لماذا نتحدث عن المعراج في زاوية يفترض أنها مخصصة للتنوير الإسلامي، وتتبنى الحديث عن كفاح النبي الكريم في إرساء السنن ورفض الخوارق، وإنهاء عصر المعجزات وبداية عصر العقل.
من المؤكد أن الخلاف حول طبيعة الإسراء والمعراج لم ينته خلال التاريخ، وأن الخلاف حول وقوعها بالروح والجسد أم الروح وحده لم يتوقف أبداً ولم يكن هذا الجدل يثور بين المؤمنين والدهريين، أو بين العلمانيين والفقهاء، بل كان مثار جدل داخل الأسرة الفقهية، وكان الفقهاء والصحابة أنفسهم يثيرون هذا الجدل باستمرار، واشتهر عن عائشة ومعاوية والحسن القول بأن الإسراء والمعراج كان رؤيا رآها النبي الكريم، وبعيداً عن ترجيح الأقوال وموازنة الأدلة فإن ما أود التذكير به أن هذا الخلاف كان يبدأ وينتهي في إطار الرأي والرأي الآخر ولم يكن (كحالنا الآن) يقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين، أو ملحدين وموحدين، وكانت الأمة الإسلامية تتسع للمؤمن بالمعراج والمنكر له، والمؤمن بالإسراء والمنكر له، من غير أن ينتهي الجدل بتقسيم الناس إلى أهل الزيغ وأهل اليقين.
بل إن البخاري نفسه وهو أوثق الرواة والمحدثين يروي خبر المعراج على لسان الرسول الكريم ثم يقول : فاستيقظت فإذا أنا بالبيت الحرام، ويجزم الشراح للصحيح أن المعراج هنا هو رؤيا رآها النبي الكريم قبل بدء الوحي.
أما أمير الشعراء فقد حسم الأمر وتحدث ببيتين من شعره:
يتساءلون وأنت أطهر مرسل بالروح أم بالهيكل الإسـراء
بهما سموت مطهرين كلاهما نـور وروحـانيـة وبهـاءٌ
كتبت مراراً عن رحلة الإسراء والمعراج، وكنت دوماً أركز على نقطة بالغة الأهمية في المعراج وهي الحوار مع الله، حيث كان النبي الكريم يراجع ربه في أمر الصلاة، ويسأله التخفيف حتى حط الله عنه من الصلوات ما شاء، وخففها من خمسين صلاة في اليوم والليلة إلى خمس صلوات في اليوم والليلة.
هذا اللون من الحوار لا يعجب بعض أصدقائنا، وقد ذهب بعضهم إلى رد الحديث بالكلية بوصفه يتضمن جدلاً غير مبرر مع الله، وتعارضاً مع ظاهر الآية : قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات والأرض، ولكن ما أميل إليه هو أن الحديث صحيح، سواء كان برؤيا منام أو بمعجزة صحيحة، وأن هذا الحوار في شأن تخفيف الصلاة مفيد وضروري، وهو يدعو إلى بعث حرية الرأي والحوار حتى مع الله سبحانه، وهو يكشف أيضاً عن قيمة الرأي والمشورة، ويكشف عن رغبة الإسلام في بناء حياة كريمة ورفض الرهبنة والانطواء والعزلة، وبناء المجتمع على أساس من الجد والعمل والتوازن في الحياة.
وبعيداً عن جدل الرواية فإنه ليس في تاريخ الإسلام يوم كان فيه الرسول الكريم أقرب إلى ربه من يوم المعراج والإسراء، حيث قدمت الآيات صورة النبي الكريم وهو يسري من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ولكن اللافت هنا أن الآية تصفه بأنه عبد لله، سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعلى الرغم من جلال المشهد وهول ما فيه من ركوب السماء واختراق الحجب، ولكن الرسول لم يذكر هنا بأي من ألقاب الملك أو السلطان أو السيادة وإنما ذكر بوصف العبودية لله، وقد كان السياق أن يقال أسرى بنيه أو برسوله أو بحبيبه أو بمصطفاه، ولكن الآيات أشارت إلى أنه عبده، محض عبد لله.
وفي سورة النجم تشير الآيات إلى أن النبي الكريم رقى في السموات وأنه رأى من آيات ربه الكبرى وأنه دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وهو قرب لا يبتغى قرب أرقى منه أو أدنى إليه، فهو هنا عن يمين الرحمن، على بساط الحق عند ساق العرش، حيث لا يتصور أن يكون هناك مقام أعلى ولا أرقى، وهنا يجيء الخطاب القرآني بصيغة فأوحى إلى عبده ما أوحى!!
كان المفترض بالسياق أن يقال فأوحى إلى ضيفه ما أوحى، أو إلى رسوله أو نبيه أو مختاره أو وليه أو صفيه أو حبيبه، وكان من الوارد أن تستخدم تلك الألقاب التي نستعملها اليوم: نور عرش الله، أو أول خلق الله، أو صاحب الشفاعة أو الألقاب التي نهديها بدون وعي لعباد أمثالنا: قطب الغوث، مدرك الكون، صاحب الأفلاك، إمام الملائكة، خاتمة المحققين، ولكن القرآن هنا يختار لفظ عبده، فما هو سر العبودية بالذات في هذين المقامين؟
إن القرآن الكريم أثنى على النبي الكريم في مواضع كثيرة بعاطر الثناء فسماه بشيراً ونذيراً وشاهداً وسراحاً منيراً، ولكنه هنا يبخل بهذه الألقاب جميعاً ويختار له لقب العبد رغم أنه في تلك اللحظة الضيف الأعلى عند الله!!!
إن القصد الإلهي من ذلك واضح وصريح وهو رفع أي شبهة للخلط بين العبد والرب، بين الإنسان وبين الله، ولما كان المعراج والإسراء يتضمنان إشارات هائلة لمنزلة غير عادية للنبي الكريم، فإن الله تعالى أراد أن تكون المسألة هنا بعيدة عن أي التباس، وأن يتأكد الجانب البشري في شخص الرسول والهدف بالطبع هو التأكيد على أن عصر الآلهة قد ولى، وأن هذا الرسول بشر جاء برسالة من الله وأنه لا يريد لنفسه منازل الآلهة التي عرفتها الأمم الأولى وهو محض عبد لله تعالى.
الأمر نفسه يشير إليه القرآن في قصة السيد المسيح حين حملت مريم العذراء من غير زوج، وأتت به قومها تحمله، وأجاءها المخاض إلى جذع النخلة وقالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً.
كل شيء يبدو مدهشاً في هذه الحكاية القرآنية الفريدة، مجيء إنسان بدون أب!! أن تحمل امرأة بدون زوج!! وبعد قليل ستأتي معجزة ليست أقل منهما إغراباً فالطفل الذي يلتف في المهد سيتكلم!! وسينطق بلسان عربي مبين، وهو حدث سيغير وجه العالم شئنا أم أبينا، وسيبدأ العالم كله التوقيت والتاريخ بدءاً من هذه اللحظة التي سيتكلم بها الغلام، وسيصبح تاريخ البشرية كله على قسمين: قبل الميلاد وبعد الميلاد!!
كل شيء هنا مثير للدهشة والهول، ومن حق هذا الفتى الناطق في المهد أن ينادى بأشرف الألقاب والأسماء كرسول وقائد ونبي وإمام ومخلص وموعود ومنتظر وشافع ومشفع، ولكن القرآن يذكره في هذه اللحظة التاريخية بأنه عبد لله، وتأتي الآية في سياق دقيق، وقبل أن يتحدث عن براءة أمه من الفحشاء التي يتهمونها بها تحدث عن وحدانية ربه: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً.!!
السؤال هنا مشروع لماذا كان الإصرار هنا على وصف النبيين الكريمين برتبة العبادة لله؟ الهدف واضح هو رفع أي سبيل للاشتباه بتداخل الإلهي والبشري والتأكيد على عبودية الرجلين لله، والمساواة بين أبناء آدم على الأرض.
الحديث عن عبودية الرجلين في لحظة المجد الأعلى أكثر من ضروري، ولو كانت الأمة تدرك ذلك لواجهت بضراوة رغبات المستبدين في عبادة الفرد، ولألهمت الشعب أن يقاوم طبائع الاستبداد وأن يرسم بيده مصارع الاستعباد.
لقد كانوا أنبياء كبار يرسمون لوحة التاريخ ويكتبون مجد الدنيا، ولكنهم لم يكن يسمح لهم أبداً أن يكونوا أكثر من بشر في قافلة الإنسانية، يجوعون فيحمدون الله ويشبعون فيشكرون الله، ليس لهم دم أزرق ولا امتيازات صفراء، يمشون في الناس ولا يمشون فوق الناس، ويأكلون في الأسواق ولا يأكلون الأسواق، يصيبون ويخطئون، ويعلمون ويجهلون، ولكنهم يكافحون من أجل خير البشرية وخير الإنسان.
إني والله لا أحلف على يمين ثم أجد غيرها خيراً منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.
قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.