مقالات

د.محمد حبش- رسالة مكة…الكفاح الفلسطيني أمام الله والتاريخ…قراءة في فقه عام الجماعة9/2/2007

أما اصطلاح عام الجماعة فهي التسمية التي اختارها المسلمون للصلح الذي وقع بين علي ومعاوية في يوم السادس والعشرين من ربيع الآخر عام واحد وأربعين للهجرة، وربما كانت ثقافة ذلك الصلح هي أولى ما نقدمه للمجتمعين اليوم في رحاب البيت الحرام من قادة الكفاح الفلسطيني الذين يبحثون عن أفق يتلاقون فيه بعد حمامات الدم التي عصفت بأرض الرباط في بيت المقدس، وأحالت وحدة الدم الفلسطيني إلى حكاية تائهة يلهو بها الإسرائيلي في زحمة الفضائح الأخلاقية التي يعاني منها الكيان الصهيوني التعيس.
إنها ساعة فاصلة يتنادى فيها الفلسطينيون إلى ساحة الحوار على إرث من الدم والغضب، وصيحات الثأر، التي تكللها آهات النساء الثكالى، في أرض المحشر والمنشر، على أساس الوهم الجاهلي أن روح المقتول تظل في ظلام حبيسة عطشى حتى ترتوي بالثأر من دم القاتل أو عشرة من أهله!!.
اليوم سيدعى الكفاح الفلسطيني إلى اختبار جديد، فلغة الديمقراطية البائسة التي يتاجر بها العالم المستبد، جاءت هذه المرة على عكس الهوى الأمريكي، وهكذا فإنها وجدت كافة الطرق مقطوعة، ولم يكن بمقدور أولئك الذين ختموا على الوثائق الديمقراطية أن يغيروا شيئاً من الواقع أو يحولوه، لقد وجدت الديمقراطية نفسها حبيسة القفص، ووجدت من حولها العالم المتفرج لا يمد لها يد العون وإنما يتفرج على معاناتها في القفص بابتسامات صفراء، فماذا سيقول الفلسطيني في عصر الحيرة والوهم هذا؟؟
أما نحن فلسنا في قاعات مكة الملكية ولا نحن في خنادق غزة أو الضفة، نحن هنا نتابعكم ونراقبكم وندعو لكم، ولا نملك أكثر من كلمة الخير والنصيحة، على وفق قول النبي الأكرم  من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت.
هل ستقدم مكة بروحانيتها الغالبة ما يكفي من جرعة الروح ليخرج الفلسطينيون من شرك المناصب والمكاسب، التي تجلل عادة بالمصلحة العامة ومصالح الشعب، ولزوم الكفاح، إلى موقع المصالحة الذي لن يأتي إلا على أساس التخلي عن كثير من المناصب والمكاسب!
ربما كان أقرب الأمثلة من التاريخ لهذا المشهد الصارم هو أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، إنه لم يكن لديه أدنى شك في أهليته للخلافة وأنه أولى بها من كل أحد بعد رسول الله، وكان لديه ألف دليل ودليل على وجوب تسلم الخلافة لمصلحة الأمة والشعب، واستجابة للمسؤولية والأمانة، وأنه لن يفر من الزحف ولن يفرط بتراث محمد، وكان هذا رأي كثير من خيار الصحابة فيهم سلمان وعمار وبلال وأسامة بن زيد والعباس بن عبد المطلب، وكانت زوجته فاطمة الزهراء بنت رسول الله عليها رضوان الله أكبر نصير له في ذلك، وقد وقفت في نصرته وقفة صارمة، ولكن علياً رضي الله عنه كان له رأي آخر، فقد جمع ثوبه ومضى إلى أبي بكر الصديق فبايعه بالخلافة، وسط ذهول أصحابه، وكان بين يديه عشرات النصوص النبوية الصادقة التي تتحدث عن ولايته للمؤمنين ووصايته فيهم، وكان البعض يرويها له نصاً على الخلافة الكاملة، ولكنه ركن تلك النصوص كلها في رفوف الدار، ورأى أن حقن دم المسلمين أولى ودفع الخلافة لغيره واكتفى بأن يكون وزيراً حازماً لأبي بكر، وظهيراً أميناً لعمر، وناصحاً شفيقاً لعثمان، ولم يشأ أن ينازع على الخلافة حتى صارت إليه بعد أن مضى القوم الذين نافسوه فيها وهو عندهم حبيب وإليهم قريب، وقطع بذلك كل جدل كان يسعى له أعداء هذه الرسالة.
أما الإمام الجليل الحسن علي رضي الله عنه، فقد ضرب مثلاً آخر في الترفع عن الجاه والمنصب، وحين مات أبوه علي شهيداً على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم، وتمت شماتة الحزب الأموي بما لقيه أمير المؤمنين، واشتد غضب أصحابه وصراخهم من أجل الثأر لدمه، وأقبل عليه الناس يمنحونه البيعة بعد أبيه، حتى بايعه من الناس اثنان وأربعون ألفاً كفلاء على من وراءهم من الأمة، يبايعونه الدم الدم والهدم الهدم، حتى إذا مضت على بيعته شهور، ونظر حال العالم الإسلامي حينئذ، ورأى ما يتقلب الناس فيه من الفرقة والضياع، آثر جانب