هل تتجه أوروبا إلى الإسلام? إذا كان المقصود إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فبالتأكيد فإن الجواب لافي الوقت الحاضر على الأقل, ولكن إذا كان المقصود بالإسلام هو قيم العدالة والوحدة والمساواة والعمل الصالح فإن الجواب نعم.
هذه القيم في الواقع يمكن قراءتها في بيئتها المخبرية من خلال تجربة الاتحاد الأوروبي, وهو ما وقفت عنده طويلاً في زيارتي الأخيرة لعاصمتي الاتحاد الأوروبي بروكسل وستراسبورغ, ومع أن زيارتي كانت ذات هدف سياسي يتصل بتوقيع اتفاقية الشراكة مع الأوروبيين, وهو ما يقتضي أن نمضي الوقت في التدقيق في كل أطراف الحوار التي نتحدث بها, وأن نتأكد من الترجمة الرسمية لكل كلمة تقال, ولكن أتحداك أن تتغلب على غريزة التأمل في مغزى النجاح الأوروبي الوحدوي والإخفاق المتتالي للتجارب الوحدوية بين البلاد العربية والإسلامية على السواء!!.
بروكسل العاصمة الخجولة الهادئة والتي عانت طويلاً من بطش الاحتلال النازي الجبار في ايام جنونه وبطشه لم تكن تحلم لا هي ولا ملكها ألبير الثاني أن تصبح عاصمة للاتحاد الأوروبي, أوضح تجارب الوحدة السلمية وأنجحها في العالم, وفي الوقت نفسه عاصمة لحلف الناتو الذي يحشر جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون!!
حين تجتاز القنطرة الجبارة الواصلة بين المبنى القديم للبرلمان الأوروبي والمبنى الجديد, فإنك تشعر كما لو كنت في قطار أينشتاين العابر لسرعة الضوء, والمصر على نقلك من عالم الكتلة إلى عالم الطاقة, أو بالتعبير المشائي الفلسفي من الفيزيق إلى الميتافيزيق, وكأن المهندس الأوروبي أراد أن يذكر الناس بالمآسي التي عاشها الأوروبيون في الحروب الدينية والقومية التي أحرقت أوروبا عدة قرون, وكان يمكن أن تستمر قروناً كثيرة أخرى لولا أن أوروبا توقفت عند لحظة من العقل, وهناك كان عليها أن تختار بين أفق الخير وافق الشر, وبالتالي بين أفق الإيمان بالله والإنسان وبين الكفر بالقيم الروحية وتمجيد البطش والغلبة, بين الله الرحمن الرحيم وبين إله القوة والبطش التلمودي, ولكنها على الأقل في سياستها البينية اختارت الحياة ومضت في دربها.
أكثر ما يدهشك في القاعة الهائلة للبرلمان الأوروبي هو غرف الترجمة, فهناك اثنتان وعشرون غرفة ترجمة, وهو عدد اللغات الرسمية التي يتحدث بها النواب الأوروبيون, وببساطة ستدرك أن اللغة الأوروبية متشظية في أكثر من عشرين شكلاً متنافراً ولكن ذلك كله لن يكون مشكلة إذا تحققت إرادة التوحد والبناء, وأدرك الإنسان حاجته لأخيه الإنسان ومصلحته المشتركة في التعاون والوحدة, وأن الخلق كلهم عيال الله, وأن أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله, وأقام إرادة الوحدة على أساس من المساواة والمنفعة المتبادلة, فلماذا نعجز اليوم ونحن ننتمي إلى الأمة الواحدة عبر التاريخ ولغتنا واحدة وربنا واحد وقبلتنا واحدة وقرآننا واحد أن نقيم شكلاً حقيقياً من الوحدة?
بالطبع لم يكن لأوروبا أن تنجز تسامحها اللغوي لو لم تنجز من قبل تسامحها الديني والسياسي وتتعامل مع التعددية على أساس من الرغبة في إثراء الحياة دينياً وسياسياً ولغوياً أيضاً, والإقرار بأنه لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين, والموافقة على اعتبار ذلك الاختلاف كله لوناً من الإبداع يستحق الإشادة والثناء وليس الريبة والتشكيك.
حين قامت ألمانيا بكفاحها النازي الساحق كان هتلر يتحدث بالمجد الألماني التليد ويذكر عساكره الشجعان بأمجاد ألمانيا في التاريخ, ومراراً مضى يعدد لهم العوائل النبيلة التي تملك بريطانيا وبلجيكا والاسكندنافيا وهي عوائل ألمانية كانت تشرب من الراين العظيم, إذن أليس من حق ألمانيا ان تحكم أوروبا? لقد قدم على إن مجد العرق النازي الأزرق ألف دليل ودليل, كان يصرخ فيهم ببأس شديد ويرتل عليهم آيات زارا من رواية فيلسوف القوة والبطش فريدريك نيتشه كما قدمه فيخته فيلسوف نزعة الاستعلاء الالمانية, صارخاً في مسمع الألمان هبوا أيها الأبطال, أبناء الدم الأزرق المتعالي, إن آباءكم دفعوا ثمناً غالياً لأجل أن تنعموا أنتم بالمجد والشموخ, لا مكان في الأرض للضعفاء, سنقدم مواكب الشجعان للموت حتى تنتصر الإرادة الألمانية الإلهية المجيدة ويدرك العالم أن الرب يريد من أوروبا أن تسجد في خشوع للرايخ للجبار الذي ارتوى بالمجد من الراين العظيم.
