عادة ما نقرأ تاريخ الأنبياء على هيئة وعاظ صارمين، لديهم جملة أوامر جافة معنية بعالم الغيب، يطلون على أقوامهم من عل فيأمرونهم بالصلاة والصيام والحج ثم تكون النتيجة أن القوم يعرضون عن الأوامر العلوية، وتكون النتيجة سلسلة من العذاب والغضب، فمنهم من أخذته الصيحة ومنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا، وتغيب في غمار ذلك صورة الرسالة الكبيرة التي ينبغي أن يحملها الأنبياء بوصفهم قادة الكفاح الإنساني من أجل إعمار الأرض وإسعاد الإنسان.
حين وصل إلى المدينة لم ينظر إليها على أنها قاعة انتظار يحشد فيها ما يمكن من حقد المظلوم لينتصف بها بعد من ظلم الظالم، ويوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم، لقد كانت يثرب هي الأرض التي يتطلع إليها الرسول الكريم وأصحابه لبناء العالم الجديد، ولكنهم في الواقع ما إن وصلوا إليها حتى أصابهم بلاؤها واجتوتهم الحمى في يثرب، قالت عائشة: قدمنا المدينة وهي أوبأ أرض خلقها الله ، وكان بطحان يجري نجلاً، يعنى ماء آجنا أي متغيراً، تعني بذلك أودية المدينة الثلاثة العقيق وبطحان وقناة.
وجعل الصحابة يتساقطون واحداً بعد الآخر في أجواء حمى يثرب، وكانت يهود قد اعتادت أن تلقي الآخام في وادي بطحان وهو يقع في مهب رياح الصبا، وهكذا فقد كانت الأوبئة تقع مباشرة في مهب أنوفهم، ولم يتمكن المهاجرون من التأقلم مع هذا الواقع الجديد فأصابتهم الحمى، وحفظت لنا الذاكرة آهات حسرى على ألسنة الصحابة تشرح ما كابدوه من حمى المدينة، وعلى لسان أبي بكر:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
أما بلال فقد عبر عن حزنه وبؤسه بقوله:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
أما عامر بن فهيرة فكان يقول
لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه
كل امرئ مجاهد بطوقه كالثور يحمي جلده بروقه
كانت آهاتهم هذه ترسم صورة ما كابدوه في الواقع البيئي الفاسد الذي تسبب فيه يهود المدينة عن عمد في إفساد هوائها وتلويث أجوائها وازداد ذلك مع كيدهم للمهاجرين ورغبتهم بإخراجهم من المدينة، وقد اشتدت تلك المحاولات كما ذكر المؤرخون فكان جار يهودي للنبي الكريم يتولى إلقاء هذه الأقذار على باب النبي الكريم نفسه!!
وكانت هذه الأجواء القاسية توقظ في نفوس الصحابة مشاعر الحنين إلى أرض مكة التي فارقوها على الرغم من قسوة الطبيعة وشظف العيش وفقد الأمن فيها:
بلاد ألفناها على كل حالة وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتستعذب الأرض التي لا هوا بها ولا ماؤها حلو ولكنها وطن
وكان حنينهم لمكة يأكل منهم أوبار الإبل، ويسكب مدامعهم ، ويبعث قرائحهم
وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الرجال هنالـك
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
ومع أن رسالة النبي الكريم كانت تتجه إلى تصحيح علاقة الأرض بالسماء ودعوة الناس لعبادة الخالق وتطهير الأرض من الجبت والطاغوت، ولكنه أيضاً كان يحمل على كتفيه هم إصلاح البيئة التي كان يعيش فيها قومه، ولم يكتف هنا بأن رفع يديه إلى السماء ليقول اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة وانقل وباءها إلى الجحفة!! بل أطلق مشروعاً شعبياً للإصلاح البيئي، وبدأ يقوم بنفسه وأصحابه بتطوير مجرى بطحان والعقيق، وانطلق أصحابه في وعي بيئي فريد لتطهير الأرض من ذلك الوباء، وحرق ما كان فيه من سبب الوباء، وتحويل مكب النفايات في المدينة باتجاه الجحفة حيث رياح الدبور التي لم تكن لتهب على المدينة، وأعاد بذلك العافية إلى ريح الصبا التي كانت تهب على المدينة من صوب بطحان والعقيق.
وبموازاة ذلك أطلق النبي الكريم مشروعاً زراعيا طموحاً عهد به إلى عدد من أصحابه الخبراء وأمر عليهم طلحة بن عبيد الله ، وأنجز طلحة حفر أربعة وخمسين بئراً جديدة في المدينة، وتمكن بدراسة بيئية دقيقة من إنشاء عدد من المصانع والجوابي لتخزين الماء ثم نظم مسيله في قنوات مدروسة، ورويت أرض المدينة لأول مرة بالقنوات بعد أن كانت تروى بالناضح من قبل، وأنجز على أرض المدينة خلال أعوام قليلة مضاعفة الرقعة الخضراء وزيادة المحصول الزراعي في النخيل، وكان النبي الكريم يباشر بنفسه تطور الحركة الزراعية وربما كانت القصة المشهورة حول تأبير النخل إحدى مظاهر مشاركته الدؤوبة لتطوير النشاط الزراعي والبيئي في المدينة.
