مقالات

اقتضاء الصراط المستقيم

اقتضاء الصراط المستقيم

 المحبة وليس الكراهية

مع أن نصوص القرآن الكريم طافحة بالحديث عن الرحمة والمحبة لكل الناس، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، ورحمتي وسعت كل شيء، وقولوا للناس حسنا، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها، ولكن هذه الروح من المحبة يتم اغتيالها عن عمد في ثقافة الرواية السلفية ولم أقل قصداً إنها الرواية الداعشية، لان معنى ذلك أنها اندثرت باندثارهم، ولكن الحقيقة انها مستمرة تحت الشمس، ويتم تلقينها على أنها عرى الإسلام الوثيقة، استناداً لخيارات متأخري الحنابلة من مؤسسي التفكير السفي، وهي حقيقة مرة تفرض علينا مسؤولية حقيقة مباشرة، وتلزمنا إطلاق ثورة حقيقية في التعليم الديني تخلص الجيل من ثقافة الكراهية التي نلقنها من حيث لا نريد للجيل الجديد بوصفها تمسكاً بالدين وعزيمة في اليقين.

وحتى لا نتهم بالتحامل أو الكلام المرسل فأرجو ان يعتبر هذا المقال توصيفاً لكتاب الشيخ ابن تيمية البالغ الشهرة: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم وهو من أكثر كتب السادة السلفية تداولاً واعتماداً، ولا تخلو منه مكتبة ولا معرض كتاب، ويعتبر تلخيصاً لكتب العقيدة عند السلفية على اختلاف توجهاتهم، ويتم تداوله على أساس أنه أوثق كتب العقيدة وفق المذهب السلفي، ويمكن اعتباره مستمراً في أكثر من مائة كتاب من بعده.

يبدأ تلقيم الجيل ثقافة البغضاء استناداً إلى حديث مشهور قوي السند، ونصه: أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، ومع أن هذا الحديث لا يشبه ما في القرآن من دعوة المحبة، ولكن يمكن تأويله بأن المقصود هو بغض الأعمال السيئة من الإجرام والقتل والفحشاء فهذه أشياء ينكرها المسلم ويبغضها كما يبغضها كل عاقل في الدنيا.

ولكن ثقافة البغضاء التي يتم تلقينها عن عمد لا تنصرف إلى كراهية الأعمال السوء بل تتخذ طابعاً شخصانياً يلزم المسلم بمواقف محددة في الكراهية واعتبار ذلك غيرة على الإسلام وأهله وتمسكاً صادقاً بشعائر الإسلام.

وبدون أدنى مبالغة يتلقى المسلم أولاً وجوب بغض الكافرين في الله، وفيما كانت كلمة الكافر في التنزيل تعني العدو المحارب، فقد صارت تعني كل البشر من غير المسلمين، وتستلزم استنكار أديانهم وعاداتهم وأعيادهم، وتخصيص خطب الجمعة في تزييف كتبهم وأديانهم وشعائرهم ووجوب بغضهم في الله، واعتبار ذلك دعوة إلى الله ودفاعاً عن دينه، ولا شك أن إصرار غلاة السلفية على تعليم الكراهية لغير المسلم لا يمكن وصفه بأقل من المرض النفسي، وهو أمر مرفوض عقلاً وخلقاً وفطرة، وفيه إساءة ظن كبيرة بالخالق سبحانه الذي يخلق الخلق باستمرار فاشلين خائبين، مستحقين لجهنم ولا يأذن لنا بحبهم واحترامهم.

وهو يتناقض بشكل مطلق مع ثناء القرآن الكريم الواضح والجلي للصالحين من البشر والثناء تحديداً على كونهم قسيسين ورهباناً في الجانب المسيحي، أو ربيين وربانيين ومرتلين من أهل الكتاب، فهؤلاء في القرآن الكريم محل ثناء واحترام وهم يعتمرون عماماتهم الدينية ويضعون رموزهم وتقاليدهم عليها، وحتى لا ينحصر الظن بأتباع ديانة واحدة فإن القرآن يؤكد أن النبوات كثير، وكلها محل احترام ومنهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.


ومع أن غير المسلمين يشكلون 78% من سكان الكوكب، ولكن ثقافة الكراهية لا تنتهي عند هذا، بل يلتفت الخطاب السلفي المتشدد ليدرج في مناهج التعليم وجوب كراهية الفرق والطوائف من غير اهل السنة والجماعة باعتبارها فرقاً ضالة مارقة وأنها ليست الفرقة الناجية، وأن هؤلاء وهم مئات الملايين من المسلمين لا يستحقون الحب ولا العطف بل يستوجبون البغض في الله.

ولا تنتهي قائمة البغضاء عند هذه الحدود بل يتم استيراد سلسلة فتاوى توجب عليك بغض تارك الصلاة باعتباره محاداً لله ولرسوله، والتحذير من الإحسان إليه والتزويج إليه، وتوجب عليك الغلظة وتمعر الوجه كلما لقيته باعتباره كافراً مستحقاً لحد الردة.

ثم تتصل قائمة البغضاء فتتناول كل الوسط الفني من المغنين والممثلين والموسيقيين، ومن يستمع إليهم من المجتمع الذين يتم وصفهم تلقائياً باهل الفاحشة والخنا والمياعة والخلاعة مهما كان الغناء ملتزماً ووقوراً وأخلاقياً.

وتتصل قائمة البغضاء لتتناول من النساء كل سافرة ومن الرجال كل من يرضى السفور، واعتبار ذلك خروجاً عما علم من الدين بالضرورة على الرغم أن الحجاب كله لم يرد في نص قرآني واضح ولا في حديث صريح صحيح، ولم يرتب القرآن الكريم ولا السنة أي حد ولا عقاب على اختيار المراة للسفور أو للحجاب، وإنما هو اختيار واستحسان ذهب إليه كثير من السلف على أنه أدب الإسلام الجميل.

وبدون أي مبالغة فإن من أوردناهم من الأديان والمذاهب والفئات المستوجبة للبغض يدفع الطفل المتلقي لثقافة الكراهية إلى كراهية أكثر من 95% من سكان هذا الكوكب على اقل تقدير!

ومن المؤسف ان المعلم الذي يلقي هذه الثقافة يستأنف حديثه بشروح طويلة عن المحبة بين المؤمنين ووجوب التواضع لهم والإحسان فيهم، ولكن ما قيمة المحبة التي لا تتسع إلا لخمسة بالمائة من الناس، وتتبعها ثقافة الكراهية اللازمة المتفجرة بالبغضاء لباقي البشر؟

إنني أعتقد ان ثقافة الكراهية لا تتصل بشيء من قيم الإسلام الأولى التي بشر بها الرسول الكريم، ومع أنه قاد بنفسه قيام الدولة في فترة تأسيسها، ولكن قلبه اتسع لنصارى نجران ونصارى الحبشة ويهود بني عوف والوثنيين من خزاعة وكتب لهم من الوثائق الطافحة بالود والاحترام ما يليق بخاتم الأنبياء رسول الرحمة والمحبة.

شخصياً أعتقد ان مسؤوليتنا في مواجهة ثقافة الكراهية يجب أن تكون قراراً صارماً نهائياً تتعاون فيه كل مؤسسات الفتوى والقضاء والتعليم والدولة، وأن لا نسمح تحت أي ذريعة بنشر ثقافة الكراهية ضد الآخر المختلف مهما كان دينه أو عقيدته أو سلوكه الشخصي أو مظهره الخارجي.

نعم هناك فضاء ممكن لمسلم يفيض بالمحبة للعالم، يخالف ما اختاره التيار السلفي، ولكنه يوافق ما اختاره فلاسفة الإسلام وحكماؤه، وأئمة العرفان الصوفي الروحي فيه، وفقهاء الحقوق الإسلامية الدولية الذين باتوا في لجان الدستور والقانون في الدول الإسلامية المستقرة، يؤمنون بحكمة الله في الخلق ولا يرون في اختلاف الأديان والأفكار والسلوك الشخصي إلا آية عظيمة من آيات الله يتدبر فيها المؤمن، ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم.

Related posts

د.محمد حبش- قراءة في المنطق الأمريكي للتعامل مع القضية الفلسطينية 9/2005

drmohammad

د.محمد حبش- النكبة بعد واحد وستين عاماً.. مسؤولية الدين والسياسة 15/5/2009

drmohammad

سؤال الجحيم وجواب من محمد إقبال

drmohammad