مقالات

د.محمد حبش- أضواء على مؤتمر أثينا قراءة سياسية من أرض الحكمة 10/8/2007

ليست المرة الأولى التي أشارك فيها في مؤتمر أثينا الذي تعقده جامعة كاليفورنيا ويهدف أساسأ إلى جمع المتناقضات بين الباحثين الاستراتيجيين والدينيين في شؤون الشرق الأوسط، ودعوتهم إلى الإدلاء بأفكارهم في سبيل الوصول إلى حلول سياسية ودينية والتوافق على قاعدة بوارق الحقائق تنتج من مصادمة الأفكار.

لا شك أن أثينا هي أقرب العواصم الأوربية إلى منطقة الصراع، وهي بلد بلا هوية في شأن الصراع العربي الإسرائيلي، وهي أضعف من أن تقود مبادرة مؤثرة لجمع الأطراف، وربما كان ضعفها هو سبب قوتها، وبالتالي فقد كان مدعاة لالتزامها الحيدة في صراع معقد ساخن، يستمر منذ نحو مائة عام،
كان المؤتمر مناسبة فريدة للقاء أكثر من ثلاثمائة باحث من مختلف أنحاء العالم يحملون مواقف ذات دلالة من الصراع العربي الإٍسرائيلي، فالأمريكيون القادمون من مراكز أبحاث غربية تم اختيارهم بعناية ليقوموا برسم الصورة بدقة عن المعاناة التي يكابدها اليهودي التائه الذي فرضت عليه الأقدار أن يعيش في وسط يكرهه ويحاربه، وكأنما كانت هواية الشعب العربي في استجرار الكراهية ولم يسأل الأمريكيون أنفسهم أو شعوبهم لماذا يكرهنا العالم إلى هذا الحد؟؟

كان تركيز الأمريكيين على الملف السوري تحديداً فما الذي يجعلكم أيها السوريون تثقون بالطموح الإيراني ولماذا تكرس سوريا تحالفها مع إيران وحركات المقاومة في حين أن الابتسامات الأمريكية شهية ومغرية ومترافقة مع رنين الدولار؟
بدا الأمريكيون في المؤتمر محتارين في فهم طبيعة التوجه السوري، فما الذي يدفع سوريا صوب حركات المقاومة، على الرغم من أن الكعكة الأمريكية تبدو أشهى وأطيب وأقل عناء؟؟
قلت لهم: ليس لدى سوريا ولع بالسباحة عكس التيار أو مقاومة الواقع أو مضارعة الناس، إنما تختار سوريا رسالتها على أساس مصالحها، وبعيداً عن الموقف الديني الذي يحتم على المسلم أن يستمسك بحقه ويقاوم الظلم، فإن حساب السياسة يجعلك تفهم موقف سوريا بدون أسرار، لماذا يتعين علينا أن نصادق أمريكا؟ تبدو أمريكا حامياً مباشراً لعدد من المحميات العربية في الخليج وإن منحتها اسم الدولة المستقلة، ولكن الواقع يبعث فيك الحيرة، حيث يبدو الاستقرار المزعوم هنا محض أوهام، لأن الخضوع للرغبات الأمريكية معناه الدخول في مواجهة مباشرة مع شعبك الذي يعاني ما يعاني من سلوك المحتل ويتحمل من شره وفساده وأذاه ما لا يمكن دفعه، وحين يخير الزعيم بين الصراع مع أمريكا أو الصراع مع شعبه فإن الجواب واضح لا يحتاج إلى أسرار، ومن انحاز إلى إرادة المحتل على حساب إرادة شعبه فإنه يفتح على نفسه وتاريخه باب جهنم.
وبعيداً عن الخطاب الإنشائي فقد قلت لهم بوضوح: ما الذي ستجنيه سوريا من صداقة الأمريكيين؟ وهل سيكون هذا ضمانة عودة الأرض وحماية العرض؟ إن أقرب الأمثلة لفهم طبيعة الصداقة مع أمريكا هو مراقبة سلوكها في الشرق الأوسط، فحين فلت الوحش الإسرائيلي على لبنان الصيف الماضي ما الذي صنعه الأمريكيون لأصدقائهم في لبنان؟
العالم كله رأى السيد السنيورة وهو يستعطف وزيرة الخارجية الأمريكية ويقبل وجهها ويديها من أجل وقف نزيف الدم في الجنوب، وكان تصريح السيدة رايس أسوأ ما يمكن أن يسمعه إنسان من موقف لئيم ضد شعب يذبح، وقد كان موقفها باختصار: دعونا نمنح جيش الدفاع الإسرائيلي فرصة القضاء على الإرهاب، وهكذا فخلال أكثر من شهر من الموت المستمر في لبنان كان الأمريكيون يتفرجون، ولا يبالون أن يدفع اللبناني حياته ثمناً لحماقة الإدارة الأمريكية، وأكدت الحرب حقيقة مرة لا يوجد فيها أدنى التباس، فإما أن يكون الأمريكيون غير راغبين بوقف الحرب، أو أنهم عاجزون عن إيقافها، إما أنهم لا يستطيعون وقف الحرب أو أنهم لا يريدون وقف الحرب، وفي الحالتين فلماذا نخدع أنفسنا ونخدع شعوبنا من أجل ابتسامات أمريكية!! وفي الواقع فإن الحرب على لبنان توقفت فقط بسبب الصواريخ التي سقطت على حيفا وعلى ما بعد حيفا، ولم يكن الأمريكيون على الإطلاق سبباً لوقف الحرب، بل كانوا بكل أمانة سبباً لاشتعالها.

