ظهر مصطلح الإسلاموفوبيا منذ عدة عقود وبشكل خاص مع سقوط الاتحاد السوفياتي حيث بدأت هيئات سياسية كبرى تحذر من الإسلام كقوة خطيرة تهدد الهيمنة الغربية، وتم افتراض سيناريوهات متعددة للإسلام القادم، ولم تتأخر التوقعات حيث قدم الجهاديون في 11 أيلول 2001 أوضح الأمثلة لما يمكن أن يفعله التطرف والإرهاب، ولكن التطرف للأسف جاء في صورة إسلامية المعالم وأطلق حملة كبيرة من الإسلاموفوبيا باتت تتعزز كل يوم، وتقدم شواهدها المتقابلة على الضفتين.
ومن المؤسف أن براهين الإسلاموفوبيا لا تحتاج لدليل خارجي فقد تكفل الخطاب الديني المتطرف بتقديم الأدلة كلها، وصار بإمكان الخطاب المعادي للإسلام والمسلمين أن يورد الأدلة الكافية لإقناع العالم بأن المسلمين خطرين وأنهم يمثلون تهديداً للسلم العالمي، ومرت فترات تعرض فيها المسلميون للتمييز والتنمر بسبب تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وغياب سياسية حقيقية لوقف هذا الأسلوب العدائي.
وعلى سبيل المثال تقوم مؤسسة MEMRI ميمري الأمريكية الإعلامية برصد الخطاب الديني الذي يظهر في الإعلام العربي يومياً وتقدم كل يوم عشرات الأشرطة المصورة لواعظين وخطباء مشهورين يصرحون ملئ أفواههم أننا قادمون وأن الإسلام لا يمكن أن يتعايش مع الكفر، وأن المسلم مطالب بالجهاد حتى ينتصر الحق على الباطل ويظهر الإسلام على الدين كله، وأن دار الكفر كله غنيمة للمسلمين، وأن على المسلمين أن يلحقوا بالجهاد ضد النصارى واليهود في كل مكان في من العالم، بل إن عشرات من الخطباء المعروفين قدموا تصريحات في غاية الوضوح أن القرآن الكريم يأمرنا أن نكون إرهابيين استدلالاً بالآية وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وأن علينا أن لا نخجل من صفة الإرهاب فهي صفة محمودة ومطلوبة ولو كره المشركون ولو كره الكافرون ولو كره من كره!
ولا يقوم موقع ميمري بأي تعديل أو فبركة بل يكفي أن يقوم بترجمة دقيقة للخطاب الذي يصنف وفق كل المعايير في أعلى درج خطاب الكراهية والبغضاء، ويمكن القول إن ميمري ليست إلا واحدة من عشرات المنابر الإعلامية الدولية التي رسمت صورتنا في العالم كإرهابيين خطرين ينبغي حماية العالم من طموحاتنا وتهديداتنا، وبلغت هذه المساعر ذروتها ف يتصريحات ترمب الواضحة أن العالم الإسلامي يكرهنا ويخطط لإبادتنا، وهو الأمر الذي شرحه مستشاره السياسي مايكل فلين بغاية الوضوح حين قال إن مليار مسلم يعتبرون مرضى خطرين وإرهابيين محتملين ويشكلون سرطاناً خبيثاً وإيديولوجيا سامة، وعلينا أن نخوض ضدهم حرباً بلا هوادة لنعافيهم أو نستأصلهم وقد خضنا هذه الحرب من قبل ضد الشيوعية التي كانت تقود شعوباً تبلغ المليار أيضاً.
ولكن تنامي الإسلاموفوبيا قد تمت مواجهته بشكل لافت من دعاة الحرية والعدالة في العالم، وأظهرت الدول الديمقراطية توجهاً مختلفاً ومسؤولاً في مواجهة خطاب الكراهية، ومع أفول عصر ترامب تراجعت تلك المشاعر الانفعالية، وأظهرت الإدارة الجديدة قدراً كبيراً من احترام الإسلام، وفي الأسبوع الماضي سجلت الحكومة الأمريكية تطوراً لافتاً باتجاه الاعتراف بظاهرة الكراهية ضد المسلمين في الغرب وتناميها، حيث تم التصويت في الكونغرس الأمريكي على اقتراح بايدن بتعيين الحقوقي المسلم رشاد حسين سفيراً متجولاً لمراقبة الحريات في العالم، كما صوت الكونغرس أيضاً على قانون آخر يقضي بتخصيص مكتب في وزارة الخارجية تحت عنوان مكافحة الإسلاموفوبيا.
كما أن الأمم المتحدة خطت أيضاً عدة خطوات لمكافحة الإسلاموفوبيا، وتم اعتماد اقتراح منظمة التعاون الإسلامي بجعل يوم الخامس عشر من مارس يوماً عالمياً لمكافحة الإسلاموفوبيا وهو اليوم الذي شهد أبشع مجازر الكراهية ضد المسلمين حين أقدم مجرم صربي على اقتحام مسجدين اثنين في نيزلاندا وقام بقتل عشرات المصلين في المسجد عند صلاة الجمعة، وقد تحدث الأمين العام للأمم المتحدة في اليوم العالمي لمكافحة الإسلاموفوبيا وقال: “كما يذكرنا القرآن الكريم: ’وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا‘. التنوع ثراء وليس تهديدا. وفيما نتوجه نحو مجتمعات أكثر تنوعا في العرق والدين، نحتاج إلى استثمارات سياسية وثقافية واقتصادية لتعزيز التماسك الاجتماعي والتصدي للكراهية.
