.يشرفني أن أكتب في نينار، خاصة وأنني أكمل السطور الأخيرة من كتابي الجديد المذهب الإنساني في الإسلام
لم يظهر في التاريخ اتجاه ديني ولا سياسي إلا وهو يتحدث عن الإنسان جوهراً وغاية، وبذلك فإن المذهب الإنساني اتجاهٌ فكري ومجتمعي يمكنك رصده في المجتمعات البشرية كلها، كما يمكننا الوقوف عليه بوضوح في النصوص المقدسة جميعها، وهو اتجاه يعتبر الإنسان محوراً وغاية، ويعتبر تحقيق سعادته معياراً لصحة التدين وصحة التوجه السياسي.
ولكن الواقع يختلف اختلافاً جذريَّاً عن الشعارات التأسيسية والنصوص العامة، وظهرت في الأديان كلها مواقف تمييزية واضحة، وخاصة ضد المرأة وضد المختلف دينياً، ومواقف تنتهك الكرامة الإنسانية خاصة في نظام العقاب، ويعتبر رجال الدين هذه المواقف التمييزية على رأس الثوابت في العقيدة، وخاصة في الإسلام الذي تدور حول مقاصده هذه الدراسة، وبات على من يتحدث عن المذهب الإنساني أن يقدم أجوبة واضحة لمواجهة سيل النصوص والممارسات المتناقضة كلياً مع محورية الإنسان.
والحديث عن مركزية الإنسان يستوجب مواجهة الفهوم التمييزية والعنصرية التي اختلطت بقضايا الفقه الإسلامي، وكذلك الغلو في الدين الذي جعل الشريعة أقدس من الإنسان، وهذا في الواقع اغتيال لروح الإنسان التي أودعها الله تعالى فيه، وعلينا أن نقدم للمسلم روحاً جديدة تنهض به من تكايا الهمود والخوف إلى منابر الإقدام والعطاء، ليتثب به على قدمين راسختين يعالج بالإرادة والعزيمة وهنَ الخوف والذل الذي فرضه عليه خطاب كهنوتي رهبوتي لا يرى في الله إلا جلاداً ولا يرى في الإنسان إلا غبياً ضائعاً يحتاج للسوط باستمرار حتى يمشي على الصراط المستقيم.
إن استنباط القيم الإنسانية من مصادر الشريعة بات عملاً بديهياً وقد كتب فيه مئات من الباحثين على مستويات مختلفة، وهو اتجاه وجيه يعلي من القيم الإنسانية التي نادت بها الشريعة كالمساواة في العدالة وفرص العمل والتعليم والرحمة بالصغير واحترام الكبير ورعايته وتولي ذوي الإعاقة باحترام وعناية وبر الآباء وصلة ذوي الرحم والتكافل الاجتماعي وغير ذلك من القيم الإنسانية.
ولكن ظل الموقف الفقهي السائد عاجزاً عن مواجهة التحديات الرئيسة التي تتناقض مع حقوق الإنسان وتؤدي إلى القلق والفوضى في المجتمع الواحد لجهة غياب المساواة على أساس الدين أو العرق بعد أن أنجزت الإنسانية قيم المساواة، والتمسك في القضاء بالعقاب الجسدي بعد أن أنجزت الإنسانية نظم العقاب الإصلاحية وحرمت التعذيب بكل أوجهه، وكذلك لجهة اضطهاد المرأة وعدم الاعتراف بمساواتها وحقوقها وحريتها ونصب المجتمع وصياً على خياراتها، وهي وصاية لا تزال ضارية وصارمة وقد ظهرت في الشهور الأخيرة متوحشة ولا إنسانية؛ إذ تزايد القتل بدافع الشرف، ومع أن المجتمع كله يستنكر هذه الجرائم؛ ولكنه يجبن عن مواجهتها في مصادرها ولا يزال يبرر الرجم كحدٍّ من حدود الله خالداً إلى الأبد، في حين أنه يكتب أشدَّ العبارات في رفض هذه الممارسة المتوحشة حين يقوم بها بعض الغاضبين.
لا يمكننا أن نتحدث عن المذهب الإنساني في الإسلام ونحن نكرس أنماط العقوبات التي كانت سائدة في العصور الوسطى قبل الإسلام وبعده، ثم نلقي عليها ثوب قداسة يجعلها فوق النقد وفوق التطوير، ويلزم التاريخ كله باعتماد هذا النمط من العقوبات الجسدية القاسية وإلحاقها بالله تعالى على أنها إرادته وحكمته.
لا يمكننا أن نتحدث عن المذهب الإنساني في الإسلام ونحن نروي للجيل الغاضب تراتيل الدعوة إلى الموت في سبيل الأفكار والإيديولوجيات، وترخيص الروح الإنسانية مقابل الانتصار للأفكار والاتجاهات الدينية والسياسية.
لا يمكننا أن نتحدث عن المذهب الإنساني في الإسلام، ونحن نسحق المرأة بإرادة المجتمع، فنفرض عليها نمطاً من اللباس والزينة والعادات يخنق حريتها وكرامتها وأنوثتها، ونعلمها ما تقول وما لا تقول، وما تضحك وما لا تضحك، وما تحب وما لا تحب، ثم نخبرها بأن هذه الرهبنة التي ندعوها إليها والعزلة التي نطويها فيها هي بطاقة دخول إلى نعيم الجنة لابُدَّ منها في الدار الآخرة وما لها في هذه الدنيا من نصيب.
المذهب الإنساني اتجاه يعلي من شأن الإنسان وفق بيان القرآن الكريم الذي أخبر أن الإنسان خلق بيد الله، وأن الكائنات جميعاً وعلى رأسها الملائكة سجدت من أجل مجده، وسخرت من أجل راحته، وأنه سرُّ الله في الأرض، وله سجدت الذاريات ذرواً، والحاملات وقراً، والمرسلات عرفاً، والنازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالإنسان وحده سر الله في هذا العالم وهو مراد الله من خلقه وغايته من إرسال الأنبياء والمرسلين.
نحتاج للحديث عن المذهب الإنساني في الإسلام إلى أن نخوض مواجهة كاملة مع التيارات التي لا ترى في الإنسان إلا غبياً أبلهاً يحتاج دوماً إلى سياط رجال الدين ليمشي على الصراط المستقيم.
إنهم ينازعون الإنسان في توثبه وانطلاقه، ويعتبرونه في قيامه وحريته ثائراً على الله، ويجادلون لإرغامه على طاعة النص، وإلغاء دور العقل، حيث النصوص من الله، وكأن العقول ليست من الله، يناضلون أن النص هو خبر الله، وكأن العقل ليس مخبراً عن الله، وأن الإنسان عاجزٌ حتى يأتيه النص فيما يخبرك القرآن بأن الإنسان هو خليفة الله في أرضه، ويوم سجدت له الملائكة لم يكن هناك رسالة ولا نبوة، ولم يكن لآدم من ألقاب الكهانة شيء، لقد كان فقط إنساناً… وهذا يكفي.
إن رسالتي هي الثقة بالإنسان، والثقة بالشرائع، وحاشا لله أن يهبنا عقولاً نميز بها الحقائق ثم ينزل شرائع تخالف هذه العقول، قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً.