدس جديد.

وتشمل الديانات الإبراهيمية تقليدياً اليهودية والمسيحية والصابئة والإسلام، ويزيد كاتب هذه السطور سطراً فيقترح أن تُضمَّ الهندوسية أيضاً إلى الديانات الإبراهيمية فهي تنتمي لقديس عظيم اسمه براهما، وقد دخل في الأدب الهندي منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد إبان الغزو الآري للهند على يد جيوش جاءت من ميزوبوتيميا (غرب الهضبة الإيرانية) حيث كان إبراهيم قد اشتهر فيها رمزاً للتوحيد والإيمان بالله.

الديانة الإبراهيمية محضُّ وهمٍ نهرب إليه لتبرير فشلنا في صناعة المحبة والإعذار، وعجزنا عن إنتاج جيل حضاري جديد يعيش كما تعيش الأمم الحية، مسكوناً بالمحبة وحسن الجوار وتقدير الاختلاف واحترام الأديان.

لقد شهد اللجوء الأخير إلى أوربا ظواهر لا تعد ولا تحصى من الإخاء الديني ويقدر عدد الكنائس التي كانت تفتح أبوابها يوم الجمعة لإقامة صلاة الجمعة بأكثر من مئة كنيسة في أوروبا، ولكن لا المطران يؤم يوم الجمعة، ولا الشيخ يدخل القداس في الآحاد.

لن تتوقف جهود الشرفاء في بناء إخاءٍ بين الأديان فهذا هو السبيل الوحيد لاستمرار العيش على هذا الكوكب، ولعلَّ أغبى الناس هم من يفكرون بإنتاج عقيدة مشتركة من العقائد المتصارعة، فهذا وهمٌ وجنون، أما المنطق القرآني فقد جاء واضحاً في آيات كثيرة: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنكم شِرْعَةً ومِنهاجًا﴾، [المائدة: 48].

﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾، [البقرة: 148].

﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، [الأنعام: 108].

﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، [الكافرون: 6].

﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ﴾، [الإسراء: 84]

ولهذا المعنى فإنني أختار بدقةٍ مصطلح إخاء الأديان تعبيراً عن الحاجة التي نريد، فالحوار جدلٌ في اللاهوت عقيم، وصدام الأديان مداخل حرب ماحقة، وتوحيد الأديان عبثٌ لا يرضي أحداً ولا يستقيم منه اعتقاد، أما مصطلح إخاء الأديان فهو رسالة اجتماعية محضة لا علاقة لها باللاهوت، تقوم على محبة الجميع وإعذار الجميع وترك الحساب على الله.

Related posts

الدكتور محمد حبش- أدب الاختلاف عند الدعاة إلى الله 7/7/2006

drmohammad

د. محمد حبش- الإرهاب في نسختيه تورا بورا وروما 24/2/2006

drmohammad

د.محمد حبش- الاستثمار في اللغة العربية

drmohammad