مقالات

الدكتور محمد حبش- الفرقان الصريح بين سياسة بوش ورسالة المسيح 18/11/2006

كان لقاء الأسبوع الماضي في فندق شيراتون صيدنايا دقيقاً ومثيراً بكل المقاييس، فقد شاركت من الجانب الأمريكي مجموعة غير عادية من أبرز المفكرين المؤمنين بالإخاء بين أبناء إبراهيم في حوار معمق استمر ثلاثة أيام متواصلة، شارك في مقابلهم فريق من المحاورين السوريين من مركز الدراسات الإسلامية ولجنة العمل الإسلامي المسيحي المشترك، بغية اكتشاف وعي الآخر وإدراك السبل التي تنهي عناء الناس في الشرق الأوسط.
كان الجانب الأمريكي متحمساً للقاء الذي اتسم بالروح الجدية الغالبة ولم يكن في وارد الفريقين استهلاك الوقت في المجاملة وتبييض المصاطب، بل كانت الأسئلة صادمة ومباشرة.
جاء الأمريكيون بقناعة سابقة مؤداها أن العرب كانوا وادعين هادئين وفجأة قامت الصحوة الإسلامية وقرر العرب أن يكتشفوا أحكام الجهاد ودعاهم الجهاد مباشرة إلى الدخول في حرب مع اليهود والأمريكيين بدءاً من 11 أيلول إلى مترو لندن إلى قطارات مدريد إلى صواريخ القسام وصولاً إلى قصف المنطقة الخضراء في بغداد.
وبهذا التصور فإن المشكلة في نظر الأمريكيين لا تتعدى خلافاً دينياً سيتم تجاوزه بمجرد أن ننجز تفسيراً جديداً للدين يستبعد الجهاد ويكرس الغفران، ويؤسس المحبة بين أبناء إبراهيم وعند ذلك فإن كل شيء سيبدو سهلاً لأهل الخير والمروة الراغبين بتصفية القلوب وحل الخصام.
في هذا الحوار كان الجانب الأمريكي ينتظر منا اعترافاً بالخطأ الذي نمارسه كل يوم عندما نقوم بمقاتلة المحارب الأمريكي (الوديع) الذي يركب سيارة الهمر المصفحة في العراق ويزرع الألغام في كل جانب ولكنه يتعرض للاعتداء وهو في طريقه لتفقد الرعية بين الفالوجة وبعقوبة!! وكذلك يريد منا اعترافاً بالتوبة والإنابة عن العدوان الذي يقوم به الملثمون الفلسطينيون ضد الإسرائيلي التائه الذي يجول بالأباتشي فوق رعيته في غزة ويضطر أحياناً إلى إلقاء حمولة طائرته من العنقودي والجرثومي على بعض المناطق المأهولة بدون قصد!! وهو يتحرق أسفاً على المتضررين من الأخطاء الفنية التي هي على حد تعبير ليفني (أشياء تقع وتثير الأسف).
قلت لهم بوضوح من العار أن نفكر بالغفران في حين أن الآخر لم يكف عن القتل بعد، وقال لهم عبد القادر الكتاني: هل خطر في بال أمريكا للحظة واحدة أن ترتكب الغفران عن تنظيم القاعدة بعد مرور خمسة أعوام على مأساة مانهاتن؟ إن أمريكا أحرقت العالم وهي تطارد خصومها التي تشتبه بهم في كل مكان من العالم، فما معنى أن يطالب الفلسطيني في بيت حانون أن يمارس الغفران عن العدو الذي قصف داره وشرد أهله عند الساعة الثالثة من فجر الأربعاء المشؤوم؟ وهو يتلمظ ويستعد لارتكاب أربعاء أسود آخر أشد شؤماً؟
مريم أغنس الراهبة الفلسطينية المقيمة في دير قارة تحدثت عن معاناتها كلاجئة فلسطينية أجبرت على الرحيل من غزة إلى عين الحلوة إلى اليرموك إلى أن حطت بها الرحال في قارة، قلت لهم في حواري: لماذا طردت أسرة الراهبة مريم من فلسطين؟ هل كان أبوها من تنظيم القاعدة أو من جماعة الزرقاوي؟ هل كان من المخططين المحتملين لاعتداءات الحادي عشر من أيلول؟
أعتقد أن هذه الورشة بالذات تستحق التأمل طويلاً كونها أول لقاء جدي وصادم وصريح بين رجال دين ومفكرين أمريكيين وبين مفكرين سوريين خارج إطار المجاملات والطبطبة.
وكان من مقاصد اللقاء في صيدنايا التذكير برسالة إبراهيم الأولى حيث لا يزال ضريحه قائماً في جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق على بعد أميال قليلة من مكان اللقاء، وكذلك فإنه في مواضع متقاربة من دمشق يمكنك أن تزور نبي الله يحيى المعمدان والنبي ذا الكفل وموضع رؤيا القديس بولس وإشراق قلبه بالإيمان، وعند مدخل دمشق الربوة التي أوى إليها السيد المسيح وأمه كما في القرآن الكريم: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين.
