Uncategorized

فتاوى الحرب

لا أستغرب التصريحات التركية بدعم النظام السوري لاجتياح مناطق سوريا الديمقراطية، فهو موقف تركي قديم، كان مطلباً أساسياً للحكومات التركية منذ القرن الماضي، ولكنني أستغرب اصطفاف بعض السوريين الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه الحرب المجنونة والاستعداد لقتال أهلهم وإخوانهم وعشائرهم بدعوى أنهم خوارج مارقون، خارجون عن الجماعة السلطانية وأن الفتوى بقتالهم حتى استئصال شأفتهم!

ولا أريد ان أحلل مواقف الأطراف السياسية فلكل حزب رؤيته وأسلوبه واختياراته، ولكنني أحلل فقط موقف الخطاب الإسلامي من هذه الحرب الغاشمة التي يتم التحضير لها على نطاق واسع وتتم عبر تحالفات ملعونة بين أطراف متحاربة متباغضة لم يجمعهم شيء إلا حقدهم على المشروع السوري النبيل الذي واجه داعش وحرر السبايا، وأوقف الحرب وحقق قدراً من الاستقرار والأمن وبات بدون أي مبالغة الواقع الأفضل للإنسان بين الكيانات السورية المتشظية على امتداد الوطن المنكوب

لست أدري أين يمكن فهم فتاوى المجلس الإسلامي الذي يحرض بقوة ضد عشائر العرب والكرد المنضوية في مشروع سوريا الديمقراطية، ومن أين يأتي بالحجج والبراهين لوصفهم بالخوارج (خوارج على من؟) ثم اعتبار هذا القتال الآثم الإجرامي الموعود قربة إلى الله وجهاداً في سبيله.

وإذا كان شأن السياسي إعلان المواقف وزخرفة الحروب والطمع بما تجلبه الدبابات الغازية فكيف يستقيم أن يفكر الخطاب الديني بهذه النتائج اللئيمة، وكيف يسوغ لخطاب إسلامي أن يكون دوره تمجيد الحرب وتزكية القتال واعتباره جهاداً في سبيل الله مع أن الكبير والصغير والمقمط بالسرير يعلم حق العلم أن الأمر لا يتعدى مصالح الدول الغريبة والاصطفافات الانتخابية القادمة في استانبول.

تاريخياً يتبارى العسكر والسياسيون في خطاب التحدي والاستفزاز، والتهديد والوعيد، ولكن خطاب الدين يكون دوماً في الحديقة الخلفية للإخوة والأشقاء يدعو إلى الصلح والوئام وتدوير الزوايا والبناء على المشترك.

الثقافة الإسلامية زاخرة بثقافة الإعذار والعمل بالمتفق وإعذار المخالف فيما لم نتفق فيه، والخطاب الإسلامي قائم أصلاً على وقف الحروب، وكلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين.

في الحرب الأموية الهاشمية التي سقط في غمارها علي بن أبي طالب وطلحة والزبير ومئات الصحابة، كان هناك أبواق فتنة في الجيش الشامي وفي الجيش الهاشمي، وقد نفخ هؤلاء في كير الحرب ووقعت حرب الجمل وحرب صفين وهي أيام مخزية لا تشرف تاريخ الإسلام في شيء، ولا نزال نكرر إلى اليوم فتاويهم السوداء التي أججت الحرب وتأويلاتهم للنص الديني بما يخدم لهيب الحرب، ولست أدري كيف يقرأ اليوم أولئك المشايخ الذين انخرطوا في تلك الحرب السوداء فتاويهم في عبادة الحرب والكفر بالسلام؟.

ولكن المكان الصحيح لرجال الله هو أولئك الذين استطاعوا أن يؤثروا في قرار الحسن بن علي، وعلى رأسهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص، وقد استطاعوا أن يوقفوا طموحات الحسن إلى الحرب، وأن يصلوا به إلى عقد السلام الذي أنهى الحرب الأهلية ووفر عشرين عاماً من السلام والقوة للأمة في عصر معاوية، وسمي العام عام الجماعة.

في حروب غزو القسطنطينية التي شنها مسلمة بن عبد الملك أيام سليمان بن عبد الملك وسقط فيها الآلاف من الروم والمسلمين، كان هناك كثيرون ينفخون في كير الحرب، ويريدونها جذعة لا يثلم لها راية، ويهللون لكل شهيد ويشمتون بكل قتيل، ويقولون هل من مزيد، وكان مسلمة لا يقبل أي نقاش في هذا فلديه هدف واحد وهو تحقيق ما زخرف به الرواة من نصوص لفاتح القسطنطينية، وفي سبيل هذا الهدف الغير واقعي سقط عشرات الآلاف من المسلمين وكان ذلك يغم عمر وينصح بوقف الحرب ولكنه لم يكن آنذاك غير مستشار معزول من إمارة المدينة لا يملك قراراً.

