مقالات

مذهب الإنسانيَّة في الإسلام

لا أدري إذا كان من الصواب أن يقوم المرء بالتعريف بكتابه الجديد فقد جرت العادة أن يتولى ذلك القراء أو الناقدون، ولكنني هذه المرة أجد نفسي مندفعاً للتعريف بكتابي الجديد «المذهب الإنساني في الإسلام»، إذ يشعر الكاتب دوماً كلما ظهر له كتاب جديد شعور من رزق بمولود جديد، فهو لا يكتم فرحته وغبطته، وربما تجاوز الأعرافَ في التعريف عن حبِّه الجديد.

لقد جاء كتابي هذا في غمرة أحداث ماحقة ظهر فيها العنف الديني بأشد صوره حدة وتحدياً، وبات الخطاب الانفعالي يحرك الناس، وفي الواقع فإنه لم يظهر في التاريخ اتجاه ديني ولا سياسي إلا وهو يتحدث عن الإنسان جوهراً وغاية، وبذلك فإن المذهب الإنساني اتجاه فكري ومجتمعي يمكنك رصده في المجتمعات البشرية جميعها، كما يمكننا الوقوف عليه بوضوح في النصوص المقدسة كلها، وهو اتجاه يعتبر الإنسان محوراً وغاية، ويعتبر تحقيق سعادته معياراً لصحة التدين وصحة التوجه السياسي.

وبذلك فإن من المؤكد أن الحديث عن الإنسان محوراً وغاية هو تحصيل حاصل، ولا توجد ديانة ولا شريعة تزعم أنها ضدَّ الإنسان؛ بل يقول الجميع إنهم يعملون لإسعاده وإن سعادة الإنسان هي غاية الدين والسياسة جميعاً، وفي الكتاب المقدس: إنما خلق السبت من أجل الإنسان ولم يخلق الإنسان من أجل السبت، وكذلك في الخطاب الإسلامي: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم.

ولكن الواقع يختلف بشكل جذري عن الشعارات التأسيسية والنصوص العامة، وظهرت في الأديان كلها مواقف تمييزية واضحة، وبشكل خاص ضد المرأة وضد المختلف دينياً، ومواقف تنتهك الكرامة الإنسانية خاصة في نظام العقاب، وتعتبر هذه المواقف التمييزية على رأس الثوابت في العقيدة، وبشكل خاص في الإسلام الذي تدور حول مقاصده هذه الدراسة، وبات على من يتحدث عن المذهب الإنساني أن يقدم أجوبة واضحة لمواجهة سيل النصوص والممارسات المتناقضة كلياً مع محورية الإنسان.

تحاول هذه الدراسات أن تقدم البرهان على مركزية الإنسان في الإسلام، وضرورة مواجهة الفهوم التمييزية والعنصرية التي اختلطت بقضايا الفقه الإسلامي، وكذلك الغلو في الدين الذي جعل الشريعة أقدس من الإنسان، وتحاول هذه الدراسة أن تقدم للمسلم روحاً جديدة تنهض به من تكايا الهمود والخوف إلى منابر الإقدام والعطاء، وتحاول أن تثب به على قدمين راسختين يعالج بالإرادة والعزيمة وهن الخوف والذل الذي فرضه عليه خطاب كهنوتي رهبوتي لا يرى في الله إلا جلاداً، ولا يرى في الإنسان إلا غبياً ضائعاً يحتاج إلى السوط باستمرار حتى يمشي على الصراط المستقيم.

إن استنباط القيم الإنسانية من مصادر الشريعة بات عملاً بديهياً وقد كتب فيه مئات من الباحثين على مستويات مختلفة، وهو اتجاه وجيه يعلي من القيم الإنسانية التي نادت بها الشريعة كالمساواة في العدالة، وفرض العمل والتعليم، والرحمة بالصغير واحترام الكبير ورعايته، وتولي ذوي الإعاقة باحترام وعناية، وبرِّ الآباء، وصلة ذوي الرحم، والتكافل الاجتماعي، وغير ذلك من القيم الإنسانية.

ولكن ظل الموقف الفقهي السائد عاجزاً عن مواجهة التحديات الرئيسة التي تتناقض مع حقوق الإنسان وتؤدي إلى القلق والفوضى في المجتمع الواحد لجهة غياب المساواة على أساس الدين أو العرق بعد أن أنجزت الإنسانية قيم المساواة، والتمسك في القضاء بالعقاب الجسدي بعد أن أنجزت الإنسانية نظم العقاب الإصلاحية وحرمت التعذيب بأوجهه كلها، وكذلك لجهة اضطهاد المرأة وعدم الاعتراف بمساواتها وحقوقها وحريتها ونصب المجتمع وصياً على خياراتها، وهي وصاية لا تزال ضارية وصارمة، وقد ظهرت في الشهور الأخيرة متوحشة ولا إنسانية؛ إذ تزايد القتل بدافع الشرف، ومع أن المجتمع كله يستنكر هذه الجرائم ولكنه يجبن عن مواجهتها في مصادرها، ولا يزال يبرر الرجم كحد من حدود الله خالداً إلى الأبد، في حين أنه يكتب أشد العبارات في رفض هذه الممارسة المتوحشة حين يقوم بها بعض الغاضبين.

ليس الهدف من هذه الدراسة تمجيد الفقه الإسلامي وإظهار المواقف الإنسانية في القرآن والسنة، وهي مواقف كثيرة ومتعددة، ولكن الهدف الجوهري هو تقديم إطار نظري للمذهب الإنساني في الإسلام باعتباره اتجاهاً معتبراً يختلف عن التيار التقليدي في اتباع النصوص، والكشف عن دوره الاجتماعي الحيوي في تعزيز حقوق الإنسان في المجتمعات المسلمة والمواجهة المباشرة مع الأحكام اللاإنسانية التي تسللت إلى الفقه الإسلامي، وباتت ترسم صورة لاإنسانية تظهر آثارها في المجتمعات المسلمة على صورة مظالم يرتكبها الحكام وتنمراً يمارسه المجتمع، كما تظهر آثارها في المجتمعات غير المسلمة على هيئة إسلاموفوبيا تتكرس وتتجذر مستخدمة أدلة وبراهين يتبناها التيار السائد في الفقه الإسلامي.

تريد هذه الدراسة أن تؤكد أن الإخاء الإنساني هو هدف نهائي للإسلام، وأن ما تعانيه الأمة من خطاب التمييز والإقصاء، ونُظُم العقاب اللاإنسانية ناشئ عن جمود الفكر وتوقف الاجتهاد، وأن الأمة الإسلامية قادرة على التطور والتجدد، وأن النص الديني نفسه نص مرن ومتطور، ويمكنه أن يستجيب لحاجات المجتمع الحقيقية، وذلك وفق قواعد العقل المتينة التي يسميها الفقهاء قواعد أصول الفقه الإسلامي، وأن الفقه الإسلامي قادر على أن يتخلى عن كثير من الأحكام التي تكرست عبر القرون، وأن يستجيب للروح القرآنية الكريمة التي تؤكد بوضوح محورية الإنسان ووجوب تحقيق كرامته وهي حقائق أكدها النص الأعلى، الذي يجعل اختلاف الألسنة والألوان والأديان والأعراق رحمة ونعمة، وآية من آيات الله، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، [الحجرات: 13].

Related posts

د.محمد حبش- لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني 1/12/2006

drmohammad

د.محمد حبش- ويسألونك عن جرائم الشرف 7/11/2008

drmohammad

د.محمد حبش- رمضان…. ثم لتسألن يومئذ عن النعيم 5/9/2008

drmohammad