من المؤكد أن جميع الأنبياء الذين ورد ذكرهم في العهد القديم وفي العهد الجديد وفي القرآن الكريم عاشوا في بلاد الشام أو هاجروا إليها، ولا تزال أخبارهم الكريمة ومواعظهم الحكيمة تملاً علينا الدنيا برسالة المحبة والهدى والنور.
وبشكل خاص فإن أرض صيدنايا مكان يعرفه أبناء السيد المسيح في العالم وفيه دير كبير بناه الامبراطور الروماني يوستنيانوس الأول عام 547 وفق رؤيا مقدسة، وخلال أكثر من ألف وأربعمائة عام من الحكم الإسلامي ظلت صيدنايا والكنائس الأربعين الأخرى القائمة في دمشق وما فيها من أيقونات وقداديس وصلبان في قلب عاصمة الإسلام في العالم شاهداً حياً على تسامح الإسلام ورحمته للعالمين، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
ومن دلالات المكان أن القرى المجاورة معلولا وجبعدين والصرخة هي القرى الوحيدة في العالم التي لا تزال تتحدث لغة السيد المسيح اللغة الآرامية، وهذا كله يعزز رسالة الشام في المحبة والسلام.
كان واضحاُ من عنوان اللقاء أنه لا معنى للحديث عن المصالحة بدون تحقيق العدالة ولذلك كان إصرارنا لعنونة اللقاء باسم البحث عن العدالة ثم المصالحة، وبالتأكيد فإن غياب العدالة كان سبباً في إخفاق كل المبادرات التي رغبت في تحقيق المصالحة في الشرق الأوسط.
إننا هنا لا نمثل حكومات المنطقة ولسنا سياسيين محترفين، نحن هنا أبناء إبراهيم، نحمل روحه المتسامحة ونتحرك وفق قيم الدين الخالدة من أجل إنجاز العدل والخير في الأرض.
إن حقيقة الإخاء بين أبناء إبراهيم وردت في القرآن الكريم بصيغة واضحة نقرؤها كل صلاة وهي قول الله سبحانه: قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة ابراهيم حنيفاً، ونقرأ بوضوح اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وفي الحج نتبع خطى إبراهيم في الطواف والسعي والرمي وسائر مناسك الحج، أما الديانات التي انبثقت من تعاليم إبراهيم فكلها محل قبول واحترام لدى المسلمين في الأرض وفي موضعين اثنين في القرآن الكريم وبنفس الصيغة تقريباً ورد قول الله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إن المشكلة ليست في تبادل الاعتراف ولا في تحرير صواب الاعتقاد من خطئه ولكن المسألة تكمن ببساطة في المظالم التي يرتكبها الجانب الإسرائيلي ضد الشعب الأعزل، والبغي التي يرتكبه الأمريكيون ضد العراق ويدفع بالنتيجة إلى المقاومة والبسالة للدفاع عن الأرض والعرض.
هنا في دمشق يقيم نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني أخرجوا قسراً من بيوتهم ولا زالوا في مخيمات قاسية ينتظرون إنجاز عملية السلام ليعودوا إلى بلادهم، وفي سوريا اليوم نحو مليون لاجئ عراقي أخرجتهم المأساة من بلادهم وهم ينتظرون عودة الأمن ليعودوا إلى أرضهم وأهلهم.
خلال الأسبوع الأخير شهد العالم واحدة من أسوأ المجازر التي ارتكبتها البشرية حين قصفت طائرات إسرائيلية عن عمد في الساعة الثالثة صباحا حياً سكنياً في بيت حانون وخلفت أكثر من مائتي ضحية بين قتيل وجريح معظمهم من الأطفال والنساء!!
وفي الوقت نفسه فإن المجازر والمآسي في العراق لم تتوقف أبداً، وأثارت ذهول العالم وقد عبر الأمريكيون عن غضبهم مما يجري في العراق ودفعوا باتجاه تغيير سياسة أمريكا في العراق إلى حد إسقاط وزير الدفاع وبالتالي منح الأغلبية للديمقراطيين في إرادة واضحة للخروج من العراق.
كانت فرصة للتأمل ولعلها أضافت للوعي الأمريكي الذي بدأ يصحو من سياسات التدليس والغرور التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويدرك أن ما جرى لم يكن أبداً في خدمة المصالح الأمريكية العليا وإنما كان في خدمة البرنامج الإسرائيلي الآثم الملعون على لسان داود وعيسى بن مريم، الذي قلب عليهم الموائد وقال لهم أنتم جعلتم بيت أبي مغارة لصوص.

Related posts

بنات الأنبياء…المرأة في عصر الرشد 1/3/2007

drmohammad

د.محمد حبش- إن في الجنة باب يقال له باب الفرح 13/1/2006

drmohammad

د.محمد حبش- نهضة المرأة في الفقه الإسلامي

drmohammad

Leave a Comment