مع أن الحرب الأوكرانية الروسية حرب نفوذ وأطماع، وتنافس دولي طاحن، ولا علاقة لها بالإيمان من قريب ولا من بعيد، ومع أنها حرب أوروبية بامتياز ولا علاقة لها بأي وجود إسلامي ولا تستهدفه، ولكن مع ذلك فقد تابعنا في الأسابيع الماضية فريقين اثنين من رجال الإفتاء في موسكو وكييف، وكلاهما يلبس العمامة، ويستدل بالآيات والأحاديث نفسها، للاستدلال على وجوب خوض الحرب شرعاً، والأدلة من الكتاب والسنة وفقه الجهاد، وقد أعقب هذه الفتاوى دعوات تطوع للجهاد في سبيل الله على الشاطئين المتحاربين!
لا أدري كيف يمكن لعاقل أن يتابع هذا الجنون ثم يظل يبحث في دليل الغيب عن مشاكل الواقع، وفي كلام الفقيه عن موقف الحرب، وينتظر من العمامة أن تحدد اتجاه البندقية.
فهل يوجد حقاً حسم فقهي وشرعي لتحديد البغاة والضحايا وفق النصوص المقدسة؟
إنه السؤال نفسه الذي نعاني غربته وقسوته منذ ألف وأربعمائة عام، وحين اندلعت الحرب السياسية الطاحنة في فجر الإسلام كان علي وعمار وسلمان رضي الله عنهم، يقاتلون بكل عزيمة وصلابة ضد عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم أجمعين.
وهؤلاء الستة المنقسمون بين الفريقين منصوص على أنهم مبشرون بالجنة، وأنهم
رعيل الإسلام الأول، وكان يتبعهم آلاف الناس، وعنهم روينا حديث: إذا التقى
المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار…
والمشهد إياه لم يزل يتكرر في كل فتنة وفي كل حرب داخلية، كما يتكرر اليوم بشكل
صارخ في مشهد الجهاد والجهاد المضاد في لهيب الثورة السورية.
في القتال ضد الروس في سوريا صدرت الفتاوى المترافدة بوجوب الجهاد ضد الروسي وقتاله، عن مشاهير الشيوخ السوريين شيخ قراء الشام كريِّم راجح، ورئيس رابطة علماء الشام الشيخ أسامة الرفاعي، والشيخ سارية، والشيخ راتب النابلسي، وهؤلاء المشايخ معروفون لكل سوري، ومنذ عقود يذهب السوريون إليهم ليعرفوا كل شيء في دينهم ودنياهم.
والنظام أيضاً له فقهاؤه ومشايخه بدءاً من الشيخ البوطي رحمه الله، وهو فقيه كبير لا يُجادَل في منزلته، وهو مستمر في ولده رئيس اتحاد مشايخ الشام الذي كان يرأسه أبوه، إضافة إلى تيار المدارس الشرعية جميعاً، جامعة بلاد الشام بالعمائم المئة التي تشكل هيئتها العامة، ودكاترة الشريعة الذين يقرأ الكل كتبهم التعليمية في المساجد وحلقات الجهاد، ومجمع الفرقان الشرعي، ومجمع بدر الدين الحسني، ومشايخ حلب العاملين في الأوقاف، وهؤلاء كلهم صدرت عنهم الفتاوى بالقتال إلى النهاية ضدَّ الثوار، ووجوب حربهم وجوباً عينياً.
وفي دعم التدخل الروسي ذهب فريق النظام من المشايخ في وفود إسلامية مثيرة إلى السفارتين الإيرانية والروسية يشكرونهم على دورهم (الجهادي) في سوريا، ويترحمون على شهدائهم الأبرار، ويناشدونهم الاستمرار في الحرب ضدَّ إخوانهم من المشايخ الذين يفتون بوجوب الجهاد ضدَّ النظام وضدَّ الروس، ودون أن يرف لهم رمش أكدوا للروسي أن ما يقوم في سوريا هو أعظم الجهاد في سبيل الله.
