Uncategorized

د.محمد حبش- أطباء تحت النار…30/4/2016

حتى مشافي أطباء بلا حدود … حولها القصف المتوحش إلى عنابر موت….
طالما تحدثنا ودعونا الجهات الإغاثية والأهلية لدعم مشافي أطباء بلا حدود بالذات بوصفها خارج السياسة بكل تفاصيلها، ولم يحصل خلال السنوات الخمس أن قصفت مشافيها، وكما نعمل دوما على أن تبقى أطباء بلا حدود بهويتها الإنسانية النبيلة خارج أي صراع سياسي، بقية ملاذ آمن لمواجهة تحديات الألم والوجع والخوف الذي يضرب سوريا الجريحة من أقصاها إلى أقصاها.
لا تعرف الحرب حدوداً ولا قيوداً، وهي تنتج منظومتها الأخلاقية بريشة البسطار وأخمص البندقية، وتكتب ما تمليه ضمائر التوحش القميء، وهي في النهاية صورة قذرة للتوحش والظلم والقهر، وحين تتحول البنات إلى ناشطات يتصورن بحبور وفرح أمام الجثث المقطعة الأوصال فهذا يعني أن الإنسانية تعاني من أبشع أشكال انحطاطها.
إذا لم نكن مسلمين ولا انسانيين وإذا لم نؤمن بالقانون الدولي فهناك على الأقل أخلاق الفرسان المحاربين، أخلاق عنترة ومعدي كرب وتبع الحميري، الرجال الذين يقومون بكل شهامة بإسعاف خصومهم عندما يسقطون أرضاً فليس مجداُ في حروب الاسلام ولا الجاهلية أن تجهز على جريح، فهذه أخلاق البلطجة والفجور والعجز، وهي أوضح صور جرائم الحرب، وليس لها بقيم الإنسانية نسب ولا رباط.
كانت فكرة الصليب الأحمر منذ قيامها على يد السويسري جان دونانت 1863 أكثر الأفكار دهشاً، وبدت مطالبها للمتحاربين طوباوية وحالمة، فلا شيء يتكلم في المعركة إلا الرصاص، ولا صوت يسمع إلا البندقية، ولكنها أثبتت أنها واقعية تماما، فإذا كانت الحروب شراً لا نستيطع أن نوقفه فإننا نستطيع على الاقل التخفيف من أضرارها وخطاياها، وهذا بالضبط ما قامت به فرق الصليب الأحمر التي انتشرت في العالم بشكل واسع، وحين واجهت في المنطقة رفض الرمز الديني تقبلت بسرور فكرة الهلال الأحمر إلى جانبها تعمل وفق الهدف إياه، إذ لم يكن في صليبها أي تراتيل ولا قداسات… إنها عمل إنساني نبيل بكل تأكيد.
في نيسان 2011 زارني فريق الصليب الأحمر الدولي في مكتبي وطلب إلي رسمياً أن اتوسط لدى الدولة من أجل مساعدتهم على القيام بدورهم في انقاذ الجرح وتوفير بعض مراكز العلاج والاسعاف في المناطق الملتهبة في حمص ودرعا والريف الحلبي.
شعرت بالحبور لهذا التكليف الإنساني النبيل، وذهبت مع الصديق عدنان دخاخني بوصفنا وفداً برلمانياً إلى وزير الدولة لشؤون الهلال الأحمر، لقد كنت على يقين بأن الدولة سترحب بفكرة كهذه فهؤلاء ليسوا وهابيين ولا أصوليين وإنما هم هيئات إغاثية دولية..
كان الجواب محبطاً تماماً وصارحنا الوزير جوزيف سويد أنه ليس بالإمكان أي تعاون مع الصليب الأحمر، ومن الواضح أنه كان يتلو توجيهات صارمة تمنع أي شكل من التعاون منع الأسرة الدولية في الشان الإغاثي.
وكانت الصدمة أكبر حين ذهبنا إلى الجهات العليا، وعلى الفور واجهنا علي مملوك بان الصليب الأحمر عميل صهيوني، وأنهم يعملون لمصلحة إسرائيل ولا يمكننا أن نسلم لهم رقابنا بدعوى الغايات الإنسانية!!
والدليل على ما نقول والكلام لا زال له أن هذه المنظمات قامت بشراء الخيام والإغاثة منذ شهور وهي تخطط لتفجير البلد، ولديهم استعدادات كاملة لإيواء أكثر من عشرة آلاف لاجئ في تركيا والاردن!! هل تظن أنهم يعرفون ذلك عن طريق الوحي؟؟ أم أنها المؤامرة؟؟
