تعودت أن أكتب في مواجهة التعصب والتزمّت والتكفير في إطار تجربتي التي عانيت فيها الكثير من المتعصبين وهي تجربة يعانيها كل من يتولى الحديث في شأن التجديد، ويجرؤ على المساس بهياكل الوهم التي يسهر على حراستها سدنة وكهنة محترفون، لا يتورعون عن ارتكاب أي قهر للحفاظ على نمط ظلمهم الجاثم على رقاب العباد والبلاد.
ولكن الأذهان عادة ما تنصرف عند ذكر التعصب إلى البيئات الجاهلة والمتخلفة النازحة عن المدنية والغارقة في غياهب الجهل، فالتعصب هو نتاج الجهل والتخلف، ولكنني اليوم سأجهد أن أحملك على رؤية الجانب الآخر من التعصب وهو جانب يستنبت في مراكز النشاط الحضاري في العالم، إلى جوار ناطحات السحاب وحاملات الطائرات والبوارج المدمرة التي تقودها أمريكا لنشر ديمقراطيتها في العالم، ومنح فرصة الهيمنة والإفساد للعالم الغربي.
هناك سبب آخر للتعصب لا يرتبط بالجهل، بل يرتبط بالغرور واحتقار الآخرين في ثقافتهم ومقدساتهم، والإمعان في تدنيس كل مقدس بإصرار وعمد، وهو ما سينتج بالتالي روحاً مدمرة مفسدة تعزز روح الكراهية بين الإنسان والإنسان.
التعصب الذي يجوز التحدث عنه أمريكياً هو ذلك الذي يستنبت في تورا بورا ووزيرستان ودارفور والفلوجة وبعقوبة، ولكن العالم لا يدرك أن أشد مظاهر التعصب قتامة وظلامة هي أشكال تنمو في قاعات باذخة مترفة، وتسلط عليها الأضواء وتزدحم فيها عدسات الكاميرات التي تتناحر في إبداء لوغوتها، فحين يطل رجل البيت الأبيض المكلل هذه الأيام بالمظالم والهزائم ببزته الأنيقة وكرافتته الحمراء الفاقعة ليتحدث بكل شراسة عن وجوب مجابهة الفاشست الإسلامي، فإن هذا الشكل من التعصب والتكفير وإلغاء الآخر يتجاوز بمراحل طويلة ذلك التعصب التقليدي، خاصة أن التعصب هذه المرة يأتيك مصدقاً بقرارات من مجلس الأمن، ومباركاً من حلف الناتو، ومنمقاً بتكشيرات عريضة من الوجوه الكالحة الضالعة في الحرب على الإرهاب، ومؤيداً بقرارات من مجلسي الكونغرس الأمريكيين اللذين يرفدان خطاب المقت هذا بمليارات الدولارات التي يتحملها دافع الضرائب الأمريكي من اجل إرضاء هذا الغرور العابث الذي يقدم نسخة من التعصب الذي لا يتوقف عند حدود القذف بالكفر والفسق للمخالف، بل يقذف على رؤوس المخالفين ومدارسهم ومنازلهم وأسواقهم حمم الموت العنقودية والفوسفورية والمشبعة باليورانيوم وذلك تحت عنوان سافر كافر وهو نشر الديمقراطية والقضاء على الإرهاب!!
بالتأكيد يجب أن لا نتردد للحظة في مواجهة تيارات التكفير التي تعصف بالمجتمع الإسلامي وتتسبب بإراقة الدماء وقتل الأبرياء، ومع أن كثيراً من صيغ التكفير تتحول إلى إراقة دم ولكن معظم حالات التكفير تنتهي عند حدود توعد الآخر بنار جهنم دون أن يكون لهذا السلوك آليات حقيقية تتسبب مباشرة في إراقة الدماء، ولولا الاحتلال بالطبع لظلت هذه اللعنات التكفيرية مجرد خطاب كراهية مقيت، ليس لديه فرصة التعبير عن الشر الكامن فيه إلا بالكلام والشتائم.