كان الخطاب الحاقد حاضراً في مؤتمر أثينا، ويؤسفني أن أقول إن الخطاب السوري كان ضعيفاً، فقد كنا شخصين اثنين، ومن الواضح أننا غير قادرين على الرد دائماً فقد كانت جلسات المؤتمر تنعقد في قاعات ستة، وكان علينا إذن أن نتقطع ونتشقف حتى نتمكن من مواجهة خصوم سوريا، وهنا أستذكر كلمة العزيز الدكتور غسان الرفاعي الذي كان ينظر إلى كراسينا الفارغة بقوله الكراسي الفارغة لا تتكلم، والغائب ليس له نائب في هذه المحافل الدولية.

وعلى الرغم من المشهد السياسي الساخن فلن أحرمك من طلة على الفلسفة اليونانية، ويا رايح على الجبل هات معك ولو حجر، فقد كان المؤتمر مطلاً من وجه آخر على جبل الأكروبولس حيث كانت الحكمة اليونانية تتفجر بالمعرفة ليرتوي منها العالم، وكانت ساعة الغروب لحظة مناسبة ليتأمل الإنسان في قوة المعرفة، فقد استطاع رجال الحكمة اليونانية أن يعبروا العالم لقرون طويلة من خلال موقفهم في خدمة المعرفة، وكنت أتساءل أمام تلك الهضبة المطلة على أثينا: بأي الوسائل تمكن أولئك الرجال أن يحضروا في العالم بحيث لا يغيبون عن كتاب باحث أو خطبة خطيب أو منهاج مدرسة أو ضياء حكمة في قارات العالم الخمس؟ لم يكن آنذاك في فضاء أثينا أو العالم بث فضائي أو إذاعي، أو صحافة مطبوعة أو جوالات أو أنترنت؟
كيف يمكن أن نفهم حضور هؤلاء الرجال في الأرض لأكثر من ثلاثين قرناً واقتحامهم لغات العالم كله على الرغم من طبيعة اللغة اليونانية المعقدة؟
من وجهة نظري فإن القانون الذي يحكم خلود الفلسفة اليونانية هو ما شرحه القرآن الكريم بقوله تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

والآن فمن حق هذا المقال أن يطرح سؤالاً بريئاً، فمع أن أفكار أبطال أثينا قد أصبحت اليوم مجرد ذكرى في تاريخ المعرفة الإنسانية، وعلى الرغم من أن كثيراً من أفكارهم قد عصفت بها رياح المعرفة الحديثة، ولم تعد مصدراً للتوثيق المعرفي فإن السؤال هنا هل يتقبل اليونانيون أن يطل عليهم رجل من أبنائهم يكرس حياته للسخرية من فلاسفة أثينا؟ وهل ينظر إليه اليونانيون إذن بأدنى احترام؟ حتى ولو كان ما يقدمه من أدلة كافياً لتفنيد أفكار فلاسفة أثينا؟ السؤال نفسه نوجهه لفريق من أبناء جلدتنا أصبحوا يكرسون كتاباتهم للإساءة إلى الدور الريادي الذي قام به أبطال الإسلام في التاريخ، واتهامهم بالبدوية والعنف والاستبداد، وهي بالتالي دعوة لهؤلاء الناقدين أن نحتكم إلى القاعدة الذهبية في قراءة التاريخ والحكم على الأولين: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، فإنه لا خير في أمة لا تحترم تاريخها، ولا مستقبل لمن لا ماضي له، ومن ليس له كبير ليس له تدبير.

Related posts

الليبرالية الجديدة

drmohammad

د.محمد حبش-الانهيار المصرفي العالمي…قراءة من اليسار الإسلامي 21/11/2008

drmohammad

د.محمد حبش- دمشق والقدس… أرض التين والزيتون…توأمة روحية وتاريخية 4/2006

drmohammad

Leave a Comment