ولكن من طبيعة العمل الإغاثي أن يكون مستعداً في ظروف الحرب للخيار الأسوأ وهذا بالضبط جزء من مهنيته ومسؤوليته، هكذا قلت للرجل الذي بدا انفعالياً وراح ينظر إلي بالريب، ثم اختار خطاباً أكثر ليونة وقال: ستعرفون مخططاتهم بتفاصيلها عندما نكشفها للجمهور، ولكن عليكم الآن أن تقطعوا صلتكم تماماً بهذه الهيئات التجسسية على بلادنا!!
لم نستطع بالطبع لا أنا ولا عدنان أن نقدم شيئا لهذه المؤسسات الإنسانية النبيلة التي تكافح في جحيم الحروب، وفشلنا في بناء حبل من الثقة بين الجهة الإنسانية الدولية وبين أجهزة الدولة التي لم تتعاون بأي إيجابية معهم على الإطلاق.
كان بالامكان بالفعل أن تنبى قاعدة ثقة مع المنطمة الدولية يتاح لها فيه الوصول إلى الأسرى والمعتقلين، وكان طموحي بالفعل الوصول الى المعتقلين وتخفيف المعاناة الانسانية عنهم عبر تشكيل لجنة نيابية تعمل مع الصليب الأحمر لمساعدة المعتقلين كما يجري في كل مكان في العالم.
وربما كان من أكثر ما آلمني في حياتي البرلمانية أن أسرة عريقة من أسر الميدان الرائعة، جاءتني برجاء التوسط للإفراج عن ابنهم الطبيب الذي اعتقل بدعوى ممارسة الطب في مشفى ميداني.. وكان أشد ما آلمني هو الأيمان المغلظة التي يحلفها الأب الوجيه الفاضل المعروف أن التهمة مفبركة وان ابنهم لا ولن يعالج إرهابياً وأنه يقوم بعمله في مشفى الباسل ولا يتدخل أبداً في أي مشفى ميداني!!
قلت لهم: ولكن عمله في المشفى الميداني لا يقل وطنية ووفاء عن عمله في المشفى العام، إنه شرف لابنكم أن يعمل هناك، وعلى الدولة أن تكرم هؤلاء الذين يحفظون حياة الناس في ظروف خطرة، ولشد ما شدههم هذا الموقف فقد حلفوا آلاف الأيمان أمام الجوية وأمن الدولة أن ابنهم لا يمكن أن يسعف جريحاً إلا في مشفى الحكومة وتحت إشراف النظام.
في مجلس الشعب قام عدد أحد أعضاء المجلس بمهاجمة الارهابيين الشركاء في المؤامرة ضد صمود سوريا وفي سياق اتهامه وغضبه من سلوكهم فإنه طالب الدولة بالضرب بيد من حديد وخص بالذكر أولئك الذين يقيمون مشافي ميدانية لإيواء الإرهابيين وإنقاذهم.
قلت لهم: إن هؤلاء الأطباء هم أشرف أبناء سوريا سواء كانوا موالاة أم معارضة، وكنت أنتظر من المجلس الكريم أن يقدم لهم الأوسمة وأن يوزع عليهم النياشين وليس أن يحاسبوا على ما يقومون به من عمل نبيل.
حتى الطبيب الذي يقوم باسعاف الارهابي نفسه فهو يقوم بعمل نبيل، هكذا اقسموا على مدرج كلية الطب وهذا هو قسم أبقراط الصريح في إسعاف كل جريح..
كانت مجرد المطالبة بحقوق كهذه كافية لينفجر غضب عدد من الأشرار الذين يحملون وكالات تفويضية من كتائب التشبيح والزعرنة التي كانت تعمل ليل نهار لإدخال البلد إلى هذا الواقع المنكوب وترفع عن قصد ومكر شعار الأسد أو نحرق البلد.
لن يرحمنا التاريخ حين نسكت عن أبشع مأساة في التاريخ بحق الأطباء والممرضين، الذين ينظر إليهم العالم كله باحترام ويزداد احترامهم وتقديرهم في الحروب أياً كان انتماؤهم السياسي، وأياً كان وصف الضحايا الذين يخدمونهم، وهي الوظيفة الوحيدة التي لا يصنف فيها الإنسان بحسب زبائنه، فحق المريض الشفاء والعافية سواء كان من حزب الرحمن أو حزب الشيطان أو من الطريق الثالث.
التحية لارواح شهدائنا الأطهار من ملائكة الرحمة، خاصة أولئك الذين لا زالوا يعملون في تلك الظروف الخطيرة الاليمة، ولا أعتقد ان أحداً أولى بأوسمة الوطنية والثورة والإنسانية من هؤلاء الرائعين.

Related posts

د.محمد حبش-من موسكو إلى جنيف….

drmohammad

د.محمد حبش-فرنسيس فاندرلخت أيقونة للسلام بين السوريين

drmohammad

د.محمد حبش-عبادة القوة 12/12/2016

drmohammad

Leave a Comment