وفي موقف مذل ومهين يقف مدير أوقاف الشام ليتحدث باسم المشايخ كلهم في المؤسسات الدينية الرئيسية القائمة في الشام قائلاً: امض يا سيادة الرئيس، حارب من شئت، وسالم من شئت، وصِل حبل من شئت واقطع حبل من شئت، ومقتضى كلامه: واقصف من القرى ما شئت وألقِ البراميل على من شئت، واقتل من السجناء من شئت، ودمِّر من البلد ما شئت، فوالله لا نقول لك لشيء فعلته لمَ فعلت؟! ولا لشيء تركته لم تركت!
وعلى مستوى الفصائل الإسلامية المجاهدة فالمقاتلون لديهم جيش من الفقهاء والمشايخ والقضاة الشرعيين يدرسون كل مواقف الفصائل ويصدرون فيها الأحكام الشرعية المناسبة على هدي الكتاب والسنة.
لا أعتقد أننا نمارس أي نوع من المبالغة فيما نصفه من حال، فالأمر على الواقع أشدُّ هولاً وأكثر فظاعة مما نرويه أو نحكيه ولدى القارئ أمثلة أكثر هولاً وشدة وواقعية.
لقد صار واضحاً أن الاصطفاف إلى جانب الشعب المظلوم له فريقه المؤيد من الفقهاء ورجال الدين الذين يرفعون أصواتهم بوجوب الجهاد والقتال ضد النظام وحلفائه الإيرانيين والروس، عملاً بكتاب الله وسنة رسول الله، ولكن المعسكر الآخر طافح أيضاً بالفقهاء ورجال الدين الذين يقسمون على منابرهم ومعاهدهم أشد المواثيق أنهم يقومون بواجب الجهاد ضد البغاة والخوارج تطبيقاً لكتاب الله وسنة رسول الله.
وفي مشهد النصوص المتبادلة فبإمكانك متابعة موقع المفتي الأوكراني وموقع المفتي الروسي، وكذلك شيوخ الشيشان المتطوعين للقتال مع أمير المؤمنين بوتين ولديهم أحمالهم وأثقالهم من أدلة الكتاب والسنة! الآيات نفسها والأحاديث نفسها، والمحدثون هنا وهناك هم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، والمفسرون هنا وهناك هم الطبري وابن كثير والقرطبي، والصحابة هنا وهناك هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ولكن كل فريق يستنتج موقفاً معادياً للآخر عبر الأدوات والوسائل والآلات والشواهد ذاتها!
فهل بعد هذا المشهد الصارخ من تأكيد لحقيقة قول الإمام علي كرم الله وجهه إن القرآن حمَّال أوجه؟
والمشهد نفسه واجهناه في العقود الماضية في ثنائيات مشابهة في طول العالم الإسلامي وعرضه: في مصر حزب النور والإخوان، وفي تونس النهضة وأنصار السنة، فجر ليبيا والجيش الإسلامي في ليبيا، وجمعية العلماء والجهاديون في الجزائر، المحاكم الإسلامية وتنظم الشباب في الصومال، طالبان وحكمتيار في أفغانستان، السلفية الجهادية والسلفية العلمية.
وهو بذلك ليس شيئاً جديداً في تاريخ الحرب في الإسلام، فالقتال بين السنة والخوارج كان قائماً على حجج راسخة من السنة والكتاب، والقتال بين الفاطميين والأيوبيين، وبين المرابطين والموحدين، إلى آخر الحلقات المتقاتلة في تاريخ الإسلام.
متى سندرك أن السياسة والحرب نشاط دنيوي محض، ينطبق عليه قول الرسول الكريم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأن أصول الفقه مهما كانت راسخة ومتينة لا تستطيع إنتاج موقف فقهي موحد في كل حدث سياسي.
ليس المطلوب إعادة صناعة التاريخ ولا إعادة اكتشاف الدولاب، ولكنه بالضبط الدولة المدنية التي يعرفها العالم كله، ويحتكم الناس فيها إلى مصالحهم ومطالبهم، ويتحدث فيها رجل الدين كما يتحدث رجل الدنيا وفق مصالح من فوضوه وليس وفق نصوص الغيب التي يحتكرها وفق رؤيته، فهذه الآيات والأحاديث الواردة في الجهاد والقتال جاءت كلها في قوم غابرين، أصبحوا ذكرى من الماضي، ومن عجز العقل أن نرسم المستقبل بريشة الماضي، ولتأكيد هذه الحقيقية وردت الآية الكريمة الواضحة مرتين في القرآن الكريم: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، [البقرة: 134].