مقالات

ميلاد مجيد… دعوة للحفاظ على آل المسيح

في يوم الميلاد المجيد أقدم صادق التهنئة للمسلمين والمسييحيين في سوريا الذين يؤمنون بالسيد المسيح عليه سلام الله ونوره كلمة وروحاً صادقاً من الله ومخلصاً للبشرية في آخر الدهر ورسولاً للعالمين، ومن المؤسف أن رسائل التهنئة البيضاء النقية لا تمر في هذا الزمان إلا بمرارة الجدل العقيم الذي بات ينتهك كل أحلامنا الطيبة في الرحمة والسلام والمودة؛ إذ يتولى سدنة هياكل الكراهية رصد الفتاوى المظلمة التي تكرس ثقافة الكراهية وتحرم فرح الإنسان لأخيه الإنسان وتدعو أبناء الأديان للتربص بزملائهم المختلفين عنهم، وقد زاد بعضهم في الطابور نغماً فابتكروا عبادة سوداء كريهة أسموها: البغض في الله وينسبونها ظلماً وعدواناً إلى الخالق سبحانه ويعتبرونها من شرائع التوحيد.

وبعيداً عن هذا الجدل الفارغ فإن هذا المقال معنيٌّ بنوع آخر من الخطاب وهو البحث عن إخوتنا من أبناء السيد المسيح الذين واجهوا في العقدين الأخيرين أسوأ حملة تهجير في تاريخ الشرق، ومع غياب الأرقام ولكن التقديرات لا تختلف أن الوجود المسيحي تضاءل بنسبة خمسين بالمئة على الأقل من الواقع الذي كان فيه المسيحيون قبل عقدين من الزمن، وفيما كنا نتحدث عن 12% من المسيحيين في الأسرة السورية بات الحديث اليوم عن أقل من 5 % وهذا الرقم لا يكاد يختلف عليه المحللون كافة، فهل من مصلحة سوريا أن تخسر هذا اللون الفريد المهم من نسيجها المجتمعي؟ وهل قامت القيادات المجتمعية والدينية بمسؤوليتها تجاه توفير الأمن والطمأنينة للمجتمع المسيحي الذي قرر دون توقف الرحيل حتى صارت البلاد خاوية على عروشها من التنوع الديني.

أجد من الواجب هنا أن أؤكد أن الحضارة الإسلامية في قيامها الذهبي كانت واعية بشكل عميق لأهمية التنوع الديني، وحافظت على الكنائس والمساجد متجاورة متعاونة، واكتشفت أهم الكفاءات والمواهب المسيحية في المجتمع الإسلامي ودفعت بهم إلى منصة العطاء ووفرت لهم أسباب تفوقهم وعطائهم، وفي إشارة مهمة أروي للقارئ الكريم إحدى هذه التجارب الغنية، من تاريخ دمشق؛ إذ ظهرت عائلة تغلبية مهمة من النصارى شاركت بقوة في تأسيس الدولة الأموية، وقد بدأت مع منصور بن سرجون الذي قام بدور رئيسي في استقرار الحياة السياسية والاجتماعية في الشام، ويروي التاريخ أن سرجون بن منصور الأول كان مديراً لخزانة البيزنطيين، فيما يراه آخرون والي لدمشق للبيزنطيين، وحين وصل الجيش الإسلامي وفر البيزنطيون تحمل المسؤولية الكاملة وقام بنقل الخزائن بجدارة من الحكم البيزنطي إلى الحكم الإسلامي، وقد أقرَّه يزيد بن أبي سفيان والي دمشق في موقعه بوصفه أميناً على خزانة الدولة الأموية، وقد استمر هذا المنصب في الجد والأب والحفيد منصور بن سرجون وسرجون بن منصور ومنصور بن سرجون الثاني الذي خدم في عهد عمر بن عبد العزيز واستمر إلى أيام هشام بن عبد الملك.