ولكن أليس هذا السلوك الأمريكي وما يدور في فلكه أليس هذا لوناً أشد قتامة من هذا التكفير التقليدي الذي ينتهي في معظمه عند حدود توعد الآخر بنار جهنم ؟؟ أليس قرار أمريكا باجتياح الفلوجة وبعقوبة وتلعفر، ودعم إسرائيل في اجتياحها لغزة وجنين وجنوب لبنان وشن قصف جوي مباشر على مدرسة دينية يدرس فيها نحو ثمانين طالباً في باكستان وقتلهم جميعاً عن بكرة أبيهم أليس هذا السلوك التكفيري الإقصائي أشد بشاعة وقتامة من أي تكفير تقليدي آخر؟
ولكن الكيد الأمريكي الرسمي ليس أقل بؤساً من بعض السابحين في الهوى الأمريكي من أصحاب الجلد العربي والأسماء العربية، الذين فقدوا كل ارتباط بتاريخهم وأرضهم، وراحوا ينتظرون من السيد الأمريكي كعكة الإحسان، وهم الذين قال فيهم إقبال:
كل من أنكر ذاتيته فهو أولى الناس طراً بالفناء
لن يرى في الدهر قوميته كل من قلد عيش الغرباء
قبل أسابيع على سبيل المثال قدمت قناة الجزيرة للشارع العربي الكاتبة الأمريكية من أصل سوري وفاء سلطان، وهي كاتبة سورية معادية للإسلام تقيم في أمريكا، وتختصر رسالتها في استفزاز كل مسلمي الأرض، واحتقار كل مقدس، وقبل شهور ألقت كلمة في أحد النوادي الأمريكية قالت فيها: إن الرئيس بوش يمارس نفاقاً ضد القيم العلمانية ويسيء إلى القيم العلمانية الصريحة والجريئة فنحن هنا في أمريكا منذ أربعين عاماً – والكلام لوفاء سلطان – ننشر الوعي بين الأمريكيين حول خطورة الإسلام على الحضارة الإنسانية!! لقد شرحنا الكثير عن الإسلام في حقيقته كرسالة تدعو إلى الإرهاب وقتل الآخرين وإبادتهم، وقمنا بواجبنا في نشر الإسلاموفوبيا في الغرب، ولكن الرئيس بوش وقف أمام وسائل الإعلام ليقول للعالم إن الإسلام رسالة حب وتسامح ولكن الإرهابيين يشوهونه!! وبغضب قالت وفاء سلطان: كيف يسوغ هذا ونحن نعلم أن الإسلام في حقيقته دعوة للعنف والإرهاب والقتل!!.
وقالت بغضب: كيف يقال إننا نشوه الإسلام، بل يجب القول إن الإسلام هو الذي شوهنا!!
وفاء سطان نموذج للشخصيات التي تحظى باحتضان السياسيين الأمريكيين من أجل استدعاء الديمقراطية إلى الشرق الأوسط!!
كيف يمكن لاتجاه كهذا أن يحظى بأي احترام في الوطن؟
وبين الحين والآخر يمكنك أن تقرأ اسم وفاء سلطان بين عدد من الأسماء العربية الراغبة في تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط، بالوسائل الأمريكية المجنونة، ولم تكن آخر صرعاتها إعلانها الوقح عن نيتها زيارة إسرائيل لتأييدها في جهادها ضد التعصب الإسلامي، وهو من وجهة نظرها شأن كل فلسطيني يجرؤ أن يقول إن لديه وطناً أو أرضاً أو بستاناً أو عصفوراً أو حلماً في فلسطين!!.
في حين يتولى زميلها الآخر الحديث عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى حيث يتحدث في أطلال هذه الأوثان عن الديمقراطية العربية الضائعة التي كانت تزدهر في ظل الأصنام التي تعيش متجاورة متحابة بشكل (ديمقراطي) قبل أن يأتي النبي محمد ب(صنمه) الجديد، ويكسر الأصنام جميعاً ويجبر الناس على عبادة الصنم الجديد الذي اختار له محمد اسماً خاصاً ، هو الله!! ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم يقرر بأبلغ ما يتصوره الإنسان من الاستفزاز والحقد بأن كل ما تعانيه المنطقة من الدماء هو نتيجة مباشرة للقمع والإرهاب الفكري الذي مارسه محمد ضد الحريات في جزيرة العرب!!.
وتمضي (الدكتورة) وفاء سلطان في توجهها الصارم ضد الإسلام فتقول: لدي الآن مليار وثلاثمائة مليون مريض وهم سكان العالم الإسلامي، تحكمهم أوهام القرآن والتراث، وعلي أن أقوم بمداواتهم وشفائهم من الجينات الإسلامية المتوضعة في تكوينهم الثقافي، وهي (مكتورة الخير) إذ لم تقل لدي مليار وثلاثمائة مجنون، لأنه إذا جن ربعك ما عاد ينفعك عقلك.
يحكى أن فتى أبله ركب سيارة أبيه وانطلق بها، وبعد قليل سمع الأب خبراً مفاده أن سائقاً طائشاً مختل العقل يسوق سيارته عكس اتجاه السير وهو مقدم حتماً على ارتكاب حادث مروع!! فوراً اتصل الأب بولده على الهاتف النقال ليفهم ما يجري، قال الولد: هو مش بس واحد مجنون يا بابا، هو كل الشارع مجانين، ما فيش غيري في السكة الصح!!!