كان لقاء الأسبوع الماضي في عرنة عش النسور لوناً فريداً من اللقاءات التي يندر أن تتكرر، فقد حشد بنو معروف في جبل الشيخ خيرة رجالهم وشبابهم ليقدموا صورة الكرم والشهامة التي تطبع جبين سكان ذلك الجبل العالي الذي يستقبل أول نقطة شمس في سوريا كما يبتل بأول قطرة مطر، ومن عجائب الجولان أنه يشكل واحدا في المائة فقط من أرض سوريا ولكنه مع ذلك يحتضن أعلى نقطة في الوطن وأخفض نقطة في الوطن حيث تمتد الجغرافيا فيه من ارتفاع 2814 متراً عند قمة جبل الشيخ إلى 213 مترا تحت سطح البحر عند بحيرة طبرية، الأمر الذي يقتضي بداهة تعدد أنماط النشاط الزراعي وتفاوتها من زراعة الكرز في رؤوس الجبال إلى الموز في منخفض الحمة وما بينهما وبالتالي من أعشاش النسور إلى حظائر الدجاج، ومن عسل الزلوع إلى دبس الرمان.
ومائدة بني معروف مائدة عربية أصيلة كريمة تذكرك بالشاعر العربي الشهم لبيد بن ربيعة الذي أقسم أن ينحر كلما هبت ريح الصبا، وكنت سعيداً إذ حضرت بصحبة العمائم الشريفة الطاهرة من فقهاء المذاهب الأربعة التي وفدت بالمحبة إلى جبل الشيخ للمشاركة في مهرجان الإخاء الديني الذي نادى لأجله بنو معروف ولبى من أجلهم رجال المحبة من أبناء العمائم الطاهرة.
يتحدثون أن القاهرة أم الدنيا، ولكن دون أدنى مبالغة فإن أبناء سوريا من الفاطميين، من نسور الجولان وفرسان البادية هم الذين أسسوا قاهرة المعز الفاطمي، ونصبوا ألف مئذنة في ربوعها وجعلوها قبلة للعالمين، وحين كان الفرسان الفاطميون الأوائل يخوضون كفاحهم من أجل توحيد الشام ومصر كان كثيرون يعتقدون أن حلماً كهذا لا يعدو كونه مغامرة جامحة لشباب طامحين لا يقدرون عواقب الأمور ولكن رسالة وحدة مصر وبلاد الشام التي بدأت عام 297 من القيروان في تونس سرعان ما امتدت لتشمل مصر أولاً عام 362 على يد الخليفة الفاطمي المعز باني القاهرة، ومن ثم تتصل بأرض الشام وتؤسس صورة الوحدة الشامية المصرية لأكثر من مائتي عام.
المعز والعزيز والمنصور تركوا بصماتهم على تاريخ مصر، ولكن التاريخ دائماً يكتبه المنتصرون، ونتيجة ذلك فقد تمت كتابة التاريخ بيد سوداء دفع ثمنها فرسان الفاطميين الذين فقدوا نصيبهم من الملك، ولكن ليس من حق أحد أن ينزع من أبنائهم حق الفخر بالتاريخ والاعتزاز به تجربة طموحة رائدة لها ما لها وعليها ما عليها.
لا يهم هذا المقال أن يرسم صورة الفاطميين من ذهب أو من خشب، أو يكحل عيونهم بالغار والفرح أو يعصف بهم في مهب الريح، ولكن ما يعنينا هنا هو قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء، وعلينا أن ندرك تماماً أين تقع فتاوى تكفير هذا الجزء العزيز من تاريخ الأمة.
لقد تعرض الفاطميون إلى هجوم عنيف من قبل عالم إسلامي شهير هو ابن تيمية 726 الذي لم يتردد في تكفير الدولة الفاطمية واعتبار تراثها كله تراث كفر وزندقة، وها نحن بعد تسعمائة عام نتلقى الفتوى إياها على مقاعد الدرس، من دون أن يدرك مدرس التاريخ أنه يقوم في رواية هذه الفتاوى بتفتيت الوطن والإساءة إلى جزء عزيز من تاريخه ورجاله، أو على الأقل لا يلتزم المنطق القرآني الذهبي الذي ينص صراحة تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.