هنا لا أعتقد أنه تنقصنا الخبرات الخطابية الألمانية ولكن ما نحتاجه هو أن نقرا نهاية الحكاية في نورمبورغ!!
كان الفوهرر مسكوناً حتى الثمالة بعشق المجد الألماني التليد, وكان يجرم النطق بغير الألمانية, ولا شك أنه ستصيبه الجلطة لو رأى اليوم أن اللغة الألمانية هي مجرد لغة زميلة مع أخواتها اللغات, وأنها تتساوى في الاحترام مع المالطية والبلجيكية, وأنها ليست في الحقيقة لغة الله ولا لغة السماء ولا لغة التاريخ!! إنها محض لغة بين اللغات,
وأنه لم يكن على صواب حين غضب من شكوك المثقفين في المجد الجرماني المقدس, وهو الذي ألقى إلى المحرقة كثيراً من الألمان الذين سمحوا لأنفسهم باعتقاد المساواة مع العالم, وشككوا في تفوق العرق الألماني الجبار, وكان يرى فيهم عفناً بائساً يسيء للنهضة الألمانية الجبارة, وكان يردد دائماً في الألمان أن الخيانة ليست وجهة نظر!!
فهل كان الفوهرر صائباً حين زج بأوروبا في محرقة الحرب الكونية وهو يحسب أنه يحسن صنعاً?
الجواب في ذمة التاريخ ولكن ما يعنينا هنا هو هل يمكن أن نتعلم من الدرس الأوروبي? وهل ندرك نحن المسلمين اليوم في غمار اختلافنا الذي لا ينتهي أن إرادة الوحدة لم تولد في ضمائرنا بعد وإن كنا قد كتبنا عنها المجلدات وسودنا فيها الصحائف المطولة, ونظمنا في هديها القصائد العصماء!!
ما هو السحر الذي وضعه فلاسفة ماستريخت على الوجع الأوروبي الممتد قروناً حتى برئ? وكيف يمكن أن نستورد منه اليوم للمأساة العراقية وللإخفاق العربي منذ أكثر من أربعين عاماً في إنجاز أي شكل من أشكال الوحدة ناهيك عن العالم الإسلامي, وهل هناك سحر ما في نهر الراين العظيم يشرب منه المتحاربون حتى يستبدلوا الحب بالحرب, وينجزوا رسالة الإخاء بعد أن أعمتهم ريح الكراهية?.
بالتأكيد أنا لا أتكلم هنا عن الحب بالمعنى الرومانسي فلست من السذاجة بحيث أتصور أن النعيم الأوروبي هو فورة من المشاعر الصادقة الدافئة, فأنا مسكون بسحر الشرق ولا زلت اعتقد كما يعتقد كثير من فلاسفة أوروبا بأن الروح ماتت هناك منذ زمن طويل وان الحب هرطقة عصفت بها طرطقة الصناعات الفولاذية الثقيلة التي تنتج للعالم بشكل متسارع السيارات القوية المصفحة ذات الدفع الرباعي, والتي لا مكان فيها للرومانس وأوهامه.
ولكن ما نتكلم عنه هنا هو المصالح الأوروبية, نعم ثقافة المصالح التي استيقظت في لحظة عقل وتمكنت من تحقيق اقتسام عادل للسلطة والثروة, وآمنت بحق الإنسان في الحياة والعدل, وحققت التكافل الاجتماعي لشعوبها, ووفرت الضمان الصحي, ووضعت ألف قيد على تحرك الجيوش إلى بلاد الآخرين, ودفعت بالجيش في البناء والتنمية, وجعلت الناس من مختلف أنحاء العالم يتوسلون إلى السيد الأوروبي, وبعد أن كان الشهداء يتزاحمون لقتال المحتل الأوروبي ويدفعون حياتهم بكل بسالة من أجل إبعاده وطرده, فهؤلاء أبناء الشهداء أنفسهم يتنافسون اليوم على السفارات الأوروبية لتحصيل فيزا دخول وإقامة تسمح لهم بالتمتع بالنعيم الأوروبي!!
ما الذي تغير? وفق جودت سعيد فإن الذي تغير هو ظرف المكان, فحين قال الفوهرر: ألمانيا فوق الجميع أحرق العالم!! لأن أحداً لا يريد ولا يرضى أن يكون تحت, وحين قال الألمان الجدد ألمانيا مثل الجميع!! توحدت أوروبا وأنتجت أقوى مثال للتعاون الحقيقي بين الأمم على أساس المساواة والعدالة والكلمة السواء.
إنها بوجه ما إحدى وجوه فهم النص القرآني الكريم: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم (التساوي في الحقوق والواجبات) أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله (انتهاء الديكتاتوريات والدم الجرماني المقدس).
أليست هي الحقيقة التي قرأها إقبال قبل أكثر من سبعين عاماً عندما قال:
أمة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى
أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا
هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للورى
كل شعب قام يبني نهضة وأرى بنيانكم منقسماً
في قديم الدهر كنتم أمة لهف نفسي كيف صرتم أمماً