مقالات

د. محمد حبش- دروس من رمضان 27/10/2006

كان محمد علي كلاي يتدرب بطريقة غريبة فقد كان يمضي ساعات التدريب في حذاء ثقيل قاس، يرهقه ويتعبه، ولكنه كان يصر على ذلك، حتى إذا بدأ النزال كان يعود إلى حذائه المطاطي العادي فيثب به على الحلبة فيرقص كالفراشة ويلسع كالنحلة.
لست هنا في درس ملاكمة ولكنني أعتقد أن هذه التجربة الرياضية يمكن أن تفسر لك واحدة من أهم دروس رمضان، حيث مضت تعاليم الإسلام إلى فرض نمط قاس من الحياة على الإنسان في رمضان، فيمارس الجوع في النهار والسهر في الليل، وهي بالطبع مشاعر صارت نظرية في سلوك كثير من الصائمين حيث يتم التغلب على الرهق الصوم بوسائل متعددة وتقام الولائم الباذخة التي تجعل كل ما يقال عن عناء رمضان وشدته محض ذكرى في مهب الريح.
على كل حال فلا بأس بما تبقى لك من درس رمضان فهل بالإمكان اليوم أن يمضي المرء إلى الغاية التي يتوجه إليها نسك رمضان في بناء إرادة قوية متماسكة من أجل رسالة الصوم الباقية في ضمير المسلم.
ليست طبيعة الإسلام مناقضة للفطرة الإنسانية أو مسايرة لها، ولا يؤمن الإسلام بتعذيب النفس الإنسانية من أجل بناء الإيمان، ولكنه يؤمن بدور الحياة العسكرية من أجل بناء جسم قوي وعقل منظم، ويؤمن بالحياة القاسية لأيام معدودة من أجل مستقبل لا يتردد في رسم ملامح المستقبل.
في ظروف كهذه الظروف التي تعيشها الأمة العربية لا يبدو أن المنطقة قادمة على أيام دعة وراحة فالانفجار العراقي لم يعد مجرد ناقوس خطر بل صار في الواقع حريقاً يلتهم المنطقة بأسرها، والاعتراف الأمريكي بارتكاب الكبائر في العراق لا يهني أن المنطقة قريب ةمن الهدوء أو السلام، بل يحمل بما لا يقبل الشك نذيراً على أيام سود قادمة قد تكون أسوأ بألف مرة مما فات، وخلال اعترافات الأمريكيين بالأخطاء الكارثية والمطالبات التي لا تتوقف بالانسحاب أو الهرب من العراق فإن المأساة لن تتحول إلى ملهاة، ويبدو للمراقبين أن الويل للعراق إن بقي الاحتلال والويل إن رحل، وفي الحالين فمن الواضح أن المنطقة قادمة على شد الأحزمة على البطون ومواجهة الشر القادم بإرادات قعساء.
لا يمكن لجيل السوبر ستار أن يواجه المرحلة القادمة التي تنذر بالأخطار، ولبنان الفوركات والنانسي وكازينو لبنان ليس هو لبنان المقاوم، وعلينا أن نتذكر الحرب الإعلامية التي كان يبرمجها العدو لبعث الوهن في نفوس الأمة، وحين كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف في المليان على لبنان كانت في الواقع تراكم من قناعات المراقبين أن لبنان أرض مستباحة ، ولم يكن في وارد الذين خططوا للبنان ككبريه للعرب أن يقدموا أي مشروع مقاوم، وكانوا قد جهزوا كل أوراقهم وألقومها مرة واحدة على طاولة 17 أيار مقرونة بالسمع والطاعة وفق الشرط الإسرائيلي، ولكن المقاومة صنعت في أفق آخر، جاءت من مارون الراس وأشرقت في عيترون واكتملت في قانا ومروحين.
