انفرد الجامع الأموي عن مساجد الدنيا بثلاثة أشياء: الأولى أن فيه خمسة محاريب للمذاهب الإسلامية الخمسة المعتبرة وفي سائر مساجد الدنيا محراب واحد، وانفرد بأن فيه ضريح نبي كريم ولا يوجد في حرم مسجد في الإسلام ضريح لنبي أو ولي إلا في المسجد الأموي، وانفرد أيضاً بجوقة المؤذنين ولا يعرف في الدنيا مسجد تؤذن فيه الجوقة إلا الجامع الأموي.
ولكل فريدة من هذه الثلاث حكايتها وروايتها، وربما نتحدث عنها في هذه الرمضانيات، ولكنني سأتحدث هنا عن جوقة المؤذنين التي صارت شعاراً خاصاً من شعائر الشام الشريف في رفع كلمة الله أكبر في حرم الجامع الأموي الكبير.
مع أن الأذان كما أثر عن النبي الكريم يرفعه رجل واحد، وفي زمن الرسالة أذن الرسول الكريم بلال بن رباح ولكن الجامع الأموي اختار جوقة من المؤذنين ترفع الأذان للصلوات الخمس، ومع أن هذا اللون من الأذان غير معروف على الإطلاق في أي مكان في العالم الإسلامي، ويعتبر بالمقاييس السلفية بدعة منكرة، تصادم بشكل حاد الحديث المشهور: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، ولكنه مع ذلك حظي بالقبول هنا في الشام واستحسنه العلماء والفقهاء، ولم ينكره أحد، وأشار ابن كثير في وقوعات سنة 749 أن المسجد الأموي فيه ثلاثون مؤذن، ولا شك أن ذلك كان أسبق من ابن كثير بعدة قرون.
وحين يأتي إلى دمشق زوارها من أركان المعمورة فإن أول ما يقع في أسماعهم هو جوقة الأموي، حيث تتدفق في تراتيل جماعة المؤذنين كل إشراقات رمضان وتجلياته، وتتبارى جوقة المؤذنين في السفر بين الأنغام السبعة التي جمعها الفارابي بقوله (صنع بسحر) وهي الصبا والنهاوند والعجم والبيات والسيكاه والرصد، ويصبح الأذان أغنية ومناجاة وإشراق قلب وصفاء روح.
وحين تجول العيون بين قباب الأموي وأقواسه وباحاته، وما يحمله كل حجر فيه من عبق التاريخ وأسراره، ترتسم على أقواسه ومحاريبه لوحات الجمال الآسر، وتحلق حمائمه البيضاء والسمراء في رسالة أمن وطمأنينة، وتترنم آذان الناس فيه بأغنية الأذان الجميلة ترددها أعذب أصوات دمشق.
كل شيء في الجامع الأموي يذكرك بأن الله جميل يحب الجمال، وأن عين المؤمن مفطورة على الجمال، وأن المؤمن طروب توقظه إلى الصلاة البلابل، ويصحبه في سفره الحداء، وكان رسول الله إذا أسرى بليل ينادي رجلاً من أصحابه جميل الصوت فيقول: هيه يا أنجشه أسمعنا!!
هل هي روح الشام التي تؤمن بالجمال؟ وتطرب لكل صوت جميل؟ وتؤمن بتطور الشريعة ومسحة الجمال والفرح فيها؟ أم هي روح الإسلام نفسه الذي نهى عن البدعة ولكنه لم ينه عن الإبداع؟ الدين الذي علمنا: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.