ومن وجهة نظري فإن اعتراف العالم على هذا المستوى المتميز بظاهرة الإسلاموفوبيا يعتبر تطوراً مهماً، وهو يستدعي منا التأمل في هذا الموقف الدولي مع المسلمين، وبناء تفاعل إيجابي يحقق مصالح المسلمين الفضلى ويشرح للعالم معاناتهم والتحديات التي تواجههم.
للأسف فإن سائر الخطاب الإسلامي الشعبوي يتلقى هذه التطورات بازدراء وريبة، وسيكرر الأسئلة إياها إنهم يضعون السم في العسل ويذرون الرماد في العيون وهم يمارسون هذه الإصلاحات القشرية ليغطوا على جرائمهم في غزو العراق وتدمير سوريا ودعم إسرائيل، وإن علينا أن نكون أذكياء ولا ننخدع بمؤامراتهم ومكرهم، وهكذا يتكرر الخطاب الريبي والتربصي، ويحيل هذه المبادرات الإنسانية إلى رصيف المؤامرات التي يجب محاربتها بدل ان تكون مبادرات حية وخلاقة تستحق الاهتمام والمتابعة والدعم.
قناعتي أن هذا الموقف الريبي لن يعود على الإسلام بأي فائدة وسيضعف باستمرار موقف أصدقائنا الذين يشعرون بمعاناتنا وسيضع كثيراً منهم في دائرة الاتهام، وسيعتبرون فضوليين ساذجين يدافعون عن أمة لا تريد أن تخرج من عزلتها، أمة بارعة في صناعة الأعداء وخسارة الأصدقاء، وسيعود الخطاب الانفعالي التهويشي لممارسة الغضب الهائج وقيادة المظاهرات الخطيرة في العواصم الإسلامية والتي باتت تنتهي دوماً بتكسير وتحطيم وهياج وربما شهداء وضحايا في إطار الغضب من سلمان رشدي مرة ومن ماكرون مرة أخرى ومن الرسام الدنمركي ومن شارلي أبيدو ثلاثة، وسيتكرر المشهد وسيظل سلمان رشدي وشارلي أبيدو يحصدون ما لم يكونوا يحلمون به لولا دورنا التهييجي، وسنكون أجدر الناس بكلمة صالح عبد القدوس: ما يبلغ الأعداء من جاهل … ما يبلغ الجاهل من نفسه.
قناعتي أن التفاعل مع هذه المبادرات العالمية الخلاقة، والتي هي في الأصل جهود نبيلة قام بها حقوقيون مسلمون، ومتعاطفون دوليون، هي أهم واجبات الخطاب الإسلامي وهي تقع مباشرة في باب النضال الحقوقي للدفاع عن الإسلام، وهو نضال نحتاجه اليوم في مواجهة حملات الإسلاموفوبيا التي باتت الأحزاب العنصرية في أوروبا وأمريكا تتبناها وتستثمرها بذكاء ومكر.
النضال الحقوقي عنوان مارسته الصهيونية السياسية بذكاء كبير، وفيما كنا مشغولين بالخطب النارية والشعارات الماحقة كان الحقوقيون الصهاينة يعملون بصمت وذكاء يشرحون قضيتهم لصانعي القرار ويقترحون الحلول الذكية الممكنة، وبعد عناء طويل نجحوا في إقناع عدد من البرلمانيين الألمان في تبني قرارات بحق المحرقة تجعل التشكيك فيها عدواناً على الكرامة الإنسانية وتستوجب المساءلة والمحاكمة وحققوا أول نجاح مهم حين أقر البندستاغ الألماني تجريم إنكار المحرقة 1985 وكان ذلك قبل أن تقر إسرائيل بهذا القانون في العام التالي 1986، وقد كان ذلك كافياً ليقود الصهاينة حملات واسعة في الدول الأوربية لمحاسبة من يشكك بالمحرقة النازية لليهود، ومع أن العقوبات ظلت نظرية في كثير من الأحيان، ولكن 11 دولة أوروبية أعلنت تطبيق إجراءات مختلفة بحق التصريحات التي تشكك في حقيقة المحرقة أو تسخر من عناء اليهود وعذاباتهم في الحرب العالمية الثانية.
ومع أن أمريكا وانكلترا وإسبانيا ورومانيا وخمسة وثلاثين دولة أوربية أخرى لا ترى في إنكار المحرقة إلا تعبيراً عن الرأي يحميه القانون، ولكنني أعتبر أن الخطوات التي قام بها اليهود قد حققت أغراضها كاملة في ردع الصحافة والإعلام ورجال السياسة عن التشكيك بمعاناة اليهود ومحارقهم، حيث يمكنهم أن يثيروا القضية في إحدى البلدان العشرة ويدرجوا اسم الكاتب في سجل المطلوبين للعدالة.
لست أدري لماذا لا ننجح كعرب ومسلمين في استثمار هذا التعاطف الدولي الذي تقدمه هيئات حقوقية وإنسانية للتعاطف مع قضايانا، ولماذا نسمح لصوت الانفعال الهائج أن يسخر من كل جهد دولي نبيل بدل أن ندعم هذه الجهود ونعززها ونبني عليها في الدفاع عن حقوقنا وشعوبنا وقيمنا، ولماذا لا يقوم خطابنا الإعلامي والديني على السخط من كل شيء ولعن كل شيء والريبة من كل جهد إنساني وتعاطف دولي، ونحن نقرا المبدأ القرآني الواضح: وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.
من المؤلم أن تشعر في طوفان الصخب أنك أمام أعدل قضية وأفشل محامي.