إن هذا المقال غير معني بالتحليل السياسي وإن من حق القارئ الكريم أن يتابع معنا السبب الحقيقي لولادة موت كهذا في الأرض التي عاشت فيها رموز الحب والجمال, وظلت مقصداً للفن والفرح والحياة.
من هو المسؤول عن ولادة التطرف في الشرق الأوسط? ومن الذي يجعل رجالاً كهؤلاء يقودون مراكب الموت ويتحدثون عن سبيل الله?
أما السياسة الأمريكية فقد قامت مباشرة بكل ما يوفر ولادة هذا اللون من الموت, ولا زال العالم يتذكر صور الرئيس ريغان المباشرة مع بن لادن وحكمتيار وعبد رب الرسول سياف وشاه مسعود في بداية الحرب الأفغانية, حيث أعلنت أمريكا جهاراً عن مائتي مليون دولار لدعم هذه الحركات وتغذيتها, وقد سخر ضياء الحق يومها من هذا المبلغ وطالب بمضاعفته مرات كثيرة وهذا ما حصل بالفعل, وبعد عودة الأفغان العرب وتحولهم إلى مشكلة جديدة للدول الصديقة لأمريكا كانت العراق هي الملجأ الجديد لهذا اللون من الناس, وحين قامت أمريكا بحل الجيش العراقي كانت تلقي في السوق السوداء أربعين مليون قطعة سلاح داشرة, وتدفع إلى المجهول نحو مليون ومائتي ألف محارب عراقي شرس وجدوا أنفسهم بدون عمل ولا أمل, وبالتالي افتتح في العراق سوق الموت الأكبر في العالم, وحضر إلى العراق رجال الموت من كل وجه في أطراف الأرض وهم الآن مستعدون لإحراق الشرق الأوسط بأسره, ولا أشك أبداً أن لو كان الواقع الأمني في سورية يعاني من الشتات الذي يعاني منه الواقع السياسي في لبنان لكانت فرصة رجال الموت هنا أكبر, ولكن باختصار: سورية الله حاميها.
وبعيداً عن التحليل السياسي فإن المطلوب أن نتساءل كيف تم إقناع ثلاثمائة شاب في نهر البارد بأن يتزنروا بحزام الموت وينطلقوا في حملة موت أسود ضد العباد والبلاد في لبنان, وأن يتترسوا بما أمكن من نساء وأطفال وهم يصيحون الله أكبر, ومن أين جاءت الأدلة الشرعية التي تم بها إقناعهم أن قتل الناس هو جهاد في سبيل الله???
الكلام عن أنهم مرتزقة يبتغون المال أو ينفذون التوجيهات لا يقنع أحداً فمن المؤكد أنهم يقتحمون الموت وهم يعلمون ما يصنعون, ولكن من الذي غرس في نفوسهم أن الأمة كافرة يجب قتالها حتى تستجيب لبيعة أمير الحرب الذي يأخذ البيعة من الناس على قتال العالمين من أجل الحكم بما أنزل الله?
جاهلية القرن العشرين اسم لكتاب ألفه الشيخ محمد قطب , وهو نموذج من كتب التكفير التي تروج في المجتمعات العربية, وقد كتبت يد خبيرة محترفة, مزينة بأساليب البلاغة والبيان, وحين كنا نقرؤها صغاراً على أنها من الفكر الإسلامي الجديد لم يكن من السهولة أن تدرك الأثر المدمر لثقافة كهذه تستخدم أدلة الشرع من أجل تكفير المجتمع.
والكفار هنا لا يتم تعريفهم على أنهم من مارس الحرب والعداوة ضد الأمة بل يتم تعريفهم على أساس أنهم من اختار لنفسه اعتقاداً غير ما كان عليه سواد الأمة, ويدخل في هذا الأمر مباشرة سائر سكان الكوكب الأرضي من غير المسلمين وهم يزيد تعدادهم كما هو معلوم عن ثمانين بالمائة من سكان الكوكب , ويتعين على المسلم أن يحاربهم بلا تردد لأنهم رفضوا الدين الحق.
ولكن العشرين الباقية التي تشكل نسبة المسلمين في الأرض ليست ناجية على منطق صاحب جاهلية القرن العشرين فهو يعتبر أن الإسلام وصف يشترط لمن يحمله أن يلتزم بيعة الإمام العادل الذي انعقدت بيعته على شرط الجهاد والحاكمية لله, وما أسهل هنا أن تكون سائر المجتمعات الإسلامية فاقدة لهذا الشرط الأمر الذي يجعلها ببساطة خارج دائرة الإسلام.
وحتى لا أتهم بالانفراد في تقرير مذهب قطب, أستأنس بما قرره الشيخ يوسف القرضاوي بعد دراسة علمية لأعمال سيد قطب حيث قال: وفق تعريف كتاب معالم على الطريق فإنه يدخل في تعريف المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا!!
لا يتوقف سيد قطب في معالم على الطريق ومحمد قطب في جاهلية القرن العشرين عند حدود تكفير العالم بل إن مشرط التكفير يمتد ليتصل أيضاً بأعناق أبناء المسلمين من مصلين وصائمين وحجاج وناسكين, وأخيرا يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها (مسلمة)!
وهنا يقول: ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية -على هذا النحو- قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض, وأن (وجود) الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك! وحتى لا يترك للقارئ أدنى مساحة للالتباس فإنه يصرح بوضوح: وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم -على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام- لا نرى لهذا الدين (وجودا).. إن هذا الدين قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر; وذلك يوم أن تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة.
ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة, وأن نجهر بها, وألا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا (مسلمين)..
الإسلام إذن غير موجود اليوم على الأرض, والمسلمون غير موجودين, وإن كان الكثيرون منهم يحبون أن يكونوا مسلمين, ولكن يجب أن نصارحهم بالحقيقة المرة -وإن كانت مؤلمة- أنهم ليسوا مسلمين, هم إذن كفار ومشركون, ويجب أن يدخلوا في الإسلام من جديد, على أساس جديد!!
وهكذا فإن الدراسة تنتهي إلى إنكار وجود مسلمين في العالم, وتعترف فقط بوجود أشخاص يحبون أن يكونوا مسلمين وهم السواد الأعظم من الناس!!
ومع ذلك فالمعالم والجاهلية ليسا إلا كتابين في سلسلة من كتب التكفير التي انتشرت في العالم الإسلامي وظهرت عليها مئات الشروح والتعليقات وكلها في خدمة الفكر التكفيري.
إن ثقافة الموت والتكفير ليست شيئاً يصنعه الغرب الكافر بقدر ما هو ثقافة لا تزال تنتشر في المجتمع العربي كالنار في الهشيم خاصة حين تعلم أن كتاباً مثل جاهلية القرن العشرين قد طبع في السنوات الثلاثين الماضية أكثر من مائة طبعة وأن كتاب معالم على الطريق قد طبع أكثر من مائة وخمسين طبعة وأن نسخه لا تزال إلى اليوم مرجعاً يقرؤه حتى بعض أبنائنا بدافع من الحماس لعودة الإسلام من جديد.
إن مسؤولية تقديم الإسلام رسالة حب ومصالحة للخلق لا تنتهي عند حدود الإعلان الخطابي عن عظمة الإسلام بل تقتضي الاستنفار ضد فكر التطرف والإقصاء, والمواجهة المباشرة بين علماء الشريعة وبين من يخططون لتكفير المجتمع وجاهلية القرن العشرين, وأن مجاملة الخطاب المتطرف ستؤدي إلى خلق كارثة مدمرة ككارثة فتح الإسلام كل يوم.