على أن رعايته للبيئة تجلت في جانب آخر أشد دلالة وأقرب للمقصود حين أعلن عن مكة المكرمة أرضاً حراماً، والأرض الحرام هي في الواقع محمية بيئية حقيقية إذ يحرم فيها القتل والقتال، كما يحرم فيها الصيد واستفزاز الحيوان، ويحرم فيها قلع الشجر وقطع السدر، وهذه الشروط هي في الواقع إرهاصات مبكرة واضحة لنظام المحميات الطبيعي الذي لا بد منه لفهم حاجة الإنسان والمجتمع.
وعادة ما تغلب النظرة الميتافيزيقية حول الأرض الحرام فلا يفهم منها الناس إلا الأرض المقدسة، ولكن الواقع ليس كذلك فقد حرم النبي مكة أولاً ثم حرم المدينة تالياً، ثم أعلن عن وادي وج في الطائف أرضاً حراماً، وقال صيد (وج) وعضاهه حرم محرم لله، ووج هو وادي الطائف، وقيل بل الطائف نفسها، والعضاه هي الشجر.
وكان كتاب رسول الله الذي كتبه لأهل الطائف: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين : إن شجر وج (الطائف) وصيده لا يعضد، أي لا يقطع، ومن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه فإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ فيبلغ به إلى النبي محمد وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله.
والواقع أنه ليس في المسألة أسرار، والأمر لا يرتبط مطلقاً ببيت معمور في السماء على حذاء وادي الطائف، ولا بأطيط سماء وج من طول ما يجأر فيه الساجدون وتسبح الملائكة، بل المسألة في غاية البساطة، فالمطلوب هو حماية أرض الطائف من الاعتداء البيئي، وحماية الدورة البيئية في هذا الوادي الغني نباتياً وحيوانيا من العبث والصيد الذي يخل بدورة الأرض.
إن القرآن الكريم قدم قراءة ذات دلالة حين يقول: ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وفي آية أخرى ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
إنه هنا يشير إلى الأرض بغض النظر عن سكانها من مؤمنين أو ملحدين، فالإحسان إلى الأرض واجب المؤمن، أما هداية الخلق فهو شأن الله سبحانه، ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعأً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين.
وفي إشارة واضحة إلى الفساد البيئي المدمر الذي تمارسه اليوم القوى العسكرية الكبرى في العالم، حاء ت الآية الكريمة كالنص على الشر النووي الذي يهدد العالم: وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.
لا أشك أبداً أن لو كان رسول الله بيننا اليوم لكان قد أعلن في كل يوم محمية طبيعية جديدة، وأنا أجزم أنه كان ماضياً لجعل كل مناطق الازدهار الحيواني والبيئي مناطق محمية، أو أرضاً حراماً، وهذا بالضبط ما حققه في الحواضر الثلاثة الرئيسية في أرض الحجاز، مكة والمدينة والطائف.
أشعر بالحرج وأنا أتحدث عن البيئة في الإسلام وأنا أشاهد مدينتي المحبوبة دمشق تنسحق تحت فؤوس العشوائية والفوضى العمرانية حيت تم اغتيال الغوطة وحلقت سحابة سوداء فوق رؤوس أهل دمشق نتيجة الاستخدام السوء لمفرزات الحضارة، وعدم وجود برنامج بيئي واضح يحمي العباد والبلاد.
لقد أنجز النبي الكريم من وجهة نظري خلال عشر سنوات من الحكم الرشيد مسجداً واحداً وثلاث محميات طبيعية، واليوم بعد مرور أربعة عشر قرناً فإن السياق الطبيعي أن نشاهد في العالم اليوم من المحميات الطبيعية ثلاثة أضعاف المساجد في الأرض، ولكن الحقيقة أن المآذن ارتفعت في كل مكان في الأرض، وتركت الطبيعة ليفترسها جشع العمران وبطش الباطون، ولدينا اليوم مئات آلاف المساجد ولكن ليس لدينا إلا محميات بيئية متواضعة تتم حمايتها على استحياء ويتم افتراسها بشراسة وبطش، وها نحن أصحاب المنابر نعجز عن تحويل إرادتنا البيئية إلى مشاريع حياة وعطاء مع أن خطبنا لا تزالطافحة بالغضب والصخب وممارسة الوعد والوعيد.
تماماً كما قال إقبال:
منائركم علت في كل حي ومسجدكم من العباد خالي
وجلجلة الأذان بكل أرض ولكن أين صوت من بلال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي؟