السيوطي 850- 911 هجرية، كان موسوعة الإسلام المتحركة وذاكرة التراث الإسلامي وصاحب 725 كتاباً دون أسماءها بالتمام والكمال حاجي خليفة في كتابه كشف الظنون، وهو بالمناسبة أكثر العلماء تصانيف في تاريخ الإسلام، كان هو الآخر ضحية هذا الضلال التاريخي، وحين افتتح كتابه تاريخ الخلفاء أفرد الصفحات الأولى للإشارة إلى الدولة الفاطمية باسم الدولة الخبيثة العبيدية في رغبة واضحة للإساءة إلى رجالها وبالتالي لقطع نسبهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحين قرأت ذلك ذهبت بي الحيرة كل مذهب، فبين الرجل وبين أفول الدولة الفاطمية نحو ثلاثمائة عام، ولكنه ظل يتحدث بغضب عن الدولة الفاطمية وبدا لي كما لو أنه ليس بصاحب غرض، ورحت أسائل نفسي هناك لم كل هذا الغضب من التراث الفاطمي؟؟ ولكن لم يطل بي العجب فقد أفرط الرجل في ثنائه على العباسيين، ولكنه حين ذكر بني أمية فقد راح ينعتهم بأشأم النعوت ويصفهم بأنهم كانوا ينزون على منبر رسول الله نزو القردة وأن النبي حذر منهم بالاسم والوصف!!
هنا تبدو المسألة بدون أسرارا ولا رتوش فالرجل يعيش في ظل الخليفة العباسي في مصر، ولا بد له هنا من التشنيع بأخصام بني العباس ولو كانوا بني أمية، وحتى لو كانوا هاشميين من غير نسل العباس!!
اليوم أصبحت الدولة الفاطمية وراءنا بأكثر من تسعمائة عام، ولكن قراءة محايدة للآثار التي تركها الفاطميون في مصر تجعلك تشعر حقيقة بالإعجاب والإكبار للإرادة القعساء لفرسانهم الأوائل، وللدور الإيجابي الذي قاموا به لصالح الحضارة الإسلامية وتشهد لهم هنا مآذنهم الشامخة التي ملأت ضفتي النيل وجعلت القاهرة مهوى أفئدة الناس في العالم الإسلامي.
بالتأكيد لم يكن حال الفاطميين مرضياً حين عصفت المحنة بالعالم الإسلامي ووصل الصليبيون إلى بلاد الشام ومصر، والأسوأ أن عدداً من زعماء الدولة الفاطمية تعاون مع الصليبيين في غزو بلاده، وهو موقف محزن وأليم، ولكنه كان أيضاً حال أمراء كثير في الشام والأناضول، تغلبت مصالحهم الشخصية على مصالح أمتهم فتعاونوا مع الفرنجة على حساب أمتهم، وهو ما دفع صلاح الدين الأيوبي إلى انتهاج مسلك متشدد ضد الفاطميين على الرغم من أن صلاح الدين بعد فتحه مصر لم يمارس أي إساءة مباشرة إلى الخليفة الفاطمي العاضد الذي ظل في بلاطه إلى أن توفاه الأجل، ولم يشأ صلاح الدين أن ينقل السيادة من دارة الفاطميين ولم يقطع عنهم خطبة الخلافة إلى أن توفي العاضد.
عند جبل الشيخ ينزرع رجال أشداء، تعلو قسمات وجوههم قسوة الجبال الشامخة، وهم يرون في الدولة الفاطمية تراثاً شريفاً من عطاء أهل البيت، يصل كفاحهم بفاطمة بنت محمد عليها سلام الله، ولكن عدداً غير قليل من مدرسي التاريخ يرددون بدون وعي فتاوى ابن تيمية في تكفير الناس، ولعن قرون بحالها من تاريخ الإسلام ويصبون جام غضبهم على الدولة الفاطمية وعلى عدد من حركات التحرر التي شهدها العصر العباسي والتي لم ترق للمستبد البويهي أو السلجوقي فتم تصنيفها على أنها حركات ردة.
إن احترام الخلافة الراشدة بخلفائها الأربعة ليس مجرد مسؤولية تاريخية فحسب بل هو أيضاً مسؤولية وطنية، تتصل بكرامة ملايين المواطنين، والإساءة إلى أبي بكر أو عمر لا يمكن تبريرها على أساس أنها مجرد رأي في حدث تاريخي مر قبل أربعة عشر قرناً، إنها في العمق إساءة للشعور الوطني الذي يتخذ من أيام الراشدين صفحة إلهام ونور تشرق من الماضي وتضيء للمستقبل.
إنها دعوة لمراجعة التاريخ، والحذر من حمى الكيد السياسي في تشويه الماضي وتفتيت الحاضر، دعوة لتطبيق نص الكتاب العزيز في التعاطي مع كل حكمة: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ودعوة لإعمال القاعدة القرآنية الكريمة: نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم.