تقوم المونديالات لأجل الرياضة والمتعة، وتجري في هوامشها تفاصيل غير رياضية ولكنها تبقى مناسبة رياضية بامتياز، مونديال قطر الخبر الأول في العالم كله، وقد تخصص هذا المونديال دون سواه بدخول الإيدويولوجيا لاعباً رئيسياً فيه، رغم أن الامر لم يكن من برامج المونديال ولكن فرضته عدة حقائق فهو أول مونديال ينظمه بلد إسلامي وبلد عربي وبلد خليجي، وأصبح الجدل فيها من لازم المونديال، ووصلت وفود العالم وهي تنتظر أشياء جديدة غير معتادة، وباتت صورة الفريق الألماني وهم يضعون أيديهم على أنوفهم أشهر من صور الأهداف الحقيقية في المونديال، وصارت صور ذاكر نايك تنافس صور ميسي ورونالدو، وصارت تصريحات القادة تتناول المونديال من الأفق الإيديولوجي أكثر مما تتناوله من الأفق الرياضي، ومن المؤكد أن تنظيم قطر للمونديال أدهش العالم، وصور الملاعب الجديدة التي لا يشبهها شيء في هذا الكوكب يثير إعجاب العالم الأمر الذي دفع الإعلام المبني على الإثارة إلى إضافة صفر إضافي عند كل رقم أنفق في هذه المعجزة الرياضية حتى بلغت النفقات 300 مليار وهو رقم فلكي لا يمكن تصوره ولا تصديقه.
ومن المؤكد أن قطر حافظت على قدر كبير من حماية هويتها الوطنية وتراثها وتقاليدها في صخب العرس الكروي، بل إنها جعلت المونديال مناسبة للتعريف بالإسلام وهو أمر كان في منتهى الدقة والنجاح، حيث ظهر الإسلام ديناً محترماً صديقاً للأمم، لا يقوم على الإرهاب ولا على العنف، وليس من الضروري هنا تصديق تلك الادعاءات الشعبوية بدخول الآلاف في الإسلام بهذه الطريقة الاستعراضية، فهذه مسرحيات ترضي غرورنا ولكنها ليست وصفاً دقيقاً للحقيقة، ولو قلنا إن الآلاف باتوا يحبون الإسلام ويأنسون بالشعوب الإسلامية ويحترمون تراث المسلمين لكان هذا صحيحاً وواقعياً، ويمكن الحديث هنا طويلاً عن معنى هذه الإسقاطات، ولكنني أتوجه في المونديال إلى معنى آخر وهو الصورة التي ترسمها هذه القيامة الكروية للجانب الآخر من الإنسان، بعيداً عن الحرب والعنف، والأطماع السياسية المفترسة، هنا تلتقي الأمم جميعاً على العشب الأخضر، على ما بينها من عداوات وحروب، وتنازع في القوانين، وخصام عسكري وسياسي ومالي، وإيديولوجيات متناقضة حتى العظم، ترفض قرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن، ولكنها هنا تقبل كل شيء، وتخضع لصافرة بدرهمين، يصرخ المتضرر لحظات ولكنه يقبل الحكم بعد ذلك، ويهون عليه أن يقول لقد لعبنا بطريقة خاطئة وعلينا أن نغير الخطط، في حين أن الأنظمة السياسية تسلك الدرب الأبله ستين عاماً وتصر عليه وتعتبر أنها في انتصار مهما صار….
المؤامرات هنا متبادلة فكل فريق يريد الفوز ويكيد لخصمه، ولكنه كيد ينتهي بانتهاء المباراة، ولا يسفك فيه دم ولا روح، وحين تنكشف المؤامرة لا يتهم بعضهم بعضاً بالخيانة العظمى ولا تنصب المشانق ولا المحارق، فالجميع يعملون لمصالحهم وهو ليس بالعيب ولا بالحرام، وحين تتقاطع المصالح فالمتخاصمان على الرغم من الكيد والتآمر يحتكمان إلى أخلاق الرياضة، ويتقاسمان ما في المباريات من نقاط، ويستأنفان دولة ججديدة دون أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، هنا يتنافسون مستعمرون ومستَعمرون، الظافر هو الأكثر نشاطاً وحيوية بغض النظر عن ترسانة الأسلحة التي يملكها والأساطيل التي تجوب البحار لأجله، وبغض النظر عن قوة اقتصاده فقد تسقط الصين ويصل السنغال، وفي التاريخ سقطت أمريكا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا واستحقت الأوروغواي الكأس دون أن تكون لها موازنات فلكية، ودون يكون لها مقعد دائم في مجلس الأمن!.
أمم شتى وأديان شتى وألوان شتى … أعداء في السياسة متنافسون في الرياضة، متقاتلون في بلادهم متدافعون في الملعب… نزاعهم هناك يشعل الحروب ويهلك الحرث والنسل، ويستنفر مجلس الأمن، وقوات حفظ السلام، وتسقط فيه ضحايا الحروب الأليمة، أما نزاعهم هنا فتحسمة ضربة جزاء، مدافعهم هناك حرب وموت ونار، ولكن مدافعهم هنا لن تهز إلا الشباك ….
هنا يدرك الناس أنهم أسرة واحدة… ويحتكمون إلى حكم واحد .. يستوي فيه هدف الأبيض والأسود، والمسلم والكافر، والغني والفقير، والمستعمرين والمستعمرين، إنهم يطبقون قانوناً واحداً، راضين أو ساخطين….
نعم إنني أنظر إلى المونديال ولقاء المواهب اللاهبة والأرواح الخافقة فيه على أنه آية من آيات الله، ترسم ملامح أسرة واحدة في الكوكب، وكلهم عيال الله، وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون.
يا لها من روح… أما آن لها أن تكون صورة الحياة، ….
أسرة واحدة تحت الله….