الله على هوى أصحابه، وجعل يتصل بخصومه يدعوهم إلى مشروع رشد وجماعة، وواعد الناس بمسجد الكوفة آخر ربيع الآخر، واجتمعت في مسجد الكوفة الألوف المؤلفة غاضبة ثائرة، مشرعة السيوف، على جباههم عصائب الدم، وقد ادهنت بالقطران، حتى إذا صارت جماجم العرب بين يديه يحاربون من حارب ويسالمون من سالم، فوجئ الناس حينئذ بإمامهم وزعيمهم عميد أهل البيت يدخل المسجد يداً بيد مع خصمه معاوية، ومشى حتى قام على المنبر، وألقى كلمته الخالدة التي ينبغي أن تكون دستور الوحدة الإسلامية الباقية، وها أنا أجمع أطرافها من روايات ابن عساكر والطبري.
قال: (يا أيها الناس.. إنما نحن أمراؤكم ضيفانكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله عز وجل فيهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً..) فكررها حتى ما بقي أحد في المسجد إلا وهو يخن بكاء…
ثم قال: (أيها الناس.. إن الله هداكم بأولنا.. ويحقن دماءكم بآخرنا.. وإنكم قد بايعتموني أن تسالموا من سالمت، وتحاربوا من حاربت، وإن أكيس الكيس التقى، وأعجز العجز الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه مع معاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أدفعه إليه أو حقاً لي فأنا أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين وحقن دمائهم!!).
ثم قال: (إن لهذا الأمر مدة، والدنيا دول، وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ثم استغفر الله ونزل)…
وحين كانت الملائكة تحف بالبشرى ذلك اللقاء الوحدوي الخالد وتحقق معجزة البشارة النبوية بدور الحسن في الإصلاح، جاء شقي من الأشقياء وهمس في أذن الحسن: يا مذل المسلمين !!.
فالتفت إليه عميد أهل البيت، وقال له كلمته الخالدة: (العار ولا النار!!).
وكان يقول بعد ذلك: (قد كانت جماجم العرب في يدي، يحاربون من حاربت، ويسالمون من سالمت، ولكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفاً تنضح أوداجهم دماً، كلهم يستعدي الله علي، فيم أهريق دمه؟..)
وفي رواية قال: والله لا يسرني أن تكون لي خلافة محمد وأن يراق من المسلمين محجمة دم!!.
إنها دروس التاريخ، لقد تخلى الحسن بن علي عن شهور كثيرة وربما سنين كان يمكنه أن يمضيها في باحات القصور الأموية الجميلة، بشرط أن يدفع بضع مئات من أصحابه ومن أخصامه ثمناً لمعركة ضرورية للنصر!! ولكنه في الواقع آثر أن يحقن دم الناس، وأن يرضى من الغنيمة بالإياب، ومع أن القعود عن مطلب كبير كهذا سيكون في كل يوم مدعاة للندامة والحزن، ولكنه أراد من خلال موقفه البطولي هذا أن يترك للتاريخ رسالة واضحة أن العاقبة للمتقين وأن الله مع الباذلين، وأن يحظى بشرف قول النبي الكريم  ولدي هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المؤمنين.
نحن لا نشك كمسلمين أن الحسن عليه رضوان الله كان أفضل عند الله من طلاع الأرض من مثل معاوية!! ولكن عظمة الرجل هي التي حملته على الترفع عن الخلافة على ما فيها من ذكر وذخر وأجر إرادة صلاح الأمة وجمع كلمتها، وهو ما تحقق بالفعل حين سمى المسلمون عام 41 هجرية عام الجماعة.
ذات يوم كنت مع الصديق العزيز الزعيم السوداني عبد الرحمن سوار الذهب في رحلة من طهران إلى أصفهان، ركبنا سيارة واحدة وقلت له في الطريق: يا فخامة المشير!! لا أعرف في تاريخ العرب رجلاً تنازل عن السلطة بمحض إرادته من أجل مصلحة الأمة إلا أنت! فما دفعك إلى هذا؟
نظر إلي نظرة ذات مغزى، وتأمل قليلاً، ثم لم يزد أن قال: جناح بعوضة!!
وصلت الرسالة كاملة يا فخامة المشير!! فهل تصل إلى العاكفين عند البيت الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورضواناً؟ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
سيذكرك التاريخ أيها المشير الحكيم، وستبقى في ضمير العالم رمزاً للرجل الذي تسامى على حطام الدنيا، وآثر وحدة الأمة على هوى فؤاده.

Related posts

سؤال الجحيم وجواب من محمد إقبال

drmohammad

الأزهر ومكة… خطاب جديد لعالم جديد

drmohammad

الصادق المهدي… أستاذ الدراويش.. وفيلسوف الحرية

drmohammad

Leave a Comment