ولكن رجال الله كانوا في الجانب الآخر من التاريخ وقد ظهروا في خطاب فقهاء الإسلام الكبار وعلى رأسهم رجاء بن حيوة وفقهاء المدينة السبعة، وهم من شرحوا لعمر بن عبد العزيز أن اجتياح الحضارات ليس هو السبيل الصحيح لنشر الإسلام بل الحوار والبرهان، وهكذا فإنه ما إن تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة حتى سحب الجيوش كلها من تخوم القسطنطينية وأرسل السفراء الى الامبراطور البيزنطي ليو الثالث وأسس لأرقى علاقة دبلوماسية في التاريخ، وحين مرض عمر أرسل الامبراطور مائة طبيب في خدمته، وحين مات قال الامبراطور ليو: لو كان بعد المسيح رجل يحيي الموتى لكان عمر بن عبد العزيز.!!

في الحرب المغولية الإسلامية كان الخطاب الطاحن شأن السياسة واندلعت حروب دموية رهيبة سقط فيها مئات الألوف، وللأسف فقد كان في رايات المتحاربين مئات العمائم التي تمجد الحرب وتحرض على الدم وتبشر بالنصر، وهذا هو شكل التاريخ.

ولكن أسوأ فتاوى الدم هي التي بررت للسلطان العثماني قتل إخوته بدون ذنب حفاظاً على الدولة والخلافة!! ولست أدري كيف سيقرا هؤلاء المفتون فتاويهم البائسة اليوم، وهي فتاوى صادمة ومجنونة لا يمكن إنكارها وأرجو أن أتمكن من رصدها وتفسيرها في مقال لاحق.

ولكن المكان الصحيح لرجال الله كان في سلوك آخر قاده رجال الطريقة الكبروية والنقشبندية الذين استطاعوا أن يتسللوا إلى المغول أنفسهم ويؤثروا في ثقافتهم وخياراتهم ونجحت الأسيرة رسالة ومن كان معها من أسرى الخوارزمية في قصور المغول في التأثير على ابنها بركة خان، فقد قام أبوه جوجي بن جنكيز خان بأسرها وتزوجها، وتحولت القبيلة المغولية الذهبية التي كانت تحكم أوروبا إلى الإسلام، كما نجح سيف الدين الباخرسي ورشيد الدين الهمداني في تحويل عدد من قادة المغول إلى الإسلام، مستفيدين من عقيدة الأبستاق التي لا تؤمن باحتكار الحقية كما هي طبيعة الأديان الفولولكلورية في الصين ومنغوليا.

هذا المعنى الرهيب خلده إقبال في إحدى روائعه:

بغت أمم التتار فأدركتها
وأصبح عابدوا الأصنام قدماً

  من الإيمان عاقبة الأماني
حماة البيت والركن اليماني

أيها المشايخ، هناك يجب أن تكونوا، هناك حيث الصلح والحوار والإخاء خاصة إذا كان بين أبناء الوطن الواحد، وهذه بالضبط هي رسالة الدين صورة الرحمة في مواجهة صورة الحرب، ولغة الإخاء في مواجهة حروب الشقاء، وليس مطلوباً أن تغيروا التاريخ ولكن إياكم أن تكونوا في الجانب الخاطئ من التاريخ.

للأسف لعب رجال الدين دوراً مخزياً في حروب فاجرة كثيرة، فكانوا يحرضون بين عائشة وعلي، وبين علي ومعاوية، وبين علي والإباضية، واستخدموا فتاواهم اللاهوتية في الحرب بين الأمويين والعباسيين، وبين العباسيين والطالبيين، وبين الأمين والمأمون، وبين فروع السلطان العثماني الذين كانوا يقتتلون على العرش، ويمكنك أن ترى في كل حرب عابثة ومجنونة، وكل صراع أهلي طاحن على التاج عمائم كانت تنفخ في كير الحرب، يقومون بدور محراك الشر وهكذا كتبهم التاريخ وهذا هو مكانهم ولن يذكروا في التاريخ إلا في وقود الحروب المجنونة التي لا تنفع الناس في شيء.

هل يدرك رجال المجالس الإسلامية أن فتوى الدم هي أخطر الفتاوى، وأن تحريض نصف المجتمع على قتال نصفه الآخر هو لون من الجريمة المخجلة التي لا تتصل بروح الله بداية ولا نهاية ولا غاية ولا هدفا.

Related posts

استوصوا بالقبط خيراً…. د.محمد حبش

drmohammad

الدكتور محمد حبش-الإنسان السوري

drmohammad

محمد بن سلمان وصحيح والبخاري

drmohammad