ليس في وارد إسرائيل اليوم أن تدفع بخطة ماريشال لإعمار لبنان وتساهم فيها، وهي التي تهدد مراراً حتى على ألسنة الحمائم فيها أن العدوان على لبنان قد يتكرر في غضون أشهر قليلة، وبدلاً من أن يكون صوت العقلانية والحكمة هو الذي يسمع في إسرائيل للاعتراف بعقم الحل العسكري وبؤسه، فإن الإسرائيليين يقدمون للعالم مشروعهم الجديد على هيئة (إسرائيل بيتنا) وهو مشروع دموي آخر يقوده المنحوس ليبرمان، يختصر شعاره في وجوب قتل كل قادة الفعل المقاوم الفلسطيني، وتحريم كل أشكال التفاوض مع أعداء إسرائيل الكبرى تحريماً سياسياً ودينياً كونه يتناقض بشكل مباشر مع التفسير التوراتي اللئيم لمستقبل المنطقة.
في حوار تلفزيوني شاركت فيه قبل أيام على قناة العالم قال لي محاوري العراقي من لندن: أنتم في سوريا مشكلتكم أنكم تخافون من رياح الديمقراطية التي بدأت تهب على المنطقة من العراق، ولذلك تقاومون المشروع الأمريكي!! قلت له سجل بكل أمانة أننا خائفون إلى الغاية من رياح الديمقراطية الملعونة هذه التي ينذبح بها الشعب العراقي كل يوم، ونشعر تماماً أنه مشروع ملعون، وسجل يا أخي بوضوح أن فرائصنا ترتعد من رياح الديمقراطية الموعودة هذه، الله لا يذوقها لمحب، ولا يوفرها عن عدو!!
الخلاصة أن مواجهة الآتي من الأيام ليست أمراً ميسوراً أو سهلاً وأن القادم ليس في وارد منح الناس فرصة راحة أو استرخاء، بل هي أيضاً مرحلة شد أحزمة، وسيطبع مسؤولية الشعوب الراغبة بالحرية سلوك غير عادي من التقشف والصبر في مواجهة الكيد الذي يراد بالمنطقة على يد المشروع الأمريكي والإسرائيلي.
نحتاج فعلاً إلى دروس رمضان ، وهي دروس موصولة بالصبر والمقاومة والممانعة المستمرة وهي تتصل بحقيقة أن المحافظة على الرأس المرفوع في العصر الأمريكي القادم تستلزم من الأحرار أن يؤدوا روح المقاومة الباسلة، وأن يواجهوا الشروط الأمريكية المدهونة بالعسل بمنطق الأحرار الصارم تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها!!
بكير جداً أن نفكر بمنطق الرفاهية التي يحلم بها مصمموا البارفانات الفرنسية، والفاشيونز الطلياني وعلينا أن نصارح شعوبنا أن الآتي من الأيام لا يحمل أخباراً طيبة لهذا اللون من التجارات في ظل الحريق العراقي المشتعل والذي يراد إشعاله فيما يجاور من المنطقة، وعلينا أن نصارح الناس بأن الثقافة التي نحتاجها اليوم هي ثقافة: كنا نترك تسعة أعشار الحلال حتى لا نقع في الحرام، وثقافة يا دنيا غري غيري، وثقافة كنا نشد الحجز على بطوننا من شدة الجوع، بالمناسبة ذكر السيوطي في الحاوي نقلاً عن ابن حبان أن الحديث المشهور كنا نشد الحجر والحجرين على البطون من شدة الجوع فيه تصحيف، وصوابه نشد الحجز والحجزين، أي الزنار نشده على البطن لندفع غائلة الجوع!
وحده رمضان حمل الدرس كله، وحين حملنا من فراش الدعة إلى محرابه بالليل وظمئه بالنهار، كان يريدك أن تقرأ حقيقة درس الدهر: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين.

Related posts

د. محمد الحبش- تكبيرات العيد.. قراءة في الرسالة الاجتماعية للعيد 19/10/2007

drmohammad

د.محمد حبش- أوروبا … التوق إلى عالم الروح والإيمان 27/8/2008

drmohammad

د.محمد حبش- عروبة الأنبياء… رسالة نور للعالم بلسان عربي مبين 2008

drmohammad

Leave a Comment