ومن عجائب منصور بن سرجون الحفيد أن الحضارة الإسلامية وسعت له فرص النجاح والقيام، مع أنه لم يتحول عن عقيدته اللاهوتية قيد أنملة؛ بل إنه خاض معركة ضارية مع الإمبراطور البيزنطي ليون الثالث على الرغم من تحالف الإمبراطور العميق مع الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، وذلك حين بدأ البيزنطيون حملة لمنع الأيقونات الدينية في موجة سلفية مسيحية متشددة بتأثير من المسلمين في عقائدهم التوحيدية، ولكن الوزير المسيحي رفض توجه الأباطرة البيزنطيين وكنيسة القسطنطينية، واختار بشجاعة أن يدافع عن الأيقونات، وعلى الرغم من كونه موظفاً لدى الأمويين فإنه صرَّح بشجاعة رفضه للمشروع البيزنطي، وبذلك رفضه لسياسات الخلفاء المسلمين في التحالف مع البيزنطيين، وطاف في بلاد الشام والأناضول يدافع عن موقفه المؤيد للأيقونات؛ بل إنه دخل القسطنطينية في موقف شجاع يتحدى الإمبراطور ويطالب بالحفاظ على الأيقونات، وفي خطوة غريبة قام الإمبراطور البيزنطي نفسه بالكتابة إلى الخليفة هشام لعزل منصور من الوزارة، وتزيد الروايات تفاصيل لاهوتية غير موثقة عن ظهور العجائب في نجاته من الإمبراطور والخليفة، وقد انتهى به الأمر إلى التفرغ للعبادة واللاهوت وترك العمل الوظيفي؛ إذ تحول إلى الرهبنة واللاهوت واعتكف في كنيسة دير سابا في فلسطين، وقد كرسته مجامع المسيحية المتعاقبة قديساً مسيحياً كبيراً باسم يوحنا الدمشقي، أو يوحنا دمشق كما في المصادر الأوروبية.

ومن العجيب أنه ليس في تاريخ القديس المسيحي أي موقف مهادنة أو مجاملة في عقائده؛ بل إنه استمر في نقده الشديد للعقائد الإسلامية وخاصة في تحريم التماثيل والصور، ومع ذلك ظلَّ على رأس عمله عقوداً عدة، وفي الدراسات التاريخية كلها يتأكد أن الجد والأب والابن قاموا بالإدارة الاقتصادية للدولة الأموية إمارة وخلافة على وجه فريد من الكفاؤة والنزاهة لمدة تقارب مئة عام، لم تكن هذه العائلة المسيحية العريقة حدثاً نادراً في التاريخ الإسلامي؛ بل كانت صورة واضحة للشراكة الاجتماعية في بناء الدولة وازدهار الاقتصاد، تأكيداً على المعنى الحضاري الذي ظل حاضراً في التاريخ الإسلامي كله من تجاوز الكنائس والمساجد، وتقديم أشكال المحبة والمودة بين المسلمين والمسيحيين على الرغم من الاختلافات الشديدة في العقيدة واللاهوت، ولكن هذا العيش المشترك بات مهدداً اليوم، وقد قامت الفصائل الدينية المتطرفة وأهمها داعش بالطبع باضطهادٍ منظمٍ للمسيحيين أرغمهم على التفكير بالرحيل، ومع أن المسيحيين يعلمون أن داعش بلاء على الإسلام والمسيحية معاً ولكن المأساة هي أن كثيراً من المؤسسات والهيئات الإسلامية لا تزال تدرس هذا اللون من التمييز ضد المسيحيين على أنه من لازم العقيدة الصحيحة لدفع المشركين إلى الدخول في جنة التوحيد!

وتستمر معاهدنا الدينية في تدريس أحكام أهل الذمة وما يرتبط بذلك من أحكام الجزية التي يجب أن يؤدوها عن يد وهم صاغرون، وكذلك ما أضافه فقه السياسة المتطرفة من وجوب إلزام النصارى بلباس خاص ووجوب إرغامهم على أضيق الطريق ومنعهم من أوسطه، ومع أن هذه الممارسات قد سقطت تماماً في الدولة الحديثة بما فيها كل الدول الإسلامية، التي تجاوزت هذه الممارسات من الناحية العملية، ونصَّت التشريعات في الدول الإسلامية بوضوح على المساواة بين المواطنين وعدم التمييز بسبب الدين، وحق المسيحيين في بناء معابدهم وكنائسهم وإقامة شعائرهم، باستثناء السعودية وإيران اللتين لا تزالان تمارسان بعض التمييز وتمنعان بناء المعابد المختلفة على أراضيها.

لن تغير هذه المقالة شيئاً من واقع الحال، فالعناء المسيحي الذي يؤدي إلى تفريغ المنطقة من المسيحيين مستمر، والظروف الملجئة لذلك أكبر من أن تكون جدلاً لاهوتياً؛ بل هي اقتصاد وسياسة وتحالفات دولية وحروب ماحقة ودول تقوم وأخرى تترنح، ولكن الجانب الذي يعنيني هنا هو مسؤولية القادة الإسلاميين ووعيهم بأن الحفاظ على الوجود المسيحي هو مسؤولية وطنية ودينية وتاريخية، وإن الحضارة الإسلامية في عصر الرشد استطاعت أن تقدِّم النموذج الحضاري في الحفاظ على المسيحيين نسيجاً أبيض في بناء حيوي للأمة، ورفضاً لكل الممارسات الاستئصالية التي خاضها المتطرفون في التاريخ.

Related posts

الإسلام الشعبي

drmohammad

د.محمد حبش- الفرق بين الجهاد والفتنة…والإصلاح والفتنة 6/5/2011

drmohammad

نحو لغة إنسانية في ترانيم الدعاء

drmohammad