لم تتوقف الحرب المجنونة في سوريا على قتال الأحياء بل فتح التطرف الجهادي حرباً جديدة هذه المرة على القبور، ونالت معاوله وفؤوسه رؤوس أنبياء وصحابة وأولياء رقدوا في مقابرهم منذ مئات السنين، يزورهم كل ذي قلب سليم، وتتلى عند أضرحتهم أعذب نصوص الكتاب العزيز وأرق آداب المناجاة.
فقد تم تدمير مسجد نبي الله يونس بالموصل بالكامل وهو بالمناسبة بحجم نصف المسجد الأموي، وتم تدمير أضرحة الصحابة عمار بن ياسر وأويس القرني وهي بالمناسبة أرقى ما يمكن أن تشاهده في محافظة الرقة بنياناً وعمراناً وروحانية، وأخيراً ضريح الإمام النووي في نوى وضريح العارف بالله الشيخ محمد النبهان ومسجد السلطانية في حلب.
فهل هناك نصوص تواطأ المسلمون على تركها قروناَ طويلة، واختاروا فيها مجاملة الشيطان على الرحمن حتى جاءت داعش والنصرة لتوقظ المسلمين من رقادهم وتعيدهم إلى الإسلام وتحملهم على لازم التوحيد من هدم القبور وكسر التماثيل؟
وهل بلغت حساسية التوحيد في الإسلام من تعظيم الله أن يتم احتقار خلقه ونبش قبور المكرمين من عباده، وهل بناء القبور على المساجد يوجب هدمها كما دلت على ذلك ظواهر النصوص؟
حين قررت طالبان 2001 هدم تماثيل بوذا في باميان قام وفد كبير من فقهاء الإسلام برئاسة الشيخ يوسف القرضاوي بالسفر إلى افغانستان في محاولة لإقناع طالبان بالعدول عن رأيها في هدم التماثيل، لما في ذلك من مفسدة عظيمة على الأمة، وفتح لصراع دموي مع مليار إنسان يتبعون ديانة بوذا، وإظهار للإسلام بمظهر العدو للحضارات والثقافات.
قالت طالبان يومئذ: ما رأينا ركباً أحمق منكم!! تسافرون من وراء البحار لتقنعونا أن نكف عن كتاب ربنا وسنة نبينا، ونتصالح مع الأصنام؟؟ وهل الإسلام إلا ثورة على الأصنام؟؟ وقال لهم آخرون من اللوياجريا: أليس هذا ما درسناه على مقاعد الأزهر؟ بعثني رسول الله على ألا أدع تمثالاً إلا كسرته ولا صورة إلا طمستها، ولم يزل يعقد الألوية لكتائب الحق حتى هدم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وأخرج هبل من جوف الكعبة ولم يدع في جزيرة العرب إلهاً يعبد من دون الله.
وpين حاورهم الفقهاء بمنطق الفقه الإسلامي العميق ودعوهم للاستحسان وترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس، وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، والعمل بمقاصد النصوص وليس بظواهرها، وحدثوهم بعمق عن تقييد المطلق وتخصيص العام وتأويل الظاهر وتنقيح المناط وتحقيق المناط، وغير ذلك من القواعد… سخروا منهم وجبهوهم بما يكرهون وصفعوا بكلامهم كله عرض الحائط، وقالوا: تالله لنكيدن أصنامكم قبل أن تولوا مدبرين!!
وما كان جواب طالبان إلا أن أرسلوا واردهم فعقد في قدمي التماثيل طناً ونصف من المتفجرات فانهارت في ساعة واحدة تماثيل كالجبال ظلت واقفة على قدميها عشرات القرون، وقال قائلهم أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون.
من وجهة نظري كان سلوك الشيخ القرضاوي وأصحابه حضارياً، مع أنه لم يقنع أحداً من أصحاب ظاهر النص، ووضع نفسه في حرج شديد مع الحركات الإسلامية في العالم التي رأته يمارس العبث بالتوحيد وأطلقوا عليه اسم محامي الأصنام.
ولكن هذا الموقف الفقهي نال احترام العالم، وأعاد الى نفوس المسلمين الثقة بالاسلام رافعاً حضارياً وواقعياً وأدرك الناس أن المرجعيات الإسلامية الكبرى لديها تأويل مختلف عن ظاهر النص، وأنها تستطيع أن تواكب المشهد الحضاري للبشرية عبر تأويل كثير من ظاهر النصوص وفق آلة الفقه الحكيمة.
وفي الوقت نفسه عكس هذا الموقف بالفعل الهوة السحيقة بين أهل الظاهر وأهل التأويل، وبين السلفيين والفقهاء، فلا سبيل على الإطلاق لأدنى نقاش في بقاء الأصنام وفق ظاهر النص، وإلا فأنت أمام ألف دليل على وجوب هدم الأصنام، ولكن الفقه الإسلامي بسعته وعمقه، استطاع أن يتجاوز ظاهر النص كله إلى مصالح الأمة العليا استحساناً واستصلاحاً وعرفاً وتمسكاً بمقاصد النص وتأويل ظواهره، وهذا ما تقبله المجتمع الإسلامي في معظم أمصار الإسلام الذي أقام القباب الخضر لصالحيه وأوليائه في كل مكان على الرغم من غضب الظواهرية واعتراضهم.
لم تمض إلا بضعة شهور بعد هدم تماثيل بوذا حتى قامت غزوة مانهاتن الشهيرة لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر وضربت في عمق نيويورك، وجاءت بالعالم كله إلى أفغانستان خلف أمريكا، في حرب طاحنة دمرت ما تبقى من أفغانستان وأسقطت كل الأحلام التي كان ينسجها طالبان لإقامة الخلافة على منهاج النبوة.
واليوم يقوم ثوار غاضبون في سوريا بارتكاب الفظائع في حق تاريخ الأمة وتراثها، وبحق التراث الإنساني كله حين يعمدون إلى تفجير الأضرحة ونبش القبور وهدم المساجد، ولديهم على كل انتهاك دليل مباشر من الكتاب والسنة، ويحتجون بهدم مسجد الضرار وكتائب الرسول لهدم الأصنام، وتسوية القبور، وبرفضون أي حوار في منطق أو عقل، فلا مكان للعقل في مورد النص، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ولا حكم إلا لله.
ويتردد عنهم كلام في وجوب هدم القبة الخضراء على ساكنها أزكى الصلاة والتسليم، وهو بالمناسبة كلام قديم، وقد صرح الشيخ ابن باز نفسه بأن ضم القبر للمسجد أيام الوليد بن عبد الملك خطأ عظيم، ولا بد من تصحيحه.
إنه في الحقيقة الصراع التاريخي نفسه بين النص والرأي، أو بين الفقهاء والظاهرية، أو بين التفويض والتأويل، وهو يتخذ هذه المرة شكله الفاقع بين تيارات السلفية الجهادية التي اختارت الالتزام بظاهر الكتاب والسنة، وبين فقهاء الأمة وحكمائها الذين قرروا التوسع في مصادر الشريعة وتجاوز الكتاب والسنة إلى الاستحسان والاستصلاح والعرف وغيرها من مصادر الشريعة الغراء.
إن حوادث هدم المراقد ونبش القبور ينبغي أن تفرض على المؤسسة الفقهية في الإسلام مراجعات عميقة لمنطق شعار وجوب العمل بالكتاب والسنة، والذي هو نسخة من الشعار القديم: لا حكم إلا لله، وهو في العمق جوهر ما تنادي به اليوم سائر المدارس الإسلامية التي تأمر بمنع الاجتهاد في مورد النص، وإلغاء كل مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة.
وحين نعجز عن مناقشة هذا التابو الذي ندرجه عادة في باب الثوابت فإننا ملزمون أن نطبق مع الدواعش والنصرة مذهبهم في هدم الأضرحة والقبور وهدم المساجد التي تبنى فيها القبور، فهذا بالضبط ما يدل له ظاهر النص القرآني والسنة الكريمة، وسيكون المسجد الذي يحتفي بنبي أو ولي كالمسجد الأموي أو حتى مسجد الرسول نفسه أولى بتطبيق هذه الممارسات لأنه أشد احتمالاً للشرك به من دون الله.
إنه جدل النص والتأويل القائم منذ ألف عام ولا يزال، كل الأحاديث التي تحرم البناء على القبور صحيحة الإسناد، وكل النصوص التي تأمر بهدم القبور المرفوعة فوق ذراع صحيحة الإسناد، ووجوب هدم قبر النبي يحيى في الجامع الاموي في دمشق وقبر زكريا في الجامع الأموي في حلب واجب شرعي عند هؤلاء كما نص عليه بصراحة إمامهم الشيخ الألباني في كتابه: تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد.
ولعل الجانب الإيجابي الوحيد في ذلك كله هو أن بدرك شركاؤنا في الوطن أن التطرف ليس بلاء على الأديان فحسب بل هو بلاء على الإسلام نفسه.
إنها دعوة للمراجعات العميقة.. فهل سيترك الفقهاء البصيرون بمصالح الأمة هذا التاريخ بيد الانفعاليين من عبدة النصوص ليهدموا ما تبقى من قبور الأنبياء والصحابة والصالحين، أم أنهم سيأخذون المبادرة ليقولوا ما يجب أن يقال وهو أن هذه النصوص محكومة بزمانها ومكانها، وأنها ليست حجة على التاريخ ولو صحت، بل لكل مجتمع واقع وحال وشرعة ومنهاج، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، ولا بد من ترك ظاهر هذه النصوص إلى الاستحسان والاستصلاح والعرف واحترام عمل الأمة طول القرون وهذا كله من مصادر الشريعة المعتبرة عند فقهاء التنوير.